-
تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون)
هذه سورة (نون) وتسمى (سورة القلم)، وهي سورة مكية، وآيها ثنتان وخمسون آية، وهي السورة الثامنة والستون في ترتيب المصحف.
يقول الله تعالى:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1].
(ن) بالسكون على الوقف، فهي ساكنة إذا وقفت، أما إذا وصلت فاختلف القراء، فمنهم من أدغم النون في الواو، وهم
أبو بكر و
المفضل و
هبيرة و
ورش و
ابن محيصن و
ابن عامر و
الكسائي و
يعقوب ، والباقون بالإظهار.
و(نون) اسم للحرف المعروف قصد به التحدي، أو هو اسم، والكلام فيه كالكلام على سائر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقد يكون (نون) مفعولاً لفعل تقديره (اذكر) أو مرفوعاً خبراً لمحذوف.
(والقلم) هذا قسم، وهو القلم الذي يخط ويكتب به، (وما يسطرون) (ما) مصدرية أو موصولة.
وللمفسرين أقوال عدة في المراد بهذا القلم:
فمن قائل: القلم الذي يكتب به.
ومن قائل: الذي كتب الله سبحانه وتعالى به كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ. قال
ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وعن
الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحدة والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (
إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: يا رب! وما أكتب؟ فقال: اكتب القدر. فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد).
وقال
قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده.
وقد فصل أفضل وأحسن تفصيل عن القلم الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (التبيان في أقسام القرآن)، وذكر فيه أقوالاً كثيرة جداً، فليرجع إليه.
وللشعراء أيضاً صولات وجولات في المفاضلة بين السيف والقلم أيهما أفضل، ومنها قول الشاعر:
إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وقوله:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ يعني: وما يكتبون. والمقصود الملائكة حين يكتبون أعمال بني آدم، أو المعنى: ما يكتبه الناس ويتفاهمون به ويحصل به البيان.
(ما) موصلة، أو مصدرية:
فإذا قلنا إنها موصولة فالمعنى: والذي يسطرون به.
وإذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى: والقلم وسطرهم.
ويراد به كل من يسطر، أو المراد به الحفظة، على خلاف بين المفسرين في ذلك.
-
تفسير قوله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون ... غير ممنون)
-
تفسير قوله تعالى: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم)
-
تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون)
-
تفسير قوله تعالى: (فلا تطع المكذبين)
-
تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)
قال تعالى:
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].
أي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم.
وعن
ابن عباس : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال
الفراء و
الكلبي : ودوا لو تلين فيلينون لك.
وقال
مجاهد : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال
الربيع و
أنس : ودوا لو تكذب فيكذبون.
وقال
الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.
وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
وقال
زيد بن أسلم : ودوا لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون.
وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون.
وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم.
وقيل: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
فهذه اثنا عشر قولاً، قال
ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقول كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
وعلق
القرطبي على قول
ابن العربي بأنها كلها صحيحة -إن شاء الله تعالى- على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الدهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو وممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام، والتليين في القول، فلا شك أنها على هذا الوجه مذمومة، ولا شك أن هذا كله لم يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول
مجاهد في قوله:
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ : ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك. وإنما هو مأخوذ من الدهن أو الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.
-
تفسير قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين ... أساطير الأولين)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ *
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ *
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ *
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ *
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [القلم:10-15].
(حلاف) صيغة مبالغة، يعني: كثير الحلف؛ وقال
الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف.
فهذه الآية فيها زجر قبيح عن كثرة الحلف؛ لأن بعض الناس يعتادون كثرة الحلف فيما يستحق وما لا يستحق، فهذه إشارة إلى ذم من يكثر الحلف، وأن الإنسان لا يحلف إلا في الأمور العظيمة، أو الأمور المهمة والجسيمة، لكن الحلف في كل شيء حتى وإن كان تافهاً ينبغي أن يتحرج منه الإنسان.
حكم الحلف بالله
ومع هذا نقول: إن الحلف عبادة من العبادات القولية التي تؤدى باللسان، وفيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد لله، لذلك لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بأفعاله، أما الحلف بالمخلوقين فهو شرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
من حلف بغير الله فقد أشرك )، (
من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بنبي ولا بولي ولا بملك، ولا أبٍ، ولا شرف، ولا غير ذلك، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أن واحداً من الصحابة حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذه عبادة ولا يجوز أن تصرف إلا الله.
والحلف بالله وراءه معان كثيرة وعظيمة، منها أنك تحلف بمن يعلم أنك صادق، وهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما تكنه النفوس وتخفيه، وأنه قادر على عقابك إن كنت كاذباً، وقادر على إثابتك إن كنت صادقاً.
