إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [82-91]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله..)

    قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. (وإذ) أي: واذكر إذ، (أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوراة، (لا تعبدون)، يعني: وقلنا: لا تعبدون، بالتاء والياء (لا يعبدون) خبر بمعنى النهي، وقرئ شذوذاً: (لا تعبدوا)، لكن القراءة الصحيحة بإثبات النون، فالفعل مضارع مرفوع بثبوت النون مثل قوله تعالى: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم)، جاء الفعل المضارع في المواضع الثلاثة مرفوعاً؛ لأن (لا) التي قبله ليست ناهية، فالجملة خبرية جاء النهي فيها بلفظ الخبر، وهذا أبلغ من صريح النهي، فمثلاً حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، لا هنا نافية؛ فهو خبر لكن من حيث المعنى إنشاء،أو بعبارة أخرى: هو نفي يراد به النهي، مثل قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فهذه ظاهرها الخبر، والمقصود بها الإنشاء، ولا يمكن أن يكون المقصود بها الخبر؛ إذ ليس كل الحجاج فيهم أحد يرفث أو يفسق أو يجادل. فكذلك هنا: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83]، (لا) هنا لا نافية وليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية فسوف تكون الآية هكذا (لا تعبدوا إلا الله)، فيلزم حذف النون، لكن الآية: (لا تعبدون) فالفعل مرفوع، فدل على أن: (لا) هنا هي النافية، لكن من حيث المعنى: هي خبر مقصود به الإنشاء. كل الكلام الكثير الذي قلناه الآن حول كلمة (لا تعبدون) لخصه السيوطي رحمه الله في ثلاث كلمات فقال: خبر بمعنى النفي. قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً يعني: براً. (وَذِي الْقُرْبَى) يعني: القرابة، وهذا عطف على الوالدين. قوله: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ، القراءة التي يعتمدها الجلال السيوطي: (حَسَناً). أي: قولوا للناس حُسنا أو حَسناً، أي: قولاً حسناً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم. وهذه الآية نحتاجها كثيراً جداً؛ لأن كثيراً من الإخوة الملتزمين يتصورون أن الفظاظة والإساءة والغلظة وسوء الخلق جائز مع الكفار، وهذه الآية دليل على استحباب التزام الرفق وحسن الخلق مع كل الخلق حتى لو كانوا كفاراً، كما قال الله واصفاً نبيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية من الآيات التي ينبغي أن يفهمها الإخوة فهماً جيداً، (قولوا للناس) تشمل المسلمين والنصارى واليهود وكل خلق الله سبحانه وتعالى، فحسن الخلق واجب مع جميع الناس خصوصاً عند النصيحة أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالكلمة الطيبة صدقة. فهذه الآية دليل على التزام أدب الرفق وحسن الخلق حتى مع المخالفين في العقيدة والدين، ولذلك قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، أما المبادأة بالظلم أو العدوان أو السب أو غير ذلك مما يتنافى مع حسن الخلق فلا يليق بالمسلم؛ لأن الله يقول: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، فلا يقابل القسيس ويصرخ في وجهه ويعتبر أن هذه بطولة، أو يشتمه بألفاظ قبيحة، وقد يجره ذلك إلى أن يقابله بالمثل فيسب الله أو يسب محمداً عليه الصلاة والسلام، فسداً لهذه الذريعة ينبغي تجنب ذلك.

    الفرق بين الإحسان والولاء مع الكفار

    ينبغي أن نفرق بين الإحسان والولاء؛ لأننا الآن في زمان يعج بالفتن، ونحن الآن -والله تعالى أعلم- في الزمن الذي يصبح فيه الرجل مؤمناً ويمسي كافراً من الفتن والمحن التي تسلط علينا من كل جهة، وبالذات في شيء من أخطر قضايا العقيدة، بل هي القضية التي لم تتكاثر الأدلة على مسألة من مسائل التوحيد مثلما تكاثرت عليها بعد توحيد الله تبارك وتعالى، وهي قضية الولاء والبراء، ولم يعرف في الإسلام أدلة أعظم منها بعد التوحيد في أمور العقيدة من قضية الولاء والبراء، والناس الآن تذوب عقيدتها كما يذوب الملح في الماء، وحرب ليل نهار من كل الجهات سواء من الداخل أو الخارج، من الجهلة أو من علماء السوء، من الساسة أو من اليهود والنصارى، قضية تذويب قضية الولاء والبراء، ويصفون الشخص الذي يكفر اليهود والنصارى بأنه متعصب، حتى أصبحت كلمة التعصب الآن والتطرف وغيرها تطلق إطلاقاً معيباً وخطأً. فموضوع التعصب لا يمس العقيدة، ولا يوجد شيء في العقيدة اسمه تعصب، وكونه يعتقد أن الكافر مخلد في النار، أو أن من قال: عيسى ابن الله. فقد كفر، أو أن اليهود كفار، وغير ذلك من العقائد التي هي من أصول الإسلام والحد الفاصل بين الإيمان والكفر، هذا لا يمكن أن يدخل فيه تعصب، إنما التعصب يأتي في المعاملة فقط، ومتى يكون تعصباً؟ إذا كان لنصراني عندك حق، فجحدت هذا الحق أو ظلمته وضيعت ماله هذا هو التعصب، فالتعصب يكون في المعاملة، أما الاعتقاد فليس فيه تعصب؛ إنما هناك كفر وإيمان. فقولوا للناس حسناً ليس معنى ذلك أن تزيف الحقائق، أو أن تحرف العقيدة أو تتنازل عنها، لكن (قولوا للناس حسناً) في المعاملة، فالمعاملة هي مجال التعصب والتسامح. (وقولوا للناس حُسْناً أو حَسَناً) إذا قلنا: حَسَناً ، نقدر كلمة: قولاً: أي قولاً حسناً، وفي القراءة التي بضم الحاء وسكون السين، على أنه مصدر وصف به مبالغة، كما تقول: رجل عدل، وممكن أن يقال: رجل عادل، لكن رجل عدل تصفه بالمصدر مبالغة في إثبات هذا المعنى له، كذلك كلمة: طول وكلمة: فطر ونحو ذلك.

