إسلام ويب

تفسير سورة الذاريات [24-60]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

    انتهينا في تفسير سورة الذاريات إلى قول الله تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] وقلنا من قبل: إن الضمير في قوله تعالى: ((إنه لحق)) يحتمل أن يعود إلى ما ذكر من الآيات والرزق، أو يعود إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعود إلى قوله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] أي: أن ما توعدون من العذاب السماوي لحق، ومما يؤيده أن الله سبحانه وتعالى أتبع ذلك بأنباء وعيد المكذبين، فبدأ منها بنبأ قوم لوط عليه السلام؛ لأن قراهم واقعة في طريق كفار قريش، فكانوا يمرون في أثناء أسفارهم على قراهم قوم لوط، فبدأ الله تعالى بذكر قصة تعذيب قوم لوط، وإن كان بدأها بذكر خبر إبراهيم: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )). ومناسبة ذكر قصة إبراهيم هنا مع أن الهدف الأساسي لذهاب الملائكة ومرورهم بإبراهيم عليه السلام إنما كان لإهلاك قوم لوط، لكنهم قبل أن يذهبوا مروا بإبراهيم لتبشيره بالولد. قوله: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) يعني: الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشري: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ)) هذا فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. ((الْمُكْرَمِينَ)) أي: أنهم في أنفسهم مكرمون؛ لأن الملائكة كرام، وهذا وصف ثابت للملائكة، أو أن الخليل إبراهيم عليه السلام أكرمهم بنفسه غاية الإكرام وأخدمهم امرأته ونحو ذلك مما سنذكره من ملامح كرم ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً ... إنه هو الحكيم العليم)

    قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:25-30]. قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) أي: سلام عليكم. ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) أي: أنتم قوم لا أعرفكم. وهذا كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم، فإن قولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك عرفني نفسك وصفها. ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِن)) أي: ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفه ويعذره؛ لأن الضيف إذا سألته: هل نعد لك الطعام أم لا؟ سوف يستحي وفي الغالب أنه يقول: لا، ويكفك عن أن تكرمه، لكن الكريم كإبراهيم عليه السلام لشدة حرصه على إكرام ضيوفه لم يستأذن الضيف، ولم يخبرهم بأنه سيعد الطعام أو كذا، وإنما ذهب خفية، وهذا من غاية الإكرام. عن أبي عبيد قال: إنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية؛ لأن الروغ فيه معنى الاستخفاء، ولذلك يقال: روغ اللقمة إذا غمسها في السمن تماماً حتى رويت من السمن. ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: قد أنضجه وشواه. قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: وضعه بين أيديهم. ((قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: منه. قال القاضي : وهو مشعر بكونه حنيذاً، يعني: مشوياً، والهمزة في قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب، فقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) أفضل من أن يقول: كلوا؛ لأن في قوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حث على الأكل على طريقة الأدب وفيه تلطف بهم. أو أنه قال هذه العبارة: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حينما رأى إعراضهم عن الطعام، فللإنكار عليهم قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)). ((فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أي: أضمر الخيفة؛ لظنه أنهم أرادوا به سوءاً. ((قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) أي: يبلغ ويكمل علمه. ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)) أي: صيحة. ((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن، ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) أي: عاقر ليس لي ولد. ((قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ)) أي: مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك، فإنما نخبرك عن الله فاقبلي قوله ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة. ((إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)).

    1.   

    حقيقة الغلام المبشر به إبراهيم وحقيقة أمه

    قوله: ((وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) من الغلام؟ هو إسحاق عليه السلام؛ لقوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] ولأن في نفس هذه القصة في سورة هود جاء نفس سياق ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة. هناك أمر آخر في قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) العجوز العقيم؟ هي سارة امرأته وقد كانت حرة، أما هاجر فكانت أمة؛ ولذلك قال: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فأبدت السبب من جهتها، وفي سورة هود أبدت السبب من جهتها ومن جهة إبراهيم عليه السلام قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72] فهذا إنما كان في حق سارة وليس في حق هاجر .

    1.   

    كلام ابن القيم في جلاء الأفهام عن تفسير الآيات الأول من سورة الذاريات

    الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى له كلام قيم جداً في تفسير هذه الآيات، يقول رحمه الله تعالى: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )) إلى آخر الآيات، في هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه متعددة:

    الوجه الأول: معنى الإكرام في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

    الوجه الأول: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، فعلى أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، والقول الآخر: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين؛ فالآية تدل على المعنيين.

    الوجه الثاني: عدم ذكر استئذان الضيف حين دخلوا على إبراهيم وسبب ذلك

    الوجه الثاني: قوله تعالى: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)) فلم يذكر استئذانهم وفي هذا دليل على أنه كان قد عرف واشتهر بإكرام الضيفان، واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورد، وهو لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم. أي: أن إبراهيم عليه السلام جعل بابه مفتوحاً والطعام مهيئاً.

    الوجه الثالث: الفرق بين سلام الملائكة على إبراهيم وسلامه عليهم

    قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا)) ما إعراب (سلاماً)؟ مفعول مطلق بمعنى: نسلم عليك سلاماً. فقال إبراهيم: (سلام) أي: سلام عليكم. أيهما أفضل تحية الملائكة أم تحية إبراهيم؟ تحية إبراهيم أفضل؛ لأن الرفع في اللغة العربية أكمل من النصب. يقول ابن القيم : الوجه الثالث: قوله لهم: (سلام) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت واللزوم، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: (سلاماً) يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: (سلام) أي: سلام عليكم.

    الوجه الرابع: وجه حذف المبتدأ في قوله: (قوم منكرون)

    الوجه الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ((قوم منكرون))، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف، كأن يقول لهم: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام. وإنما قال: ((قوم منكرون))، فلم يعين من هؤلاء القوم، ولم يقل لهم: أنتم قوم منكرون.

    الوجه الخامس: وجه حذف الفاعل في قوله: (قوم منكرون)

    الوجه الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: ((قوم منكرون)) ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

    الوجه السادس: عدم إشعار الضيف بإعداد الطعام من كرم الضيافة

    الوجه السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه. وأفظع من هذا من يقول له: نعد لك العشاء أو تنام قليلاً، فهذا مما يؤخذ من قوله: ((فراغ إلى أهله))، وفي الآية الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، قوله: ((فما لبث)) يعني: اختفى وقتاً يسيراً؛ لأن طول الغيبة عن الضيف يشعره بالاحتشام، وأنه أثقل على أهل البيت، بحيث أنهم انقطعوا عن أعمالهم وصاروا يعدون له الطعام، لكن اختفى يسيراً ليجيئهم بنزلهم.

    الوجه السابع: من الكرم استعداد أهل البيت لطروق الضيف في كل وقت

    الوجه السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه. أي: أنه كان دائماً يعد الطعام لنزل الضيوف، فلم يذهب ليشتريه، أو ليستقرضه من جيرانه، أو يفعل شيئاً من هذا؛ لأنه عليه السلام المتصف بهذا الكرم الشديد البليغ.

    الوجه الثامن: من كرم الضيافة خدمة صاحب البيت للضيف بنفسه

    قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ))، دل على خدمته للضيف بنفسه. أي: أن من إكرام الضيف أن يقوم صاحب البيت على خدمته كائناً من كان، وليس من المروءة استخدام الضيف، ويمكن أن يستعين بالغلمان أو الخدم أو كذا، لكن إبراهيم عليه السلام لم يفعل ذلك وإنما خدم الضيف بنفسه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

    الوجه التاسع: من كرم الضيافة الإتيان بكل الذبيحة للضيف

    الوجه التاسع: أنه جاء بعجل كامل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) ولم يأت ببضعة منه. أي: لم يقطعه أو يأتي بجزء منه، وهذا من تمام كرمه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهو تركهم وشأنهم يختارون ما يستحسنونه من أجزاء هذا العجل.

    الوجه العاشر: من كرم الضيافة اختيار الذبيحة السمينة للضيف لا الهزيلة

    العاشر: أنه سمين لا هزيل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: غير هزيل. ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.

    الوجه الحادي عشر: من كرم الضيافة تقريب الطعام إلى الضيف

    الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ))، فالطعام يقرب للضيف حيث هو جالس، وهذا من تمام الكرم، ولم يأمر خادمه بأن يحمله ويقربه إليهم، لكن قربه بنفسه. وأنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة بحيث يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب هو إليه. فمن كرم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه هو الذي قربه إليهم، فالطعام هو الذي يقرب إليهم وليس الضيوف هم الذين يقربون إلى الطعام.

    الوجه الثاني عشر: من كرم الضيافة التلطف في القول عند ابتداء الأكل

    الثالث عشر: أنه قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا أو مدوا أيديكم، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه، ولهذا يقولون: باسم الله.. ألا تتصدق؟.. ألا تجبر؟ ونحو ذلك من العبارات التي فيها التلطف بالضيف.

    الوجه الثالث عشر: سبب عرض إبراهيم الأكل على ضيوفه

    الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون؛ ولأن عادة إبراهيم عليه السلام أن ضيوفه لم يكونوا يحتاجون إلى الإذن في الأكل، فعادة ضيوف إبراهيم عليه السلام أنه كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف خالفوا هذه العادة، فاستوحش وأوجس منهم خيفة، أي: أحسها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم، فقال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)).

    الوجه الرابع عشر: من كرم الضيافة عدم إظهار الريبة والخوف عند عدم أكل الضيوف

    الخامس عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ولم يظهر لهم، أي أنه لم يصرح بذلك وإنما سألهم هذا السؤال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) كأنه يستكشف سر رفضهم الطعام؛ لأن العادة أن من أكل طعامك فإنك تستريح إليه وتطمئن إليه وتأمن من شره، أما إذا لم يأكل الطعام فقد تشك وتظن أنه أتى يريد أن يفعل بك شراً، فإبراهيم لما خاف منهم لم يظهر لهم ذلك. قوله: فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: ((لا تخف وبشروه بالغلام)). فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها فهي من التكلفات التي هي تخلف وتكلف. أي: تخلف عن أخلاق الإسلام وآداب الإسلام وأخلاق إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظروا إلى آداب الضيافة، لا كهذه الأفعال المتكلفة التي يلتقطها بعض الناس من آداب الكفار مما يسمونه: آداب (الإتكيت) وهذه الأشياء كلها تكلف وسخافة، كأن يضع الشوكة في اليد اليسار والسكين في اليمين وغير ذلك من الأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إذا قارنها بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام، فإنك لا تجد وجه مقارنة على الإطلاق. ثم يقول: فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.

    1.   

    كلام ابن القيم في كتابه زاد المهاجر عن مدح الله وثنائه على إبراهيم في سورة الذاريات وغيرها

    تكلم ابن القيم في موضع آخر عن قول الله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ..)) إلى قوله: ((إنه هو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) فقال رحمه الله: فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك، فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة، وكيف تضمنت علماً عظيماً من أعلام النبوة، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة، وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت وقوعه، وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة. إلى أن قال رحمه الله تعالى: افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام، ولهذا قال بعض الناس: إن (هل) في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق. أي: مثل قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] ثم قال: ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام؛ لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به، فتارة يصدره بألا، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر). ثم قال: وتارة يصدره بهل كقوله: هل علمت ما كان من كيت وكيت، إما مذكراً به، وإما واعظاً له مخوفاً، وإما منبهاً على عظمة ما يخبر به، وإما مقرراً له. فقول الله تعالى: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [النازعات:15]، وقوله تعالى: َهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:21]، وقوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وقوله هنا: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )) متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفة ما تضمنته.

    إخبار الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بقصة إبراهيم علم من أعلام النبوة وصدقها

    وفيه أمر آخر: وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة. أي: إشارة إلى أنك من قبل القرآن ما كنت تعلم شيئاً من هذه الأحاديث، يقول عز وجل: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود:49] فكذلك قوله تعالى هنا: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ )) إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق إلا بالوحي، وأن ما علمه من هذه الأخبار إنما هو بوحي لم يكتسبه بنفسه. ثم قال: فهذا العلم الذي يأتيك علم من أعلام النبوة فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟ فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظمة موقعه من جميع موارده، يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.

    ثناء الله على إبراهيم بوصف ضيفه بالمكرمين

    وقوله تعالى: ((ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لثنائه على خليله إبراهيم، فإن في المكرمين قولين: أحدهما: إكرام إبراهيم لهم، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف. والثاني: أنهم مكرمون عند الله كقوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً لإبراهيم، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم. تخيل لما يأتي إنسان له منصب كبير ويزور أحد الناس، فإنه يريد أن ينشر ذلك في الأخبار والجرائد في اليوم الثاني وفي الصفحة الأولى أن فلاناً زاره، أو أن فلاناً أفطر عنده، أو تغدى عنده ويفخر بذلك، فكيف إذا كان إبراهيم عليه السلام مضيفاً للملائكة الذين وصفهم الله بأنهم عباد مكرمون؟! فهذا أيضاً فيه ثناء على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    الثناء على إبراهيم بكون تحيته للملائكة أكمل وأحسن من تحيتهم له

    يقول ابن القيم وقوله: ((فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ))[الذاريات:25] متضمن لمدح آخر لإبراهيم، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره: سلمنا عليك سلاماً، وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره: سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.

    أوجه المدح لإبراهيم في قوله: (قوم منكرون)

    يقول ابن القيم: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فيه من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح: أحدهما: أنه حذف المبتدأ والتقدير: أنتم قوم منكرون، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بما يكرهه، بل يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا). والثاني: قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم، حيث لم يقل: أنا أنكركم، كما قال في موضع آخر: (نكِرَهم) ولا ريب أن قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) ألطف من أن يقول: أنكرتهم.

    وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فراغ إلى أهله)

    قوله: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) متضمن وجوهاً من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف. منها: قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) والروغان: الذهاب بسرعة واختفاء، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه. أي: بخلاف من يكون بارداً بطيء الحركة أو هادئ الأعصاب لا يبالي بهذا الأمر. وقوله: فهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ. هذا من قبل حيث كانت الأموال من الدراهم والدنانير توزن، وفي معناها الآن الريالات والفلوس كأن يفتح الدرج أو المحفظة ويخرج الفلوس ليشتري بها الطعام للضيف أمام الضيف. فيقول: وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه، فلفظة (راغ) تنفي هذين الأمرين. وفي قوله تعالى: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ)) مدح آخر له لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ولا يذهب إلى غير أهله؛ إذ قرى الضيف حاصل عندهم.

    وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فجاء بعجل سمين) وتنوع ذلك

    وقوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ))[الذاريات:26] هذا يتضمن ثلاثة أنواع من المدح. أحدها: خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه. الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا. الثالث: أنه سمين ليس بمهزول، وهذا من نفائس الأموال، فإنهم يعجبون بولد البقر السمين، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.

    وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فقربه إليهم فقال ألا تأكلون)

    قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ)) متضمن المدح وآداباً أخرى، وهو إحضار الطعام بين يدي الضيف، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه. وقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) فيه مدح وآداب أخر، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ))، وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام.. كلوا.. تقدموا.. ونحو هذا. قوله: ((فأوجس منهم خيفة)) لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك ((قالوا لا تخف)) أي: قد فهمنا أنك قد خفت منا، وأفهموه أنهم ملائكة والملائكة لا تأكل ولا تشرب، وهذا هو السبب والعذر الذي من أجله لم يأكلوا ((قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)).

    حقيقة الغلام المبشر به في قوله تعالى: (وبشروه بغلام عليم)

    يقول ابن القيم : وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل. موضوع الآيات التي فيها الخلاف هي الآيات المتعلقة بالذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ قطعاً هو إسماعيل عليه السلام بخلاف ما يقوله أهل الكتاب، ووافقهم للأسف بعض العلماء. قوله: وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت: عجوز عقيم لا يولد لمثلي، فأنى لي بالولد، وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر ، وكان بكره وأول ولده، وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. أي: بشرناه بإسحاق وزيادة على إسحاق أنه سوف يرزق من إسحاق ولداً ويعيش حتى يرى هذا الولد الذي هو يعقوب ((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)) وهذا يفهم منه أن إسحاق سيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وينكح ويولد له. أما الذبيح فقد كان غلاماً وهو إسماعيل، قال الله عز وجل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] فلو كان هو إسحاق لتنافى مع هذه الآية؛ لأن البشارة أخبرت أن إسحاق سوف يعيش إلى أن يتزوج بل ويولد له يعقوب، فيصدق هذا على إسماعيل وليس على إسحاق، وهذه القصة التي في سورة هود: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] هي نفس هذه القصة التي وردت في سورة الذاريات من الإكرام لهؤلاء الضيفان.

    ظهور ضعف المرأة من خلال قوله: (فصكت وجهها)

    قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) يقول ابن القيم : فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار. كما قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسيره هنا: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)): أي: في صيحة. ((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً. وليس هذا من اللطم الذي هو من النياحة، وإنما هذا على سبيل التعجب. ثم يقول القاسمي : على عادة النساء في كل غريب عندهن لم تتمالك نفسها من شدة التعجب من هذه البشارة فلطمت وجهها. فيقول ابن القيم : فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها. أي: أن المرأة كتلة من العاطفة فتنفعل أحياناً ولا تنضبط في انفعالها، لذلك يشترط دائماً إبعادها عما يهيج عواطفها، مثل: اتباع الجنائز وقد نهاها الشرع عن ذلك؛ لأنه من الممكن أنها إذا حضرت الجنائز أو حضرت عند الدفن ألا تتمالك نفسها، ومعلوم ما يحصل من بعض النساء من الصراخ والعويل وهذه الأشياء، وحتى عند الفرح لا تتمالك المرأة نفسها إلا من رحم الله، فترى النساء عند الفرح يأتين بهذه الأصوات المنكرة التي يفعلنها، ولذلك الشريعة لا تقبل شهادتها في الجنايات، مثل: حوادث القتل والذبح والحرق، وكذا لا تقبل شهادتها لوحدها في المعاملات؛ لعجزها عن أن تضبط الشهادة على وجهها بخلاف الرجل.

    وقفة مع أدب الاقتصار في الكلام على ما تؤدى به الحاجة

    ثم قال: وقوله: (( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ )) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة. مم أخذ أن المرأة إذا خاطبت الرجال تختصر الكلام بقدر المستطاع؟ أُخذ من حذف المبتدأ فهي لم تقل: أنا عجوز عقيم، وإنما قالت: عجوز عقيم، فاختصرت في الكلام جداً، لكن لو أنها واحدة من بنات هذا الزمان أو من نساء هذا الزمان إلا من عصم الله وسئلت: أين فلان؟ لقالت: فلان والله جاء له كذا وكذا وذهب إلى كذا، لكن تفضل وانتظره، إلى آخر هذا الكلام. بينما المفروض على المرأة إذا خاطبت الرجال أن تختصر جداً في الكلام، وأن تقتصر على ما تتأدى به الحاجة، أما الإطالة في الكلام والإكثار من القيل والقال فهذا مما لا ينبغي. بالمناسبة نتوقف وقفة يسيرة مع أحد التنبيهات، وهو الكلام على التدخل في خصائص الناس وتحري أسرار البيوت ونحو ذلك من وسائل استنطاق الناس بما عندهم من الأسرار، بعض الناس يكون لهم ظروف خاصة بهم فتأتي بعض النساء فتريد أن تكتنف وتنبش أسرار البيوت وخصائص الناس وأحوالهم الخاصة، فتأتي تكلمها بصورة أو بأخرى حتى تستخرج منها ما لا يعنيها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) يعني: أن الإعراض عما لا يعني من علامات أن الإنسان قد حسن إسلامه، وهذا ليس خاصاً بالنساء بل يدخل فيه الرجال أيضاً. ما دمت أيها المسلم لا تسأل أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن هذا الشيء فهو مما لا يعنيك فلا تنشغل به، لكن إذا أتاك الناس واختصموا إليك وسمعت من الخصوم فهذا واجبك، لكن على أن تعدل بين الخصمين ولا يجوز لك أن تتكلم أبداً مع طرف واحد أو تنصت إلى حجج طرف واحد، بل لابد أن تحضر الطرف الآخر وتسمع من الطرفين مباشرة، حينئذ يحق لك أن تتكلم، هذا إذا طلب منك أن تقوم بدور القاضي أو المصلح بين الناس، أما إذا لم يطلب منك أحد أن تتدخل في أحوال الناس فينبغي أن تستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وينبغي أن نتعبد بهذا الأمر. إذاً: على الإنسان ألا يتدخل في أسرار الناس وخصوصياتهم؛ لأنه كما يقولون: البيوت أسرار، ويقول الشاعر في هذا: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأرض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وهذا أحد السلف الصالحين لما سألته ابنته يوماً وقالت له: يا أبتاه! أين هذا الجذع الذي كان على بيت جيراننا؟ يعني: مرت سنوات طويلة وهذه البنت من صغرها كانت إذا نظرت إلى بيت الجار تلاحظ فوق سطح الجار في الليل مثل جذع شجرة ثابت دائماً فقالت له: يا أبتاه أين هذا الجذع الذي كنا نراه على سطح الجيران؟ قال: يا بنتاه هذا منصور بن زاذان العابد الجليل كان يقوم الليل وقد توفي. نفهم من هذا أن أباها ما اشتغل بالكلام عن حال هذا الجار، مع أنه كان في مثل هذا الأمر من العبادة، فهذا يدل على أن السلف ما كانوا يشتغلون بتتبع أسرار الناس واستنطاق الناس بأسرارهم الشخصية؛ لأن الإنسان قد يكتم أموراً ولا يريد أن يظهرها، فأنت تستنطقه وتستخرج منه ما قد يسوءك، فالسلامة أن الإنسان لا يتدخل فيما لا يعنيه إلا إذا كان قاضياً فله أن يسمع من الأطراف كلها، حينئذ يضمن العدل والإنصاف، وإلا لا تجبر الناس على أن يتحدثوا بما يكرهون.

    وقفة مع ضوابط كلام المرأة الأجنبية مع الرجل الأجنبي

    قوله تعالى: (( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ )) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل: أنا عجوز عقيم. نحن في الحقيقة بصفتنا مسلمين نفترق تماماً عن غيرنا ممن ارتضوا مناهج أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت من اليهود والنصارى والكفار، مما يسمونها: آداب التعامل أو (الإتكيت) أو كذا أو كذا، فعندهم أن على المرأة أن تكون لطيفة ورقيقة ومهذبة، بحيث تكلم الرجل بميوعة وبخضوع قول وغير ذلك؛ حتى تكون امرأة متحضرة. نقول: نحن لا نريد هذه الحضارة؛ لأن المرأة المسلمة إذا خاطبت الرجال الأجانب ينبغي أن تتكلم معهم بحزم وخشونة، وأن تختصر وتقتصر على الكلام الذي تحتاج إليه. أي: إن كانت الحاجة تقضى بثلاث كلمات فلا يجوز لها أن تجعلها خمس كلمات مثلاً، بل تقتصر فقط على مقدار ما تحتاج من الكلام، أما المقاولة والمحاورة فهذا يخرجها من آداب الإسلام، ويفتح أبواب الشيطان على مصارعه، والحوار في الهواتف مع رجل أجنبي في أي حاجة لابد أن تقتصر المرأة فيه على الكلام الجاد والمختصر جداً الذي تؤدى به الحاجة؛ لأن مقصود الشريعة أن تبني علاقة الرجال والنساء الأجانب عنهن على أساس نظام الأسلاك الشائكة، وأن هنا منطقة محظورة فيها الاختلاط إلا بضوابط معينة في المخاطبة أو الكلام إلى آخره، حيث لا خلوة، ولا خضوع في القول. فأي بلية حصلت في الوجود بين رجل وامرأة إذا تتبعت الخيوط الأولى التي أنتجت هذه البلية ستجدها ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة، ومنها نفذ الشيطان وعبر، لكن متى ما حصلت على نظام الأسلاك الشائكة بين النساء والرجال الأجانب عنهن كانت السلامة من الفتن ومن البلاء، فالمرأة مع الرجال تقتصر على قدر الحاجة، أما أن يستنطقها الرجال أو أن يقولوا: إنها مهذبة وإنها كذا فهذا يتصادم مع مقاصد الشريعة. وقد تكلمنا من قبل على قصة ذلك الرجل الذي وجد أخته تلبس ثياباً قاتمة داكنة اللون ساترة فقال لها: من رآك في هذا ينفر منك، فكان الجواب أن هذا هو المقصود. أما أن المرأة المسلمة تلبس الملابس المتناسقة والألوان المتجانسة والتي تشرح صدر من يراها فليس هذا هو مقصود الحجاب، إنما نقصد بالحجاب أن نعمق نظام الأسلاك الشائكة بين النساء الأجانب وبين الرجال الذين ليسوا بمحارم، فهذا هو المطلوب أن الرجل ينفر إذا رأى المرأة وليس أن تجذب نظره إليها، ولا أن تتزين بثياب فيها تناسق وألوان متجانسة، وإنما يكون هذا في البيت أمام المحارم أو أمام زوجها، أما أنها تتأنق في مظهرها وتتزين حتى تكون لطيفة ومهذبة وتريح عين الناظرين وتشرح صدورهم، فهذا مما يتصادم مع الحكمة التي من أجلها شرع الحجاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] فالحجاب جعل من أجل ستر الزينة، فهل يعقل أن يكون هو نفسه زينة؟! هو ما شرع إلا ليستر الزينة، سواء كانت الزينة الطبيعية أو الزينة المكتسبة، فكلاهما يستران، فلو افترضنا امرأة لبست ثياباً فضفاضة جداً مثل جلباب، لكن لونه أصفر مثلاً وفيه الورود والزينة والزخارف وكذا، هل هذا حجاب؟ لا، هذه صورة من صور التبرج؛ لأنه افتقد أحد شروط الحجاب، وهو ألا يكون الحجاب زينة في نفسه، سواء في نوع القماش أو طريقة التفصيل أو في ألوانه أو الأشياء الملحقة به من الزينة وهذه الأشياء، فلتتق الله النساء وليتذكرن أن الحجاب إنما شرع ليستر الزينة، فمن ثم لا يقبل أبداً أن يكون هو نفسه زينة؛ لأن هذا لا يكون حجاباً، بل هو صورة من صور التبرج.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون ... وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم)

    قال تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات:31-37]. قوله: ((قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)) أي: قال إبراهيم لضيفه: ما أمركم وشأنكم أيها المرسلون؟ ((قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)) أي: إنا أرسلنا لمؤاخذة قوم مجرمين ومعاقبتهم. ((لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ)) أي: رجماً لهم على فعلهم الفاحشة. قوله: ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)) أي: مرسلة أو معلمة عند ربك للمعتدين حدود الله الكافرين به. ((فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا)) أي: في تلك القرية، وكان الخروج بإيحاء إليهم على لسان الملائكة. ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) وهم لوط وابنتاه عليهم السلام. ((فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: بيت لوط عليه السلام. ((وَتَرَكْنَا فِيهَا)) أي: في تلك القرية. ((آيَةً)) علامة تدل على إهلاكهم الدنيوي الدال على إهلاكهم الأخروي. ((لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)) أي: في الآخرة. وقرية قوم لوط عليه السلام هي قرية سدوم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون ... فنبذناهم في اليم وهو مليم)

    قال تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:38-40]. قوله: ((وَفِي مُوسَى)) عطف على (فيها)، في قوله: ((وتركنا فيها آية))؛ لأن المعطوف عليه ضمير مجرور، أي: وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه. ((وفي موسى)) أي: آية أيضاً. ((إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أي: ببرهان ظاهر. ((فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)) أي: أعرض عن الإيمان، والركن جانب الشيء، ((فتولى بركنه)) أي: بجانب بدنه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية؛ لأن معناه: ثنى عطفه، أو الباء للملابسة، وذهب بعض المفسرين إلى أنه تولى بركنه أي: تولى بجيشه؛ لأنه يركن إليه ويتقوى به، والباء للمصاحبة أو للملابسة. ((وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) أي: موسى عليه السلام ساحر أو مجنون. ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ)) وكلمة (وجنوده) تقوي قول من قال: ((فتولى بركنه)) أنه جيشه. ((فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)) أي: فأغرقناهم في البحر. ((وَهُوَ مُلِيمٌ)) أي: آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ... إلا جعلته كالرميم)

    قال تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:41-42]. قوله تعالى: ((وَفِي عَادٍ)) أي: وتركنا في عاد قوم هود عليه السلام آية. ((إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)) العقيم: هي الريح التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر؛ لأن إنشاء المطر يكون فيه نوع من التزاوج بين الكهربية السالبة والموجبة، أو اللقاح؛ لأن الرياح لواقح لها دور في تكاثر النباتات كما هو معلوم، لكن هذه الريح التي أرسلت عليهم كانت ريح عذاب لا ينشأ منها مطر ولا تلقيح شجر. ((مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)) والرميم هو: الشيء الهالك، وأصل الرميم: البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم ... فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين)

    قال تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ [الذاريات:43-45]. قوله: ((وَفِي ثَمُودَ)) أي: وتركنا في ثمود قوم صالح عليه السلام آية. ((إِذْ قِيلَ لَهُمْ)) أي: بعد عقرهم الناقة، ((تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)) أي: تمتعوا في داركم حتى حين، وقيل: هذا الحين ثلاثة أيام، كما بينته الآيات الأخرى. ((فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) أي: فاستكبروا عن امتثاله. ((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) أي: العذاب الحال بهم المعهود. ((وَهُمْ يَنظُرُونَ)) أي: وهم ينظرون إليها؛ لأنها نزلت بهم في النهار. ((فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ)) أي: لما نزل بهم العذاب ما استطاعوا من نهوض، فضلاً عن أن يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم عذاب الله سبحانه وتعالى. ((وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ)) أي: ما كانوا ممتنعين من العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل...)

    قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات:46]. قوله: ((وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)) قرئ بالجر عطفاً على ((وفي ثمود)) أي: (وقومِ نوح من قبل)، وبالنصب: ( وقوم نوح) مفعولاً لمضمر دل عليه السياق والسباق، أي: وأهلكنا قوم نوح، أو عطفاً على مفعول (فأخذناه). ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)) أي: مخالفين أمر الله خارجين عن طاعته؛ لأن الفسق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة، أي: خرجت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والسماء بينيناها بأيد وإنا لموسعون ... والأرض فرشناها فنعم الماهدون)

    قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:48]. قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: ((بِأَيْيدٍ)) ليس جمع يد، وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا (بأييد) فَعْل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: ((بِأَيْيدٍ)) في مكان الفاء، والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: ((بِأَيْيدٍ)) جمع يد لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة، والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين، والياء المحذوفة لكونه منقوصاً هي اللام. والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] أي: قويناه به. فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطاً فاحشاً، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة. قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: رفعناها بقوة، قوله: ((وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) أي: قادرون على الإيساع كما أوسعنا بناءها. هذه الآية الكريمة لو أتينا بواحد مختص في علوم الفلك لحدثنا حولها بالعجائب، من عملية التمدد المستمر للكون، وهناك صور لأجزاء في الفضاء تدل على استمرار تمدد الكون واتساعه بصورة مدهشة، فهذا مما يقر به الكفار. علماء الكفار الذين يهتمون بهذه العلوم لهم في ذلك بحوث كثيرة جداً، كلها تثبت هذه الحقيقة المعروفة عندهم بتمدد الكون. والقاسمي فسر الإيساع بالقدرة، أي: كما أوسعنا بناءها فإنا قادرون على إيساعها أكثر من ذلك، أما ما اكتشف حديثاً من التمدد الفعلي للكون فإنه يؤيد ذلك. قوله تعالى: ((وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا)) أي: مهدناها ليتمتعوا بها. ((فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)) أي: لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)

    قال تبارك وتعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] قوله: ((زَوْجَيْنِ)) أي: ذكراً وأنثى، أو نوعين متقابلين. قال ابن كثير : أي جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات. وقد دلت ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم على إثبات الزوجية في كل شيء، وأنا عندي بحث مستقل بعنوان: (الزوجية في كل مخلوق) وهو كتاب كبير يتناول الموضوع، فهناك ظاهرة الزوجية في كل شيء، الكهربية: سالبة وموجبة، المغناطيسية: شمال وجنوب وهكذا، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى تتحقق ظاهرة الزوجية فيه. يقول ابن جرير : وأولى القولين في ذلك قول مجاهد وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه، فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذا قيل: ((خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)). ((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) يقول ابن جرير : أي: لتذكروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداء الزوجين من كل شيء لا ما لا يقدر على ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله ... ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين)

    قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50-51]. قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: حقيقة الفرار الهرب من شيء إلى شيء، وهو نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه، وأما الفرار منه إليه فهو الفرار إلى الله عز وجل بالتوبة والإنابة والإقبال والمسارعة في طاعته وهذا فرار السعداء، وأما الفرار منه لا إليه فهو بعمل المعاصي والإسراف فيها وهذا فرار الأشقياء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وكما قال عليه الصلاة والسلام: (وأعوذ بك منك) وقال عز وجل: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] فهذا فرار الخلص والأولياء. وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. يقول القاسمي : ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا من عقابه إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته. قال الشهاب : الأمر بالفرار من العقاب المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، كأنه فر لمأمنه. ((إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: أنذركم وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم والذي هو مذيقهم العذاب في الآخرة. ((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: قد أبان النذارة. قال أبو السعود : فيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكليف كما قيل، بل بالنهي عن سببه وإيجاب الفرار منه. قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: بالإيمان وعدم الشرك، وقوله: ((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) فإن هذا هو مفتاح النجاة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم ... أتواصوا به بل هم قوم طاغون)

    قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53]. قوله: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كما ذكر من تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، قال: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] أي: هم قالوا ذلك تقليداً لآبائهم واقتداءً لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف ومشرع تعنتهم متحد، فآباؤهم واجهوا الرسل السابقين بنفس الاتهام فقالوا: ساحر أو مجنون. ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) إنكار وتعجب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها. قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: كأن كل جيل كان يوصي الجيل الآتي بقوله: إذا أتاكم رسول فقولوا له: أنت ساحر أو مجنون، أو ساحر كذاب. قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: أأوصى بهذا القول بعضهم بعضاً حتى اتفقوا عليه؟! فأضرب الله سبحانه وتعالى عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني التأريخ يعيد نفسه. ألا إنما الأيام أبناء واحد وتلك الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات هذه سنة ماضية، فهم لما اتحد جوابهم وتعنتهم مع الرسل لا لأنهم تواصوا به حقيقة؛ ولكن لأنهم يتفقون في صفة هي التي أثمرت لهم نفس الرد وهي أنهم قوم طاغون. ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ))، فهذا إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل، الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك، فهذا هو السبب الحقيقي في أنهم ردوا نفس الرد، وقابلوا وجابهوا جميع الأنبياء والرسل بنفس التكذيب والإعراض. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوماً إلا قالوا: ساحر أو مجنون، ثم قال: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال؛ لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا، فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) أي: الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعاً على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد الطغيان، الذي هو مجاوزة الحد في الكفر. وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة في قول الله تبارك وتعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]. فإذا كانت القلوب متشابهة، فإنه يصدر عنها نفس هذا الصد عن سبيل الله، وهذا ما نلاحظه ونشهده في آفاق الأرض كلها، الآن مثلاً يجتمع الجميع على الصد عن سبيل الله وتجد نفس الكلام من الشتم كقولهم: هؤلاء الإرهابيون.. المتطرفون.. المهووسون.. إلى غير ذلك من الشتائم التي يطلقونها علينا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)

    قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]. قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى: وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب:48]، وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10]. ((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: ما أنت بملوم ولن نحاسبك لأنهم أعرضوا، إنما أنت تؤدي ما عليك: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99]، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22]. ((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: لست مسئولاً عن استجابتهم، إنما أنت مسئول عن البيان والبلاغ، ففي هذه العبارة أوضح رد على ما تفوه به بعض المفسرين المعاصرين وأحسبه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى، حيث يقول: إن الهدف والغاية من بعث الرسل هو إقامة الحكومة الإسلامية. فبعض الكتاب تصدر منهم تعبيرات مرفوضة، فنحن فقط ننكرها من باب النصيحة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنهم في ذلك، فكان من تعبير بعض هؤلاء الكتاب ومن يسمونهم مفكرين: أن بعض الرسل فشلوا في إقامة الحكومة الإسلامية والبعض الآخر نجح، فنسبة الفشل لبعض الأنبياء هذا شيء فظيع وشيء عجيب! والذي يوضح ويظهر بطلان هذه النظرية وهذا الكلام هذه الآية: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) والرسول ما عليه إلا البلاغ وقد أدى ما عليه، أما أن الرسول يحاسب ويلام لأن قومه لم يستجيبوا له فلا؛ لأنه لا يملك قلوب الناس، ولا يملك هداية القلوب، إذ هداية القلوب فقط بيد الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال سبحانه: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: قد أديت ما عليك، وجاء في الحديث: (أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد) لم يستجب له أحد، فهل يطلق على هذا أنه نبي فاشل والعياذ بالله؟! وهل النبي أصلاً يوصف بالفشل؟! فهذا من جراء إطلاق بعض الأدباء العنان لأقلامهم، فيأتون بمثل هذه العبارات السخيفة؛ بسبب عدم معرفتهم لقضية التوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي أن ينسب إلى الله وما ينبغي أن ينزه الله عنه، كذلك تنزيه الرسل والأنبياء عن أمثال هذه العبارات الفضيعة التي جرت على ألسنتهم. فمعرفة وإتقان هذه الضوابط أمر مهم جداً. فلا يطلق أبداً على النبي أنه فشل -والعياذ بالله- في إقامة حكومة إسلامية؛ لأن الغاية والهدف من إرسال الرسل هو تعبيد الناس لربهم سبحانه وتعالى. يقول العلامة النسفي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة اللوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه أدى الأمانة ونصح الأمة، وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40]. يقول القاسمي : وقول بعض المفسرين: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: فأعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة، يقول: هذا بعيد عن المعنى بمراحل؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً به على المدى. قلنا في تفسير قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ فقط، أي: ليس أعرض عن مجادلتهم وعن إقامة الحجة عليهم وعن دعوتهم فهذا تفسير غير صحيح وإنما الصحيح: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ، لكن فيما يتعلق بوظيفة الدعوة لابد أن يستمر في إقامة الحجة، ولذلك قلنا: إن هذه الآية يفسرها قوله: ((وَدَعْ أَذَاهُمْ))، وقوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، وقوله: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)) ثم قال بعدها: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) أي: عليك هداية البيان والتوضيح وإقامة الأدلة، لكن هداية القلوب للحق هذه لا يملكها إلا الله، وهي التي قال الله فيها: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وقال الله تعالى فيها: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام كان مكلفاً بهداية البلاغ والبيان على الوجه الأكمل؛ لأن المجادلة والمناقشة وإظهار الحجة وإبطال كلام أعداء التوحيد هو العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وقد قلنا من قبل: إن المسلمين لا يمكن أن ينهزموا في مناظرة أو في مناقشة علمية نزيهة، فلأهل الحق الظهور على الإطلاق، وإذا حصل ظهور من الكفار فليس ظهور حجة وإنما هو ظهور قهر وكبت وتشنيع وشغب بالشبهات وغير هذه الأشياء، لكن بظهور حجة لا يمكن أن يحصل هذا، لأن الحجة ظاهرة على الإطلاق، فظهور أهل السنة والجماعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين). إذاً: أدلة الحق هي أوضح من الشمس ولا ينكرها إلا مطموس البصيرة، ولا يمكن للمبطل أن يكون له دليل على باطله، فمن ثم أوجب الله على كل إنسان منذ بعث النبي محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة أمرين: الأول: أن يجتهد في البحث عن الحق. الثاني: أن يصيب الوصول إلى الحق، ولا يعتبر عذراً له إذا قال: بحثت وتحريت فوجدت -مثلاً-: النصرانية هي دين الحق أو اليهودية أو البوذية إلى آخره؛ لأن الأدلة واضحة وضوحاً بحيث لا يجحدها إلا مكابر، أما الباحث عن الحقيقة بإخلاص فحتماً لابد أن يصل، والواقع يؤيد هذا كما تعلمون. فقوله تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)) أي: جهاداً ممتداً بالقرآن، وذلك بإقامة الحجج القرآنية على القضايا الكلية، وبالذات قضايا العقيدة والتوحيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)

    قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. قوله: ((وَذَكِّرْ)) أي: عظهم. ((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: من قدر الله إيمانه أو الذين آمنوا؛ فإنهم المقصودون من الخلق لا من سواهم إذ هم العادلون. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئاً لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بعض حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أمثلة ذلك، ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكَّر. هنا اقتصر الشنقيطي على ذكر فائدة واحدة وهي التذكير، لكن هناك فوائد أخرى ثبتت من خلال أدلة أخرى منها: إقامة الحجة على العباد، وهذا هو المطلوب في مجادلة الكفار أنك تبلغهم الحق، وأنت غير مسئول عن استجابتهم، عليك فقط أن تبلغ حجة الله وأن تقيم الشهادة لله على هؤلاء الناس أنه وصلهم الحق وهم الذين أعرضوا عنه، وأوضح دليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]. ولذلك يقول الشنقيطي : ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكر؛ لأنه تعالى قال هنا: ((وَذَكِّرْ)) ورتب عليه قوله: ((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)). إذاً: هذا تعرض لفائدة من فوائد التذكير. ثم يقول: ومن حكم ذلك أيضاً: خروج المذكِّر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله: ((قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)). إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ عهدتك أمام الله سبحانه وتعالى ولا يشترط أن يستجيب الناس لنصيحتك، لكن ما دمت أنت لم تقصر وأديت ما عليك، في هذه الحالة تكون قد أعذرت إلى ربك عز وجل، ولذلك كثير من الناس يتخاذل عن أن ينكر المنكرات، وبالتالي تزداد شيوعاً ويقول: لا فائدة، الناس لا تستجيب وكلامي كعدمه، فيرد على مثل هذا بالقول: إن من حكمة التذكير والنصيحة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تقيم حجة الله على هذا العبد بإيصال الحق له. ((وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) لعلك تصادف قلباً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى فيتأثر بالنصيحة كما يحصل لكثير من الناس.

    وقفة مع المتخاذلين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    الحقيقة وردت شكوى من أحد إخواننا الأفاضل الأسبوع الماضي يقول فيها: توجد الآن منكرات كثيرة، خاصة فيما يتعلق بالاختلاط القبيح جداً بين الفتيان والفتيات، والمصيبة أن بعض الإخوة يمرون على المنكرات مرور الكرام ولا يتكلمون، مع أنه من المؤكد أنه لن يتعرض لضرر إذا نصح ولن يقبض عليه ولن يعذب ولن يعتقل، ولو كل واحد مر بفتاة وبجانبها شاب أجنبي عنها وغضضت البصر وقال لهما: اتقيا الله سبحانه وتعالى، توبا إلى الله، هذا الاختلاط حرام، إذا كنت أجنبية عنه وهكذا، ونصحهما وأدى ما عليه ومضى فإنه يرجى إن شاء الله تعالى أنه مع الوقت سيشعران بأنهما يفعلان شيئاً خطأ ويبد كل منهما في تحاشي مثل ذلك الاختلاط، لكن سكوتنا مما يعمق ظهور هذه الفتن وهذه المنكرات، وبالتالي نستحق الوعيد الذي قال في شأنه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه). فالشاهد: أن الإنسان عليه ينصح، وليس عليه مسئولية الاستجابة، وإنما عليه مسئولية إذا نفر المدعو، وإذا أمر بجهل أو نهى بجهل، أو أخطأ في مراعاة الآداب الشرعية والضوابط الشرعية للنصيحة، لكن ما دام أنه يراعي هذه الضوابط ويتكلم عن علم، ويعظ بالحكمة والموعظة الحسنة فهو غير مسئول، عليه فقط أن يقيم الحجة، فانتبهوا لهذا، حتى لو كان الناس لا يستجيبون فسنظل مطالبين بنصيحتهم. ثم يقول الشنقيطي : ومن حكم ذلك أيضاً: النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه. يعني: هذه الأمة وظيفتها أنها نائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والمرسلين ولا نبي بعده، مع أننا نؤمن بأن كل ذكر مولود على الأرض منذ بعثته إلى يوم القيامة مسئول عن دين محمد، وسيسأل في القبر الأسئلة الثلاثة المعروفة: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار) كما في صحيح مسلم . فإذاً: علينا أن نعي واجبنا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ضوء قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: عدولاً، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فهذه الأمة من مسئوليتها القيام بالشهادة وتحمل دعوة الإسلام وإيصالها إلى كل البشر على وجه الأرض؛ لأنها تخلف الرسول عليه السلام في إقامة الحجة على الخلق، يقول الله تبارك وتعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فبالنسبة لأمتنا بالذات العلماء ورثة الأنبياء وكل مسلم مطالب بأن يبلغ ما استطاع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) لأنه بهذا البلاغ تقوم الحجة على الخلق، وتظل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على البشر من خلال القرآن والسنة قائمة عن طريق الأمة التي تبلغ الناس. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47]. وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، هذه الآية تفهم خطأً كالآية التي نحن بصددها، فقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) يظن المتخاذل عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها حجة له في أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نقول: المقصود بقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) أي: الزموا أنفسكم الحق إن لم يستجب الآخرون. قوله: ((لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) من ضمن التفاسير التي تبطل هذا المذهب قول من قال: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا اهتديتم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

    قال الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أي: إلا لهذه الحكمة وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتم صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: اختلف العلماء في معنى قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) فقال بعضهم: المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان . وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : (فإن قتلوكم فاقتلوهم) من القتل لا من القتال. أما القراءة الأخرى وهي قراءة حفص عن عاصم فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191] ليس فيها إشكال، لكن إذا قلنا: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) على هذه القراءة يكون المعنى: فإن قتلوا بعضكم، فأطلق الكل وأراد البعض. ثم يقول: ومن شواهده العربية قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد فقوله هنا: (فسيف بني عبس وقد ضربوا به) يفهم من الشطر الثاني أن المقصود بسيف بني عبس الذي ضربوا به هو أن الذي ضرب به هو واحد، لكن نسب السيف إليهم جميعاً. يقول: فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي . من ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]، بدليل قوله تعالى: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:99]. وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً؛ لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبراً عليه. وهذا كما قلنا: عبودية اختيارية، وعبودية اضطرارية، ومعنى العبودية الاضطرارية: أن سنن الله وأحكام الله تنفذ على الكافر رغماً عنه، إذا شاء الله له أن يولد يولد، وإذا شاء الله له أن يمرض يمرض، وإذا شاء الله له أن يموت في وقت معين يموت في نفس هذا الوقت، وإذا شاء الله أن يعزه يعتز، أو يذله يذل وهكذا، فأفعال الله وقضاء الله ماضية فيه لا انفكاك له عنها، فهذه هي العبودية الاضطرارية. ثم يقول: ويدل له قوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد:15] والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله عز وجل، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعاً وبعضهم يفعله كرهاً. أي: فالجميع في حالة العبودية، فعلى هذا الأساس اللام في قوله: (إلا ليعبدون) لام التعليل، أي: لإرادة أن يعبدون. إذاً: الإرادة هنا إرادة شرعية. يقول الشنقيطي : وعن مجاهد أنه قال: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليعرفوني، واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ونحو ذلك من الآيات. وعن مجاهد أيضاً في معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره. وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: ((ليعبدون)) إرادة دينية شرعية، وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل بطاعة الله، لا إرادة كونية قدرية؛ لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك، بدليل قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3] إلى آخر السورة.