فالمسلم يحلف تعظيماً لله، ويدخر الحلف للأمور العظيمة التي تستحق، بخلاف ما عليه بعض النصارى، حينما يترفعون عن الحلف ويعتبرون أن الحلف شيء مذموم، فالحلف ليس مذموماً إلا إذا كان كثيراً، أو إذا كان على كل شيء قليل أو حقير، لكن الحلف في موضعه وبشروطه هو عبادة وتوحيد لله تبارك وتعالى، فبعض المسلمين يقلدون النصارى، فيقول لك: صدقني. وهذه كلمة لا بأس بها في حد ذاتها؛ لكنه استعارها من ألفاظ الكفار، ولا ينبغي للإنسان أن يستعملها حتى لا يبدو منه أنه يستحسن ما عليه الكفار من أنهم يحرمون الحلف، فليس كل حلف مذموماً، والأدلة على هذا أكثر من أن تذكر.
قوله تعالى هنا:
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هذه أول صفة من صفات الشخص الذي ذمه الله هنا، وهو أنه كثير الحلف، يقول
الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومنه قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.
معنى المهين والهماز بنميم المناع للخير
معنى قوله: (عتل)
وقوله:
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ العتل: هو الجافي الشديد في كفره.
وقيل: هو الشديد الخصومة بالباطل.
وقيل: هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب، مأخوذ من (العتل) وهو الجر، ومنه قوله تعالى:
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47]، يعني: جروه، وفي (الصحاح): عتلت الرجل أعتله وأعتل، إذا جذبته جذباً عنيفاً، ورجل يعتل، وقال يصف فرساً: نقرعه قرعاً ولسنا نعتله.
والعتل: الغليظ الجافي، والعتل -أيضاً-: الرمح الغليظ، ورجل عتل بين العتلة أي سريع إلى الشر، ويقال: لا أنعتل معك: أي لا أبرح مكاني. وقال
عبيد بن عمير : الأكول الشروب القوي الشديد، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة. يعني: عند الله سبحانه وتعالى.
وقال
علي بن أبي طالب و
الحسن : العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال
معمر : هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:
بعتل من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح
مسلم عن
حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى. قال: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)، أي: يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، ومعناه: متواضع متذلل خاملٌ واضع من نفسه.
وقال
القاضي : قد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان.
قال (
ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا بلى.قال: كل عتل جواظ مستكبر)، وفي رواية عنه: (
كل جواظ ذليل متكبر)، والجواظ قيل: هو الجموع المنوع.
وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته.
وقيل: الجواظ: العتل الذي جمع ومنع. والعتل الذميم الشديد الخلق الرحيب الجوف، الوفير الخَلْق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم.
معنى قوله: (زنيم)
قوله:
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ، والزنيم الملصق بالقوم الدعي. عن
ابن عباس وغيره.
قال الشاعر:
زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعن
ابن عباس أيضاً: أنه رجل من قريش كانت له ذنبة كذنبة الشاة يعني: جلدة متدلية.
وروى عنه
ابن جبير أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال
عكرمة : هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها.
قيل: كان
الوليد دعياً في قريش ليس من نسخهم -والنسخ هو الأصل- ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم
وقال
حسان :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وعن
علي : الزنيم: الذي لا أصل له.
يقول
القرطبي : معظم المفسرين على أن هذا نزل في
الوليد بن المغيرة ، وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي: ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحدكم بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت
الوليد بن المغيرة .
وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً، فقيل: مناع للخير لأنه كان لا يعطي المساكين، وفيه نزل قوله تعالى:
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ *
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7].
وقال
محمد بن إسحاق : نزلت في
الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي (زنيماً) يعني: بعيداً وملحقاً بالقوم وليس منهم.
وقال
ابن عباس : في هذه الآية نعت فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها.
وقال
مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
-
تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)
قال الله تبارك وتعالى:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16].
يعني: هو ارتكب كل هذه الجرائم فسوف نجازيه بأن نسمه على الخرطوم.
وهذا وعدٌ من الله تبارك وتعالى بغاية إذلاله؛ لأنه لما تناهى كبره وعجبه وزهوه وعتله وعتوه توعده الله تبارك وتعالى بنقيض ذلك، وهو غاية الإذلال، تقول العرب: وسمته بميسم السوء: يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه.
قال
جرير :
لما وضعت على
الفرزدق ميسمي وضغا
البعيث جدعت أنف
الأخطل
وقال
الزمخشري : الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعل الأنف مكان العز والحمية.