    خرق اليهود للعهود والمواثيق

    قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وقبلتم هذا الميثاق، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم بعد قبوله توليتم وأعرضتم عن الوفاء به، وهذا فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم، فالآية من أولها: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، هذا كله حديث لهم، ثم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ [البقرة:83]، يعني: تولى آباؤكم: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83]. الآيات التي تتكلم عن اليهود كثيرة في القرآن الكريم، وكذلك التي تتحدث عن بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمقصود بذلك آباؤهم، وأقصد الآيات التي تتكلم على جرائم ارتكبها آباؤهم ويخاطب بها ذريتهم من بعدهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ما زال يخاطبهم إلى يومنا هذا؛ لأن هذه إشارة إلى أن ما ركز فيهم من الطباع الخبيثة والخصال الذميمة واللئيمة لا تتغير، وينبغي أن نيئس من أن يتغير اليهود إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ فهذه طبيعتهم. وقد رأينا في الأحداث الأخيرة هذه المذبحة البشعة التي قام بها جبان من اليهود، عندما كان المسلمون يصلون في بيت الله سبحانه وتعالى وفي حالة سجود، وليسوا حتى في حالة قيام -فانظر كيف الجبن- قتلهم، وهل هذه بطولة؟ هل يعجز الإنسان عن أن يقتل آلاف الناس بهذه الطريقة؟! لا، لكنه الخبث والخسة اليهودية، هذا هو اللائق باليهود، ونحن نستغرب منهم هذا؛ لأن هذا هو الأصل، وهذه هي أخلاقهم وطباعهم، أناس قتلوا الأنبياء، قتلوا يحيى عليه السلام وأهدوا رأسه إلى امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لما طلبته، فهم قتلة الأنبياء، وأخس خلق الله سبحانه وتعالى وأرذلهم، فلن تتغير هذه الطباع فيهم. وفي التلفزيون البريطاني استضافوا بعض أحبار اليهود -لعنهم الله- من داخل فلسطين المحتلة، وسألوهم: ما رأيكم عما حصل في مسجد الخليل؟ فقالوا: هذا الإنسان بطل، لقد فعل ما نتمنى نحن جميعاً أن نفعله، ولكننا لا نجرؤ على ذلك! هذا الشخص بطل، وهذه بطولة؛ لأنه يقتل هؤلاء الأجانب الموجودين في بلاد ليست بلادهم، فهم يستحقون القتل وإلا فليخرجوا! فيصفون هذه الجرائم وهذه الخسة والنذالة بأنها بطولة. كذلك مناحن بيجن نفسه كان مشرفاً على مذبحة دير ياسين المعروفة، وكان يقول في أحد كتبه متحدثاً عن القتل الذي ارتكبه ضد المسلمين: أنا أقاتل إذاً أنا موجود، مثل الذي قال: أنا أفكر إذاً أنا موجود، فهو لا يحس بوجوده في الحياة إلا إذا قتل، فالقتل والإجرام والخسة والنذالة هذه الطباع لا تتغير في اليهود أبداً، فلذلك لا تعجبوا إذا لاحظتم أن الآيات كلها تخاطبهم على أفعال فعلها أسلافهم، ثم يعاتب بها من كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا، لماذا؟ لأن طباعهم لا تتغير، أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75]، يعني: ايئسوا فلا أمل فيهم إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم..)

    قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [البقرة:84]، وقلنا: لا تسفكون دماءكم، ولا تريقونها بقتل بعضكم بعضاً، وقلنا في قوله: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83]، إشارة إلى أن المحسنين فيهم قلة، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة:83]، يعني: هناك قلة أحسنت، فلئلا يبخس الله سبحانه وتعالى هذه القلة حقها استثناهم، ولكن في نفس الوقت أشارت هذه الآية إلى أن الخير إذا صار قليلاً في الأمة والشر هو الغالب فإن ذلك لا ينجي الصالحين من عقاب الله إذا نزل؛ فإنه يعم الصالح والطالح، فوجود قلة من الصالحين لا يمنع العقاب الإلهي إذا فشى فيهم المنكر، وقل فيهم المعروف. ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84]، قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم) يعني: اذكر إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، فيقدر هنا: وقلنا: لا تسفكون دماءكم، (لا) هنا نافية، ولو كانت ناهية لقال تبارك وتعالى: (لا تسفكوا دماءكم)، لكن قال تبارك وتعالى: (لا تسفكون) بالنون كما أتى بها من قبل في قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83]، وكذلك: لا تسفكون، ولا تخرجون، عبر في هذه المواضع الثلاثة بالمضارع، وأتى بالفعل مرفوعاً بثبوت النون؛ لأن (لا) التي قبل هذه الأفعال ليست ناهية بل نافية، فما بعدها جملة خبرية لكن المقصود بها الإنشاء والنهي، وهذا يكون أبلغ من صريح النهي؛ كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فهذه (لا) نافية، لكن المقصود بها النهي، ومثله حديث: (لا ضرر ولا ضرار) (لا) نافية لكن المقصود بها النهي عن الضرر، كذلك هنا: لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ، (لا) نافية، والمقصود بها النهي عن سفك الدماء. قال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84]، هذا مما أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق به على بني إسرائيل، ألا يخرجوا بعضهم بعضاً من هذه الديار. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84]. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، قبلتم ذلك الميثاق. (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، وأنتم تشهدون على أنفسكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم..)

    قال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:85]، مع أن الميثاق سبق وأقررتم به وهو أنكم لن تقتلوا إخوانكم، (ثم أنتم هؤلاء) أي: يا هؤلاء، فيقدر (يا) في التفسير، (تقتلون أنفسكم) يعني: يقتل بعضكم بعضاً. إذاً: (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أي: إخوانكم، عبر عن الإخوان في الله بالأنفس، وهذه من لطائف القرآن الكريم حيث يعبر عن الإخوة في الله بعبارة الأنفس إشارة إلى قوة الرابطة على الاجتماع على الإيمان وعلى العقيدة؛ فإنها تكون أقوى من رابطة النسب، وآية ذلك: أن الرجل المسلم الميت إن لم يكن له أقرباء يرثونه إلا ولد واحد من صلبه فقط يرثه، وهذا الولد كافر فإن هذا الولد لا يستحق أن يرث أباه، بل تؤول ثروة أبيه المسلم إلى بيت مال المسلمين، وتنفق على إخوانه في العقيدة، مع أن هذا ابنه الصلبي لكنه لا يستحق الميراث، لوجود حاجز الكفر حائلاً بينه وبين ميراثه، فينقطع الولاء بسبب العقيدة، فالعقيدة أقوى رباط يكون بين المسلمين، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وتصل شدة هذه الآصارة وقوة هذه الرابطة إلى حد التعبير عن الإخوة في الله بالنفس، أخوك كأنه نفسك التي بين جنبيك، ولهذا شواهد في القرآن الكريم، منها: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، أي: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، على أحد التفسيرين، يعني: على إخوانكم، وقوله: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، يعني: بعض إخوانكم، يعني: يقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل. وقوله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] يعني: بإخوانهم، وكذلك قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]. وكذلك قوله تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] يعني: أموال إخوانكم، فعبر عنها بأنها أموالكم. وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ [البقرة:85]، هناك قراءة أخرى هي: (تظّاهرون)، يعني: تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء، ومعنى: تَظَاهرون أو تَظَّاهرون: تتعاونون. عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ [البقرة:85]، بالمعصية. وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]، بالظلم.

    ميثاق الله إلى بني إسرائيل بمفاداة أسراهم

    قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85]، وفي قراءة أخرى: ( وإن يأتوكم أسرى تفادوهم ) وفي قراءة: (تفدوهم)، يعني: تنقذوهم من الأسر بالمال أو بغير المال. وهذا مما أخذ عليهم في العهد: أن يخلصوا إخوانهم من الأسر بفدائهم بالمال. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ [البقرة:85]، (وهو) يعني: الشأن، (محرم عليكم إخراجهم) هذا متصل بقوله تعالى: (وتخرجون)، والجملة بينهما اعتراض، أي على قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85]. فالجملة: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم)، تعود على الأولى يعني: كما حرم ترك الفداء حرم عليكم الإخراج، كما أن الله سبحانه وتعالى في ميثاقه الذي أخذه عليكم حرم عليكم ترك الفداء، وأمر ببذل المال أو غير المال من أجل تحرير إخوانكم من الأسر؛ كذلك حرم عليكم إخراجهم من ديارهم. وكانت بنو قريظة من اليهود حالفوا الأوس، وبنو النضير حالفوا الخزرج، فكان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، هؤلاء مع الأوس وهؤلاء مع الخزرج، فكانوا يقاتلون إخوانهم، ويخربون ديارهم ويخرجونهم، فإذا أسروا -مع أنهم كانوا يقاتلونهم- امتثلوا بحكم الله وبعهد الله الذي أخذه عليهم في بذل المال لفدائهم! وكانوا إذا سئلوا: لم تقاتلونهم وتفدونهم؟ يعني: أنتم بقتالهم تسببتم في أسرهم أو أسرتموهم بالفعل، ثم بعد ذلك تبذلون المال لفدائهم! قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أخذ علينا الأمر بفداء أسرانا، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياءً أن تستذل حلفاؤنا، فقال تعالى منكراً عليهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، بعض الكتاب هنا هو الفداء، وعرفنا أنه الفداء من السياق المتقدم، فإنه يتبين أن الذي آمنوا به هو فداء الأسرى، أما البعض الذي كفروا به فهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، فهم أخرجوا إخوانهم وقتلوهم وظاهروا عليهم، فهنا الله سبحانه وتعالى وصفهم بالكفر ببعض الكتاب وبالإيمان ببعض آخر، فقوله تعالى: (وتكفرون ببعض) أي: الكفر بهذا والإيمان بهذا، وإن كانوا قد كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره، فهذه الآية دليل على أنه قد يجتمع في الشخص كفر وإيمان، وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، كذلك هنا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، ولهذا بحث مستقل سبق أن ذكرناه بالتفصيل في بحوث حكم التفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع لكتاب الصلاة وحكم تاركها لـابن القيم ، حيث ناقش فيه تفصيل حكم الله إذا اجتمع الكفر والإيمان؛ فأيهما يغلب. فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]، (خزي) هوان وذل، (في الحياة الدنيا)، وقد أذاقهم الله سبحانه وتعالى الخزي والهوان بقتل بني قريظة ونفي بني النضير إلى الشام وضرب الجزية عليهم. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، في نار جهنم. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، وفي قراءة: (عما يعملون). أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86]، وذلك بأن آثروها على الآخرة. فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86]، لا يمنعون من العذاب، ولا يوجد من ينصرهم ويقيهم هذا العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب...)

    قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) اللام في (ولقد) لام القسم، فصدر الكلام بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء بهذا الكلام، و(آتينا) الإيتاء هو الإعطاء، ومعنى كلمة: (موسى) في اللغة العبرانية المنشول من الماء. وقوله: (الكتاب) مفعول به ثاني، وهو التوراة، قيل: المراد فهم الكتاب، أي: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما في هذا الكتاب، فيكون الكلام على حذف المضاف، (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: فهم الكتاب، وهذا التفسير ليس بظاهر، ولذلك اعتمد السيوطي رحمه الله تعالى هنا التفسير الأول، وهو أن المراد بالكتاب التوراة. وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ، أي: هذا مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44]، ومثل قوله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44]. (وقفينا من بعده بالرسل)، التقفية هي: الأرداف والإتباع، مأخوذ من إتباع القفاء، وهو مؤخر العنق، فكون واحد يتلو واحداً يكون وصولهم تترا، فالمقصود هو أن يتبع بعضهم بعضاً، تقول: جئته من قفاه. إذا جئته من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام، والقافية في اللغة هي القفاء، وفي الحديث: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) يعني: في مؤخر العنق. وكل رسول جاء بعد موسى إنما جاء بإثبات التوراة والالتزام بحكم التوراة والأمر بلزومها إلى أن جاء عيسى المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قيل: كان الأنبياء بعد موسى إلى عيسى أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفاً كلهم على شريعته عليه السلام، ومنهم: يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله تبارك وتعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)، قرأ الحسن ويحيى بن يعمر: بتسكين السين، وهذه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة تميم. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: التوراة، (وقفينا من بعده بالرسل) أي: أتبعناهم رسولاً في إثر رسول، (وآتينا عيسى بن مريم البيات) أي: المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، (وأيدناه) قويناه، وفي قراءة: (وآيدناه)، (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس)

    تأييد الله لعيسى بروح القدس

    قوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] أي: قويناه، قوله: (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروح القدس هو جبريل عليه السلام. كان جبريل عليه الصلاة والسلام يسير مع المسيح عليه الصلاة والسلام حيث سار يعينه ويلهمه العلوم، فلم يستقيموا مع ذلك، يعني مع أننا أيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات وبجبريل عليه الصلاة والسلام لكنكم -أيها اليهود- لم تستقيموا ولم تؤمنوا به ولم تتبعوه عليه الصلاة والسلام. وقد قرأ مجاهد وابن محيصن : ( وآيدناه ) بالمد، وهما لغتان. (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )) تشمل كل معجزة أوتيها المسيح عليه الصلاة والسلام، وقيل: المقصود الإنجيل. ونلاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أفرد المسيح عليه الصلاة والسلام عن سائر رسله، فإنه يقول تبارك وتعالى: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] مع أن عيسى من الرسل الذين أتوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام، فخص عيسى عليه الصلاة والسلام وأفرده عن سائر الرسل الذين جاءوا بعد موسى لتميزه عنهم، لكونه من أولي العزم من الرسل، كما أنه كان صاحب كتاب وهو الإنجيل، وقيل: لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل الذين جاءوا بعد موسى، فإنهم ألزموا بالتوراة، أما المسيح عليه الصلاة والسلام فقد جاء بنسخ كثير من الأحكام التي كانت في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. ويلاحظ في القرآن الكريم نسبة المسيح عليه الصلاة والسلام إلى أمه، يقول تعالى: ( عيسى بن مريم )، والمقصود بذلك الرد على اليهود الذين زعموا أن له عليه الصلاة والسلام أباً، فاليهود يرمون مريم عليها السلام بالفاحشة والعياذ بالله، قال الله: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [النساء:156]، فهم يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- ابن زنا، وأن له أباً والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى لم ينسبه إلا إلى أمه؛ إشارة إلى أنه لا أب له، وهذا هين ويسير في قدرة الله سبحانه وتعالى، فإنه لما بشرت الملائكة مريم بالمسيح عليه الصلاة والسلام قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:20-21]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فهذا فيه رد على اليهود -لعنهم الله- حيث زعموا أن للمسيح عليه الصلاة والسلام أباً. ومن سأل وقال: من هو أبو المسيح؟ فنقول له: من هو أبو آدم؟ فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى لإظهار كمال قدرته، فإن الله سبحانه وتعالى نوع خلقه، وإن كان كل نوع من الخلق آية من آيات الله، فآدم عليه الصلاة والسلام خلق من غير أب وأم إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وحواء خلقت من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام، فحواء خلقت من رجل دون امرأة بقدرة الله سبحانه وتعالى، والمسيح عليه الصلاة والسلام خلق من أم بدون أب، وسائر البشر خلقوا من أب وأم، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى الدائمة في البشر. وفي الحقيقة كل صورة من صور الخلق هي في حد ذاتها معجزة، لكن الله سبحانه وتعالى نوّع الخلق، لأن الأمور العادية يعتادها الناس فلا يلتفتون إلى ما فيها من الآيات البينات، لكونهم اعتادوها، فمثلاً: خروج الكتكوت من البيضة، أليست معجزة؟! لو اجتمع كل من على ظهر الأرض من علماء وخبراء وفنيين بكل ما أوتوا من علم، وأرادوا أن يخلقوا ذبابة أو فيروس أو بكتيريا، لم يستطيعوا ذلك، لكن الله سبحانه هو الذي انفرد بالخلق. فالمقصود من ذلك أن هذه كلها آيات لله سبحانه وتعالى، وأن المسيح مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، حيث إنه نسب إلى أمه ولا أب له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فإذا سأل المشركون الملحدون وقالوا: فمن أبوه؟ فالجواب كما يزعم النصارى -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى هو أبوه، بل نقول لهم: من أبو آدم؟ بل من أم آدم؟ ولذلك أجاب الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهة بقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] . وعيسى بالعبرانية: (إيشور)، ومعناه: السيد، أو المبارك، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]، أما مريم باللغة العبرية فمعناها: الخادم، سميت أم عيسى عليها السلام بهذا الاسم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: معناها: العابدة، أما معنى مريم في اللغة العربية فهي المرأة التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر، كالزير من الرجال، فهذان تعبيران معروفان في اللغة العربية، فالمرأة التي تتجرأ على الكلام مع الرجال بدون فجور تسمى مريم، والرجل الذي يحب الكلام مع النساء حتى لو لم يفجر يسمى زيراً، ويوجد خلاف ذلك، قال الأزهري : المريم المرأة التي لا تحب محادثة الرجال، وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بـمريم البتول؛ لانعزالها عن الناس وعدم اختلاطها بالرجال.

