دار الكفر هي التي يعلوها أحكام الكفر، ودار الإسلام هي التي يعلوها أحكام الإسلام، فالعبرة في تقسيم الدار إلى دار كفر ودار إسلام هو نوع الأحكام التي تعلو هذه الدار، وليس نوع السكان الذين يقطنون هذه الدار.
مثلاً مصر أول ما فتحها عمرو بن العاص كان أغلب أهلها أقباطاً، وكلمة قبطي معناها المصري القديم، وقد كانوا نصارى، فمصر دخلت تحت حكم الله سبحانه وتعالى، وطبق عليها قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، هذا هو حكم الله في هذه البلاد، فعلاها حكم الله، وليس معنى أن يعلو حكم الله سبحانه وتعالى على بلد أن ينقلب أهلها مسلمون، لكن المقصود أن يذعنوا ويخضعوا لحكم الله فيهم كما قال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فمعناه خضوعهم لحكم الله، ولشريعة الإسلام، حتى تكون كلمة الله هي العليا، فمصر من ذلك الوقت صارت دار إسلام، رغم أن أغلب سكانها لم يكونوا مسلمين، لكن هي دار إسلام؛ لأنه يعلوها أحكام الإسلام؛ لأن الحاكم لها هو خليفة المسلمين.
كذلك يمكن أن توجد بلاد كل أهلها مسلمون، ولكن هي دار كفر، وذلك إذا تسلط عليها حاكم كافر، وأرغمهم على أن تعلوهم أحكام الكفر وشريعة الكفر، فتكون في هذه الحالة دار كفر وإن كان كل أهلها أو أغلب أهلها مسلمين.
لما كان الإسلام هو دين العزة ودين القوة، فإنه قد أبى على معتنقيه أن يذلوا للكفار؛ ولذلك جاء المنع من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين؛ لأن إقامة المسلم بين الكفار تشعره بالوحدة والضعف، وتربي فيه روح الذلة والاستكانة، وقد تدعوه إلى المهادنة لهم ثم متابعتهم في باطلهم، والإسلام يريد من المسلم أن يمتنع قوة وعزة، وأن يكون متبوعاً لا تابعاً؛ فيكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله سبحانه وتعالى.
لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه، ويعمل طبقاً لعقيدته دون أن يخشى فتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهاجر من هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام، فإن لم يفعل فالإسلام قد تبرأ منه مادام قادراً على الهجرة، ولا عذر له في ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97] * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98] * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك -يعني: اجتمع معه في بلده- وسكن معه فإنه مثله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
وقال صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم).
فالمقصود أن المسلم لا يقيم في دار حرب، وهي التي لا تعلوها أحكام الإسلام، لكن إن كانت دار إسلام تغلب عليها المسلمون، وجرى فيها حكم الإسلام، وإن كان كل أهلها غير مسلمين؛ فلا بأس أن يقيم المسلم بينهم، فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عماله على خيبر، وكل سكان خيبر كانوا من اليهود؛ لأنها كانت حينئذ دار إسلام.
أيضاً: يترتب على هذه الموالاة والمناصرة بعض الحقوق مثل: الزيارة والإكرام، والسلام، وحماية العرض، والمواساة بقدر المستطاع... إلى آخر ما هو معلوم من حقوق المسلم على أخيه المسلم.
هذه بعض الأدلة التي تبين أهمية الولاء والبراء، وبعض حقوقها التي لا تفرق بين المسلم وأخيه المسلم، لا على أساس اللون، ولا الوطن، ولا اللغة، ولا الجنس، ولا غير ذلك؛ مصداقاً وامتثالاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لم يقل الله سبحانه وتعالى: إن أكرمكم عند الله أعظمكم نسباً، أو أكثركم مالاً، بل إن أكرمكم عند الله أتقاكم، كما قال بعض الشعراء:
ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون)، لم يقل: أهل نسبي وأقاربي، وإنما قال: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)، نرى أحياناً بعض الناس يتغطرسون ويتكبرون على الناس بانتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه عظيم، لكن ينبغي الالتزام بسنته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، فأغلب الحكام الظلمة والمناوئين لدين الإسلام يفاخرون غيرهم بأنهم من بني هاشم، فهذا الملك الحسين بن طلال في الأردن يفخر بأنه من الهاشميين وأنه من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وإن سلم لهم أنهم من نسله، فحيث أنهم محاربون لدين الله، ويظاهرون أعداء الإسلام على المسلمين؛ فينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا) .