فالحمية دائماً تنسب إلى الأنف، أو يقولون: أنفه في السماء إذا أرادوا أن يصفوه بالكبر، فهذه الالتفاته النفسية تنسب غالباً إلى الأنف.
واشتق منه الأنفة، وقالوا: الأنف الأنف. وقالوا: حمي أنفه أي: تكبر، وفلان شامح العرنين، يعني: الأنف، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. وهذا دعاء عليه بالذل، يعني: ذل حتى يلصق أنفه بالرغام وهو التراب.
فهنا عبر الله سبحانه وتعالى بالوسم على الخرطوم، والخرطوم هو الأنف، ففيه غاية الإذلال والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شين وإهانة، فكيف به على أكرم موضع منه، ولقد وسم
العباس أبعاره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
أكرموا الوجوه)، فوسمها في ذراعيها.
وفي لفظ (الخرطوم) استهانة به، فلم يقل: سنسمه على أنفه. أي: نضع له علامة من العذاب على أنفه، وإنما قال:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ، فعبر عن أنفه بالخرطوم، وهذا أيضاً غاية الاستخفاف والاستهانة بهذا المتكبر الأثيم؛ لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل.
وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم.
يعني فإنه تمادى وطغى وتجبر وجاوز الحد، حتى صار متميزاً بأكبر قدر من عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزاء من جنس العمل، فسوف نعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة.
قيل: عني بالآية
الأخنس بن شريق . قال ا
بن جرير : وأصله من ثفيف وأجداده في بني زهرة، أي لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية، ولذا سمي زنيماً للصوقه بالقوم وليس منهم.
وقيل: هو
الوليد بن المغيرة ؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
وقال
ابن عباس : (سنسمه) سنخطمه بالسيف. وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف فلم يزل مخطوماً إلى أن مات.
وقال
قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسماً وسمة: إذا أثخنت فيه بسمة وكي، وقد قال الله تعالى:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، فهذه علامة ظاهرة، وقال تعالى
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، وهذه علامة أخرى ظاهرة، فأفادت هذه الآية علامة ثالثة. أي: فالوجوه تكون مسودة، والعيون زرقاء بدل البياض، والأنف ذكرت علامتها هنا في هذه الآية،
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ فهذه علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار والعياذ بالله، كما قال الله تعالى:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن:41].
وقال
أبو العالية و
مجاهد :
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي: على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بذلك، والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم.
وقال
الطبري :
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ سنبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم.
وقيل: سنلحق به عاراً وشدة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال
القتيبي : تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسمته، إذا أُلحق به عار وبقي ولم يزل عنه، أي: ألصق به عار لا يفارقه. كما أن السمة لا يمحى أثرها، قال
جرير :
لما وضعت على
الفرزدق مسيمي وضغا
البعيث جدعت أنف
الأخطل
أراد به الهجاء.
و
البعيث هو
كداك بن بشر كان يهجو
جريراً .
ويقول
القتيبي : وهذا كله نزل في
الوليد بن المغيرة ، ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه. كما هو في هذه الآيات، وفي سورة أخرى هي سورة المدثر:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا *
وَبَنِينَ شُهُودًا *
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا *
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا [المدثر:11-16] ... إلى آخر الآيات.
يقول: ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار.
وهناك قول آخر نذكره من باب الإحاطة بما قيل، وهو قول
النضر بن شميل سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر، وجمعه خراطيم.
قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم
يعني: الخمر.
وقال الراجز:
صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا.
وكلها أسماء للخمر.
ومما يذكر
الوليد كان يأنف من شرب الخمر في الجاهلية، فالله أعلم بصحة ذلك.
قال
ابن العربي : كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديماً عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه، -أي: تسويده بالفحم- وهذا وضع باطل، أي: استبدال لشرع الله سبحانه وتعالى بحكم باطل؛ لأن الحكم الشرعي هو الرجم كما نعلم.
يقول
ابن العربي : ومن الوسم الصحيح في الوجه ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور. فبعض العلماء قالوا: من ثبت عليه أنه شهد شهادة زور يعاقب بأن يسود وجهه. فهي علامة على قبح المعصية، وتهديدٌ لمن يتعاطاها ولغيره ممن يرجى تجنبه لما يرى من عقوبة شاهد الزور.
فقد كان عزيزاً بقول الحق وقد صار مهيناً بالمعصية، وأعظم الإهانة إهانة الوجه، ولذلك كان في طاعة الله سبباً لخيرة الأبد والتحريم له على النار.
أي: أن شاهد الزور كما أنه استبدل القول بالحق وشهد شهادة زور حتى ضيع حق الناس أو تسبب في ظلمهم، فيعاقب بتسويد وجهه بين الناس، إهانة له، وقد كان يريد العزة بالكذب والزور.
كذلك من أذل وجهه في سبيل الله، أو أذل وجهه لله بالسجود لله تبارك وتعالى الذي يترتب عليه وجود هذه العلامة في الوجه، فالاستهانة بهذا الوجه وإذلاله لله بأن تسجد لله سبحانه وتعالى في الأرض وفي التراب وفي موطئ الأقدام، تواضع تثاب عليه بأن يكون سبباً لخيرة الأبد وأنه يحرمك على النار، (فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم آثر السجود)، كما ثبت في الحديث الصحيح.
-
تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ... ولا يستثنون)
يقول الله تبارك وتعالى:
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ *
وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18].
(إنا بلوناهم) يعني: بلونا مشركي مكة واختبرناهم. والمعنى: أعطيناهم أموالاً ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط، كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم.
وذلك أنها -كما قال
القرطبي - كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء -ويقال: بفرسخين- وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما صارت إلى ولده منعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
يقول
القرطبي : قوله تعالى
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ . أي: بلونا مشركي مكة فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم هل يذكرون نعمته فيحيوا حياة طيبة، أو يصرون على تكذيبه فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي ثم دمارهم؟
وقيل: معناه: أصبناهم ببلية القحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ، هم قوم من أهل كتاب على ما روي عن
ابن عباس ، أو ناس من اليهود في قول
عكرمة ، أي: كتابيون. فيتفق مع ما قبله.
وليس من ضرورة الاعتبار بالقصص والعظة به تسمية أهله لولا محبة المأثور.
فيذكر كلام
عكرمة و
ابن عباس في تعيين هؤلاء القوم، لأن النفس تأنس بمعرفة الشيء المنقول، لحب الاستطلاع عند الإنسان والفضول، فيريد أن يعرف أكثر ما يستطيع عن هذه المعلومة.
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ أي: ليقطعن ثمارها مبكرين، حيث لا يعلم مسكين بذلك. فأرادوا أن يستيقظوا مبكرين ويحصدوا الثمرات قبل أن يستيقظ الناس فيحضر المساكين، كما اعتادوا في حياة أبيهم على ما روي.
وَلا يَسْتَثْنُونَ ليصرمنها ويحصدونها كلها ولا يستثنون، أي: لا يخرجون شيئاً من حق المساكين. وهذا أحد القولين.
والقول آخر:
وَلا يَسْتَثْنُونَ أي: ولم يقولوا إن شاء الله،
وَلا يَسْتَثْنُونَ يعني: أنهم حلفوا ليصرمنها مصبحين ولم يستثنوا في هذا اليمين، بل كانوا جازمين قاطعين بأنهم سوف يقطعونها في الصباح قبل أن يأتي المساكين.
-
تفسير قوله تعالى: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون)
قال تعالى:
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم:19].
أي: فطرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها.
قال
ابن جرير : ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً، ولا يكون نهاراً، وقد يقولون: أصبت بها نهارا.
وذكر
الفراء أن
أبا الجراح أنشده:
أصبت بها نهاراً غير ليل وألهى ربها طلب الرخال
والرخال هي أولاد الضأن الإناث.
فكلمة (طائف) في كلام العرب تستعمل في الليل، فهو لا يكون إلا في الليل، ولا يكون أبداً نهاراً.
((فطاف عليها طائف من ربك)) يعني: طرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها سواءٌ كان جبريل أو غيره، وهذا مبهم في القرآن ولم يأت مأثور يعينه.
(( وَهُمْ نَائِمُونَ )) أي: مستغرقون في سباتهم غافلون عما يمكر بهم.
وقوله: (( وَهُمْ نَائِمُونَ )) تأكيد للقول الأول بأن الطائف يكون ليلاً فقط.
وعلى قول الثاني أن العرب قد يقولون: أطفت بها نهاراً، ففي هذه الحالة تكوت تأسيساً لا توكيداً.
-
تفسير قوله تعالى: (فأصبحت كالصريم)
قال تعالى:
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:20].
كالبستان الذي قطع ثمره حتى لم يبق فيه شيء.
أو: (كالصريم): كالليل الأسود لاحتراقها.
وأنشد في ذلك
ابن جرير لـ
أبي عمرو بن العلاء :
ألا أبكرت عاذلتي تلوم تهددني وما انكشف الصريم
يعني الليل.
وقال أيضاً:
تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم
فالمقصود بالصريم الليل لأنه أسود.
قال بعض العلماء: على من حصد زرعاً أو جذ ثمرة أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله تعالى:
َ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وأنه غير الزكاة.
وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون، وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا.
وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل، فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. أي: إنما كان هذا بسبب ما أرادوه من منع المساكين، فهم نووا وجزموا وقطعوا على أنفسهم أنهم في الصباح الباكر يخرجون حتى يحصدوا الثمار قبل أن يحضر المساكين فيأكلوا ما يتساقط أثناء الحصاد مما يتقوتون به.
فإذاً العقوبة وقعت بسبب ما أرادوه من منع المساكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى.
وروى
أسباط عن
السدي قال: كان قوم باليمن، وكان أبوهم رجلاً صالحاً، كان إذا بلغ ثمره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخلوها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين؟ تعالوا فلندلج -أي: نأتي في الظلمة- فنصرمها قبل أن يعلم المساكين. ولم يستثنوا! فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفية: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. فذلك قوله تعالى: (( إِذْ أَقْسَمُوا )) -أي: حلفوا- فيما بينهم (ليصرمنها مصبحين)، أي: لنجزنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين.
وَلا يَسْتَثْنُونَ ، يعني: لم يقولوا: إن شاء الله.
وقال
ابن عباس : كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح، وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكان كل شيء سقط عن البساط فهو أيضاً للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتشر، فكان أبوهم يتصدق منه على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم فقالوا: قل المال وكثر العيال! فتحالفوا بينهم ليغدن غدوة قبل خروج الناس، ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين.
وقوله: (إذ أقسموا) يعني: حلفوا (ليصرمنها) ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل، أي: بظلمة من الليل. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل: أي حان وقت صرامه.
-
تفسير قوله تعالى: (فتنادوا مصبحين ... إن كنتم صارمين)
-
تفسير قوله تعالى: (فانطلقوا وهم يتخافتون)
قال تعالى:
فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ [القلم:23].
أي: يكتمون ذهابهم ويتسارون فيما بينهم أي: يهمس بعضهم لبعض حتى لا يسمع أحد الصوت فيستيقظ أحد من المساكين فيحضر.
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي: فقير. فالجملة مفسرة، أو أن (أَنْ) مصدرية، أي: بأن. وقال
الزمخشري : والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه. يعني ليس المقصود أن لا يدخلها مسكين فحسب، بل المقصود أن لا تمكنوا مسكيناً من أن يأخذ شيئاً من الحصاد، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل. كقولك: لا أرينك هاهنا.
قوله:
فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ يقول
القرطبي : يعني يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد.
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصراب.
-
تفسير قوله تعالى: (وغدوا على حرد قادرين)
قال تعالى:
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم:25].
(على حرد) أي: على قصد وقدرة في أنفسهم، ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قاله
ابن عباس وغيره، فالحرد معناه القصد، حرد يحرد حرداً أي: قصد، تقول: حردت حردك أي: قصدت قصدك، ومنه قول الراجز.
أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغله
وأنكره
النحاس .
فقوله: يحرد حرد الجنة المغلة يعني: ذات الغلة.
وقيل: (على حرد): على جد.
وقال
الحسن : على حاجة وفاقة.
وقال
أبو عبيدة و
القتيبي : على منع.
يقال: حاردت الإبل حراداً أي: قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة: قل مطرها وخيرها.
وقال
السدي و
سفيان : على غضب. لأن الحرد يأتي بمعنى الغضب، قال
أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب
الأصمعي :
إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد
ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد، أي: غضاب.
وقيل: (على حرد): على انفراد. لأنه من حرد يحرد حروداً إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم، وقال
أبو زيد : رجل حريد: إذا ترك قومه وتحول عنهم، وكوكب حريد أي: معتزل عن الكواكب. وقال
الأصمعي : رجل حريد أي: فريد وحيد، والمنحرد المنفرد، كما قال
أبو لؤي : كأنه كوكب في الجو منحرد.
فقوله:
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ يعني: قد قدروا أمرهم وبنوا عليه.
وقال
قتادة : قادرين على جنتهم بظنهم في أنفسهم أنهم قادرون عليها.
وقال
الشعبي : (قادرين) يعني: على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون للخير، أي: ما كانوا محتاجين لهذا الذي منعوه المساكين، فإذا قلت: فلان مقتدر فمعناه أنه غير محتاج.
-
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون)
-
تفسير قوله تعالى: (قال أوسطهم ... إنا كنا ظالمين)
-
تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض ... إنا إلى ربنا راغبون)
-
تفسير قوله تعالى: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)