    روح القدس هو جبريل عليه السلام

    (( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: روح القدس هو جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا التعبير في حق جبريل عليه الصلاة والسلام كثير في القرآن والسنة كما قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]، وقال تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17] أي: جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال تبارك وتعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام لـحسان بن ثابت رضي الله تعالى: (اهجهم -أي: المشركين- وروح القدس معك)، وقال له مرة: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا تفسير واضح وصريح من النبي عليه الصلاة والسلام يدل على أن جبريل هو روح القدس. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لـحسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدفع عنه إيذاء المشركين بشعره- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك) رواه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي موصولاً، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مر بـحسان وهو ينشد الشعر في المسجد؛ فلحظ إليه عمر بعينه، كأنه ينكر عليه، أتنشد الشعر داخل المسجد؟! فكأن حسان فهم من هذا اللحظ وهذا النظر من عمر رضي الله عنه أنه ينكر عليه أو يهم أن يفعل به شيئاً، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أجب عني -يعني دافع ونافح عني- اللهم أيده بروح القدس)؟ فقال: اللهم نعم، يعني أبو هريرة قال: نعم سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول ذلك، وفي بعض الروايات: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا كله يدل على فضيلة المنافحة عن الإسلام كما في بعض الأحاديث الأخرى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لهو أشد عليهم من النبل أو من السهام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أي: أن هجاء المشركين بالشعر أشد عليهم من وقع النبل، وهذه صورة من صور الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وهي الدفاع عن الإسلام ضد حملات أعدائه بالكلام، ولو بإنشاد الشعر، ولو بأي أسلوب من هذه الأساليب التي هي دون الصدام المسلح مع أعداء الله تبارك وتعالى. الشاهد: أن جبريل يطلق عليه الروح القدس كما أطلق عليه الروح الأمين. وكان حسان رضي الله تعالى عنه يقول في شعره: وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء وجبريل رسول الله فينا، يعني: رسول من عند الله يأتي بالوحي للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]، المقصود به في هذه الآية: جبريل عليه السلام. قال النحاس : سمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحاً من غير ولادة والد ولده، فجبريل عليه السلام خلقه الله سبحانه وتعالى روحاً خلقاً مباشراً، لم يكن عن طريق ولادة من والد، كذلك سمي عيسى روحاً أيضاً لأجل هذا؛ لأنه خلق بكلمة: (كن)، فلذلك يسمى أحياناً كلمة الله، أو روح الله؛ لأنه ولد مباشرة بدون والد، وإنما ولد بكلمة الله، وبأمر الله.

    الحكمة من تخصيص عيسى بالذكر في قوله: (وأيدناه بروح القدس)

    ألم يؤيد الأنبياء جميعاً بروح القدس؟ ألم يؤيد نبينا عليه الصلاة والسلام بروح القدس؟ الجواب: بلى، إذاً ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص المسيح عليه السلام هنا بأنه أيده بروح القدس؟ خص الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس؛ لأنه تعالى خصه به خصيصة لم تكن مع غيره، وهي: أن جبريل عليه السلام كان مع المسيح عليه السلام مؤيداً له من وقت صباه إلى حال كبره عليه السلام، كما قال تعالى: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة:110] كيف؟ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [المائدة:110] فهذا ما لم يقع لغيره من الأنبياء، فالأنبياء أوحي إليهم على كبر من السن، وجبريل كان يؤيدهم، لكن فيما بعد، أما المسيح عليه السلام فخص هنا بالتأييد لأن له خصيصة ليست لغيره، وهي: أن جبريل كان يؤيده منذ كان وليداً في المهد، والدليل قوله تعالى: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة:110] ما معنى كهلاً؟ هذه من آيات الله سبحانه وتعالى في حق المسيح عليه السلام، (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، الكلام في المهد معجزة بلا شك، وعيسى عندما يتكلم وهو في المهد هذه معجزة، لكن هل من المعجزات أن يتكلم الكهل؟! الكهل الكلام بالنسبة إليه ليست معجزة وليست آية؛ لأنها شيء طبيعي أن يتكلم، لكن الإشارة هنا إلى معجزة أخرى خاصة بالمسيح عليه السلام حيث اقترن كلامه وهو كهل هنا بشيء غير عادي، وهو أنه سيبقى في السماء إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بنزوله من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس وهو كهل، أي كبير في السن، فالمقصود بذلك اقترانه بمعجزة نزوله من السماء في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، فيقول تعالى: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة:110]، هذه خصيصة من خصائصه، ولأنه تعالى حفظه بجبريل حتى لم يدن منه الشيطان: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] هكذا قالت امرأة عمران أم مريم، (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا يطعنه الشيطان في خاصرته؛ فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)، وذلك استجابة لهذه الدعوة: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). هناك تفسير بأن (روح القدس) هو الإنجيل نفسه، قالوا: لأن الله وصف القرآن أيضاً بأنه روح، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، فإن القرآن سبب الحياة الأبدية، والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش، وهذا التفسير رده الحافظ ابن كثير مستدلاً بقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة:110] فذكر أنه أيده بالإنجيل، وأيده بروح القدس، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) تكرير قول لا معنى له، فالله أعز من أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم، فيكون تكرار بلا فائدة وبلا جدوى، فدل هذا على المغايرة، وأن روح القدس في أول الكلام ليس هو الإنجيل المذكور في آخره. قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] المقصود: فلم تستقيموا، ولم تؤمنوا به، ولم تستجيبوا له، هذا هو جواب الكلام.