وقوله: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). فما أثر الانتساب إليه صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولا ينبغي لمن رزق هذا النسب أن يجعله عائقاً له عن التقوى، وسبباً لمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة، وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:30]* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31]، فالحسنة إذا أتت من أشرف الناس نسباً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه فهي أحسن، والسيئة إذا صدرت من أهل بيت النبوة تكون أسوأ، فقد يبلغ اتباع الهوى لذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال بعض الشعراء لشريف ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان سيء الأفعال:
قال النبي مقال صدق لم يزل يحلو لدى الأسماع والأفواه
إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكم عن أصله المتناهي
وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه
وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله
يقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى:
ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره، وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خرسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود، تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته -ذلك المولى الأسود العالم العابد من بيته- يقصد المسجد، فاتبعه خلق كثير يتبركون به، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقهم، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل؟! وأهان وأنت تعان؟! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده، وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف! بيضت داخلي، وسودت داخلك، فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت، وأخذت سيرة أبيك، وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك.
هذه هي مساواة الإسلام، هذا هو معنى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فهكذا يرتفع بالإسلام أقل الناس وأحقرهم إلى أعلى المقامات، وإلى أشرفها، ولا ينفع هذا الشريف وجود هذه النسبة، وهي شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لابد من التقوى كما بينا، هذه الرابطة رابطة الأخوة في الإسلام هي التي تكون بين المسلمين، ويكون عليها الولاء والبراء، فقد بين الله سبحانه وتعالى أن الإسلام هو الذي يربط بين أفراد المجتمع الإسلامي دون غيره من الروابط؛ لأنه يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، يقول الشنقيطي رحمه الله: فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك.
فالحاصل من هذا الموضوع أن الرابطة الحقيقة التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف، هي رابطة (لا إله إلا الله) فهذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضاً، هذه الرابطة لا لتربط فقط بين المسلمين في الأرض، وبين بعضهم البعض، وإنما عطفت أهل السماء على أهل الأرض، وهم ملائكة حملة العرش، ومن حول العرش من الملائكة، فهم يستغفرون الله لبني آدم في الأرض، قال عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر:8]* وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9].
فبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الرابطة: لا إله إلا الله، ربطت سبيل المؤمنين في الأرض، وبين الملائكة في السماء، وبين حملة العرش، فجعل العلة في هذا الدعاء قوله سبحانه وتعالى في حق الملائكة (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: فاغفر للذين آمنوا، فربط الإيمان بين أهل السماء وأهل الأرض، وهذه هي أعظم الروابط التي ربطت كل من في هذا الكون بعضه ببعض.
ومما يوضح أن الرابطة الحقيقية هي: دين الإسلام، قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، وقابل موقف أبي لهب من الإسلام وما نزل فيه من القرآن، وبغض النبي صلى الله عليه وسلم له لكفره وصده عن سبيل الله؛ بما لـسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء في حقه حديث: (
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وأجمع العلماء على أن الرجل إن مات وليس له من الأقارب إلا ابن كافر فإنه لا يرثه، ويكون إرثه للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده من صلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل على أن الأخوة الإيمانية أقرب من الأخوة النسبية، هذه الأخوة التي لا يحدها الزمان والمكان، قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر المهاجرين وامتدحهم، ثم ذكر الأنصار وامتدحهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. لا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة: لا إله إلا الله، فلا يجوز النداء بأي رابطة غيرها، ومن والى الكفار محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، فلما غاب هذا المعنى، وزال من قلوب المسلمين، ولم يعد الدين والإيمان هو الحد الذي يعتمده قلب المؤمن في موالاته للمؤمنين وعدائه للكافرين؛ اختلط الحابل بالنابل في موضوع الولاء والبراء، ووقع ما أخبر الله به: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر