إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف [103-137]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ... فأرسل معي بني إسرائيل)

    قال تبارك وتعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ*وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ*حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:103-105]. ((وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين)) أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه سبحانه وتعالى. ((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: جدير بذلك وحري به؛ لما علمت من حالي، وهناك قراءة أخرى: ((حقيق عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق)) بمعنى: واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، أو ((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق. والباء وعلى يتعاقبان، تقول: جاء على حال حسن، وتقول: جاء بحال حسن، فحقيق على يعني: حقيق بألا أقول، وقرأ أبي رضي الله عنه: (حقيق بأن لا أقول). وقوله: (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي: آية قاطعة وواضحة تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة. ((فأرسل معي بني إسرائيل)) روي أن الله تبارك وتعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى عليه السلام ويهلك عدوه، فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله، هذا سيؤثر على الإنتاج وسيؤثر على الاقتصاد، كيف نتركهم يخرجون معك يتعبدون ويتعطلون عن الأعمال التي سخرهم فرعون من أجلها؟ فقد كانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر حينئذ بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين... فإذا هي بيضاء للناظرين)

    ثم طلب فرعون من موسى آية كما قال تعالى: قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ*فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الأعراف:106-107]. ((فألقى عصاه)): التي هي جماد، من غير سترة ومن غير معالجة سبب، فكان الأمر لا لبس فيه على الإطلاق، لا كما يفعل المهرة من الحواة أو السحرة وغير هؤلاء، يخبئ شيئاً في فمه ويظهره من الجانب الآخر إلى آخر هذه الحيل التي تعتمد على خفة اليد، فيظهر شيئاً خلاف الشيء الذي كان ظاهراً من قبل، أو يستر الشيء الذي يتعامل معه ثم يظهر منه شيئاً آخر، وغيرها من الحيل المعروفة عند الحواة. فيقول تبارك وتعالى: (( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ )) أي: بدون سترة فلم تكن العصا مستورة، وبدون معالجة سبب من الأسباب كي تتحول إلى هذه الآية. وكلمة: (فإذا) فجائية، والثعبان هو: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات، أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه. ((مبين)) يعني: ظاهر لا متخيل. ((ونزع يده)) يعني: أخرج يده من جيبه بعدما أدخلها فيه. ((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني بيضاء بياضاً خالياً من البرص، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل:12]: لأن البياض أحياناً يكون بسبب مرض البرص، فقوله: ((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني: بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة، يجتمع عليه النظار تعجباً من أمره فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية وتتقوى بها الحياة بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الملأ من قوم فرعون ... فماذا تأمرون)

    قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الأعراف:109] ((الملأ)) الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، قالوا: في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق، ومحاولة إبطال ما أظهره موسى عليه السلام من الآية والمعجزة: ((إن هذا لساحر عليم)) أي: ماهر في السحر. وبين تعالى في سورة الشعراء أن فرعون قال أيضاً نفس هذا القول: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ*يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الشعراء:34-35] أي: يخرجكم من أرض مصر بسحره، ليتملك عليها. فهذا فرعون وملؤه يقولون إن موسى عليه السلام يريد أن ينازعهم، وتكون له الكبرياء والملك في الأرض، وذلك بالتستر وراء الدين للحصول على مآرب سياسية. ((فماذا تأمرون)) أي: ماذا تشيرون في أمره، وهذا القول من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو هو مستأنف من فرعون، ويدل على هذا الوجه الثاني: قوله تعالى: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف:111] في الرد والجواب عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه ... ساحر عليم)

    قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:11-112] وقولهم ((أرجه وأخاه)) أرجه أو أرجئه بالهمز، يعني: أخر أمرهما وأصرفهما عنك الآن حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما؛ لئلا تنسب إلى الظلم الصريح، فحسن صورتك حتى لا يظن بك أنك ظلمتهم ظلماً صراحاً، لكن أظهر أنك تعطيهم الفرصة، وأنك كما يقال الآن: ديمقراطي وكذا وكذا. مع أنه تقدم منه أمر آخر يفهم من هذا، وهو أن فرعون هم بقتل موسى عليه السلام أولاً، ثم أشار عليه هؤلاء المستشارون بأن يؤخره كي يتبين حاله للناس. ((وأرسل في المدائن)) أي: في مدائن الصعيد من نواحي مصر، ((حاشرين)) أي أرسل من يأتيك بكل ساحر عليم وقرئ: (يأتوك بكل سحّار عليم) أي: ماهرين في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات، قال الجشمي : تدل الآية على عظيم علم موسى، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، ويستحيل أن تشتبه معجزة النبي بالسحر. فلا يمكن أن تنقلب العصا إلى حية حقيقة، فهؤلاء لشدة جهلهم لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، حتى نسبوا ذلك إلى السحر، كما تدل الآية على أن عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً يسعى إلى أن يعارضه، لذلك لما رأوا تحول العصا إلى حية، فزعوا إلى استنفار فرعون، وجعلوا يحصدون له السحرة ويجمعونهم له. فيقول: تدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن أيضاً لعارضوه، وهذا معروف، فقد تحداهم الله سبحانه وتعالى به، ومع ذلك ما استجابوا للتحدي، وهم أفصح البشر. وتدل الآية على أن الطريق في المعجزات: المعارضة؛ ولذلك قال تعالى في القرآن: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38] إذا صدق الإنسان في المعارضة فليأت بمثل هذه المعجزة، وهيهات أن يفلح في ذلك! ولذلك فإن فرعون وقومه حينما رأوا آية موسى عليه السلام ما استطاعوا أن يأتوا بمثلها، لكن حاولوا المعارضة بجمع السحرة، وإلقاء الشبه، فلما بان عجزهم لجأ فرعون إلى التهديد. وتدل الآية أيضاً على أنهم أنكروا أمر الرسالة خوفاً منهم على الملك والمال، كما يقال: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والذي يدل على ذلك قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الشعراء:35]، فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين هي المحافظة على الرئاسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن. ثم تسابقت شرط فرعون ينتشرون في الآفاق، يحشرون له أمهر السحرة كي يعارضوا موسى عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون ... وإنكم لمن المقربين)

    قال عز وجل: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114]. يعني: إن لكم أجراً عظيماً معلوماً ومضموناً على هذا، ثم زادهم على ما طلبوا من الأجر فقال: ((وإنكم لمن المقربين)). والإنسان إذا كان يعبد الله سبحانه وتعالى واستحضر هذه الآية، حرص بعبادته على أن يكون من المقربين، ولذلك فإن أعلى درجات أهل الجنة هم المقربون، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولما توثقوا من فرعون، يعني ضمن لهم هذا الأجر وهذا التقريب:

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ... وجاءوا بسحر عظيم)

    قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:115-116]. كان السحرة كفاراً، لكنهم هنا تأدبوا مع موسى عليه السلام، وقد نفعهم هذا الأدب حتى قال القرطبي رحمه الله تعالى: تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم، ((قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)) أي: أن نكون نحن أول من ألقى، كما في الآية الأخرى. قيل: خيروا موسى إظهاراً للجلادة فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره، وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن، وهذا من المجاملة، فإنهم التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع. ((قَالَ أَلْقُوا )) أي: قال موسى لهم: ألقوا يعني: ألقوا ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً. يقول ابن زيد : كان الاجتماع بالإسكندرية، فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة، يعني كانت الحية ضخمة جداً، ولا أدري بالضبط ماذا يقصد بالبحيرة إذا صح هذا الكلام. ((فلما ألقوا سحروا أعين الناس)) أي: خيلوا لها ما ليس في الواقع، إذاً ما ألقوه من الحبال هي في الحقيقة بقيت كما هي! وإنما السحر أثر على أبصارهم؛ ولذلك قال عز وجل هنا: ((سحروا أعين الناس)) لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي أو يؤثر في المرئي، فهذه الآية تدل على أن هذا النوع من السحر كان مما يؤثر في عين الرائي، فيرى الشيء على خلاف ما هو عليه. ((واسترهبوهم)) يعني: أفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما قال في الآية الأخرى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66-69]. ومثل هذه الآية لا يصح الاستدلال بها على نفي تأثير السحر؛ لأن السحر أنواع كثيرة ولا ينحصر في نوع واحد، فسواء كان السحر هنا نوعاً من الحيل بحيث إنهم وضعوا في الحبال أو في التجويف زئبقاً، والزئبق جعل هذه الحبال تلتوي، أو أن السحر إنما كان بالأعين، وهذا هو الأكيد قطعاً بنص القرآن. فالاستدلال على نفي السحر بمثل هذه الآية استدلال بها على غير وجهها، فيستدل بعض الناس على نفي السحر وأنه مجرد تخييل، بأن هذا السحر إنما كان في أعين الناس، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] أي: عظيم في باب السحر وفي مجال السحر، فمن رآه عده سحراً عظيماً، فإنه ألقى كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين. قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، بما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر، وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله، وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وليس ذلك في وسع طبيب، وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به.