    اليهود قتلة الأنبياء

    قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى) أي: بما لا تحب أنفسكم من الحق، ولا بد أن نقول: من الحق لأهميتها. (اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه. هذا هو جواب (كلما)، وهو محل الاستفهام، والمراد بهذا الاستفهام التوبيخ. (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ) المقصود ففريقاً منهم (كذبتم) كعيسى عليه السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، وعبر عن الماضي بالمضارع لحكاية الحال الماضية، أي: قتلتم من الأنبياء كزكريا ويحيى. هذا الذي اعتمده السيوطي . قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ) قيل: أصلها بما لا تهواه أنفسكم، وحذفت الهاء حتى لا تطول الكلمة، (اسْتَكْبَرْتُمْ) يعني: استكبرتم عن إجابة هذا الرسول احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع على أهواء كما جاء في التنزيل، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل لفظ الهوى في الغالب إلا فيما ليس بحق، وفيما لا خير فيه، وهذه الآيات من ذلك، لكن قد يستعمل الهوى في الحق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وبعض العلماء يضعفون هذا الحديث وبعضهم يحسنه، ومنه أيضاً قول عمر رضي الله تعالى عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. أي: ولم يحب ما قلت، وقالت عائشة رضي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) والحديثان أخرجهما مسلم، فهذه من المواضع القليلة التي يستعمل فيها الهوى في غير سياق الذم، لكن الغالب استعماله فيما لا خير فيه وفيما ليس بحق. (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) قدم فريقاً في الموضعين للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، والتقديم أحياناً يكون للقصر، لكن المقصود به هنا للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، ثم هنا محذوف وهو كلمة (منهم)، يعني: فريقاً منهم كذبتم وفريقاً منهم تقتلون، وبدأ بالتكذيب ثم بعد ذلك ثنى بالقتل، لماذا؟ لأن التكذيب هو أول ما يفعلونه بالشخص، يبدءون أولاً بالتكذيب وبعد التكذيب يقتلونه، ولأنه المشترك بين المكذوب والمقتول، فيكذبون الرسول، وحتى الذي يقتلونه فإنهم لا يقتلونه إلا بعدما يكذبونه. ويلاحظ في السياق: أن الخطاب لبني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة عظيمة جداً لفهم طبيعة هؤلاء المجرمين السفاحين القتلة اليهود لعنهم الله، حيث نسب الله القتل إليهم مع أن القتلة هم آباؤهم ولم ذاك؟ لأنهم يرضون بهذا القتل، ولحوق مذمته بهم، والمذمة ما زالت تلحق أيضاً بهؤلاء الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لرضاهم عن ذلك، وكما أشرنا من قبل؛ فإن نسبة هذه الأفعال إلى اليهود في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الطبيعة واحدة، الطبيعة الخبيثة اللئيمة والغدر والذل والهوان والخيانة وكل هذه الأخلاق الذميمة، فإن قلوب اليهود هي وعاء مستقر دائم لها، لا ينفك اليهودي أبداً عن هذه الأخلاق في كل الأمم -وهذه قاعدة- بغض النظر حتى عن الأدلة الشرعية، فبالاستقراء لا تزال فيهم هذه الصفات مغروسة في طباعهم لا يستطيعون منها فكاكاً ولا خلاصاً، والواقع الذي نعيشه خير شاهد على ذلك، وقد اهتم القرآن الكريم بالربط بين موسى ومحمد عليهما السلام، والربط بين القرآن وبين التوراة، وسردت كثير جداً من آيات القرآن الكريم للحديث عن بني إسرائيل، وكما تلاحظون فإن سورة البقرة بعامتها في الكلام على أحوال بني إسرائيل، إشارة إلى علاقة خصبة بين الأمة المحمدية وبين الأمة الإسرائيلية، هذه العلاقة التي ستستمر إلى آخر الزمان، حينما ينزل المسيح عليه السلام، وكل ما يحصل الآن في هذا الزمان هو عبارة عن تهيئة لما يؤمنون هم به ونؤمن نحن به، أمر واحد يؤمن به اليهود والنصارى والمسلمون، وهو أنه لا بد من صدام وملحمة عظيمة جداً، ومقتلة كبيرة تحصل بين أهل الإيمان وأهل الإسلام وبين هؤلاء الكافرين، مع اختلاف العقائد، وهم يجزمون بها قطعاً بلا شك وبلا جدال، لكن لا يظهرون لنا هذا، ويجزمون أن كل التحركات الموجودة الآن في العالم والتغييرات التي تحصل هي تهيئة لنزول المسيح المنتظر، هذا كلام اليهود في عام (2000)، وهم يحددون سنة ألفين لمجيء المسيح المنتظر الذي يحكم العالم -بزعمهم- من القدس ويعيد إليها اليهود، والنصارى يعتقدون نفس الشيء، لكن النصارى يعتقدون أن المجيء الثاني للمسيح هو بصفته -والعياذ بالله- إلهاً، والمسلمون يعتقدون أيضاً بمجيء المسيح، فالكل مجمعون على مجيء المسيح ولكن مع اختلافنا في حقيقة هذا المسيح؛ لأن اليهود يقولون: إن المسيح لم يأت بعد، والذي أتى هو ساحر وكذاب، ويسبون المسيح عليه السلام، ويقولون: إن المسيح الحقيقي هو الذي ننتظره، وسيأتي في آخر الزمان، وهم سيتبعونه، وهذا المسيح هو المسيح الدجال الأعور الكذاب، فهذا هو الذي سيتبعه اليهود كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعتقدون بمجيء مسيح الضلالة المسيح الدجال، ومسيح الهدى وهو رسول الله عيسى عليه السلام ينزل من السماء ليحسم هذه المعركة، ويقتل بحربته الدجال، ويحكم بالقرآن وبالإسلام، ولا نريد التفصيل في هذا المعنى، لكن كل الأحداث التي تدور تنبع من هذه العقيدة، والتحضير لموقعة (هرم جد)، التي هي الملحمة الكبرى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كائنة لا محالة، وستكون الكلمة العليا والظهور فيها للمسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قلنا: نسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع للحال الماضية استحضاراً لصورتها، ولفظاعتها واستعظامها، أو يكون (وفريقاً كذبتم) في الماضي (وفريقاً تقتلون) مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، ففواصل الآيات التي سبقتها كلها أفعال مضارعة بهذه الصيغة، فهذه تكون من باب المشاكلة لهذه الأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل السابقة، أو (وفريقاً تقتلون) إشارة إلى أنكم مستمرون في ذلك كما فعل آباؤكم في عهد موسى عليه السلام ومن بعده في قتل الأنبياء، وإنكم على ما كان عليه آباؤكم، فقد حاولوا بالفعل قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: (وفريقاً تقتلون) تحاولون قتله، ولولا أني عصمته لقتلتموه، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال، ولا ينافيه قتل البعض، والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة، سواء ترتب عليها القتل أو لا، (فريقاً تقتلون) إما أن يكون قتلاً حقيقاً للبعض، وإما أن يكون تسبباً في القتل ومباشرة لأسبابه كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنهم حاولوا قتله. وقيل: لا حاجة إلى التعميم، ولا أن نقول: فريقاً قتلتم، وفريقاً باشرتم الأسباب معه؛ لأن الذي وقع منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام كان قتلاً بالحقيقة، فإنه عليه الصلاة والسلام قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ: (وهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح بهذا قرب وفاته، وكأن الله سبحانه وتعالى كتب له أيضاً ثواب الشهادة عليه الصلاة والسلام؛ لأن أثر هذا السم ظل معه حتى قال: (هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، أي: هذا أوان خروج روحي ومفارقة الحياة، نتيجة لذلك السم الذي وجده بعدما نهش نهشة بسيطة من هذه الذراع المسمومة. ونفهم من ذلك: أن قتل النبي عليه الصلاة والسلام لم يتحقق منهم زمان نزول الآية، بل الذي وقع مباشرة الأسباب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة، فالمقصود هنا من قوله: (فريقاً تقتلون) أيضاً مباشرة الأسباب، فلابد من التعميم بأن نقول بالقتل حقيقة أو بمباشرة الأسباب، أي: تعميم النوعين. وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى التعميم، بل نقول: قتل حقيقي فقط؛ لأنهم بالفعل قتلوا النبي عليه الصلاة والسلام، ورد فريق آخر من العلماء بأن هذه الآيات لما نزلت لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة بعد، ولم يكن بعد قد أفضى إلى الرفيق الأعلى، فلابد من التعميم بذكر النوعين، القتل المباشر أو التسبب في القتل كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حياً وقت نزول هذه الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف...)

    قال تبارك وتعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] قالوا: -أي: اليهود- للنبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً: قلوبنا غلف، وغلف بتسكين اللام جمع أغلف، أي: مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول، ولا يصل إليها ما تقول من هذا الدين! قال تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88]، بل هنا للإضراب، يعني: ليست القضية أن قلوبهم غلف، بل هي أشد من ذلك، فقد لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول، وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم. فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] (ما) زائدة لتأكيد القلة، يعني: إيمانهم قليل جداً، ويزيد هذه الآية إيضاحاً قوله تبارك وتعالى: (وقالوا قلوبنا غلف) الواو هنا واو عطف على استكبرتم، فتكون تفسيراً للاستكبار، يعني التكذيب بسبب الاستكبار، وعلى التقديرين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن استكبرتم وكذبتم فيها خطاب، فسواء كان العطف في (وقالوا قلوبنا غلف) على استكبرتم أو عطف على كذبتم ففي الحالتين يوجد صورة من صور البلاغة وهي الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فالالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتهم وإبعاداً لهم عن عز الحضور الذي يقتضيه سياق المخاطب. وقولهم: (قلوبنا غلف) أي: لا فائدة منا، كما قال غيرهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136]، وقصدوا بهذا إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية، يعني: ليس هناك أي أمل، فلا تطمع أبداً أننا نستجيب لدينك! وقال السدي : يقولون: عليها غلاف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (غلف): قلبي عليه غلاف فلا يخلص إليه ما تقول، أي عندما تريد أن تقول لإنسان: لن يؤثر فيَّ كلامك، فتقول له: قلبي عليه غلاف فلن يصل إليه هذا الكلام الذي تقول، وقرأ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5]، وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد له بما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (القلوب أربعة -فذكر منها-: وقلب أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر). أي: أنه موضوع داخل غلاف. والغلف جمع أغلف، مثل كلمة حمر جمع أحمر، وهناك جمع ثانٍ غلُف، لكن الغلْف بتسكين اللام جمع أغلف، كأحمر وحمر، والأغلف هو الذي لا يفقه، وأصله في الذي لم يختن، يعني: أن قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن وصول ما جئت به إليها، وهذا مثل قولهم: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5] أو جمع غلاف، ويجمع على غلُف، يعني: إما أن قلوبنا غلف جمع أغلف أو جمع غلاف، كخمار وخمر، ويجمع على غلف، فهي داخل أغطية وأغشية وأغلفة فلا يصل إليها ما تقول من هذا الدين، أو هي أوعية للعلم، ونحن مستغنون عما تأتينا به، ولا نحتاج إلى ما عندك من العلم أو الوحي، فيمدحون أنفسهم ويزكونها لعنهم الله، أي: فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، فقلوبنا مملوءة علماً فلا تسع بعد ذلك شيئاً، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وما عندنا من التوراة نحن مستغنون به عن القرآن، فهذا تفسير آخر أنهم أرادوا أنها أوعية مملوءة بالعلم، فكيف لمثلنا أن يتبع إنساناً أمياً؟! وهذا تفسير بعيد. عن ابن عباس قال: يقولون: (قلوبنا غلف) يعني أوعية مملوءة، ولا نحتاج إلى علم محمد ولا غيره، قال ابن جرير: (وقالوا قلوبنا غلف) جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بالعلم، لا يحتاجون معه إلى علم آخر، ولهذا قال تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم) أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)، هذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه، والمعنى: أن قلوبكم أصلاً خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الذي يوفق إلى الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فقلوبكم أصلاً كانت مهيئة للهداية والانقياد للحق، والنظر الصحيح الذي يئول ويؤدي إلى الحق، لكن الله تبارك وتعالى أبعدهم وأبطل استعدادهم الخلقي الفطري للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة، وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، يعني: لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. أو المقصود: أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقاً وصدقاً، فهؤلاء اليهود رفضوا ما دعوتهم إليه من الحق ليس لأنه ليس حقاً ولا صدقاً، وإنما لأنه سبحانه وتعالى طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم. أو أن المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقصاهم عن رحمته؛ فأنى لهم ادعاء العلم الذي أعظم أثر له هو حصول رحمة الله، فالله سبحانه وتعالى طردهم من رحمته، فمن يطرد من رحمة الله لن يكون عالماً علماً ينفعه، فإذا كانت فعلاً قلوبكم فيها علم، فالعلم يكون سبباً لحصول الرحمة، وأنتم مطرودون من الرحمة، فالمسألة أنكم مطرودون مخذولون، وليست المسألة علماً تدعونه في قلوبكم. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] الفاء هنا سببية، يعني: بسبب لعنة الله إياهم، (فقليلاً ما يؤمنون) المقصود أنهم يؤمنون إيماناً قليلاً و(ما) مزيدة لتأكيد معنى القلة، (فقليلاً ما يؤمنون) قيل: أي يؤمنون ببعض الكتاب، وقيل: لأن المؤمنين منهم قليلون، وقيل: زماناً قليلاً يؤمنون فيه بالحق، قيل: هو زمن الاستفتاح، كانوا يستفتحون فيه على الذين كفروا، إذا حصل بينهم وبين المشركين قتال يقولون لهم: إن هذا الزمان زمان بعثة نبي، فنأوي إليه، وسنؤمن به ونقاتلكم ونغلبكم، أو هو زمان بلوغ الروح التراقي فيؤمنون عندما تبلغ أرواحهم التراقي، وقيل: هو إيمان مؤقت، وهو المشار إليه في قوله تبارك وتعالى حكاية عنهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72] حرب نفسية، أي: تظاهروا بالدخول في الإسلام في الصباح ثم ارتدوا عنه في المساء، وهذا طعن في هذا الدين وتشكيك للناس فيه، يقولون: لماذا ارتدوا؟! لأنهم ما وجدوا فيه خيراً -والعياذ بالله- فهذه الفترة قليلة (فقليلاً ما يؤمنون) يعني مثل هذه الفترة الوجيزة. إذاً: (قليلاً ما يؤمنون) يعني: إيماناً قليلاً. إما أن إيمانهم ببعض الكتاب، أو أن المؤمن منهم قليل، أو زماناً قليلاً يؤمنون وهو زمن الاستفتاح، لكن لما بعث فعلاً النبي الذي كانوا يستفتحون به كفروا، فإيمانهم كان إيماناً مؤقتاً لفترة قصيرة من الزمن، أو عند بلوغ الروح التراقي يؤمنون بحقيقة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، والهاء هنا تعود على أهل الكتاب، أو: الإيمان القليل وهو المذكور في قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) هذه الفترة فقط. وقيل: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وقال الواقدي -وهو تفسير غريب في هذه الآية-: يعني لا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً، واستدل لصحة تفسيره بقوله: تقول: ما أقل ما يفعل فلان كذا! لشخص لا يفعل الشيء أبداً، ولا يفعله ألبتة، وقال الكسائي : تقول العرب: مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، يعني لا تنبت شيئاً، ورد الألوسي على الواقدي تفسيره، وقال: إنه قول بارد جداً، ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله...)

    قال تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]. (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) ما الذي معهم؟ التوراة، وما هو الكتاب؟ القرآن الكريم، (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء هذا الكتاب الكريم (يستفتحون) يستنصرون، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان، هذا أحد التفاسير لمعنى (يستفتحون)، (فلما جاءهم ما عرفوا) من الحق، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم (كفروا به) حسداً وخوفاً على الرياسة، وجواب (لما) الأولى دل عليه جواب (فلما) الثانية، الذي هو: (كفروا به فلعنة الله على الكافرين). قوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب من عند الله) الواو هنا عاطفة على قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف). وقوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب) كتاب بالتنكير للتعظيم، (من عند الله) ووصفه بأنه من عند الله أيضاً زيادة تشريف لهذا الكتاب، فمعروف أنه من عند الله، لكن ذكر هنا (كتاب من عند الله) فوصفه بأنه من عنده للتفريق والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع؛ لأنه من خالقهم وإلههم، أي: هو من عند الله الذي خلقكم، فأولى بكم أن تؤمنوا به. (مصدق لما معهم) هنا جعله مصدقاً (لما معهم) باللام، ولم يقل: مصدقاً بما معهم؛ لأنه لو قال: مصدقاً بما معهم، كان فيه إعطاء وصف التبعية للقرآن لما معهم هم، وقد آمن وصدق بما معهم، لكن (لما معهم) فيه إعطاء القرآن وصف الهيمنة، كما قال: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48]. إذاً: لم يقل: مصدقاً بما معهم، فجعله مصدقاً له لا به، إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم، لكونه مشتملاً على الإخبار عنه محتاجاً في صدقه إليه، وإلى أنه في إعجازه مستغن عن تصديق الغير، فالقرآن يصدق غيره؛ لأنه نوه بالتوارة ومدحها، فهذه الحكمة من استعمال اللام بدل الباء في قوله: (مصدقاً لما معهم)، لكن لو قال: بما معهم، فكأن التوراة هي التي تشهد للقرآن، لكن الحقيقة أن القرآن مهيمن على ما عندهم من الكتب. (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الاستفتاح هو الاستنصار، ومعنى الفتح هو الحكم والقضاء، فالاستفتاح يعني أن يحكم الله سبحانه وتعالى ويقضي بينهم وبين أعدائهم بالنصر، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)، يعني: يستنصر بدعائهم وصلاتهم، ومنه أيضاً قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52]، وكلمة النصر تعني فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم: فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم). وقيل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي: يستخبرون عنهم، من بين وقت وآخر وهم يسألون: هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، مع أنكم كنتم تستفتحون به من قبل عليه الصلاة والسلام، لكن لما جاءهم كفروا به، وهذا مثل قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، إشارة إلى أن نوع كفرهم إنما هو كفر الجحود والاستكبار. وهنا قوله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) (ما) موصولة، أي: فلما جاءهم الذي عرفوا كفروا به، فإيراد الموصول هنا بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: فلما جاءهم كفروا به، ولكن قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأورد الموصول ولم يستعمل الضمير؛ لأنه لو قال: (فلما جاءهم) سيكون الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الكتاب أو على الرسول، وإنما قال: (فلما جاءهم ما عرفوا) والذي كانوا يستفتحون بمجيئه من قبل كفروا به، فهذا لبيان كمال مكابرتهم وجحودهم، أو (فلما جاءهم ما عرفوا) المقصود به هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الكتاب على التفسير الأول، لكن المقصود بقوله: (جاءهم ما عرفوا) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد يعبر عن العاقل (بما) إذا أريد الصفة، فأحياناً يعبر العرب (بما) عن صفات من يعقل مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الكافرون: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] يعني إلهي الذي أعبده الذي صفته كذا وكذا، فعبر عن الله سبحانه وتعالى (بما أعبد)، ويقول تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] المقصود: ومن بناها وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، النساء عاقل، فعبر عنهن (بما)، لكن المقصود هنا الصفة في الطيب، فلذلك قال: (فانكحوا ما طاب لكم)؛ لأنه هنا يعبر (بما) عن صفات من يعقل، وهكذا (فلما جاءهم ما عرفوا)، وعلى التفسير الآخر يكون المراد: الكتاب، أي: فلما جاءهم الكتاب كفروا به، فتكون: ( ما عرفوا ) اسم موصول، أو: (فلما) الثانية تكرير لطول العهد، واقتضى الأمر التكرار لما بعد العهد، كما في قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، فهذا تكرار أيضاً بسبب طول العهد أو الفصل. وقيل: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) جوابه محذوف، وهو: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب المصدق، (فلما جاءهم كتاب) وهنا ليس تكراراً، وفي تفسير آخر: أن (لما) الثانية: (فلما جاءهم) ليست تكراراً لـ(ما) الأولى، وإنما هذه يقصد بها الأمر غير تلك، فالأولى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) تقديره: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب الذي يصدق ما معهم، أما قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا)، فالمقصود بها الرسول عليه الصلاة والسلام، (كفروا به) فهذه معاملتهم مع الرسول المستفتح به، ورجح هذا التفسير بأن لما الأولى المقصود بها شيء غير لما الثانية؛ لأن التكرار يحتمل التوكيد، أما هنا فيكون تأسيساً وليس تكراراً للمعنى؛ فالتأسيس أولى من التأكيد. أي: أن أي كلام يحتمل أن يدور بين أمرين، إما أن يكون التكرار فيه للتوكيد أو لتأسيس معنى جديد، وما دام يحتمل الأمرين فيترجح أن يكون للتأسيس، مثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:1]، وصدوا ممكن أن تكون بمعنى أعرضوا، فتكون توكيداً لمعنى الكفر، وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ [النساء:55] أي: أعرض عنه، ومثل: كلمني فصددت عنه. يعني: أعرضت عنه، لكن كلمة صدوا ربما تحتمل معنى آخر، أي: كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم، مثل أي داعية للكفر والفساد، يصد غيره عن سبيل الله، فهنا توكيد لكلمة صدوا، فعلى القول الأول تكون تكراراً، وعلى القول الثاني تكون بمعنى صدوا غيرهم، وفيها معنى التأسيس لمعنى جديد، كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم. كذلك هنا (ولما جاءهم كتاب من عند الله): (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فيحتمل أن التكرار للتوكيد لبعد العهد، أو للتأسيس؛ لأن هذه مقصود بها معنى غير الآخر، فقوله: (فلما جاءهم كتاب) هذه لها معنى مستقل جوابه وتقديره: كذبوا بالكتاب المصدق، (ولما جاءهم ما عرفوا) وهو الرسول المبعوث الذي كانوا يستفتحون به أيضاً كفروا به، فهنا يترجح التأسيس على التوكيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم...)

    قال تبارك وتعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90]. (بئسما اشتروا) أي: باعوا (به أنفسهم) أي: حظهم من الثواب، و(ما) نكرة بمعنى شيئاً، تمييز لفاعل بئس، يعني بئس شيئاً، والتقدير: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم (أن يكفروا) يعني: بئس الشيء كفرهم، (بما أنزل الله) من القرآن، (بغياً) مفعول له، مفعول لفعل يكفروا، وبغياً يعني حسداً، (أن ينزل الله) حسداً للمؤمنين على أن ينزل الله فضله على من يشاء من عباده، (ينزّل الله) أو (ينزِل الله) قراءتان بالتخفيف والتشديد (من فضله) الوحي، (على من يشاء) للرسالة (من عباده فباءوا) رجعوا (بغضب) غضب من الله لكفرهم بما أنزل، والتنكير هنا للتعظيم، (على غضب) استحقوه من قبل بتضييع التوراة والكفر بعيسى، (وللكافرين عذاب مهين) أي ذو إهانة. وقوله تبارك وتعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يعني: على من يصطفيه ويختاره للرسالة، وقيل: المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدوه؛ لأنه لم يكن منهم، وكان من العرب من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولده نبي سواه صلى الله عليه وسلم، وإضافة العباد إلى ضميره تعالى فيه تشريف، (على من يشاء من عباده)، هذا تشريف لكل الأنبياء عليهم السلام بإضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى. (فباءوا بغضب) أي: رجعوا (بغضب على غضب) هنا تفسيران: إما أنه غضب على غضب يعني هما غضبان، وإما غضب على غضب المقصود تعدد هذا الغضب، فالذين قالوا: هما غضبان اختلفوا في تفسير ما الغضب الأول وما الغضب الثاني، قال بعضهم: الغضب الأول غضب الله سبحانه وتعالى عليهم لعبادتهم العجل، والثاني: بسبب كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الغضب الأول: هو بسبب كفرهم بالإنجيل، والثاني: بسبب كفرهم بالقرآن، أو كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو غضب أولاً بقولهم: عزير ابن الله، والغضب الثاني بقولهم: يد الله مغلولة، وبكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. القول الآخر: أنه ليس المقصود غضبين وإنما المراد به الترادف والتكاثر، وليس غضبان فقط، فهذا فيه إيذان بتجديد الحال عليهم، كما في قول الشاعر: ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث المقصود أنها رماح كثيرة. (وللكافرين عذاب مهين) ويلاحظ أنه قدم قوله: (وللكافرين) ولم يقل: وعذاب مهين للكافرين، وهذا التقديم يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، وهذا أمر مهم جداً، فالعذاب المهين في القرآن لا يأتي إلا في حق الكافرين فقط، أما من عداهم من عصاة الموحدين فلا يعذب للإهانة، وتلاحظ أن التقديم هنا لبيان هذا المعنى، وأن هذا النوع من العذاب -الذي يراد به الإهانة- إنما هو في حق الكافرين، ولذلك قدمه، فقال (وللكافرين عذاب مهين)، فعذاب الكافرين المقصود به إهانتهم، أما غيرهم من عصاة الموحدين فالمقصود بعذابهم تطهيرهم من أثر هذه الذنوب، وإذا استقرأت القرآن الكريم وتتبعت المواضع التي ذكر فيها: عذاب مهين، ستجد أن العذاب المهين لا يكون إلا في حق الكافرين كفراً أكبر والعياذ بالله، وتقديم هذا الخبر (وللكافرين عذاب مهين) يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن، فلا متمسك للخوارج في أنه خص العذاب بالكافرين، فقد قالوا: هذا يدل على أن كل من يعذب فهو من الكافرين، فيرد عليهم بأن العذاب المهين لا يكون إلا للكافرين، ومن عدا ذلك من الموحدين يعذب عذاباً للتطهير لا للإهانة والإذلال، فالمسلم الفاسق أو الموحد العاصي فإنه سيعذب لكن ليس عذاب الإهانة. روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر) أي: الغبار الدقيق الذي يرى في ظل الشمس، (يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، وهذا الحديث صحيح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله...)

