إسلام ويب

نبذة من تاريخ البيت العتيقللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للبيت العتيق تاريخ عريق ضارب في أعماق الزمن يحكي البداية والنهاية، ففي قصة إبراهيم مع زوجه وابنه إسماعيل حديث شيق، وعظة بليغة، تعلم البشرية الجد واليقين والرضا والشكر لله، والاتباع لما شرعه.

    1.   

    أهمية دراسة التاريخ

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! في الجمعة الماضية تحدثنا عن فرض الحج وفضله, وما جعله الله عز وجل فيه من المنافع العاجلة والآجلة, واليوم سنتحدث عن مقطع من تاريخ هذا البيت العتيق, وما فيه من الدروس والعبر والعظات, وقد اخترت مقطعاً من أصح المصادر التاريخية, فإن أصح ما يرجع إليه في معرفة التاريخ كتاب الله سبحانه وتعالى, ثم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وحي السماء, الخبر من الله الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون, اخترت حديثاً من صحيح الإمام البخاري وهو أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى, يتحدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن تاريخ هذا البيت في عهد إبراهيم عليه السلام, والحديث ذكره الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب أحاديث الأنبياء, فذكر في هذا الكتاب قصص الأنبياء, وكان من جملة من ذكر قصصهم نبي الله سبحانه وتعالى إبراهيم مع ولده إسماعيل وأمه هاجر , وما ذاك إلا لنعتبر ونتعظ بما انطوت عليه هذه القصة من الدروس, لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111], فقصص التاريخ سواء ما حصل منها للأنبياء أو لغيرهم هي أثرى المراجع والمصادر التربوية, التي يتعظ فيها الإنسان ويتعلم الدروس, فقد قال من قال: السعيد من وعظ بغيره, والسعيد من تعلم من غيره, فأخذ من حسنات ما وقعوا فيه, وتجنب سيئات ما وقعوا فيه, فالتاريخ يدرس لهذه المعاني لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111], فكيف إذا كان تاريخ الأنبياء؟ فكيف إذا كان تاريخ الصالحين؟ فكيف إذا كان تاريخ أولياء الله وأهل الله؟ وما بوأهم وأنزلهم الله عالي الرتب وأكبر المنازل.

    سأسرد الحديث بطوله, فقد استغرق صفحات من صحيح البخاري , وفيه ما فيه من الدروس والعبر.

    1.   

    قصة إبراهيم وزوجه هاجر وابنهما إسماعيل

    يقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: أول ما اتخذ النساء المِنطقة من قِبل أم إسماعيل, المنطق, يعني: شد الوسط, اتخذت منطقاً لتُعَفِّي أثرها على سارة , ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت, جاء بهم من الشام, والولد لا يتجاوز السنتين يومها, فوضعها عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد, والدوحة, يعني: الشجرة الكبيرة, فوق زمزم, يعني: أعلى من زمزم, في أعلى المسجد, يعني: في أعلى مكان في المسجد, وإلا فالمسجد لم يكن مبنياً, وليس بمكة يومئذ أحد, وليس بها ماء, فوضعهم هنالك, ووضع عندهم جراباً فيه تمر, وسقاءً فيه ماء, فهذا كل ما ترك لهم من المؤنة, ثم تركهم في العراء, تحت ظل الشجرة, ثم قفا إبراهيم منطلقاً, يعني: راجعاً إلى الشام, فتبعته أم إسماعيل, فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً, وجعل لا يلتفت إليها, حنو الأبوة وحنو الزوج على زوجته جعله يستثقل أن يلتفت إليها ويحاورها في هذا الموقف الصعب, لكنه تنفيذ لأمر الله سبحانه وتعالى, فجعل لا يلتفت إليها, فقالت له في المرة الآخرة: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم, فقالت: إذاً لا يضيعنا, ووردت روايات أخرى فيها: إذاً رضيت بالله, وحسبي, ولن يضيعنا, وعلمت بأنه لن يضيعهم, وأنه لن يكلهم إلى جراب التمر وسقاء الماء, بل عنده سبحانه وتعالى الخير كله, مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [هود:15], ومن كان يريد الآخرة فعليه بالله, فعنده الخير كله, ثم رجعت, فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37], وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل, حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت, وعطش ابنها.

    بحث هاجر عن الماء لولدها وما حصل لها

    وفي رواية أخرى في غير البخاري : فانقطع لبنها, وكان إسماعيل حينئذ ابن سنتين, نفد ما في السقاء فعطشت الأم وانقطع اللبن فعطش الابن وتعرض للموت, واستمع كيف كان حال الصبي في تلك اللحظات, وجعلت تنظر إليه يتلوى, أو قال يتلبط, يعني: يضرب بنفسه الأرض وهو ابن سنتين, وفي بعض الروايات: يضرب بقدميه الأرض, وفي رواية في صحيح البخاري أيضاً: كأنه ينشغ للموت, يعني: تسمع له زفيراً وشهيقاً في صدره كأنه في سكرات الموت, وهي لا تجد ما تأكل, ولا تجد ما تشرب, ولا تجد إنساً يعينها على دفع هذه الكربة التي هي فيها, فانطلقت كراهية أن تنظر إليه, فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها, فقامت عليه, ثم استقبلت الوادي. وفي رواية: قامت على الصفا تدعو الله عز وجل وتستغيث به, ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً, فلم تر أحداً, فهبطت من الصفا, حتى إذا بلغت الوادي, يعني: مجرى السيل, بين العلمين الأخضرين اليوم, حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها, ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي, ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً, فلم تر أحداً, ففعلت ذلك سبع مرات, يعني: تنزل من المروة إلى الصفا، وتعود من الصفا إلى المروة, ففعلت ذلك سبع مرات, قال ابن عباس -راوي الحديث-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك سعي الناس بينهما ), يعني: ذلك هو مبدأ السعي, ومن أجله شرع الله عز جل للناس السعي, حتى يتذكروا تلك المعاني التي حصلت, فذلك سعي الناس بينهما, فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً, فقالت: صه, يعني: اسكتي, تسكت نفسها, مبالغة في حرصها على استماع هذا الصوت, تريد نفسها, ثم تسمعت فسمعت أيضاً, يعني: سمعت الصوت, فقالت له: قد أسمعت إن كان عندك غواث, قد أسمعت، أي: قد أحسسنا بك, فهل عندك غواث؟ فناداها جبريل. وفي رواية خارج البخاري عند الطبري, قال: فناداها جبريل فقال: من أنت؟ وجبريل يعلم من هي, فقالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم, قال: فإلى من وكلكما؟ أي: إلى من ترككما في هذا المكان؟ فقالت: إلى الله, في أحرج اللحظات لا تزال توقن يقيناً بأن الفرج آت من عند الله, فقال لها جبريل: وكلكما إلى كاف, وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً, قال: فإذا هي بالملك عند موضع زمزم, فبحث بعقبه, يعني: برجله, أو قال: بجناحه, حتى ظهر الماء, فجعلت تحوضه وتقول بيده هكذا؛ لشدة الفرح, خافت أن يذهب الماء, فجعلت تغترف بيدها, وتقول هكذا وتحوض, تجعل مثل الحوض حول الماء حتى لا يذهب, وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف, كلما غرفت زاد, قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل, لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً ), لو لم تغرف منها لكانت زمزم عيناً ظاهرة تجري على الأرض, ولكن كان هذا سبباً في تقدير الله سبحانه وتعالى أن تكون زمزم بئراً لا عيناً, قال: فشربت وأرضعت ولدها, فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة, لا تخافوا الهلاك, وذلك عند فراقها، وليس لها إلا هذا الماء, فتركها إبراهيم وترك لها ماء وتمراً, ولما تركها جبريل ترك لها ماءً فقط, وقال لها: لا تخافوا الضيعة, فإن هاهنا بيت الله, وأشار إلى المكان الذي سيبنى عليه البيت, فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لا يضيع أهله, وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية, تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله, يعني: كان في مكان مرتفع وسط الوادي, والسيل عن اليمين وعن الشمال, فكانت كذلك, يعني: بقيت هاجر مع ولدها على هذه الحال, تشرب من ماء زمزم فقط.

    وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن ماء زمزم: ( طعام طعم وشفاء سقم ), وقد عاش عليه أناس أياماً, عاش عليه أبو ذر في مبدأ إسلامه خمسة عشر يوماً لا يشرب إلا الماء, حتى تكسرت بطنه, يعني: ظهر السمن على جسده, وعاشت هاجر كذلك, ليس لها إلا ماء زمزم, قال: فكانت كذلك حتى مر بهم رفقة من قبائل جرهم العربية, أو أهل بيت من جرهم, مقبلين من طريق كداء, فنزلوا في أسفل مكة, فرأوا طائراً عائفاً, أي: رأوا طائراً يحوم حول المكان ولا يغادر ذلك المكان, فقالوا: إن هذا الطائر يدور على ماء, لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء, فأرسلوا جرياً أو جريين, رسولاً أو رسولين, فإذا هم بالماء, فرجعوا فأخبروهم بالماء, فأقبلوا, قال: وأم إسماعيل عند الماء, فقالوا لها لما وردوا إليها: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ هذه أخلاق العرب, هذه أخلاق أكارم الناس, أخلاق الأفاضل, امرأة ليس لها أحد ينصرها, وهي التي تستبد بالماء, وتستقل به, وهم قبائل, وقد تكون مسلحة, وأعدادهم لا نحصيها, لا نعلمها, الله أعلم كم كان عددهم, لكنهم لم يسطوا على هذه المرأة, لم يحتلوا ما بيدها, ولم يسيطروا على حقوقها, واستأذنوها في أن ينزلوا بجوارها, أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم, ولكن لا حق لكم في الماء, قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فألفى ذلك (يعني: نزولهم عندها, ووصولهم إليها, وافق أنها تحب أن ينزل عندها ناس حتى تزيل الوحشة التي هي فيه) أم إسماعيل وهي تحب الأنس ), فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم, فنزلوا معهم, حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم, انتشروا واستمصروا, وصار ذلك الوادي قرية عامرة آهلة بالسكان, بنوا فيها البيوت وصار بلدة, حتى إذا كان أهل أبيات منهم وشب الغلام, يعني: إسماعيل, وتعلم العربية منهم, فهذا يدل على أنه لم يكن يتكلم العربية, فأبوه وأمه لا يتكلمان العربية, فتعلم العربية من قبائل جرهم بن قحطان العرب, لكن ألهمه الله عز وجل بعد ذلك من العربية ما لم يعلمه العرب الذين سبقوه؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( أول من نطق بالعربية المبينة إسماعيل ), العربية الفصيحة, العربية البليغة, أول من ألهمه الله عز وجل النطق بها إسماعيل, تعلم العربية منهم وأنفسهم, يعني: رغبوا فيه, واشتدت منافستهم عليه, وأعجبهم حين شب, حين بلغ.

    زواج إسماعيل وما جرى بين زوجه وأبيه من حوار

    فلما أدرك, لما بلغ, زوجوه امرأة منهم, وماتت أم إسماعيل, يعني: خلال تلك الفترة, فجاء إبراهيم عليه السلام بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته, يطالع ويتفقد أحوال ما تركه في تلك البقعة, وقد كان عليه السلام يذهب ويجيء خلال هذه المدة, وكان يركب البراق كما وردت بذلك الروايات, فيذهب إليهم غدوة ويرجع إلى الشام فيقيل بها, أسرع من الطائرة اليوم, فيذهب في الصباح ويرجع لينام في الشام قبل الظهر, وما ذاك إلا مظهر من مظاهر تفريج الله الكرب عن عبده المؤمن حين يلتزم ما أمره الله عز وجل به, لما تركهم لله وامتثل أمر الله هيئ الله عز وجل له من الأسباب ما يتفقد به أحوال ولده وزوجته, فيذهب ويجيء وكأنهم بجانبه في الشام, وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3], فلما جاء هذه المرة عليه السلام يتفقد تركته بعدما تزوج إسماعيل, قال ابن عباس في روايته للحديث: فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه, فقالت: خرج يبتغي لنا, خرج يطلب لنا الرزق, وهو الصيد, فكانوا يعيشون على الماء واللحم, ثم سألها عن عيشهم, عن أرزاقهم, وعن هيئتهم؟ فقالت: نحن بِشَر, مع أنها تأكل اللحم كل يوم, وتشرب من ماء زمزم, قالت: نحن بِشَر, نحن في ضيق وشدة, فشكت إليه, فقال لها إبراهيم وهي لا تعرفه: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه, وعتبة الباب ما يثبت عليها الباب, وشبهت المرأة بعتبة الباب؛ لأنها تحفظ البيت كما تحفظ عتبة الباب الباب, وكما يستر الباب ما في داخل البيت، فالمرأة كذلك, فكما أن الباب حام للبيت من غيره من الطارقين فكذلك المرأة, فمنافع المرأة للبيت شبيهة بمنافع الباب للبيت, فشبهها به, فلم تفهم هي, فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً, وفي بعض الروايات: وجد ريح أبيه, يعني: أحس بأن أباه كان هنا, فسألها: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم, جاءنا شيخ كذا وكذا, فسألنا عنك؟ فأخبرته, وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة, فقال لها: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم, أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك, فقال لها: ذاك أبي, وقد أمرني أن أفارقك, الحقي بأهلك, فطلقها, وتزوج منهم امرأة أخرى, فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله, ثم أتاهم بعد فلم يجده, فدخل على امرأته, فسألها فقالت: خرج يبتغي لنا, فقال لها: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة, وأثنت على الله, شكرت الله وأثنت عليه, مدحته بما من عليهم من الفضل والرزق, فقال لها: ما طعامكم؟ قالت: اللحم, قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء, فقال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولم يكن لهم يومئذ حب (يعني: ليس لهم من الطعام إلا اللحم والماء) ولو كان لهم لدعا لهم فيه, قال: فهما (يعني: اللحم والماء) لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ), ما من أحد في غير مكة يلازم أكل اللحم وشرب الماء إلا ومرض إلا في مكة, وهذا من آيات الله أيضاً؛ كما قال سبحانه وتعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97], قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام, ومريه أن يثبت عتبة بابه, فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم, قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة, وأثنت عليه, فسألني عنك؟ فأخبرته, فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير, فقال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم, هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك, قال: ذاك أبي وأنت العتبة, أمرني أن أمسكك, ثم لبث عنهم ما شاء الله.

    بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق

    ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من زمزم, جاء وإسماعيل يصلح نبلاً له, وهو: السهم, تحت الشجرة قريباً من زمزم, فلما رآه, يعني: إسماعيل، قام إليه, فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد بعد طول فراق, يعني: من تقبيله ومعانقته وتقبيل رأسه ويده ونحو ذلك مما يكون عند مقابلة الوالد, ثم قال, يعني: إبراهيم : يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمر, قال: فاصنع ما أمرك ربك, قال: وتعينني؟ قال: نعم, وأعينك, قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً, وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها, قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت, يعني: أن القواعد كانت موجودة, كما تدل على ذلك الروايات, وهو ظاهر القرآن, وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127], فالقواعد كانت موجودة وإبراهيم رفع عليها وأظهرها على الأرض. فأول من بنى البيت آدم عليه السلام على الصحيح من الروايات, وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها, فعند ذلك رفع القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني, حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه, وهو مقام إبراهيم , وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وهذا الدعاء بعد دعاء سابق, فإن الله عز وجل حكى ذلك في كتابه, فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً [البقرة:127-128], وبعد الفراغ من البناء وردت الروايات بأن إبراهيم عليه السلام توجه إليه النداء؛ كما قال الله عز وجل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:26-27], فقال: يا رب! كيف أبلغهم؟ فقال: عليك النداء وعلينا البلاغ, فأسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء, فجاء المؤمنون ملبين: لبيك اللهم لبيك, فهذه قطعة مختصرة من تاريخ البيت, وما جعل الله عز وجل فيه من العظات والعبر, وتسمعون بعض هذه الدروس في الخطبة الثانية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    معالم من قصة إبراهيم في بناء البيت

    امتثال إبراهيم عليه السلام أوامر ربه عز وجل

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني, فقد أوتي جوامع الكلم, واختصر له الكلام اختصاراً, ولكننا نحتاج أحياناً إلى التذكير ببعض المعاني بلغتنا السهلة, هذه القصة وما انطوت عليه من الاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى, وهو أعظم مقصود في الحج, فأعظم مقصود في الحج أن يدرب الإنسان نفسه على الاستسلام لأمر الله, فيفعل ما أمره الله عز وجل به, علم الحكمة أو لم يعلم, وفي امتثال أمر الله الفرج كله, فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, ومن امتثل أمر الله جعل الله عز وجل له في ذلك الامتثال باب خير في العاجلة والآجلة, وإبراهيم خير مثال نصبه الله عز وجل لهذا المعنى, لما أمر بالذبح امتثل وأخذ السكين وأسلم لله واستسلم له, وألقى ولده على الأرض ووجهه إلى الأرض, عندها قال الله: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:103-105], فكانت العاقبة أن كشف الله عز وجل هذه الغمة, وفدى إسماعيل بذبح عظيم, وجعل لهم الذكرى والتاريخ إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها, وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:108-109], وفي هذه القصة يتكرر المشهد ذاته, حيث تركهم عند البيت في واد ليس فيه إنس ولا زرع ولا ماء؛ امتثالاً لأمر الله, ولما امتثل أمر الله أتاه الفرج من عند الله.

    امتثال أوامر الله مفتاح الخير

    ففي الاستسلام لأمر الله مفتاح الخير, خير الدنيا وخير الآخرة, وفي التردد والتلكؤ وفي الركون إلى شهوات النفس وفي الرجوع إلى ما تتطلبه النفس والإعراض عن أمر الله مفتاح لكل شر, يحسب الإنسان أنه يجلب لنفسه خيراً بالمعصية, يحسب الإنسان أنه يجلب لنفسه خيراً بمخالفة أمر الله, ولا يدري أن الأمر على خلاف ذلك, فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ), فتاريخ البيت وما حصل لإبراهيم عليه السلام فيه أعظم عبرة على عاقبة الاستسلام لأمر الله, وما هي نتيجة الإنسان عندما يخضع ويستكين لتوجيهات الله سبحانه وتعالى, فيفعل ما أمر به, ويجتنب ما نهي عنه؟ وعلى هذا قامت فريضة الحج, قال أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وهو يتحدث عن سر تقبيل الناس الحجر الأسود, يقول كما في صحيح مسلم : ( والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ), لولا الامتثال لما جاء عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعلت هذا، ولا زاحمت على تقبيل الحجر الأسود.

    الشكر سبب زيادة النعم واستمرارها

    وفي القصة بيان عاقبة اعتراف الإنسان بفضل الله عليه, وعاقبة شكر الإنسان لنعم الله عز وجل عليه, فالمرأة شكرت ربها, وأحسنت الثناء عليه, فجازاها الله عز وجل جزاءً عاجلاً على لسان هذا النبي الكريم, وأمر ولده بأن يثبت عتبة الباب, وأن يحافظ على هذه الزوجة, فكان ثناؤها على الله مفتاحاً لحياة مستقرة, حياة هادئة, حياة مطمئنة, وهكذا هي سنة الله عز وجل في الخلق, كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7], فشكر الله صيد للمفقود وقيد للموجود, وما شكر عبد ربه على قليل أو كثير إلا وفتح الله عز وجل عليه من أبواب الأرزاق من حيث لا يحتسب.

    عاقبة التوكل على الله

    وفي القصة بيان عاقبة صدق التوكل على الله, والاعتماد على الله حقيقة ينبغي أن تعتقدها قلوبنا، وتربط عليها بحيث نكون جازمين بأن الأمر كله لله, رزقك في خزائن الله, وعمرك بيد الله, والله عز وجل وحده هو القادر على النفع, وهو القادر على الضر, وقد قال عليه الصلاة والسلام لغلام لم يبلغ, يعلمه هذه المعاني ويقول له: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف ), فالله وحده هو المتصرف في شئون العباد, الله وحده هو المدبر لأمور عباده, فلا يستطيع أحد أن يجلب لك نفعاً لم يقدره الله لك, ولا يستطيع أحد أن يجلب إليك سوءاً لم يقدره الله عز وجل عليك, فإذا كان الأمر كذلك, فلماذا الالتفات بالقلب بعد ذلك إلى غير الله؟! لماذا الاعتماد على غير الله؟! وهناك أسباب شرعها الله لتكون مقدمات للوصول إلى النتائج, لكنها ليست هي الفاعلة, ليست هي المثمرة, والأمر كله في آخره إلى الله, إن شاء قدر لك ذلك وإن لم يشأ لم يقدر.

    حصول النفع والفرج من حيث لا يحتسب الإنسان

    ومن طرائف هذه القصة: أن هاجر كانت تبحث عن الماء في أعلى الجبال, وتبحث عن الغوث في أيدي الناس, لعلها تجد إنسياً يغيثها بالماء, تدعو الله ولكنها تبحث عن الأسباب, تدعو الله وتتوكل عليه, لكنها تأخذ بالأسباب الموصلة إلى ذلك القدر, لكن انظر إلى سر قدر الله, كانت تبحث عن الماء في أعلى الجبال, وشاء الله عز وجل أن يكون الماء في غير المكان الذي بحثت عنه, شاء الله أن يكون الماء في غير الموضع الذي كانت ترجو منه النفع, فجاءها جبريل فحفر البئر في مكان آخر عند زمزم, وهكذا هي سنة الله, يأتيك الفرج من المكان الذي لا تظن أن فيه الفرج, ويأتيك الرزق من الباب الذي ما كنت تظن أنه يأتيك منها رزق, فعليك بأن تعتصم بالله, وعليك أن تثق بما في يد الله, وعليك أن تتوكل على الله, وأن تفوض الأمور إلى الله, فإذا فعلت هذا فأبشر بخير الدنيا والآخرة, عليك أن تتوكل على الله.

    التأسي في الحج بأنبياء الله

    وفي الحج أيها الإخوة! اقتداء وتأس بهذه الشريحة الطيبة من خلق الله, بأنبياء الله, برسل الله, وما كان فيهم من المواقف النبيلة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( فذاك سعي الناس بينهما ), فجعل الله عز وجل تصرفاتهم ومواقفهم وأقوالهم عبرة لمن أراد أن يعتبر ممن يجيء بعدهم, حيث نصبهم الله قدوات, فحقيق بالمؤمن أن يقرأ سيرتهم, وأن يقرأ تراجمهم وأخبارهم, فيستنبط منها المعاني الإيمانية, ويقتدي بهم في مواضع الاقتداء, ففي سيرتهم الخير كله؛ كما قال سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث, أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, وانصرهم ولا تنصر عليهم, وكن لهم ولا تكن عليهم, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره, وأشغله في نفسه, واجعل تدميره في تدبيره يا قوي! يا عزيز!

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))[النحل:90], فاذكروا الله العظيم يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756570397