    الفرق بين السحر والمعجزة

    وتدل -أي الآيات- على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة، حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدوراً لكل من يتعاطى صناعتهم علم أنه شعبذة، ولهذا تفترق المعجزة عن الشعبذة. ويمكن أن نميز بين المعجزة والشعبذة بما يلي: أولاً: الشعبذة يوقف على أصلها، كما يصنع الحاوي أحياناً في بعض الأشياء التي يفعلها والناس يعتبرون ذلك شيئاً خارقاً للعادة، لكن في نفس الوقت يمكن أن يشرح لهم كيف فعل هذا الشيء، فيأتي بأصل هذا الأمر، فيقول مثلاً: سوف أخبئ الشيء مثلاً في كمي وبخفة يد سأخرج الأشياء المعروفة هذه.. إلخ. أما المعجزة فلا يمكن أن تقف على أصلها، إلا أن تنسبها إلى قوة الله سبحانه وتعالى الذي يخرق الأسباب متى شاء وكيف شاء. فهؤلاء السحرة كانوا يعرفون ما أصل حكاية السحر التي قلبت الحبال إلى ثعابين، وذلك إما أنهم عملوا نوعاً معيناً من السحر يؤثر في أعين الناس، أو أن عملهم للسحر كان حيلة حيث وضع الزئبق في الحبال بحيث تلتوي، فبهذا يكونون قد سحروا أعين الناس حين رأوا الشيء على غير ما هو عليه. الفارق الثاني: أن الشعبذة يمكن الإتيان بمثلها، يمكن أن تعارض ويؤتى بمثلها، وكل من عنده خبرة بهذا الفن يستطيع أن يأتي بمثلها، لكن المعجزة يستحيل أن يأتي بشر بمثلها إلا نبي من أنبياء الله. الفارق الثالث: أن الشعبذة يخفى أمرها بخلاف المعجزة، وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه، وبلا شك أن مثل هذا لا يصلح إلهاً، فكيف يكون إلهاً، ثم إذا أصابه هذا المكروه فزع إلى مرهوبيه الذين يفترض أنهم أضعف منه، كي ينصروه على من يخاصمه أو يتحداه، فهذا يدل على اعتراف فرعون بالذل وبالعجز وبالضعف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون... وتوفنا مسلمين)

    قال عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:117-126]. ((تلقف)) أي: تبتلع، ((ما يأفكون)) يعني: ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وأصل الإفك الكذب، ((فوقع الحق)): ظهر الحق وثبت الإعجاز، ((وبطل ما كانوا يعملون)) أي: من السحر لإبطال الإعجاز. ((فغلبوا هنالك)) يعني: في مكان وعر، وهو المكان الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوة فرعون لهم لظنه غلبة السحرة، ففرعون حشر الأقباط وحشر السحرة قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59] أي: في وقت واضح في النهار، بحيث لا يلتبس الأمر على أحد. ((فَغُلِبُوا هُنَالِكَ)) يعني: في هذا المكان، (( وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ )) أي: رجعوا ذليلين، ((وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)) وفي الحال: ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ((رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)). قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. ((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ))، وهذا وعيد شديد من فرعون، ثم فصله فقال: ((لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين)) أي: لأقطعن من كل جانب عضواً مغايراً للآخر، كأن تقطع اليد من اليمين والرجل من الشمال والعكس. قال الشهاب : ((من خلاف)) حال يعني: مختلفة، وهنا تفسير ضعيف وهو أن: ((من خلاف)) يعني: لأجل خلافكم. وهذا بعيد. (( ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ )) أي: فضيحة لكم وتمثيلاً وزجراً لأمثالكم. ((قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)) يعني: فلا نبالي بما تهددنا به من الموت؛ لأن هذا الموت الذي تخوفنا به هو وسيلة انتقالنا إلى الدار الآخرة، حيث نحيا حياة هي خير من هذه الحياة الأولى، فما تهددنا به وهو الموت أو القتل هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا حياة هي خير من الحياة الدنيا. ((وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا)) أي: ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، وأعظم شيء نعتز به؛ لأنه خير الأعمال وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك. وهكذا المؤمنون المضطهدون في كل زمان، جريمتهم التي تنقم عليهم هي إيمانهم بالله عز وجل: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. (( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا )) الإفراغ: هو الصب، أي: ربنا اصبب علينا صبراً، فشبهوا الصبر بسائل أو مطر سينزل عليهم، أي يصبه الله سبحانه وتعالى عليهم ويكثر من هذا الإفراغ، أي: أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك، وذلك عند القطع والصلب. ((وتوفنا مسلمين)) أي: ثابتين على الإسلام، فيقصدون هنا حسن الخاتمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى ...)