    قال الله تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91]. (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) جمهور العلماء على أن المقصود به القرآن الكريم، وقال بعض العلماء: المقصود به كل ما أنزل الله من الكتب الإلهية على العموم، ومع هذا فإن جل الغرض الإيمان بالقرآن، لكن سلك مسلك التعميم إشعاراً بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به في أنه منزل من عند الله، وتنبيهاً على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيماناً بما أنزل الله، ويفهم منها: أنكم لا تؤمنون بما أنزل عليكم حتى تؤمنوا بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) نعم نؤمن بما أنزل الله، لكن فقط بما أنزل علينا نحن، ونستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، ولا نقبل من قرآنكم إلا ما يوافق حكم توراتنا فحسب، (علينا)، يعني: على أنبياء بني إسرائيل، وليس عليهم أنفسهم، وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، ولو كان من بني إسرائيل لآمنوا، وفيها إشارة إلى أن كفرهم كان حسداً للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من ولد إسماعيل، ولذلك يقولون دائماً في تعيير العرب: إنهم أبناء الجارية، احتقاراً لهم، وهم يحسدوننا من أجل ذلك على هذا الإسلام، ولم يؤمنوا بالرسول حسداً وبغياً. أو قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) يعني على أنفسنا، أي: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا بهذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، أي: أنهم عندما قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) هذا فيه تعريض بالقرآن أنه ليس من عند الله، ودسائسهم مشهورة. أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب على غير المراد منه. (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) يقولون: نحن نؤمن فعلاً بما أنزل الله، نحن نؤمن بما أنزل علينا، فحملوا اللفظ العام الآمر بالإيمان بكل ما أنزل الله -من القرآن وما عداه من الكتب- على ما أنزل عليهم فقط، والواجب أن يؤمنوا بجميع الكتب على وجه العموم. (ويكفرون بما وراءه) بما سواه، وقيل: بما وراءه بما بعده، والمعنى واحد، فوراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام، فكلمة وراء من الأضداد، تأتي بمعنى الكلمة وضدها، كما قال تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79] المقصود بها هنا: أمامهم ملك، فلو مشوا بالسفينة قليلاً فإن جنود الملك سيأخذون السفينة لصالحهم، والوراء ولد الولد، الحفيد، ويقول تبارك وتعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] يعني: ما سوى ذلك، (ويكفرون بما وراءه) يعني: بما سواه، فالهاء تعود على قوله تعالى: (قالوا نؤمن بما أنزل علينا)، ما أنزل عليهم فقط، ويكفرون بما وراء ما أنزل عليهم. (وهو الحق مصدقاً لما معهم) كلمة مصدقاً لما معهم تتضمن الرد على قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا)؛ حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها. (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)؟ فأنتم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وأن آباءكم وأسلافكم قد آمنوا بما أنزل عليهم من التوارة، والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء، وأنتم تزعمون أنكم تؤمنون فقط بما أنزل عليكم، فماذا فعلتم على ما أنزل عليكم؟! هل التوراة تبيح لكم قتل الأنبياء؟! قال تعالى: (فلم تقتلون)، وعبر بالمضارع، مع أن كلمة: (من قبل) تشير إلى الماضي، فكان الأصل: فلم قتلتم الأنبياء من قبل، لكن أتى بها في صيغة المضارع للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وهذا شأنهم وديدنهم، وهذه عادتهم لا تتغير أبداً، هذه الطبيعة اللئيمة والخبيثة في القتل والغدر والخيانة، فالتعبير بالمضارع لاستمرار أسلافهم في العهد المحمدي وما بعده كما كانوا في العهد الموسوي وما بعده، فالقتل والغدر والخيانة من طبيعتهم ومن فطرهم التي لا يستطيعون منها فكاكاً، وتعلمون الحادث الذي حصل في رمضان السابق من قتل العدد الهائل غدراً وخيانة في داخل مسجد الخليل، فهذا فيهم أمر طبيبعي، ورغم أن الناس ثاروا وقاموا وكأن الأمر جديد على اليهود، إلا أن هذه هي طبيعة اليهود، تجد أحدهم في أحد كتبه يقول: أنا قاتل إذاً أنا موجود، هذا شعارهم! كما يقول الرجل: أنا أفكر إذاً أنا موجود، يعني لا يتصور وجوده بدون أن يكون سفاكاً للدماء قتالاً، ومعروف عن هؤلاء المذابح في صبرا وشاتلا ودير ياسين وغير ذلك من تاريخهم الأسود. هتلر كان يقول: أنا قتلت نصف اليهود واستبقيت النصف الآخر حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول! يعني: حتى يذوقوا أخلاق اليهود ويعرفوا فساد اليهود في الأرض، فقتلت نصفاً وأبقيت نصفاً حتى يعلم الناس لماذا قتلت النصف الأول حينما يرون أخلاقهم وبقاياهم وماذا يفعلون! يقول العلماء: الخطاب لمن حضر محمداً صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]، فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، فلذلك كانوا راضين عن قتل الأنبياء، ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك نقول: (فلم تقتلون أنبياء الله) المراد به أسلافهم، وإن كان الخطاب موجهاً إلى من كانوا معاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأنهم كانوا يتولون أولئك القتلة الذين قتلوا الأنبياء، والله يقول: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، وقيل: إنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: إن كنتم مؤمنين فلم رضيتم بقتل الأنبياء؟! وقيل: (إن) بمعنى (ما)، أداة شرطية، أي: لم رضيتم بقتلهم إن كنتم مؤمنين؟ وقيل: (إن) بمعنى (ما) نافية. تنبيه: (فلم تقتلون أنبياء الله) لم، أصلها لما بالألف، وحذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليها؛ لأنه إن وقف عليها بلا هاء كان لحناً، ونقف عليها بالهاء في غير القرآن، وهذا بحث متعلق بالتجويد وليس من صلب موضوعنا. نختم بكلام السيوطي في تفسير هذه الآية، يقول: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)، القرآن وغيره، قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) أي: التوراة، قال تعالى: (ويكفرون بما وراءه)، الواو هنا للحال، (بما وراءه) يعني: سواه أو بعده من القرآن، (وهو الحق) حال، (مصدقاً) حال ثانية مؤكدة، (لما معهم. قل فلم تقتلون) يعني: قل لهم: (فلم تقتلون) أي: قتلتم (أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755980372