إسلام ويب

عبودية الكائنات [1]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله عز وجل الخلق وهو في غنىً عنهم، وإنما خلقهم سبحانه وتعالى لعبادته، فكل الخلق عبيد لله، سواء عبودية عامة أو عبودية خاصة، فيجب على الإنسان أن يحقق العبودية الخاصة؛ فإنها الغاية التي لأجلها خلق.

    1.   

    أنواع العبودية ومفهوم الكائنات

    تعريف العبادة

    بسم الله الرحمن الرحمم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فسنبدأ أولاً بتوضيح مفهوم العبودية، فالعبودية هي الغاية من وراء هذا الخلق، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والعبودية لله سبحانه وتعالى مفتاح دعوة الرسل؛ إذ ما بعث الله رسولاً إلا قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65].

    والعبودية هي: الخضوع والانقياد والطاعة لله تبارك وتعالى.

    واصطلاحاً هي: الأعمال الصالحة التي تُؤدى لله تبارك وتعالى، ويُفرد الله بها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

    العبودية عامة وخاصة

    أما العبودية فهناك عبودية عامة، وهناك عبودية خاصة.

    فالعبودية العامة بمعنى أن كلمة (العبد) يقصد بها المعنى العام للعبادة، فعبد بمعنى: معبد.

    وتأتي العبادة الخاصة التي فيها (عبد) بمعنى عابد.

    والعبودية العامة هي عبودية القهر والتسخير لنفاذ أمر الله تبارك وتعالى في كل شيء، فلا يقدر كائن أن يمتنع عن شيء جبله الله عليه، وهذه العبودية تشمل جميع الكائنات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتصرف في خلقه بمحض ربوبيته بما يشاء وكيف شاء، حتى أطغى الطغاة وأكبر الجبارين إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يقبض روحه قبض روحه، وإن شاء أن يمرضه أمرضه، فيتصرف في خلقه سبحانه وتعالى بما شاء، ولا راد لمشيئته ولا لقضائه تبارك وتعالى، ولا يستطيع أحد أبداً أن يخرج عما يقدره الله له.

    فهذه العبودية تشمل جميع الناس: المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، يقول تبارك وتعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، ويقول تبارك وتعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فجميع الكائنات لا تخرج عن مشيئته وقدرته وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فهذه عبودية القهر والملك والتصرف كما تقتضيه ربوبيته تبارك وتعالى.

    فالعبودية هنا عامة، والعبد هنا بالمعنى العام للعبودية بمعنى: معبد، أي مقهور وذليل خاضع لكل ما يجريه الله سبحانه وتعالى عليه.

    أما العبودية الخاصة فهي العبودية الاختيارية، عبودية الطاعة والانقياد والمحبة والاختيار، وهذه العبودية تصدر من المؤمنين الموحدين الذين يقومون بطاعته تعالى وتمجيده وتقديسه، من الجن والإنس والملائكة، فعبد هنا بمعنى: عابد العبودية الاختيارية، ومنه قوله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68]، وقوله: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18]، وقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هونًا [الفرقان:63]، وقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً [الإنسان:6].

    إذاً: الخلق كلهم عبيد ربوبيته عز وجل، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته، فالعبودية العامة هي الملك والقهر والتسخير، أما العبودية الاختيارية فهي توحيد المعبود باختياره، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته.

    مفهوم الكائنات وأقسامها

    ولابد أن نمر أيضاً على مفهوم الكائنات، فما هي الكائنات الموجودة؟

    الكائن بمعنى: المخلوق المصنوع الموجود المقهور الخاضع الذليل، ومنه كلمة (استكان) يعني: ذل وخضع لمكوّنه، فالكائنات لفظ يرادف الموجودات والمخلوقات، فهي تشمل كل ما سوى الله عز وجل، حيث إنه تعالى هو الموجد والمكون والخالق لها؛ لأن كل ما في الوجود إما خالق أو مخلوق، فالخالق هو الله وحده، وكل ما عدا الله مخلوق مكون فهو من الكائنات الموجودة.

    فإذاً: الكائنات هي كل ما عدا الله، وهي التي وصفها الله بقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44].

    والكائنات قسمها العلماء باعتبارين إلى أقسام:

    التقسيم الأول: تقسيم الكائنات إلى: علويات وإلى سفليات.

    أما العلويات فيقصدون السماء والكواكب والنجوم والفلك والجنة والملائكة والعرش والكرسي. وأما السفليات فالنار والهواء والماء والتراب والرياح والسحاب والأرض والجبال والشجر والبحار والأنهار والأحجار والحيوانات والإنسان والنبات والطيور.