    قال تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]. ((وقال الملأ من قوم فرعون)) أي: خوفاً من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام ولم يبالوا بالتوعد. ((أتذر)) يعني: أتترك ((موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)) بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل، وقوله: ((ليفسدوا في الأرض)) أي: في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك. ((ويذرك وآلهتك)) الآلهة: جمع إله بمعنى: المعبود. وكان للمصريين آلهة كثيرة منها الإله الذي كانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور الذي كانوا يعبدونه أيضاً، وكانوا يعبدون الظلام أيضاً، ويعبدون صنماً يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان، وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر وللنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض، هكذا حكى عنهم بعض المدققين. وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل: أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. وقال بعض المفسرين: (ويذرك وآلهتك) يعني: وطاعتك، أو (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك، الإلهة أو الألوهة هي العبادة. وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة: لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا هاهنا لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر وإلهاب قلب فرعون على موسى وإثارة غضبه. والأظهر ما قدمناه أولاً: (ويذرك وآلهتك) جمع إله وهو المعبود. (( قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ )) والقراءة الأخرى: (قال سنقتل أبناءهم) أي: المولودين. (( وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ )) أي: نستبقي نساءهم للاستخدام. (( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )) أي: بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فلما فعل بهم هذا الوعيد من قتل الأبناء، واستحياء النساء، شكا بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. وهنا: (( قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ )) ولم يقل: سأقتل موسى؛ لعلمه أنه لا يقدر عليه، وقال سعيد بن جبير : كان فرعون قد ملئ من موسى رعباً، فكان إذا رآه يبول كما يبول الحمار. فالله أعلم بصحة ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا... فينظر كيف تعملون)

    قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:128-129]. ((قال موسى لقومه)) لما شكوا إليه ما لقوه من فرعون، (استعينوا بالله) يعني: عليكم أن تفزعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأن تستعينوا به على هذا البلاء، ((واصبروا)) يعني: على أذاهم. (( إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا )) أي: يعطيها (( مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )) يعني: أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أصلهم ويهلكهم، وينجي قومه من عذابه لآل فرعون؛ فلذلك بشرهم بهذا: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)). وعاقبة كل شيء: آخره، ولكنها إذا أطلقت فهم منها في العرف: الخير كما في هذه الآية، وهنا لم يقل: العاقبة الحسنى ولا العاقبة السوء، فهي تأتي بهذه الاستعمالات، لكن إذا أطلقت انصرفت عرفاً إلى الخير. قال الجشمي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته عدلوا إلى إغراء فرعون وتحريضه واستعدائه على موسى، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وعند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى؛ لأن هذه حيلة العاجز. فهروب فرعون إلى التهديد وإلى التخويف وإلى التوعد، مع أنه قد أتى بالمعجزة، ومع أنه تحداهم، ومع أنهم عجزوا عن أن يستجيبوا للتحدي، فهذا من أعظم الأدلة عند العقلاء على صحة نبوة موسى عليه السلام؛ لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ما دام أنهم قد عجزوا عن الإتيان بمثلها؛ ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن إلى القتال دل ذلك على عجزهم. يقول: وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة عدل إلى التهديد والوعيد. وتدل الآية على أنه عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعانة به والصبر، ولا نفزع إلا بهذين الأمرين، وهما: الانقطاع إلى الله عز وجل بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، فبماذا أجاب قوم موسى؟ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]. أي: هؤلاء القوم الأقباط فعلوا بنا الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها، ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة، لأن موسى حين مضى رمز إليهم بالبشارة، حينما قال: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين)) يعني أن هذه سنة كونية من سنن الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، كذلك أتى بها في كلمتين فقال: (والعاقبة للمتقين)، فكان ينبغي أن يفهموا من ذلك أنه بشرهم بأن النصر والظفر لهم، فحينما قالوا له: (( أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا )) صرح لهم بما رمز إليه فقال: (( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ )) يعني: فرعون وجنوده، (( وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )) يعني: فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها؛ ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون)

    قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130] يعني: لما امتنعوا عن إجابة موسى وإرسال قومه معه أخذهم بالسنين، أي: بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون أي: يتعظون فيرجعون عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى. و((لعلهم يذكرون)) لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]. قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفاً وصلاحاً في الدين؛ لذلك قال: ((لعلهم يذكرون)) فالإنسان لا يدري ما يصلح قلبه وما يصلح حاله كما جاء في الحديث الصحيح: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له). فعلى المرء أن يثق بأن ما يقدمه الله سبحانه وتعالى له هو الخير، فرب مصيبة تلم بالإنسان تكون سبباً في رقة قلبه وانكسار كبريائه واختياله والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يؤخذ من هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، فالحكمة من ذلك: رجاء أن يتذكروا وأن يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى. فإذاً الشدائد يقدرها الله على عباده لهذه الحكمة العظيمة ((لعلهم يذكرون)) أي: يتذكرون ويتبصرون ويصلحون حالهم مع الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه...)

    قال تعالى: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:131] ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم والشدائد لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً، فقابلوا عقاب الله سبحانه وتعالى بالسنين ونقص الثمرات الذي كان يرجى أن يكون من ورائه تضرع وتذلل ورقة في قلوبهم، بأن تمردوا وازدادوا عتواً وكفراً. قوله تعالى: ((فإذا جاءتهم الحسنة)) أي: الصحة والخصب، ((قالوا لنا هذه)) أي: هذا لأننا نستحق هذه النعمة، فهي لأجلنا واستحقاقنا كما قال قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] ولم ينسب الفضل إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك هؤلاء إذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه، أي: نحن نستحق هذه وهي أتت لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه. ((وإن تصبهم سيئة)) شدة ((يطيروا بموسى ومن معه)) يعني: يتشاءموا وأصله (يتطيروا) يعني: أنهم عندما تأتيهم المصيبة أو العذاب أو نقص الثمرات والجدب والقحط يقولون: هذه بشؤم موسى وهؤلاء المؤمنين معه -والعياذ بالله-. فأبطل الله سبحانه وتعالى كلامهم بقوله عز وجل: (( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ )) أي: شدتهم وما صار إليهم من القضاء والقدر، ((عند الله)) لا عند غيره، يعني: هذا إنما هو من قبل الله عز وجل بقضائه وقدره، ((ولكن أكثرهم لا يعلمون)) أن ما أصابهم من الله تعالى فيقولون ما يقولون مما حكى عنهم. وقوله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله) يعني: أن شؤمهم، وما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم هو عند الله سبحانه وتعالى، وأصل كلمة الطائر أو التطير: التفاؤل بالطير؛ لأن العرب في الجاهلية كان إذا أراد أحدهم أن يفعل شيئاً أو يمضي في سفر، فإنه كان ينفر الطير، فإن اتجه إلى اليمين سموه السانح، وإن اتجه إلى اليسار سموه البارح، فإن اتجه يميناً تيمنوا وتفاءلوا وسافروا، وهي استخارة شركية، وإذا اتجه شمالاً تشاءموا وتركوا السفر. ثم بعد ذلك استعمل لفظ التطير في كل ما يتفاءل به ويتشاءم، ولذلك روي في الحديث -وفيه ابن لهيعة والكلام فيه معروف-: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك). وأيضاً قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] يعني: عمله الذي صدر عنه من خير أو شر، ألزمناه إياه في عنقه. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ )): ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي: قحط وجدب ونحو ذلك تطيروا بموسى وقومه، فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78] كما تقدم في سورة النساء، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس:18]. وبيَّن تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، فقال عز وجل: (( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ))، وقال في سورة النمل في قوم صالح: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]، وقال في يس: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19].

    1.   

    تقسير قوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين)

    وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:132-133] أخبر تبارك وتعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، وأنهم لم يكتفوا بالتكذيب بموسى مع كل ما مضى، بل جاءهم العذاب فلم يتذكروا ولم يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ازدادوا عتواً، وكانوا إذا أصابهم الخير قالوا: لنا هذه! فلم يشكروا الله سبحانه وتعالى، وإذا أصابهم الشر تشاءموا وقالوا: هذه بشؤم موسى ومن معه، تمادوا في ذلك حتى تجاسروا وتكبروا بقولهم: ((وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: بمصدقين بالرسالة، فجاءت العقوبة مباشرة: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133]. ((فأرسلنا)) أي: على آل فرعون ((الطوفان))، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم فلم ينلهم ولا حل بهم سوء من الطوفان ولا غيره. والطوفان لغة هو: المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر، وعلينا أن نتفكر في هذا لقوله تعالى: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45]، فكل من سكن مساكنهم مخاطب بهذه العبرة وبهذه العظة فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في الدنيا أنها دار ابتلاء كما كررنا مراراً، فالله عز وجل قادر بكلمة من حرفين: ((كن)) على أن يكون البشر كلهم على أتقى قلب رجل واحد، وهو قلب رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، ولكننا لسنا ملائكة في الدنيا، فهذه مجرد فترة امتحان في دار امتحان. فالعزة التي كانت والعتو والتمرد والاستكبار الذي أصاب فرعون وقومه، ومقابلة آيات الله عز وجل بمزيد من التمرد والعتو، تدعونا لننظر إلى العاقبة لمن كانت؟فالدنيا دار ابتلاء، فنفس هذه الأشبار أو الأمتار التي نعيش عليها عاش عليها من قبلنا، والإنسان أحياناً يغفل عن تدبر هذا الأمر، فلسنا أول من يطأ هذه الأرض، بل وطأ نفس هذه البلاد قرون وقرون وقرون كانوا أعظم منا وأشد قوة، ومع ذلك لما كفروا مكر الله سبحانه وتعالى بهم؛ فلذلك لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196] العتو والاستكبار إنما هو جولة ليست هي النهاية، فالنهاية والعاقبة حتماً ستكون للتقوى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]كما أخبر الله عز وجل. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل صاعقة من السماء على كل من يعادي الإسلام أو يعادي أولياء الله سبحانه وتعالى، والناس ينظرون إليه، لكن هذا سينافي حكمة الابتلاء، فلو أن كل من يكفر بالله، وكل من يحارب الإسلام، تنزل عليه صاعقة وتأخذه أمام الناس، فهنا سيبطل اختيار الناس وسيؤمنون كرهاً وليس طواعية، وحكمة الله سبحانه وتعالى: أن يكون الإيمان المعتبر هو الإيمان الاختياري وليس الإيمان الذي يأتي بالإجبار؛ فلذلك تستمر سنن الله سبحانه وتعالى، وتنتهي فصول بعض الأحداث في الدنيا والتي قد تكون بنهاية غير سارة، لكن ليست هذه هي العبرة، العبرة أنهم صاروا من أهل النار، فعلينا أن نستحضر هذا التعاقب بين عتو قوم فرعون ثم العذاب الذي يأتيهم. ومن رحمه الله سبحانه وتعالى: أنه يأتينا بهذه النذر لعلنا نتذكر أو لعلنا نتضرع، إنعاماً في إقامة الحجة عليهم، فانظر أتتنا من قبل الزلازل وأتتنا الفئران وأتانا الجدب والقحط من سنوات إذا كنتم تتذكرون، ومن قبل أشياء كثيرة جداً، والآن حينما عم وانتشر هذا البلاء المسمى بجنون البقر، انظر كيف كان رد فعل الناس لمثل هذا الأمر، حتى أنهم بالغوا في هذه الردود بمقاطعة لحم البقر حتى إن الجزارين تأثروا بذلك. يخبرنا الله سبحانه وتعالى به وهو أصدق القائلين من أن هذا حلال، وأن هذا حرام، وأن هذا يغضب الله، وأن هذا يرضي الله، ونحن لا نبالي بأوامر الله عز وجل ولا بشرع الله عز وجل، ولا نبالي بمحاربة دين الله. وقد انتشر الآن جنون البقر، والناس خافوا من هذه الأشياء، ألا ينبغي علينا حينما يخبرنا الله بشيء: أن فيه هلاكنا وأن فيه دخول النار أن نحذر؛ لأننا عصينا الله وحاربنا دين الله، فتكون عاقبتنا كذا وكذا، فأولى أن نصدق خبر الله سبحانه وتعالى ونعمل به. والآن وزير الصحة اليمني أو اليماني أعلن أن الآلاف من اليمنيين يموتون بالسرطان الذي ينشأ عن مضغ القات، ويحتمل أنهم الآن يرتدعون، ومن قبل كان العلماء ينصحونهم أن القات فيه كذا وكذا من المضار، أو أنه محرم شرعاً، فلا يبالون، والقات منتشر هناك أشد من التدخين هنا، بين النساء والرجال والأطفال والكبار والصغار بصورة مقززة وسيئة، فهم يتعاطون هذا القات ويمضغونه ويكومونه في أشداقهم فيما يسمونه تخزين القات، ومع ذلك لم يبالوا بكلام العلماء حينما زجروهم عن ذلك، لكن يحتمل الآن أن ينفعلوا ويبدءوا في تصحيح أوضاعهم إذا أذيع لهم أن الآلاف منهم يموتون بالسرطان؛ بسبب مضغ القات. فحينما تأتينا الأخبار أو التحذيرات من بشر مثلنا نقبلها، حينما يأتيك الطبيب ويقول لك: لا تأكل السمك ولا تأكل كذا، وربما منع عليك أشياء معينة بسبب مرض معين تنصاع، بل تسلم له نفسك كي يفتح بطنك بالمشرط ويجري لك عملية جراحية، فإذا أخبرك الله سبحانه وتعالى أن في ذلك شراً لك أو أن في ذلك خيراً لك لا تبالي بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا تسارع إلى طاعته والخوف مما حذرك الله عز وجل منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل ...)

    قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133] . ((فأرسلنا عليهم)) أي: على آل فرعون ((الطوفان)) كما قلنا: هو المطر الغالب، فعم الطوفان الصحراء وأتلف عشبها وكسر شجرها وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر. ((والجراد)) فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، يعني: الذي بقي من الثمار بعد الطوفان جاء الجراد بعد ذلك فقضى على ما تبقى من هذه الثمار والأعشاب، حتى لم يبق شيء من ثمرة، لا خضرة في الشجر ولا عشب في الصحراء. ((والقُمَّل)) فعم أرض مصر، والقمل هو: صغار الذباب، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد على وزن كلمة: سُكَّر، فالقمل، قيل: هو صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبا الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار، وتقرأ: القُمَّل والقَمْل قيل: هما لغتان، وقيل: هو القَمْل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد القُمَّل يكون في الطعام. ورد ابن سيده وتبعه المجد في القاموس القول: بأن المراد به قمل الناس، والقمل من الحشرات المعروفة. ((والضفادع)): جمع ضفدع، فطلعت الضفادع من الأنهار والخلج والمناقع وغطت أرض مصر. ((والدم)) فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً أحمر، ومات السمك فيها وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً. ((آيات)) حال ((مفصلات)) أي: مبينات، لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو ((مفصلات)) أي: مفرقات بعضها إثر بعض، تأتي آية ثم تليها التي تليها وهكذا. (( آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا )) أي: رغم كل الضنك والعذاب الشديد الذي أنزله الله بهم، أصروا واستكبروا فلم يؤمنوا لموسى ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. ((وكانوا قوماً مجرمين)) أي: عاصين . قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد أنهم لا يؤمنون بها، وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، وليس هذا عادة من غرضه الحق، فالشخص الذي غرضه الحق لا يحلف ولا يعاهد بمثل هذا العهد، أنه مهما تأته البينات والحجج فلن ينقاد، هذه طبيعة المجرم المتكبر كما وصفهم الله سبحانه وتعالى. وتدل هذه الآيات على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. ولما وقع عليهم الرجس أي: نزل بهم العذاب المفصل آية تلو آية: قَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الزخرف:49] يعني: بعهده عندك، وعهد الله عند موسى هو النبوة، فما: هنا مصدرية. قال الشهاب : سميت النبوة عهداً؛ لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا عليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ... )

    قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]. أي: لنرسلن معك الذين أُرسِلْتَ لطلبهم ليعبدوا ربهم تبارك وتعالى، فنلاحظ أن كل مطلب موسى من فرعون أن يسلِّم بني إسرائيل فقط؛ لأن موسى أرسل إلى بني إسرائيل؛ لأن القاعدة أن كل الأنبياء نبي قبل رسول الله عليه السلام كان يبعث إلى قومه خاصة، وأنه عليه الصلاة والسلام اختص من بين سائر الأنبياء بأن بعثه الله عز وجل إلى العالمين كافة. وهذه الآية تدل على أن قوم فرعون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وعلى أن فرعون كان كاذباً في إنكار ذلك، فبعض الآيات ظاهرها أن فرعون كان ينكر وجود الله عز وجل، لكن لا يوجد دليل من القرآن الكريم كله، على أن هناك طائفة أنكرت وجود الله، فإنكار وجود الله عز وجل لم يقل به أحد، حتى فرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] والذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] قد قص الله سبحانه وتعالى علينا في آخر سورة الإسراء قصته وفيها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:101-102] فموسى يخبر عما في قلب فرعون لأن الله أعلمه بذلك. ((لقد علمتَ)) يعني: يا فرعون! ((مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ))، فإذاً فرعون حتى لو كان قد أعلن أنه ينكر الله سبحانه وتعالى، فقد كذب في هذه الدعوى. وكذلك قوله تعالى في سورة النمل: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:13-14]، فهذا الكفر الذي كانوا عليه هو عبارة عن جحود، لكن في قلوبهم كانوا يعرفون صدق موسى عليه السلام وأنه مرسل من عند الله عز وجل. والدليل الثالث: هو هذا الموضع، ونظائره في القرآن الكريم من أنه كان إذا نزل عليهم العذاب من الله سبحانه وتعالى يفزعون إلى موسى: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، فيطلبون منه أن يشفع لهم عند الله أن يوقف عنهم هذا العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز ... وكانوا عنها غافلين)

    قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:135-136] يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم، ((إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ))أي: ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم أتتهم النقمة القاضية. ونلاحظ أن كل النقم الماضية كانت مؤقتة، تأتي البلية ثم تنكشف، ثم تأتي الحسنة، ثم تليها سيئة، ثم أتتهم الآيات التي ذكر الله سبحانه وتعالى، فحينما لم يتعظوا بما شاهدوه أتتهم النقمة القاضية فأخذوا بالإهلاك الذي قضي عليهم، فقال عز وجل: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:135-136]. ((فأغرقناهم في اليم)) أي: في البحر، بسبب ((أنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)) أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم وعدم مبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون بعدما أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاءوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلاً بكل ما معهم من غنم وضأن ومواشٍ، ولما سمع فرعون بارتحالهم ندم على ما فعل من إطلاقهم، فجمع جيشه ومراسله الحربية ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر، حينئذ خاف الإسرائيليون وأخذوا يتذمرون على موسى، فقال لهم: لا تخافوا إن الله معنا، قال: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62] على يقين، ثم أمر تعالى موسى فمد يده بعصاه إلى البحر الأحمر فانشق ماؤه وصار فيه طريقاً واسعاً، وأرسل الله ريحاً شرقية شديدة فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده بإذن الله على البحر فارتد ماؤه سريعاً وغمر فرعون وجنوده ومراكبه فغرقوا جميعاً، ثم طفت أجسادهم على وجه الماء وانقذفت إلى الساحل فشاهدها الإسرائيليون عياناً، هذا ملخص ما روي هنا. قال الجشمي : تدل الآيات أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم في الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث والإعراض فعلهم، فلذلك عاقبهم عليهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها... )

    قال عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]. قوله تعالى: ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون)) أي: بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. ((مشارق الأرض ومغاربها)) أي: الأرض المقدسة أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا في أكنافها. وقوله تعالى: ((التي باركنا فيها)) أي: بالخصب وسعة الأرزاق. ((وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل)) أي: مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. ((بما صبروا)) أي: بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه. قال الزمخشري : وحسبك به حاثاً على الصبر، فمن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن قال: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله تعالى وتلا الآية، ومعنى خف: طاش جزعاً وقلة صبر ولم يرزن رزانة أولي الصبر. ((ودمرنا)) أي: خربنا وأهلكنا ((ما كان يصنع فرعون وقومه)) أي: ما كانوا يعملون من العمارات وبناء القصور، ((وما كانوا يعرِشون)): أو (وما كانوا يعرُشون) بكسر الراء وضمها، أي: من الجنات، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان. وهذا كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6]، وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:25-28]. قال الزمخشري : اقتص الله من ملأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملك فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، جهول كنود إلا من عصمه الله وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة، فقال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138-140].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756656712