إسلام ويب

تفسير سورة الحجرات [1-5]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    المناسبة بين سورة الحجرات وما قبلها من السور

    نشرع في تفسير سورة الحجرات: لما نوه الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرح في ابتدائها باسمه الشريف، وسمى السورة به، وملأ سورة الفتح بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وختمها باسمه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل؛ للعد من حزبه، والفوز بقربه، ومدار ذلك على معاني الأخلاق. وهذه السورة تسمى سورة الآداب، وتسمى سورة الحجرات. يقول المهايمي : سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام، وهو من أعظم مقاصد القرآن. فمن لم يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام أقصى التعظيم، ويحترمه غاية الاحترام، فإنه لا يستحق أن يعد من بني البشر أو أن ينسب إلى الإنسان العاقل كما سيأتي ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.

    1.   

    إثبات مدنية سورة الحجرات وطريقة معرفة المكي والمدني

    وهذه السورة سورة مدنية بإجماع المفسرين، وآيها ثماني عشرة، وقيل: هي مدنية إلا آية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، ولعل من استثنى هذه الآية استند إلى قول عبد الله بن مسعود : ما كان فيه (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فإنه نزل بالمدينة، وما كان فيه (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) فإنه نزل بمكة. وفي الحقيقة هذا ليس بمطرد. يعني: أن عبد الله بن مسعود إن كان صح هذا عنه فلابد أنه كان يستثني؛ لأن هذه القاعدة ليست مطردة، لكن حقيقة الأمر أن السور المكية يغلب عليها النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كما في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس:23]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:104]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:108]، هذا في يونس، وفي سورة لقمان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لقمان:33]. كذلك السور المدنية يغلب عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لأن غالب الخطاب كان موجهاً إلى المؤمنين بالفعل في مجتمع المدينة، فيغلب على السور المدنية الخطاب: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما في سورة البقرة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، وسورة البقرة مدنية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]. إذاً: الغالب أن السور المكية يغلب فيها النداء: بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والسور المدنية يغلب فيها النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن لا توجد آية مكية فيها صيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن يوجد سور مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، كآيات سورة الحجرات هذه في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى )) وفي سورة البقرة وهي سورة مدنية قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، وفيها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]. وفي سورة النساء قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]. كذلك سورة الحج سورة مدنية وفيها قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5]. وما ذهب إليه البعض من استثناء هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ.. [الحجرات:13] إلى آخره اعتماد على النداء: بـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في أن هذه الآية بالذات في السورة تعتبر مكية، فهذا قول غير صحيح.

    1.   

    حث سورة الحجرات على التأدب في الخطاب

    انفردت هذه السورة بآداب جليلة أدب الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من التوقير والتبجيل، قال بعض العلماء: كانت العرب في جفاء وسوء أدب عند خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فالسورة فيها الأمر بمكارم الأخلاق، ورعاية الآداب. ولما كان إيمانهم إيماناً علياً عظيماً طولبوا بآداب تتناسب مع هذا الإيمان العالي، وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في درجتهم، يعني: قد يتسامح في ترك بعض هذه الآداب ممن هو دونهم في المرتبة والإيمان؛ لأنه ليس في درجة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكأنه قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل كما في الآيات الأخيرة في سورة الفتح، وبداية هذه السور متناسقة مع خاتمة الفتح ففيها بيان أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد مدحهم الله في كتابه، ونصت الكتب السابقة على الفضل والثناء؛ وبسبب استماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب معيتهم له عليه الصلاة والسلام كما في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. [الفتح:29]، فهذا ثناء الله عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، كذلك قال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [الفتح:29] إلى آخر السورة الكريمة، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنه درجة لم ينلها غيركم من الأمم، فقابلوا هذا التشريف وهذا التعظيم بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء خطب في الجواب، وصادقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله..)

    يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف السنة.

    تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

    وقال ابن جرير : أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام.. بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه. و(تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله. أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع. وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال ابن كثير إنه جيد. لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.

    تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

    يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أيضاً: قوله تعالى: (( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، أصل في ترك الاعتراض على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لإنسان أن يعترض أو يضع رأيه في طريق السنة أبداً، كما قال سفيان : دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. فهذه الآية أصل أصيل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف -يعني: سريع البكاء والحزن لرقة قلبه- وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). الخطاب هنا (إنكن) في صيغة جمع، لكن المراد به عائشة فقط، قال القرطبي رحمه الله تعالى: والمقصود من قوله: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، أي: مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن الصديق لكونه لا يسمع المؤمنين القراءة من بكائه؛ لكن مرادها أمر زائد على ذلك في الحقيقة، وهو ألا يتشاءم الناس به، ولذا قالت: (خشيت لو أن أبا بكر خلف الرسول عليه السلام في الإمامة فإنه سوف يتشاءم الناس أنه أول رجل حل محل الرسول عليه السلام في الصلاة) فأرادت أن تصرف عنه هذه الإمامة. وهذا مثل زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة، وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)[يوسف:31] ففي الظاهر أنها دعتهن لأجل الإكرام والضيافة، لكن غرضها في الحقيقة خلاف ما أظهرته، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، فهذا هو وجه الشبه في إظهار خلاف ما يبطن، فعبر بالجمع في قوله: (إنكن) والمراد: عائشة فقط، كذلك أيضاً: (صواحب يوسف) جمع لكن المقصود به زليخا امرأة العزيز. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، أي: في التقديم أو في مخالفة الحكم، والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار بك، فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يكون في طريقها ويتعلق بسببها. ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.

    لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية

    وفي الإكليل: قال الكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم. يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.

    تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و(مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه. الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله. الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم،وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول. وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي...)

    قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) أي: إذا نطق ونطقتم فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته؛ ليكون عالياً على كلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا نهي عن أن تكون نبرة صوت أحد المؤمنين أعلى من صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قال لقمان لابنه وهو يعظه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فتهذيب الأصوات وغضها من الآداب التي تكاد تكون مهجورة، فقد ذم الشرع رفع الصوت بغير عذر شرعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (صخاب في الأسواق) بالسين وبالصاد؟ من الصخب والجلد كالباعة الذين يرفعون الأصوات في الأسواق، فرفع الأصوات بهذه الطريقة المنكرة مما تنفر عنه الشريعة، فضلاً عن أن بعض الناس يقف يعلن عن بعض الكتب، ويرفعون الأصوات على أبواب المساجد، فهذا أيضاً مناف للآداب الشرعية.