    القول الفصل في معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، وأبتليهم أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم. قال تعالى في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] ثم بين الحكمة من هذا الخلق، بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]. إذاً: كلمة: (لِيَعْبُدُونِ) تساوي في التفسير: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود:7]. ثم قال الشنقيطي : وقال تعالى في أول سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال تعالى في أول الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، يفسر قوله: (لِيَعْبُدُونِ)، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولاً وبعثهم ثانياً هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ وذلك في قوله تعالى في أول سورة يونس: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4]، وقوله في النجم: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]. وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى أي: مهملاً لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت، أي: ويجازيه على عمله، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، والبراهين على البعث دالة على الجزاء. يعني: جميع الأدلة التي تدل على البعث والنشور هي نفسها تدل على الجزاء؛ لأن البعث والنشور لحكمة الجزاء. ثم يقول الشنقيطي : وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم، منكراً ذلك عليهم في قوله تبارك وتعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]. ثم يقول: اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما، قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافاً، والواقع خلاف ذلك؛ لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضاً، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علماً، يقول تعالى في آخر سورة الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. إذاً: هذه الآية نصت على حكمة خلق الله للسماوات والأرض لماذا؟ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وذكر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] إلى قوله: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] ولما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده، بقوله بعده: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جداً في القرآن، يقول تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:2-3] وقال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس، وذلك في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]. وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، وذلك في قوله تعالى: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ [يونس:4] وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه. فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافاً، مع أنها لا اختلاف بينها؛ لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته، ومعرفة وعده ووعيده، فقوله: ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وقوله: ((اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله؛ لأن من عرف الله أطاعه ووحده. وهذا العلم يعلمهم الله إياه، ويرسل لهم الرسل بمقتضاه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف. هل يحاسب الله من هو غير مكلف؟ لا، لا يحاسب الله إلا من هو مكلف، والإنسان لا يصير مسئولاً عن الحق إلا بعد أن يعلمه، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذاً: هناك تلازم بين هذه الأمور كلها. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات، والتكليف لابد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض. وقد بينا معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون) في كتابنا: (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] أي: ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] فهذه إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله تعالى: ((إلا ليعبدون)) إرادة دينية شرعية. وبينا هناك أيضاً الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسماً إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]، وقال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]. والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده، وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية. يعني: أنه قد يقع وقد لا يقع، وأن الله يحب هذا الذي يأمر به ويرضاه بخلاف الإرادة التكوينية القدرية. ويقول رحمه الله: ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة. وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله تعالى: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ))، وقوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) وبين قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)). إذاً: قوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) اللام فيها تدل على الإرادة الكونية القدرية، لكن قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) اللام فيها تدل على الإرادة الشرعية الدينية. ثم قال رحمه الله تعالى: وإنما ذكرنا أن الإرادة

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق ... إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)

    قال الله تبارك وتعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58] بيان لعظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فإن عبيدهم مطلوبون للخدمة والتكسب للسادة، والسيد يجعل العبيد يعملون ثم يعودون عليه بحاصل ما عملوا به، أما الله فهو غني عن العالمين، ولا يطلب من عباده رزقاً ولا إطعاماً، بل هو الذي يرزقهم، وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم...)

    قال تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات:59]. قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد. ((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب. وأصل الذنوب في لغة العرب: الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقُلُب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب، فأصل الذنوب النصيب، لكن لما كان هذا النصيب لا يحصل عليه إلا بالدلو صارت تأخذ معنى النصيب. قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو: لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب يعني: لنا نصيب ولكم نصيب، فإن أبيتم فلنا القليب. أي: سنأخذ نحن كل البئر. ويروى أيضاً: إنا إذا سار بنا سريب له ذنوب ولنا ذنوب فإن أبى كان لنا القليب ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي ، وقيل: عبيد : وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لكأس من نداك ذنوب وقول أبي ذؤيب : لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب (المنايا): الموت. وقوله: (لكل بني أب منها ذنوب) أي: لكل إنسان منها نصيب، ولابد أن يشرب من كأس الموت نصيبه. إذاً: الذنوب في البيتين النصيب. قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. (ذنوباً) أي: نصيباً من عذاب الله. ((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم، كما قال تعالى: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر:50-51]، أي: سيحصلون على نفس النصيب من العذاب. وقال تعالى هنا: ((فلا يستعجلون)) كما قال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد:6]، وقال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]. يقول القاسمي : ((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب. ((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية، وقوله: ((أصحابهم)) أي: أزواجهم وأصنامهم أو نظرائهم، وليس أصحابهم الذين يعيشون معهم. وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، وهي تذكر وتؤنث فاستعيرت للنصيب مطلقاً، في الشر كالنصيب من العذاب كما في الآية، أو في الخير كما في العطاء في الشعر الذي ذكرناه، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب، فيعطى لهذا ذنوب والآخر مثله. ((فلا يستعجلون)) أي: لا يطلبوا مني أن أعجل هذا الذنوب قبل أجله، فإنه لابد آتيهم، ولكن في حينه المؤخر لحكمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون)

    قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:60]، كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، وقال عز وجل: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم:2]، وقال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15]، فكلمة (ويل) قال بعض أهل العلم: إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناها: الهلاك الشديد. وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ من حره. والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء عليهم بهذا الويل. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) أي: توعدوا فيه نزول العذاب بهم، وماذا يلقون فيه من البلاء والجهد، واليوم يوم القيامة، أو يوم بدر. قال أبو السعود : والأول هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية؛ لأنه كما تعلمون أن هناك علم التناسب والترابط بين سور القرآن بعضها ببعض من حيث الترتيب، فالسورة التالية التي هي سورة الطور في صدرها جاء قوله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:7-10]، فقوله: (يوم) كأن هذا اليوم الذي ورد ذكره هنا في صدر سورة الطور هو الذي اختتم به سورة الذاريات التي قبل هذه السورة مباشرة، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))، أي يوم هو؟ إنه يوم تمور السماء موراً، وتسير الجبال سيراً. فإذاً: هذا يكون أقرب من القول أن اليوم هو يوم بدر، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)). قال أبو السعود : هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والثاني هو الأوفق لما قبله، منه قوله تعالى: ((فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ)) فيكون هنا أنسب لما قبله؛ لأن كفار قريش أخذوا نصيبهم من الهلاك يوم بدر، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756216995