    التقسيم الآخر وهو أدق: تقسيم الكائنات إلى: كائنات في عالم الغيب، وكائنات في عالم الشهادة.

    أما عالم الغيب فهو كل ما غاب عنك، فهناك أحياء غيبية كالملائكة والجن، فهي أحياء لكنها في عالم الغيب، وهناك جمادات غيبية، كالجنة والنار والقلم والعرش.

    أما عالم الشهادة فيشمل كل ما هو مشاهد محسوس في حياة المخلوقات، فهناك الإنس، والإنس يشملون الأنبياء وأتباعهم، وهناك الحيوانات والنباتات والجمادات وغير ذلك.

    وكل هذه الأقسام التي ذكرنا تقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، ليس على المجاز، ولكن على الحقيقة كما سنبين.

    1.   

    دواعي عبودية الله عز وجل

    أما دواعي هذه العبودية، فأول داعٍ من دواعي العبودية هو الفطرة، فالإنسان إذا كانت فطرته سليمة فإنها تجذبه إلى التوحيد، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلاً منذ أن ولد وضع في الأغلال، وحبس في غرفة ولم يختلط بأحد حتى بلغ وكلف، فسوف ينطق بـ(لا إله إلا الله)؛ كل إنسان سليم الفطرة يشعر باعترافه بالله سبحانه وتعالى؛ إذ إن هذا أمر فطري، فلذلك لا يحتاج إلى مناقشة، كالذي عوفي من بلاء الفلسفة والإلحاد والمذاهب المشككة، وعوفي من تأثير البيئة الفاسدة كالبيئة النصرانية أو اليهودية أو الشركية من حوله.

    فإن هذه البيئة التي حبس فيها تدل على أنه ليس عنده مشكلة، ولا يقبل أصلاً مبدأ أن يناقش قضية وجود الله؛ لأن أقوى دليل هو الفطرة، ويجد أن هذا الشعور مغروس في قلبه، ومغروس في فطرته، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

    وأيضاً من دواعي العبودية: الشرائع، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

    ومن دواعي العبودية الآيات الكونية التي تكشفها لنا الكشوفات العلمية الحديثة، والإسلام يعتبر التفكر في الآفاق عبادة واجبة على المسلم، فعليه أن يتفكر في هذه الآفاق وفي مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه لما نزلت الآيات الخواتيم في سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190-191] بكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها!)، فهذا الوعيد يدل على وجوب التفكر في هذه الآيات بالذات، وهي تشمل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى.

    ويقول تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فالتفكر في هذا يورث اليقين.

    ويقول تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] وهذه من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى، ويقول عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].

    ومجال الإعجاز العلمي في نصوص القرآن والسنة مجال رحب جداً، وحتى لا نخرج من موضوعنا نكتفي بهذه الإشارة إلى أن هذا أحد موجبات العبودية.

    1.   

    عبودية البشر

    مراتب البشر في العبودية

    أما مراتب البشر في العبودية فأعلى المراتب هي: مرتبة الرسل والأنبياء، وأعلى مراتب الرسل هي مراتب أولي العزم من الرسل، وأعلاهم محمد عليه الصلاة والسلام، ثم عامة الرسل، ثم عامة الأنبياء.

    المرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل، وهم الحواريون والأنصار والربانيون، وأفضل هؤلاء على الإطلاق هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم خير أمة أخرجت للناس، يعني: أن أفضل الأمم بعد الأنبياء هم الصحابة، وأفضلهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .. إلخ الترتيب المعروف؛ رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    تلي مرتبة الحواريين والربانيين وأصحاب الأنبياء مرتبة المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وأعلى مراتب المجاهدين مرتبة الذين استشهدوا بالفعل في الجهاد في سبيل الله.

    تليهم مرتبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

    تليهم مرتبة المحسنين من أهل الإيثار والصدقة ودفع كربات الناس.

    يليها منزلة الصالحين المحافظين على الفرائض والنوافل، أولياء الله عز وجل، وهؤلاء هم الموصوفون بأنهم سابقون في الخيرات.

    يلي ذلك أهل النجاة الذين أدوا الفرائض وتركوا المحارم، بلا زيادة ولا نقص، وهؤلاء الذين ينطبق عليهم وصف المقتصد.

    يليهم الذين أسرفوا على أنفسهم وغشوا الكبائر مع أدائهم الفرائض، وهم المستحقون لوصف الظالم لنفسه.

    1.   

    العبادة هي أشرف أوصاف الأنبياء

    أما الكلام في الحقيقة على عبودية الأنبياء فموضوع مهم جداً جداً، وما أكثر ما تكلم الناس فيه! لكن نشير إشارة عابرة؛ لأنه ليس هذا المقصود الأساسي من البحث.

