الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته الحموية: [ وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني: الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته: إما سلبية وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات، وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر، أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، كما قد عرف من مذاهب المتكلمين، فهؤلاء قسمان: قسمٌ يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه... إلى غير ذلك من معاني المتكلمين، وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه ].
قال: (أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشرة) هذا يشير به إلى مثبتة الصفات من المتكلمة، وهم الأشاعرة ومن شابههم كالكلابية، والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أثبتوا بعض الصفات لله سبحانه وتعالى، واختلفوا فيما يثبتونه له من الصفات، فأثبتت الأشاعرة -وهو قول جمهورهم- سبع صفات، وأضاف البعض صفة ثامنة، وهي صفة البقاء، وزاد بعضهم صفات أخرى, فقالوا: نثبت لله الصفات، وننفي عنه أضدادها فتكون أربع عشرة صفة، ولكن المشهور من مذهب الأشاعرة هو الاقتصار على سبع صفات.
قال: (أو يثبتون الأحوال دون الصفات) والأحوال جمع حال، وهي مما يصعب تعريفه وإدراكه؛ لأنه لا حقيقة له، وقد قال بالأحوال النظام من المعتزلة، وهو معدود من الأمور التي لا حقيقة لها، ككسب الأشعري وطفرة النظام ، فهذه ثلاثة أمور يذكرها أهل العلم، ويذكرون أنه لا حقيقة لها؛ ولذلك يصعب تعريفها وبيانها.
قال: (أو يثبتون الأحوال دون الصفات على ما قد عرف من مذهب المتكلمين، فهؤلاء) أي: هؤلاء الذين ينفون ظواهر النصوص ويؤولونها (قسمان: قسم يتأولونها ويميزون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين) أي: المتأولين المحرفين للكلم عن مواضعه.
قال: (وأما القسمان) قسم يقول: إن النص يحتمل هذا، أي: يحتمل ظاهرها ويحتمل التأويل, وقسم لا ينظرون في هذه النصوص أصلاً ويعرضون عنها ولا يتأملونها ولا يتدبرونها، يقبلون على قراءة القرآن وعلى قـراءة الأحـاديث دون النظر إلى المعـاني، وهؤلاء يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي: لا تنفذ معانيه إلى قلوبهم ولا تؤثر فيه؛ لأنهم يقرءونه كما يقرءون حروف الهجاء: ألف باء تاء ثاء.. لا يعقلون لها معاني, فهؤلاء يصدق عليهم قوله جل وعلا: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]؛ لأنهم لا يعقلون هذه المعاني، وكل هذه الفرق ضالة إلا من أثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وتعلم طريقة الصواب في هذا -أي: في نصوص الأسماء والصفات من الآيات والأحاديث- وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالة لا تحتمل النقيض؛ كآيات الاستواء, فإنها دلالة لا تحتمل النقيض من أن مراد الله تعالى إثبات الاستواء لنفسه، وكدلالة النصوص على علوه سبحانه وتعالى، فإنها ظاهرة في معناها لا تحتمل نقيض ما دلت عليه.
[ وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض ].
مثل النصوص التي فيها اليد والعين تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] قالوا: يحتمل أن المراد: عنايتنا وحفظنا، لكن هذا ليس هو الظاهر من النص المتبادر، فهو معنى مرجوح ليس معنى ملغى، والراجح هو إثبات النص على ما دل عليه في إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى، فهذا يغلب على الظن إثبات هذا الوصف الذي دلت عليه الآية مع احتمال النقيض واحتمال عدم دلالته على الإثبات، لكن هذا احتمال ضعيف.
بين هاتين المرتبتين؛ بين أن تكون دلالة النص لا تحتمل النقيض، وبين أن تكون دلالته غالبة, يختلف باختلاف قدر الناس وعلمهم ومعرفتهم بدلالات النصوص.
هذا الكلام مفيد جداً في إصابة الصواب في جميع أبواب العلم، وفي جميع أنواع الخير، وإنما يخطىء المرء الخير والصواب في العلم بسبب اختلال أحد الأمور التي ذكرها الشيخ رحمه الله, بعد أن ذكر تفاوت الناس في دلالات النصوص على صفات الله سبحانه وتعالى بين أن تكون دالة دلالة لا تحتمل النقيض، وبين أن تكون دالة دلالة تحتمل النقيض. قال: (ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم ) وذكر الدعاء العظيم الذي فيه افتقار العبد لله جل وعلا أن يبلغه الرشاد، وأن يدله إلى الصواب، وبعد أن ذكر الشيخ رحمه الله هذا الحديث قال: (فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر -أي: أدام النظر- في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين؛ انفتح له طريق الهدى) فهذه موجبات الهداية وأسبابها، وهذه مقتضياتها، فمن أخذ بها فقد انفتح له طريق الهدى: الدعاء، والافتقار الذي فيه شدة اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ومطالعة الكتاب والسنة، وإدامة النظر فيهما، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين الذين تلقوا عنهم.
ثم إنَّ مما يثبته ويدله على الصواب -بعدما سبق- أن يعلم نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب من -تناقض واضطراب وحيرة وضلال كما تقدم ذلك في النقول عنهم (وعرف [أن] غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة) إذا طالع كلامهم وأدلتهم وحججهم؛ رأى أنها شبه، (ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية) هذه عمدتهم فيما ذهبوا إليه من تأويلات، وكلها أدلة فاسدة باطلة يصدق عليها ما ذكره الشيخ:
حجج تهافتُ كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
ثم ختم طرقهم بقول :(وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً، وبقدره أعرف).
وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9]؛ يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة ].
يعني: هو فيما يقوله في الحقيقة بين شبهة وخيال، بلا حجة يعتمد عليها ويستند إليها وينطلق منها، إنما هو في شبه وخيال؛ ولذلك تجده ينقض ويرد على نفسه بنفسه، ولا يحتاج أن ينقضها خصمه، فتجده يثبت في كلامه ما نفاه، وينفي ما أثبته، وهذا لتناقضه وضعف حججه، ودلالة القول الصحيح والدليل السليم عدم التناقض، فالتناقض دليل فساد القول.
حجج تهافتُ كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف:26]، ومن كان عليماً بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم، حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلموا أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً ].
هذا جزاء كل من ترك الكتاب والسنة، فإنه لا يصل إلى هدى، إنما يصل إلى ضلال، ولذلك كانت البدعة لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً، مع أنه يظن أنها تقربه إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا فيه رد العمل، وفيه أنه لا يحصل له مقصوده من العمل، فهو رد من حيث العمل ذاته، من حيث حصول مقصوده.
[ فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين ].
وبهذا نكون قد انتهينا من هذه الرسالة المباركة، التي نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الانتفاع بما فيها، وأن يجعلها في موازين حسناتنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر