إسلام ويب

منهج رسول الله في التعامل مع الأممللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمة محمد عليه الصلاة والسلام -كما هو معلوم- أمة متميزة في الخير على غيرها؛ ولذلك جاءت شريعتها بالدعوة إلى مخالفة غيرها من أمم الكفر في أشياء متعددة؛ لأن التشبه يورث الرضا والذوبان في المتشبه به، كما أنه يطمس الهوية من أمة الإسلام.

    1.   

    موقف هذه الأمة من مناهج الأمم قبلها

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم -يعني: شعر رءوسهم- وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد ).

    هذا الحديث العظيم يبين فيه ابن عباس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأمم، لقد كان عليه الصلاة والسلام في مبدأ أمره يحب أشد الحب مخالفة عباد الأصنام، مخالفة المشركين عباد الأوثان، ويتألف قلوب أهل الكتاب الذين يشتركون معه في بعض الأصول، وإن خالفوه في كثيرٍ منها حتى وصلوا إلى الكفر، كان عليه الصلاة والسلام يتألف قلوب هذا الفريق من الناس، ويتودد إليهم لعله يجرهم إلى الإسلام، فحرص على مخالفة عباد الأصنام حتى في مظهر بني قومه، حيث خالف أبناء عمومته حتى في طريقة تنظيم شعر رأسه، فقد كان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب في المدينة يسدلون أشعارهم، يعني: على جبينهم، فكان عليه الصلاة والسلام متمسكاً بالهدي الظاهر لأهل الكتاب؛ لأنه لم ينه عن مخالفتهم، ويحرص كل الحرص على منابذة قومه وأبناء عمومته في الهدي الظاهر، ابتعاداً عن الشرك والمشركين، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره على ناصيته، ثم لما ظهر كفر أهل الكتاب، واشتد عنادهم حرص عليه الصلاة والسلام أشد الحرص على مخالفتهم ومنابذتهم، ولم يترك مجالاً يمكن أن يخالف فيه هدي أهل الكتاب إلا وخالفهم فيه، حتى ما يفعلونه من الخيرات إذا رأى في شرعه ما يدعوه إليه فعله وفعل فيه ما يخالف فيه أهل الكتاب، حتى يتميز الفريقان، ويتبين صف عباد الرحمن من عباد الأوثان.

    ومن هذه المواقف: عاشوراء فإن فيه موقف عظيم يؤكد هذا المنهج، ويرسخ هذه الفكرة، وفي الأسبوع الماضي كنا نتحدث عن صوم عاشوراء، ومن مقولته صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء لما سمع أن اليهود يصومونه وسألهم ذلك السؤال المشهور: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله، فقال مقولته السائرة عليه الصلاة والسلام: ( نحن أحق بموسى منكم )، فهذا هو منهجه صلى الله عليه وسلم، ومعنى نحن أحق بموسى منكم: نحن أقرب إلى موسى، ونحن ألصق بموسى، ونحن أخص بموسى ممن يدعون الانتساب إليه، فنحن أتباع موسى ومحمد، ونحن أمة موسى وعيسى ومحمد، أمة الإسلام أمة واحدة؛ لأنها تشترك في شيء واحد يجمع البشر من عهد أبيهم آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهو الدين الخالص لله.

    وفي سورة الأنبياء قص الله عز وجل علينا أخبار بعض أنبيائه، ولما ختمهم وانتهى من الحديث عنهم، قال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

    فهذه الأمة كلها أمة واحدة، فنحن أحق بموسى لأننا نتابعه على أصول دينه، لأننا نمشي على ما كان يدعو إليه من توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وتنزيهه عن النقائص، والإيمان بجميع الرسل، والامتثال والخضوع لأمره، وهذه هي أصول ما دعا إليه موسى، ونحن نمضي على تلك الأصول، وهؤلاء خالفوه وكفروا به لما كفروا بغيره من الأنبياء، وهؤلاء كذبوه؛ لأنهم يصفون الله تعالى بالنقائص، وقد جاء موسى يدعوهم إلى إفراد الله تعالى بالكمالات، وتوحيده سبحانه وتعالى بالعبادة، فنحن أحق بموسى منكم.

    هذه المقولة يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع هذه الأمة مع من سبقها من الأمم، فإنها جزء من أمم الأنبياء قبلها، تمضي على نفس الطريق، وكل من ادعى خلاف هذا فإنه كاذب في دعواه.

    1.   

    أصناف الناس تجاه رسل الله

    قبل هذه المقولة، قال الله تعالى في سورة آل عمران راداً على المشركين الذين كانوا يزعمون بأنهم على دين إبراهيم، فقال لهم الله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمران:68]، يعني: الذين تابعوه في حياته: وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، وأخص الناس بإبراهيم، وأحق الناس بمتابعة إبراهيم؛ لأنهم تابعوه في أصول دينه، ومشوا على ما دعاهم إليه من التوحيد والإيمان، والخضوع لله تعالى، أما الذين حرفوا دين إبراهيم، فعبدوا أصناماً من دون الله، وتقربوا إلى غير الله، فهؤلاء ليسوا على دين إبراهيم، وليسوا من إبراهيم في شيء، لا في قليل ولا في كثير، وقد قال لهم قبل هذه الآية: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فهؤلاء كلهم كاذبون في دعواهم اتباعهم لأنبياء الله تعالى ورسله، وكل فضيلة تنسب إلى الأنبياء وكل خير دعا إليه الأنبياء فأمة محمد أولى الناس بهذا الخير: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68].

    أما الذين يفرقون بين أنبياء الله، فيؤمنون بمن شاءوا منهم ويكفرون بمن شاءوا منهم، فهؤلاء ليسوا من أهل الإيمان في قليل ولا في كثير، بل يؤكد الله عز وجل تأكيداً بليغاً في القرآن بأن هذه الفئة من الناس هم الكفار على الحقيقة، الذين كفروا على بصيرة، وعاندوا الحق بعد أن استبان لهم، يقول جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:150] يريدون أن يفرقوا بين الله وبين رسله، فيؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون بالبعض الآخر، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150]، يريدون إحداث طريقٍ وسط، فهناك طريقان لا ثالث لهما: الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله، وتصديقهم فيما جاءوا به، فهذا طريق المؤمنين، وطريق أولياء الله، وطريق أحباب الله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].

    وهناك طريق آخر ينابذ هذا الطريق ويخالفه، وهو طريق الكفر بأنبياء الله جميعاً، وهؤلاء أرادوا أن يحدثوا طريقاً وسطاً بين هذين الطريقين، فقالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، قال الله: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ يعني: بين طريق الإيمان أو الكفر بالجميع، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ، ثم حكم عليهم سبحانه، فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:151]، أي: هؤلاء هم أهل الكفر الحق الثابت لهم: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، فهؤلاء هم الكفار على الحقيقة.

    1.   

    المسارعة إلى الخير من صفات الأمة الإسلامية

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! وفي هذه الكلمة: ( نحن أحق بموسى منكم ) بيان لمنهج هذه الأمة، وأنها أمة سباقة إلى الخيرات، فلما ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الخير مما كان يفعله موسى لم تحمله رغبته في مخالفة اليهود على ترك الصوم في هذا اليوم، فإن هذه الأمة أولى الناس بكل خير تفعله البشرية وأحق الناس به، لأنها أمة الخير، وهي خير الأمم كما شهد لها خالقها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، منهجها الخير، فرغبتها في الخير فوق كل رغبة، فدينها وإيمانها يحملانها على الحرص على الخير والمسابقة فيه، فلا تترك خيراً تقدر عليه وعلى إنفاذه، فصامه صلى الله عليه وسلم، لكنه خالفهم في طريقة الصيام، وفي منهج الصيام.

    هذه الكلمة ينبغي أن تكون منهاجاً للمسلم، نحن أحق بالخير منهم، جاء في بعض الأحاديث، وإن كان قد ضعفه بعض أهل العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صافح بعض أصحابه رآه بعض الصحابة ولأول مرة يراه يصافح وكان يرى المصافحة في العجم، فقال: ( كنت أحسب أن هذا في العجم ) يعني: أن المصافحة من أخلاق العجم، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( نحن أحق بالمصافحة منهم، ما من مسلمان يلتقيان فيتصافحان إلا تساقطت خطاياهما ).

    المنهج إذاً: هو المسابقة إلى الخير، والحرص على الفضيلة، والدعوة إلى الطاعة مع الحرص التام على مخالفة هؤلاء القوم في هديهم الظاهر الذي يختصون به.

    1.   

    ضرورة الحفاظ على الهوية الإسلامية

    في هذه الكلمة بيان لضرورة الحفاظ على هوية الأمة المسلمة، وما تتميز به هذه الأمة، وأعداؤنا اليوم أحرص ما يكونون على إذابة الفوارق، ودمج هذا المجتمع بالمجتمعات الكافرة حتى يصبح جزءاً لا يتميز، وحتى يصبح جزءاً لا يفرق بينه وبين غيره، وما حملهم على ذلك إلا الحسد الذي يضمرونه في نفوسهم لهذه الأمة، حسداً على ما هداها الله إليه من الإيمان والكمال، وحسداً على هداية الله لها إلى خير الأديان، ومتابعتها لخير الرسل، الحسد هو الذي يدعوهم ليلاً ونهاراً لمحاولة صرف هذه الأمة عن دينها، وحري بالمؤمنين أن يكونوا على يقظة من هذه التدابير وتلك المخططات، فالخير كل الخير يا معشر المسلمين فيما أنزله الله، وقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ).

    يوم أن نرجع إلى الدين ونراجع ديننا ما الذي علينا أن نفعله؟ وما الذي ضيعناه منه؟ حينها سيكتب الله عز وجل لهذه الأمة العزة والغلبة.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    سبب حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب

    لما بان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عناد اليهود والنصارى بعد أن أمضى دهراً يتألف قلوبهم، ويدعوهم إلى الإسلام بالتأليف، واشتد إصرارهم على المخالفة شرع صلى الله عليه وسلم لأمته الحرص على مخالفتهم في جميع هديهم، في مظهرهم، وفي باطنهم، كما نخالفهم في أصول ديننا فيكفرون ونؤمن، ويعاندون ونستسلم، فكذلك نخالفهم في هدينا الظاهر والباطن، حتى في الخير، لما علم صلى الله عليه وسلم بأن موسى صام هذا اليوم، قال عليه الصلاة والسلام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )، وأمر أصحابه أن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، وهذا كله حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على إحداث المخالفة لليهود، وألا يشبه هدينا هديهم، حرص عليه الصلاة والسلام على هذه المخالفة في جوانب شتى من حياته، ولما رآهم لا يصبغون البياض في شعورهم إذا كثر، قال لهم عليه الصلاة والسلام: ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )، وأمر بعضهم أن يجنب بعض أقاربه السواد، وأن يخالف أهل الكتاب، ولما رآهم صلى الله عليه وسلم يدفنون موتاهم في شقٍ من الأرض يشقون شقاً أمر أصحابه بأن يلحدوا للأموات لحداً، فقال: ( اللحد لنا والشق لغيرنا )، ولما رآهم لا يصلون بنعالهم أمر أصحابه بأن يخالفوا اليهود، وأن يصلوا في نعالهم، ولما رآهم يتسرولون (يلبسون السراويل) ولا يلبسون الإزار أمر أصحابه بأن يتسرولوا ويأتزروا فيجمعوا بين الأمرين، حتى يخالفوهم في الهدي الظاهر، ولما رآهم يحلقون لحاهم ويوفرون شواربهم أمر أصحابه بأن يخالفوهم في هذا الهدي، فقال: ( أعفوا اللحى وقصوا الشوارب، خالفوا اليهود، أو خالفوا المجوس، أو خالفوا المشركين )، روايات متعددة لهذا الحديث.

    وقد حرص صلى الله عليه وسلم على مخالفتهم حتى في كيفية السلام، فقد رآهم يسلمون بالإشارة ولا يتلفظون بكلمات السلام، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسلم بعضهم على بعض بالإشارة، مخالفة لأهل الكتاب، حيث خالفهم صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، حتى بلغ به الحال أن يعمد إلى مخالفتهم في نفس الساعة، وفي نفس الموقف، فقد مرت جنازة فوقف لها صلى الله عليه وسلم تعظيماً لهذا الحدث، وقال في بعض الروايات لما سئل: ( أليست روحاً؟ )، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن اليهود يفعلون ذلك جلس عليه الصلاة والسلام في نفس الموقف وفي نفس اللحظة، كل ذلك حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود والنصارى.