    إهمال الناس لأدب خفض الصوت في المساجد

    وقول الله عز وجل على لسان لقمان : وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فيه تنفير شديد لرفع الصوت وأن هذا من شأن الحمير، وأنا سمعت من سنوات بعيدة أن أحد علماء الموسيقى في لبنان أسلم بسبب هذه الآية، قال: لأن هذه الآية لا يمكن أن ينطق بها إلا خالق الأصوات، فقوله: إن أشد الأصوات نشازاً هو النهيق الذي يصدر من الحمير، هذه حقيقة علمية في غاية الدقة، فأسلم بسبب هذه الآية! وكان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كما ثبت في بعض الآثار: (محمد عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق). أيضاً: مما يناسب هذا مراعاة موضوع الآداب في السوق وفي المسجد، فهذا الأدب يكاد يكون مهجوراً، فلابد من مراعاة الأدب في المسجد بخفض الصوت فيه، فبعد الصلاة يحصل لغط وتشويش، وربما بعض الناس يريد أن يصلي أو يقرأ فيجد الأصوات مرتفعة وكأنه في ناد، ولا أحد يبالي بأدب المسجد. فالمسجد له احترامه وأدبه، ولا بد من غض الصوت في المسجد احتراماً أو مراعاة لحرمة بيت الله عز وجل، فضلاً عما يحصل من بعض الناس من السلوك فتجده يرفع صوته ويتملكه الغضب، ويصرخ في المسجد بطريقة لا تليق أبداً مع آداب المسجد. كذلك من الأشياء التي ينبغي الالتفات إليها ضبط السماعات، فأحياناً يكون القائمون على هذا الأمر غير متخصصين ولا يعرفون ضبط السماعات، فيكون الصوت مرتفعاً جداً، وأنا أحياناً أتواجد في بعض المساجد فأضطر أن أضع أصبعي في أذني؛ لأن هذا خطر على أعصاب الأذن، فالصوت العالي يؤثر على حاسة السمع، فلا ينبغي أن نهمل هذا الأمر؛ لأن هذا من أذية المسلمين وأحياناً يكون الإهمال في ضبط السماعات بحيث تصدر أثناء الصلاة صفارات تشوش على الناس الصلاة. إذاً: هذا أيضاً مما يدخل في الأدب في التعامل مع الناس والأدب مع المساجد، فليبلغ السامع الغائب في أي مسجد، فالمكبرات تؤدي خدمة جليلة في توصيل الخطب خاصة عند ازدحام الناس في صلاة الجمعة أو العيدين، لكن أن تكون السماعات مرتفعة الصوت بهذه الطريقة فهذا يشبه ما يفعله الجهلة الذين يريدون أن يعملوا أفراحاً بأصوات مؤذية، فيؤذون الجيران، فضلاً عن أنها معاص كالأغاني وغيرها، ويسهرون حتى الفجر، ويتعبون جيرانهم، ولا يستطيع أحد أن ينام، ولا يستطيعون أن يفرحوا إلا بهذه الطريقة الفوضوية والغوغائية، كيف يكون هذا فرحاً؟ إن كان لا بد من فساد فاحصره في دارك. كذلك الذي يتصدق على جيرانه بمزامير الشيطان، ويرفع الصوت فيسمعهم، وبعض الناس يحاول أن يواجه هذا بأن يرفع صوت القرآن، ويذهب الآخر فيرفع الأغاني أكثر، فتحدث عملية عناد بطريقة غير مرضية، فمن الذي أجاز رفع الصوت في القرآن بهذه الطريقة التي تحصل في المساجد؟ سواء كان في المقرئ الذي يأتون به يوم الجمعة أو بعد صلاة العصر، وهذه بدعة، فإذا أراد أحد أن يصلي السنة أو أن يقرأ سورة الكهف لم يستطع. من قال: لا تقرأ القرآن؟ اقرأ القرآن فهو أفضل ذكر، لكن كل شخص يقرأ وحده دون أن يشوش على الآخرين فالتشويش على جميع المصلين بهذه الطريقة إهدار لحقهم في أن يصلوا صلاة خاشعة، فإذا أراد أحد أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام يوم الجمعة فدعه يتنفل، لماذا تشوش عليه بالصوت العالي بالقرآن؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يجهر بعضهم على بعض أمرهم أن يخفضوا أصواتهم، فقال: (ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر أحدكم بصوته على أخيه)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يذهب الشخص إلى بعض المساجد فيندم أنه لم يحضر معه سدادات الأذن، لأن الصوت يكون مؤذياً إلى أقصى مدى، في حين يمكن أن تسمع الخطبة وتفهمها جداً عندما يكون الصوت هادئاً، وليس فيه هذه النبرة. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وعندنا عناء كثير بسبب هذا الأمر، وبسبب عدم الوعي بآداب الإسلام؛ ولذلك نقول دائماً: نحن لسنا متخلفين عن الكفار في اهتمامهم بحقوق الآخرين، لكننا متخلفون عن الإسلام الذي علم الدنيا كلها هذه الآداب قبل قرون عديدة ومديدة، فهذه الآداب هي في الحقيقة نابعة من ديننا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

    رفع الصوت عند النبي من الكبائر

    قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)). أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه، يعني: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً: يا محمد! يا محمد! بل تنادوه: يا نبي الله! يا رسول الله! وقد قال تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]. ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) يعني: مخافة أن تحبط أعمالكم لرفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم. ((وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها. استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة، ولا فرق بينها وبين غيرها، وعمموا الأمر فقالوا: ما دام أن هذه كبيرة محبطة فكل كبيرة محبطة. ولما كان المحبط للأعمال عند أهل السنة هو الكفر خاصة، تأول علماء أهل السنة هذه الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض للمنافقين القاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعاً لأنه يقصد به الاستهانة بمقامه الشريف، فهي ليست في حق المؤمنين إلا إن قلنا: إنها للتغليظ والتخويف، كوصف المعاصي مثلاً بالكفر. وقال الناصر : المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكمة النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو حكم الله في التحذير من أن يقع إيذاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    يجوز رفع الصوت عند الحرب

    وهناك حالات للجهر لا يتناولها النهي باتفاق العلماء، مثل أن يكونوا في حرب، أو في مجادلة معاند، أو في إرهاب عدو، أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ واستهانة، قال صلى الله عليه وسلم للعباس لما ولى المسلمون يوم حنين: (ناد أصحاب السمرة)، وكان العباس جهوري الصوت، فنادى بأعلى صوته، مع أنه كان في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل هذا يدخل في قوله: (( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ))؟ لا، لأن هذه حالة جهاد وقتال، ومطلوب فيها رفع الصوت من أجل تجميع الجيش الذي تبدد وتفرق. والسمرة هي الشجرة التي بايعوا تحتها، وكان رجلاً صيتاً، يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس : يا صباحاه! فأسقطت الحوامل من شدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعد: زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم أبو عروة كنية العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه زعمت الرواة أن العباس كان يزجر السباع عن الغنم فتنفجر مرارة السبع في جوفه من قوة صوت العباس رضي الله تعالى عنه، لكن كيف لا تفتق مرارة الغنم؟ قيل: لأنها ألفت صوته، لأنه مع الغنم دائماً فتعودت على الصوت، أما السباع فكان يحصل ذلك لها فجأة، والله أعلم من صحة ذلك. المقصود: أن رفع الصوت هو من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة، حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه، فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام! ثانياً: نقول: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه الأئمة، وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر. والله عز وجل الموفق.

    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم..)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]: سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال، فقال له أبو بكر : ما أردت إلا خلافي، فقال عمر : ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ )) إلى آخر الآية. وهذا ذكره البخاري في صحيحه، وجاء في بعض الروايات: (كاد الخيران أن يهلكا) والخيران أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    دلالة الآية على توقير النبي صلى الله عليه وسلم

    وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض أي: ينادوه باسمه: يا محمد! يا أحمد! كما ينادي بعضهم بعضاً، وإنما أمروا أن يخاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله! أو يا رسول الله! ونحو ذلك. ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) أي: لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم. ((وأنتم لا تشعرون)) أي: لا تعلمون بذلك. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، هذا على القول بأن الضمير في (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]. وقال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ [الأعراف:157]. وقوله هنا: (( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ))، أي: لا تنادوه باسمه يعني: لا تقولوا له: يا محمد! وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على تفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى كان يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، ولا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد أو يا أحمد، وإنما: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم: وَقُلْنَا يَا آدَمُ [البقرة:35]، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104]، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48]، قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144]، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55]، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً [ص:26]. أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا ينادى بالاسم لكن جاء اسمه في قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]. وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد:2]. وقال أيضاً: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]. وقد بين تبارك وتعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى أي: أخلصها لها، وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3]. وقال بعض العلماء في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ))، أي: لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض. وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي : إنه ليحبط عمله بغير شعوره. لأن قوله: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) يدل على أنه يمكن أن يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر. وقال ابن كثير : قوله عز وجل: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك؛ فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري. ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط، وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً لا يجوز، ولا يليق إقرارهم على ما هم عليه من المنكر، وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.

    كفر المستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم

    ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى مسألتين فيقول: الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به، ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال الله تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم: وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].

    وجوب التمييز بين حقوق الله وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم

    ثم يذكر المسألة الثانية ويقول: وهي من أهم المسائل: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله سبحانه وتعالى، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب، ودهمته الدواهي، لا يجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا. فبعض الناس تسول له نفسه أن يغالي ويفرط في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام إلى حد يوقعه في الشرك، ويظنون أن حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وإرادة تعظيمه تشفع لهم في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية؛ لأن سر ارتفاع مقام النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين أجمعين ما هو إلا إمعانه في تحقيق العبودية، والعبودية هي غاية الحب مع غاية الذل، فما ارتفع عند الله إلا لأنه بلغ غاية الذل وغاية الحب لله عز وجل التي لا يصل إليها أحد على الإطلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من تواضع لله رفعه الله)، فهو كان أشد الناس تواضعاً لله، وهذا هو سر رفعة النبي عليه الصلاة والسلام. فبعض الناس قد يظن لجهله أنه إذا مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمديح فيه غلو أنه تشفع له هذه المحبة،حتى لو كان هذا الأمر مما لا يجوز أن يصرف إلا لله، انظر مثلاً إلى قول البوصيري في البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم وقول بعضهم: محمد زينة الدنيا وبهجتها محمد كاشف الغمات والظلم هل هذا حق ؟ كلا، هذه من خصائص الربوبية التي لا تُصرف إلا لله عز وجل. والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا سمع بعض الناس يخطئ في بعض العبارات يغضب غضباً شديداً، كقول الرجل مثلاً: ما شاء الله وشئت، فغضب وقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).

    براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يغالون فيه

    والرسول يبرأ إلى الله من هؤلاء الذين يغالون في تعظيمه من إفراط في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد مدحه الله بالعبودية في أشرف المقامات كما قلنا في مقام الدعوة، وفي مقام الإسراء، وفي مقام التحدي، فلا بد أن نميز بين ما هو حق خالص لله، وبين ما هو حق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلا شك أن المضطر لا يجوز له أن يفزع إلا إلى الله سبحانه وتعالى، لكن تجد بعض العوام -للأسف- يقوم وهو ثقيل الجسم، ويريد أن يقف فيقول: يا رسول الله! المدد يا رسول الله! وهذا شرك! لأن المدد لا يطلب إلا من الله عز وجل، والرسول كان يطلب المدد من الله. فالدعاء من التوحيد، وصرفه لغير الله شرك حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يشرك مع الله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، يقول سبحانه وتعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] يعني: إجابة المضطرين الداعين، وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية كخلق السماوات الأرض، وإنزال الماء، وإنبات النبات، والحجز بين البحرين، فهذه الآيات تبين كل الخصائص، كما في آيات سورة النمل قال تعالى: (( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ )) يعني: أئله مع الله فعل ذلك؟ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:63]، وقال تبارك وتعالى: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وللأسف نهج شوقي نهج البوصيري في قصيدة البردة، وإذا به يختمها بقوله: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في أبناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حصن إذا ما الضر مسهم ونابا ترى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع هذا الكلام هل كان يقر هذا الشاعر على هذا الشرك؟! لا يمكن.

    بعض من ينتسب إلى الإسلام أسوأ حالاً من المشركين في الشرك

    سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه: أنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة خرج فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف؛ فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم، فلأجدنه رءوفاً رحيماً! فخرجوا من البحر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وللأسف أنه يوجد بعض المتسمين باسم الإسلام وهم أسوأ حالاً من هؤلاء الكفار المذكورين؛ لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله عز وجل، كما يفعلون عند قبور الأنبياء ومن يعتقدون فيهم الصلاح، وهذا معروف ومجرب، وهناك أخبار كثيرة منقولة منها: أن الشخص يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً لا يبالي، لكن إذا قلت له: احلف بشيخك، أو احلف بـالبدوي أو بـالحسين أو بكذا، يتلعثم ويتردد ثم يقر بالحق! فهذا لا شك أنه من تلبيس إبليس على هؤلاء الناس الذين يصرفون خصائص الربوبية لغير الله. ويقول تبارك وتعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، بل الذي كان يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به، فإن الله أمر في قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].

    المغالي في تعظيم النبي عدو لله وإن ادعى المحبة

    يقول الشنقيطي : واعلم أن كل عاقل رأى رجلاً متديناً في زعمه، مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله، المتعدين لحدود الله. فلا فرق بين إجابة المضطرين وبين كشف السوء عن المكروبين، فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل، وأن نعظم ربنا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله، والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به. وأثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه وأصحابه لالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]. ثم يقول الشنقيطي : اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يصرف شيئاً منها لغير الله كائناً ما كان، والظاهر أن ذلك يشمل هيآت العبادة. يعني: كما أن العبادة لا تصرف إلا إلى الله، كذلك هيآت العبادة، فبعض الناس يذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام القبر، ويضع يده اليمنى على اليسرى كما يفعل داخل الصلاة، وهذه هيئة من هيآت الصلاة، فينبغي أن تكون خالصة لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيآتها لله تبارك وتعالى وحده. والعبادة أنواع فمنها: عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وقولية: فمثال القلبية: الحب والرجاء، والتوكل، والإنابة، واليقين ونحوها. وهناك عبادات قولية مثل: الذكر والحلف والنذر وقراءة القرآن وهكذا. والعبادات المالية كالزكاة والصدقة والنذر والحج ونحو ذلك. والعبادات البدنية كالصيام والصلاة والجهاد ونحو ذلك، فكل هذه العبادات لا ينبغي أن توجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحلف إنسان إلا بالله، فإذا حلف بغير الله فقد وجه العبادة إلى غير مستحقها حتى لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله...)

    يقول تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3]. ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ)) أي: يبالغون في خفضها ((عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)). قال ابن جرير : أي: اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني: لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار فيخلص جيدها، ويبطل خبثها. ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: ثواب جزيل وهو الجنة، وقال الزجاج : اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات..)

    قال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4]. ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ)) أي: يدعونك ((مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ)) أي: خارج الحجرات يعني: خلفها أو قدامها على أن (وراء) من المواراة والاستتار، أي: فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره. وقيل: هي من الأضداد، فهي مشترك لفظي. قيل: ((الذين ينادونك)) يدعونك ((من وراء)) أي: خارج الحجرات عند كونك فيها؛ استعجالاً لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال. ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) إذ لا يفعله محتكم، فلا يراعون حرمة أنفسهم ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر؛ لأنه ليس المقصود أن جميعهم فعل ذلك، لكن قد يتبع شخص عاقل جماعة من الجهال موافقة لهم، فيسلك في نظامهم، فلذلك نسبه إليهم مع أن قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، يفهم أن فيهم من يعقلون، لكن هؤلاء تبعوا جماعة الجهال. وقال القرطبي : ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضاً من الجملة، فلهذا قال: ((أكثرهم لا يعقلون)) أي: إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم..)

    قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5]. يعني: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه صلى الله عليه وسلم، وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة مع اتصافهم بالصبر ورعاية الحرمة لنبيهم ولأنفسهم. ((والله غفور رحيم)) أي: لمن تاب من معصية الله، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.

    سبب نزول الآية

    قال ابن كثير : قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي فيما أورده غير واحد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس : (أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد.. يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله! فلم يجبه، فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل) يعني الأقرع أنا الذي إذا مدحت أحداً وأثنيت عليه زانه ذلك، وإذا ذممت أحداً شانه ذلك، ولحق به العار، فأقحمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطل دعواه واغتراره بنفسه، بأن قال: ذاك الله عز وجل أي: الله وحده هو الذي حمده زين وذمه شين. وروى ابن إسحاق في ذكر سنة تسع -وهي المسماة سنة الوفود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد؛ فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم، ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً، ثم قال: وفيهم نزل من القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ .

    كلام الزمخشري في الآية

    والحجرات بضمتين أو بفتح الجيم أو سكونها -قرئ بهن جميعاً- جمع حجرة، وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، كفعلة بمعنى: مفعولة كالغرفة والقبة والظلمة، فأصل كلمة الحجرة من الحجر والحجر المنع، وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. قال الزمخشري : المراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، أو أنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو أنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفعل وإن كان مسنداًً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعاً. قال الزمخشري : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله؛ منها: مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل؛ لما أقدموا عليه ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)). ومنها: لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه. ومنها: المرور على نظمها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. فلم يقل: بحجرات رسول الله، وإنما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ).

    صفات الحجرات النبوية

    عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج بمسوح الشعر. وعن الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى عليه وسلم في حياته؛ فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها. ومن الأمور التي تبين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الآية أنه شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات،تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له. لأنه عندما يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، كأن الله سبحانه وتعالى يذكر له أن هؤلاء القوم جهلة، فهذه تسلية له ومواساة لتخفيف هذا الأذى وهذا الخطب، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم.

    بيان تعظيم النبي في سياق سورة الحجرات

    والسياق من أول السورة إلى آخر هذه الآية وارد في التأديب، فانظر كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد: (( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، في أي أمر من الأمور. ثم أردف ذلك النهي ما هو من جنس التقديم؛ من رفع الصوت والجهر بالقول، كأن الأول بساط للثاني فقال: (( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ )). ثم ذكر ما هو ثناء على الذين يتجنبون رفع الصوت: (( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى )). ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد -ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.

    كراهة رفع الصوت عند القبر النبوي الشريف

    قال ابن كثير : قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما -رماهما بالحصباء- ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً..). وقال سليمان بن حرب : ضحك إنسان عند حماد بن زيد وهو يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فغضب حماد وقال: إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي. وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم. فكيف لو رأى ما يحصل الآن من بعض الجهلة الأجلاف! تناقشه ثم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظل يرفع صوته ويجادل، وكان الأدب يقتضي أنك متى سمعته يقول: قال رسول الله لا بد أن تتأدب وتسكت إلى أن يتم كلامه، هذا من الأدب عند تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    تعدد أسباب النزول وبيان وجه ذلك

    روى البخاري عن عبد الله بن الزبير : (أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي! فقال عمر : ما أردت خلافك؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فنزل في ذلك: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))حتى انقضت الآية). وفي رواية: (فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. ) (قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) يعني: كان يبالغ في خفض الصوت، حتى إن الرسول عليه السلام كان يستفهمه يقول: ماذا تقول؟ لشدة خفضه لصوته عند النبي بعد نزول هذه الآية. وهذا الحديث رواه البخاري . قال الحافظ ابن حجر : وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب. قال ابن حجر : قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما هو في التأمير، في أول السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، لكن لما اتصل بها قوله: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ)، تمسك عمر منها بخفض الصوت، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم. فهذا الاستشكال الجواب عنه: تعدد سبب النزول، وهذا كما قلنا مرارًا: إن قول العلماء أو السلف: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، ويشمله حكمها، لا أنه سبب لنزولها بالفعل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا.. يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى كلام شيخ الإسلام . يقول القاسمي : وبه يجاب عما يرويه الكثير من تعدد سبب النزول فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله، ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات يجعل بعضها لسبب وبعضها لآخر في قصة واحدة، وبالله التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755791187