    يقول تبارك وتعالى: قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59]، وهم الرسل عليهم السلام، وقال عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات:171]، فوصف الأنبياء بالعبودية له عز وجل، وقال أيضاً: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، وقال أيضاً: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73]، فهذا أشرف وصف يعتز به الأنبياء والمرسلون، وهو أنهم عباد لله تبارك وتعالى.

    ويقول عز وجل مبيناً عبودية نوح له: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، ويقول أيضاً: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9]، وقال أيضاً في حقه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:81]، وقال أيضاً: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10].

    أما إبراهيم فقال الله عز وجل في وصفه: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:81]، وقال: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45].

    أما موسى فقال أيضاً فيه وفي أخيه هارون: إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:122].

    أما عيسى فكان أول ما نطق به في المهد أن قال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، وقال أيضاً في حقه: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59]، وقال أيضاً: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النساء:172].

    أما خاتمهم وسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم فقد وصفه الله بالعبودية في أشرف مقاماته فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19]، وقوله: (عبد الله) يقصد به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هنا في مقام الدعوة، وقال عنه كذلك في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لِيلاً [الإسراء:1]، وقال عنه أيضاً في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وقال أيضاً: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه [الزمر:36].

    عبودية أتباع الرسل

    أما أتباع الرسل فقد وصف القرآن أتباع الرسل بهذه العبودية، كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وكذلك سحرة فرعون، وأصحاب الكهف، والغلام، وأصحاب الأخدود، وكذلك مؤمن آل ياسين، أي: حبيب النجار .

    أما هذه الأمة فما أكثر العابدين والعباد الذين استحقوا هذا الوصف الشريف، وعلى قمتهم بلا شك أبو بكر وعمر والصحابة كما ذكرنا، ومنهم عباد بن بشر والبراء بن مالك ، وهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    1.   

    عبودية جميع الكائنات

    ونحن الآن سنتكلم على عبودية نوع آخر من الكائنات، لا نعني بها عبودية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وطبقاتهم، وإنما نتكلم عن الكائنات كلها، ونثبت أن الله سبحانه وتعالى يخلق فيها إدراكاً حقيقياً، فهذه الكائنات تسبح، وتحمد الله عز وجل، ويخلق الله فيها إدراكاً، حتى الحجر والجدار، كما قال تبارك وتعالى في الجدار: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، خلق الله فيه إرادة، ولذا قال: (يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَه).

    سجود الكائنات

    ومن هذه العبودية التي تقوم بها الكائنات: عبادة السجود، يقول تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].

    في هذه الآية قرينة واضحة على أن السجود هنا سجود حقيقي، وليس بالمعنى المؤول بأنه بالدلالة على الله سبحانه وتعالى، هذه القرينة هي قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، لو كان المقصود التسبيح بمعنى أن من رآها قال: سبحان الله، لقال: والناس أو وكل الناس؛ لأنك إذا رأيت أي مخلوق خلقه الله، فيمكن أن تقول: سبحان الله؛ لأنه خلق له هذه العين وهذه الأذن وهذا الأنف، وخلقه بهذه الطريقة، فلو كانت الدلالة العامة بالصورة المؤولة لما قال تبارك وتعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، ولكن بعض الناس قال: لم يقصد هنا التسبيح الحقيقي؛ لأن من الناس من يكفر بالله ويجحده، ولا يسجد له ولا يسبحه، فإذا كان الأمر كما زعموا فلن يكون لتخصيص السجود بكثير من الناس معنىً.

    ثم قال تعالى في آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:48-50].

    الشاهد: قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل:48]، حيث إنه هنا بين كيفية سجود هذه الأشياء فقال: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ)، يعني: أن الكائنات التي لها ظل هذه هي كيفية سجودها لله سبحانه وتعالى، فالله قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد لله به سجوداً حقيقياً.

    وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) هذا يدل على أن المقصود جميع الكائنات؛ لأنه ليس هناك كائنات تخرج عن السماء أو الأرض؛ فلذلك هذا كله يسجد سجوداً حقيقياً لله عز وجل، ولذا قال: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:49-50].

    هناك خلاف في كيفية هذا السجود، فهناك سجود، وهناك تسبيح، فمثلاً: الطيور تسمعها في وقت الشروق وفي وقت الغروب، وإذا كان هناك غابة فيها أشجار كثيرة أو بستان أو حديقة تسمع أصوات الطيور في هذين الوقتين بالذات كأنها أوامر مكلفة بها، وحينما تسمع هذا ما يدريك لعل هذا هو تسبيح الطيور؟ لكنك لا تفقه منه شيئاً، وكونك لا تفقه لا يسوغ لك أن تنكره. وهكذا الأمواج تسبح، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى من الكائنات يسبح الله عز وجل.

    لكن يختلف الإنسان عمن عداه في كيفية السجود، فنحن -مثلاً- معشر المسلمين سجودنا الخاص بنا هو ذلك السجود الذي يكون على سبعة أعضاء، أما بقية الكائنات فسجود كلٍ بحسبه، إذ كل كائن له طريقة خاصة بالسجود الله أعلم بها، فلو قيل: كيف يسجد الشجر؟ وكيف يسجد القمر؟ وكيف تسجد الشمس؟ وكيف تسجد هذه الكائنات؟ لقلنا: لا ندري، لكن هي تسجد قطعاً بلا شك في ذلك.

    فالخلاف هو في كيفية السجود، ونحن نعرف فقط سجودنا نحن؛ إذ نسجد على سبعة أعضاء، أما ما عدانا من الكائنات فهي تسجد، ولكننا لا نعرف هذه الكيفية.

    تسبيح الكائنات

    وهناك عبادة التسبيح: يقول تبارك وتعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44].

    فالله يقول:( تُسَبِّحُ)، إذاً: هي تسبح، فلا يليق بمؤمن أن يسمع قول الله تبارك وتعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ) ويقول: إنها لا تسبح، وأما تفسير من يقول: إن من رآها قال: سبحان الله، فهذا كلام فاشل، وهو مضاد لقول الله: (تُسَبِّحُ).

    وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، نفى هنا معرفة كيفية التسبيح.

    وأما لماذا لا نفقه تسبيحهم فلأنها بخلاف لغتنا، والله سبحانه وتعالى امتن على سليمان بنعمة خصه بها على سائر الناس فقال: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، فسليمان عليه السلام فهم كلام النملة، ولم يكن هذا مجازاً بل كان حقيقة قطعاً.

    والهدهد حينما أتى وخاطبه وحصل بينهما هذا الحوار، هل كان هذا بالإشارة أو بالرموز أم أنه كان حقيقياً؟

    الجواب: كان كلامه حقيقياً.

    إذاً: الهدهد يتكلم، والنمل يتكلم، وإمكانيتكم لا تسمح لكم بالتقاط وفهم هذا التسبيح.

    وعبر عنها هنا بضمير العاقل، ولم يقل: (ولكن لا تفقهون تسبيحها) أي: الكائنات، وإنما أعاد عليها ضميراً من يعقل؛ لأنه أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح، ولذلك قال: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

    وكذلك أطلع الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام على تسبيح الجبال والطير، وداود عليه السلام كان يقف موقفاً مهيباً عظيماً عجيباً حينما يسبح الله عز وجل، فكان يجاوبه كل شيء، حتى الطيور في السماء كانت تجيب وتردد خلفه، والجبال تشترك معه في هذا التسبيح، يقول تبارك وتعالى في سرد قصة داود عليه السلام: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10].

    ولو كان تسبيحاً عادياً بمعنى أنه إذا رآها قال: سبحان الله لما اختص داود بهذا، وما الفرق بين داود وبين أي شخص آخر إذا رأى الجبال قال: سبحان الله؟ هذا إفساد لمعاني القرآن، ولذلك يقول تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، فهذا خطاب للجبال، ويقول تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، ويقول: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18] ولو كان المقصود بتسبيح الجبال أن من رآها قال: سبحان الله، هل يختص هذا بالعشي والإشراق أم هذا في كل وقت؟

    الجواب: في كل وقت، فتخصيص هذين الوقتين يدل على أنه تسبيح حقيقي، وأنها بالفعل تسبح الله سبحانه وتعالى.

    ويقول تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، أي: أن الحجر يهبط من خشية الله، ويقول تبارك وتعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مريم:88-92].

    وسنرى في هذا البحث -إن شاء الله- أن هذه الكائنات تعرف الموالاة والمعاداة، وتحب أولياء الله، وتعادي أعداء الله.

    وقد أشرنا من قبل إلى أنه لا يبعد أن يكون ما حصل في الجبل المقطم هو من هذا، فإن الجبل اندك؛ لأن من كانوا بجانبه قد انفصلوا عن المسلمين الموحدين، وكان هؤلاء النصارى قد تمركزوا في هذا المكان قريباً من الجبل، والجبل ما تحمل، إذ كل فترة يسمع: المسيح بن الله، والأب والابن وروح القدس، فالجبل ما تحمل، وهذا لا يبعد أن يكون هو تفسير هذا الأمر، فأكل الخنازير، وعبادة غير الله، والنطق بالشرك، كل هذا مما يغضب الله، فلما تزيلوا عن الموحدين أنزل الله بهم هذا الجبل الذي لم يتحمل أن يسمع هذا الشرك، والله تعالى أعلم.

    وأيضاً علم الله سبحانه وتعالى كل كائن من هذه الكائنات كيفية التسبيح الخاصة به، يقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41] وهذه الصلاة ليست بالضرورة مكونة من ركوع وسجود وتكبيرة إحرام وتشهد وتسليمتين، وإنما هو تسبيح خاص ألهمها الله عز وجل إياه، فقوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، يعني: أن الله علم صلاة كل شيء من هذه الكائنات وتسبيحها، أما دلالته على الرب فيعلمه عموم الناس، وهذا فيه إبطال من أول قوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41] بقوله: أي: علم الله صلاته وتسبيحه.

    ويقول صلى الله عليه وآله وسلم (ما تستقل الشمس -يعني: ما تشرق الشمس وترتفع- فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة والحديث رقم (2224)، يعني: كل من لم يسبح الله في هذا الوقت فهو من أغبياء بني آدم، أو من الشياطين.

    ويقول تبارك وتعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، يعني: بعد ما قضى الله سبحانه وتعالى بين الخلائق جميعاً بالحق والعدل تبارك وتعالى، في تلك اللحظة نطق الكون بأجمعه، ولذلك كانت الإضافة هنا مجهولة فلم يضف القول إلى قائله، ففي تلك اللحظة بعد ما فصل الله بين الخلائق بالحق والعدل، واستقر حكم الله على أهل الجنة وأهل النار نطق الكون بأجمعه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يضف القول إلى قائل، بل أطلقه فقال: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فجميع الخلائق في هذه اللحظة تحمد الله سبحانه وتعالى لعدله وحكمته.

    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر) رواه ابن ماجة انظر إلى الموالاة والحب في الله حتى الحيتان في البحر تستغفر للعالم.

    وفي الترمذي زيادة: (حتى النملة في جحرها لتستغفر هي الأخرى لمعلم الناس الخير)، وهل يمكن أن نستبعد هذا أو نستغربه بعدما سمعنا الله تعالى يحكي عن هذه النملة عبارة في قمة الفصاحة، وفي أعلى مراتب البيان على وجازتها، حيث قال عز وجل: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]؟ وفي هذا اعتذار عن سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان عليه السلام لا يمكن أن يتعمد أذية النمل، لكن قد يقتله هو وجنوده دون أن يشعروا، فهذا اعتذار في غاية التأدب مع نبي الله ومع جنوده وأصحابه.

    إيمان الكائنات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

    فكل هذه الكائنات مسلمة بالله عز وجل، كما قال سبحانه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].

    وليس هذا فحسب، بل جميع الكائنات تؤمن بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في حين عمي كثير من الإنس الذين أوتوا العقول ورأوا الآيات عن هذا الحق، وكذبوا برسالته صلى الله عليه وآله وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني.

    ومناسبة هذا الحديث: أنه كان هناك جمل استعصى على الناس، وكان موجوداً في حائط أو بستان، وكان كل من اقترب منه يشد عليه هذا الجمل، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه إليه، فأتى الجمل بين يديه، ووضع أنفه على التراب أمام النبي عليه السلام وسكن؛ لأنه عرف أن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما تعجب الصحابة من ذلك أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأزال تعجبهم بقوله: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس).

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال للرجل المؤذن: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، ثم قال أبو سعيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري ، فكل شيء يسمع صوت المؤذن يشهد له يوم القيامة.

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، أي: ما زال الحجر قائماً وموجوداً، وكان إذا رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: السلام عليك يا محمد! أو يا رسول الله!

    وعن سفينة -وهو أبو عبد الرحمن مهران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقب سفينة لأنه حمل شيئاً كبيراً في السفر- أنه أخطأ الجيش بأرض الروم، فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد وله بصبصة -يعني: يحرك الذنب، وكأنه يرحب به- حتى قام إلى جنبه وكلما سمع صوتاً أهوى إليه -أي: أهوى إليه الأسد؛ كي يحميه من أي ضرر يقع به في الطريق- ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد.

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وهذا جاء في أكثر من حديث عن الصحابة، فأحياناً يخرق الله العادة، كما أسمع داود تسبيح الجبال، فـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).

    يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وإذا ثبت هذا في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، وهو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه.

    ولكن القول بأنه تسبيح دلالة بحيث من رآها يقول: سبحان خالقها، ليس هذا التأويل بالقوي، والصحيح: أن الكل يسبح؛ للأخبار الدالة على ذلك، ونصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.

    1.   

    نماذج في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل

    ٍأما ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) فذكر كثيراً من النماذج العظيمة جداً في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل، على ضآلة الاكتشافات العلمية في عصر ابن القيم ، ولكن هذا الكتاب يعكس مدى مواكبة ابن القيم لثقافة عصره، بحيث يمكن أن نقف الآن على أناس لا يعرفون عشراً من أعشار ما كان يعرف ابن القيم قبل تقدم هذه العلوم، مما يدل على اهتمام علمائنا وأسلافنا بهذا الباب جداً.

    فيتكلم ابن القيم في موضع من كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) على عبودية الشجر، ويقول: فتبارك الله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر.

    ونحن إذا نظرنا إلى متحف الأحياء المائية نجد فيه أشياء عجيبة ليست كما عندنا، فأنت حينما ترى هذه المناظر الجميلة والبديعة تنبهر بجمال خلق الله سبحانه وتعالى في المناظر الطبيعية، وفي الجمال، فما بالك لو انكشف لك صوتها وهي تسبح، حتى ترى نوعاً آخر من الجمال لا يمكن أن تقيسه بجانب الجمال الذي تدركه بعينك فقط؟

    وإذا سمعت صوت الطيور في الصباح وهي تغرد بهذه الأصوات الجميلة فإنك ترتاح لذلك، وتأنس به، وتتمتع بهذا الصوت، فما بالك لو فقهت تسبيحها؟ لا شك أنك سترى ما هو أجمل من هذا الأمر الظاهري الذي تراه.

    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر، ولرأوا خلقتها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، وأنها لم تخلق سدى.

    يقول تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6] فالنجم: ما ليس له ساق من النبات، والشجر ما له ساق، وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44].

    يقول ابن القيم رحمه الله: ولعلك أن تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى أن التسبيح دلالتها على صانعها فقط، فاعلم أن هذا القول يظهر بطلانه من أكثر من ثلاثين وجهاً، وقد ذكرنا أكثرها في موضع آخر، وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه.

    أي: هل توجد لغة من اللغات يعبر بها عن هذه الأفعال: السجود والتسبيح والصلاة والتأويب بمعنى الدلالة على الخالق؟ يقول ابن القيم : في أي لغة تسمى الدلالة على الطالع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته كما ذكر ذلك تعالى في كتابه؟ فتارة يخبر عنها بالتسبيح، وتارة بالسجود، وتارة بالصلاة، كقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، أفترى يقبل عقلك أن يكون معنى الآية: قد علم الله دلالته عليه؟ وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحاً، وفرق بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي هنا المغايرة.

    وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10]، وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت، كالعشي والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين؟

    أي: هل الجبال تدل على الله سبحانه وتعالى بالعشي والإشراق فقط، وأما في الضحى وفي الليل فلا تدل؟ فيدل التخصيص بهذين الوقتين على أنها صلاة حقيقية وتسبيح حقيقي.

    1.   

    إدراك وتمييز الكائنات والرد على من جعل تسبيحها مجازاً

    عموم الإدراك والتمييز في الكائنات

    أيضاً هناك أدلة على إثبات الإدراك والتمييز عند الكائنات كل بحسبه، كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19]، تأمل كلمة: (قولها)، ولو كان قولها رموزاً ومجازاً، هل كان يتعجب سليمان عليه السلام؟ وهل كان في تلك اللحظة سيقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل:19] استحضاراً لهذه النعمة أن خصه الله بأن جعله يفقه لغة الطير، فهذا حقيقة وليس بمجاز، وإنما معنى قوله تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا) أي: من قول النملة، وماذا قالت النملة؟

    بين الله قولها بقوله: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].

    وقد اشتملت هذه الجملة القصيرة على عشرة أنواع من الخطاب: اشتملت على النداء (يَا)، والتنبيه (أَيُّهَا)، والتسمية (النَّمْلُ)، والأمر (ادْخُلُوا)، والنص (مَسَاكِنَكُمْ)، والتحذير (لا يَحْطِمَنَّكُمْ)، والتخصيص (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، والتعميم والتفهيم والاعتذار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، يعني: خصت سليمان وجنوده، ثم عممت وقالت: (وهم لا يشعرون) واعتذرت بأنهم لم يتعمدوا أن يقتلوكم، ولكن سوف يكون هذا بدون أن يشعروا، فهذا منتهى الأدب مع نبي الله سليمان عليه السلام ومع أصحابه.

    وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد بقوله: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، رواه البخاري ، فانظر إلى الموالاة والحب في الله.

    من ذلك أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام رقى أحداً مرة وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل -أي: اهتز الجبل وتزلزل- فقال له النبي عليه السلام: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والصديق هو: أبو بكر ، والشهيدان هما: عمر وعثمان ، وهذا رواه البخاري ، وهذا من أعلام النبوة؛ لأنه أخبر أن عمر وعثمان سيكونان شهيدين، وقد قتلا رضي الله تعالى عنهما شهيدين.

    وقال تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ) هذا عرض تخيير ليس لأنها عصت، لكن خيرها فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72]، فأثبت أنه خلق لها إدراكاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأثبت أنها أبت فقال: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)، وأشفقت من حمل الأمانة.

    ومما يؤيد وجود هذا الإدراك قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74].

    ومما يؤيده أيضاً حنين الجذع، فقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام جذع نخلة في المسجد، فكان إذا أراد أن يخطب اتكأ عليه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع المنبر، وصنع المنبر، وفي أول صلاة جمعة لما دخل المسجد مر على الجذع، ولم يستند إليه كما هي العادة، ورقى المنبر، فإذا بالجذع يبكي بكاء الصبي الذي يحن لأمه، وظل الجذع يتأوه، وكان صوته يسمع في جميع أرجاء المسجد، بكى حنيناً إلى رسول الله، وتألماً لفراقه، وظل صوته كالطفل الذي يبكي حتى نزل الرسول عليه السلام من على المنبر، وضم الجذع إليه، وربت عليه إلى أن سكن، وهذا كله كان أمام الصحابة، وهذا الحديث في البخاري .

    إذاً: الجذع كان يحن إلى رسول الله، وكان يتفاعل معه، ويحبه، ويريد أن يقترب منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا كله يثبت أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق في الجمادات من الإدراك ما تعي به أشياء كالعاقل.

    إدراك وتمييز الحيوانات والدواب

    ثم نخصص بعض الأنواع من الكائنات كالحيوانات والدواب، فهناك دليل عام يشمل الحيوانات والدواب، وهو قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ [النحل:49]، فقوله: (مِنْ دَابَّةٍ) هذه صيغة عموم.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح الله!)، أي: أن الله عز وجل عاتبه.

    ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة)، أي: تستمع بأذنها وتترقب قيام الساعة؛ لأن يوم الجمعة هو أخطر يوم عندها؛ لأنه هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، فهي تدرك هذه الحقيقة، فكل يوم جمعة تكون في أشد حالات الإشفاق والخوف من أن يكون هذا موعد قيام الساعة.

    ويقول أيضاًً: (لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة، إلا هذين الثقلين: الجن والإنس).

    وقد مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه، فسألوه عليه الصلاة والسلام: ما مستريح وما مستراح منه؟ فقال: إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) رواه البخاري.

    ومعنى ذلك أن هذه الكائنات كلها تكره الكافر، وتكره الفاسق الذي يعصي الله تبارك وتعالى، وتود موته حتى تستريح من شره ومن أذيته إياها.

    ويقول تبارك وتعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] وهذا حقيقة لا مجاز.

    إدراك وتمييز البقر

    وقال عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث)، يعني: أن أغلب ما خلقنا ومعظم ما خلقنا من أجله أن نعاونك في الحرث، (فقال الناس لما حكى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: سبحان الله! بقرة تتكلم) ولو كان المقصود: دلالته على خالقها لقال لهم: أنا أقصد أنها تدل على خالقها، وأنكم إذا رأيتموها قلتم: سبحان الله! ولكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: (فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما، وهذا رواه البخاري .

    إدراك وتمييز الإبل

    وجاء أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه)، أي: أن هذا الجمل بمجرد أن رأى الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يعرفه- أدرك وعرف أن هذا هو رسول الله، فمجرد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله! فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)، يعني: تتعبه بالشغل، رواه أبو داود .

    وقوله: (فإنه شكا إلي) يعني: أنه كلم النبي عليه الصلاة والسلام، والرسول فهم كلامه كما فهم سليمان، فهل بعد ذلك يرتاب أحد في أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين؟

    وعن جابر رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا في حائط لبني النجار، فإذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فدعاه، فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يديه، فقال: هاتوا خطاماً، فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، ورواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

    كذلك أيضاً في قصة الهجرة، فإن الناقة التي هاجر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقتربت من المدينة كان الصحابة يمسكون بزمامها، وكل طائفة من الصحابة يريدون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما ينزل عليهم، فكانوا يمسكون الزمام ويطلبون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة).

    إدراك وتمييز الفيل

    وكذلك إذا صحت الرواية في قصة أصحاب الفيل الذي أتى به أبرهة الحبشي، فإنهم قالوا: إن الفيل -وقيل: اسمه محمود والله أعلم- لما اقترب من حدود الحرم الشريف برك، فكانوا إذا وجهوه ناحية الكعبة يبرك ويثبت في الأرض، ولا يجيبهم، فإذا وجهوه ناحية اليمن ينطلق، وإذا وجهوه ناحية الشام ينطلق، إذا أعادوه إلى جهة الحرم الشريف يمكث في الأرض ويمتنع من المشي، فإذا صحت هذا فتنضم أيضاً لهذه الأدلة.

    إدراك وتمييز الديك

    وأيضاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة).

    وأقول: ألا يلفت نظركم فعلاً أن في وقت معين ثابت تستيقظ الديوك فيه أو تنتبه فيه وتصدر هذه الأصوات؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدأ قيام الليل إذا صاح الديك.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً)، فأليس هذا جندي موظف لأمر معين يأمره الله سبحانه وتعالى به؟ بلى، إن هذا مكلف، ويفهم أن هناك وقتاً معيناً، وليس عنده أجهزة استشعار ولا لاسلكي ولا رادار، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي يخلق بها عنده هذا الإدراك.

    ويذكر أن سعيد بن جبير كان عنده ديك، وكان رجلاً صالحاً مستجاب الدعوة، ففي يوم من الأيام لم يصح الديك، فقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح بعدها أبداً، فقالت أمه: لا تدع على أحد.

    إدراك وتمييز الذئب

    كذلك أيضاً جاء أن الذئب تكلم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام يفيد أن الذئب عنده اعتقادات معينة، فمثلاً: هو يعتقد أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، بل إن الذئب أمر راعي الغنم بتقوى الله.

    ويفيد الحديث أيضاً أن الذئب عالم بنبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه قصة حصلت مع راعٍ من الرعاة، وكانت سبباً في دخوله الإسلام كما سنبين، ولذلك ذكرها العلماء في باب علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

    والقصة ذكرها البخاري في صحيحه بلفظ: (بينما رجل في غنمه إذ عدا ذئب فذهب منها بشاة، فطرده حتى استنقذها منه، فقال له الذئب: يا هذا! استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، ونحن لا نريد المعاني المجازية الآن، لأن بعض إخواننا ألف رسالة مستوحاة من هذا الحديث، سماها: (عندما ترعى الذئاب الغنم)، يقصد بها حكام المسلمين في هذا الزمان.

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (عدا الذئب على شاة فأخذها، فطرده الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي! ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد عليه الصلاة والسلام بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره -أي: حكى له قصة الذئب هذه- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم بما حدث معك، فأخبرهم ،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق والذي نفسي بيده!) وهذا قطعاً يسد باب المجاز، إذ لو كان مجازاً فلماذا تعجب الراعي؟ ولماذا آمن بنبوة الرسول عليه السلام؟ هل لأنه إذا رأى الذئب يقول: سبحان الله! ويستدل به على الخالق سبحانه وتعالى؟

    عبودية الخيل

    ومن ذلك أيضاً عبودية الفرس، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوة؛ يقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)، رواه الإمام أحمد.

    إدراك وتمييز وعبودية الهدهد

    من ذلك أيضاً عبودية الهدهد، كما قال تعالى عن قصته مع سليمان عليه السلام: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:20-22] كان يمكن أن الله سبحانه وتعالى يقول: فمكث قريباً، لكن قال: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] تعريضاً بمن يخافون غير الله، والمعنى: لم يفعل كما تفعلون أنتم وتفقون بعيداً.

    فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، وهذا يثبت أن سليمان عليه السلام مهما أوتي من العلم فليس علماً مطلقاً، وإنما العلم كله لله، ولذا قال سبحانه حاكياً عن الهدهد: فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، يعني: أنه كان عند الهدهد توحيد، فيعلم أن سليمان نبي لا يعلم الغيب، ولذا قال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، ووصفه بأنه يقين لأن هذا الخبر من شدة عجبه قد لا يصدقه سليمان، فقال له ابتداءً: إنه خبر يقيني، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:22-23]، أي: امرأة تحكم هذا الشعب، تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، يعني: من كل شيء يؤتاه الملوك، وليس على إطلاقها، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:23-24]، يعني: أن الهدهد استنكر واستقبح هذا الأمر، وذهب بسرعة يبلغ عنهم سليمان أنهم لا يعبدون الله، وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:25-26] وهذا يدل على أهمية التوحيد، فالهدهد كان يعرف عقيدة التوحيد الخالص، فبين كفرهم وبعدهم عن الهداية، وغواية الشيطان لهم.

    يقول القرطبي رحمه الله تعالى: إن الله تعالى خصه -أي: الهدهد- من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي إليها.

    والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755988650