    دلالة مخالفة أهل الكتاب

    هذه المخالفة ليست عبثاً، إنما لما يترتب عليها من الآثار، فإن الاشتراك في الهدي الظاهر، والاشتراك في الأخلاق يدعو إلى محبة في الباطن لا محالة، فمن تشبه بقوم في زيهم وفي هديهم وظاهرهم، جره هذا التشبه إلى نوع من الألفة لهم، وإلى نوع من المودة بينه وبينهم، وجره إلى إزالة الفوارق النفسية والحواجز النفسية، فيألفهم ويعتاد أخلاقهم، ولهذا حرص صلى الله عليه وسلم على أن يبقى بينك وبين الكفار فارق في هديك، فلك هديك الظاهر، ولهم هديهم الظاهر، قد تعلم ما الحكمة، وقد لا تعلم.

    لكن يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: اعلم أن الكفر هو مرض القلب الحقيقي، الذي إذا أصيب به الإنسان فسدت سائر أحواله، وإذا كفر الإنسان فسد قلبه، وإذا فسد قلبه فلا يمكن أن تصلح جوارحه وتصح صحة مطلقة، قد تصح بعض الصحة، ولكن يكون الفساد فيها غالباً، إذا أيقنت بهذه الحقيقة، فيقول لك شيخ الإسلام رحمه الله: فالسلامة والصحة أن تتجنب مشابهة المريض بحالٍ من أحواله، فإنك ربما لا تدرك مرض هذا العضو من أعضائه، ما دام مصاباً بالمرض، وما دام يحمل الفساد في قلبه، فإنك وإن لم تشعر بفساد أعماله، وبفساد أخلاقه، فينبغي أن يكون ما تعرفه عنه من الفساد، وما تعرفه عنه من مرض القلب، ينبغي أن يكون دافعاً لك لأن تربأ بنفسك، وأن تتنزه بنفسك عن أن تتشبه به، فلعله يكون عين الفساد وأنت لا تشعر، فهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم.

    مخالفة أهل الكتاب في أخلاقهم

    ومن الأمور المهمة أيها الأحباب في مخالفة اليهود والنصارى على الخصوص والكفار على العموم: أن نحرص أشد الحرص على مخالفتهم في أخلاقهم، والتصرفات الباطنة التي دعانا القرآن في تضاعيفه، وفي أثناء آياته -وهو يقص علينا أخبارهم وأخلاقهم- إلى منابذة هذه الأخلاق حتى لا نكون متشبهين بمن سخط الله عليهم، وحتى لا نكون مشابهين لمن وقعوا في غضب الله واستحقوا لعنة الله، فأخلاقهم الرذيلة، وعاداتهم السيئة التي حكاها لنا القرآن، ينبغي أن يسعى المؤمن جاهداً لأن يخلص نفسه منها.

    فداء الحسد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه داء اليهود، وهو السبب الوحيد الذي جرهم إلى ما جرهم إليه من الكفر والوقوع في النيران، فقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، وأخبر بأنهم إنما كفروا بمحمد حسداً من عند أنفسهم، فالمؤمن مدعو لأن ينزه نفسه عن هذا الخلق الذميم.

    وقد حكى الله تعالى في كتابه أن اليهود كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويشهدون لأهل الكفر بأنهم أصحاب الفضائل، فيفضلون أهل الكفران على أهل الإيمان، ويشهدون بالفضيلة للكافرين الجاحدين، وينقصون المؤمنين أولياء الله المخلصين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]، فكانوا إذا سئلوا لأنهم أهل علم في جزيرة العرب، فسألهم المشركون الذين ليست لهم كتب: من خير نحن أم محمد وأصحابه؟ ومن أفضل نحن أم محمد وأصحابه؟ فيقولون: أنتم خير، وأهدى سبيلاً، فأنزل الله عز وجل ذمهم في كتابه: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51-52].

    وقد نهانا الله عن التشبه بأخلاقهم؛ لأنهم كانوا يوالون الكافرين ويعادون المؤمنين، ويحبون أعداء الله ويكرهون أولياء الله، كانوا يوالون أعداء الله فسبهم الله وذمهم، فلنحرص على تجنب هذه الأخلاق الرذيلة: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]، لكنهم لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالنبي الذي أرسل إليهم، ولو كانوا يؤمنون ما اتخذوهم أولياء.

    ولقد نهانا الله عن التشبه بهم في العناد، بأن نؤمن بما نشاء ونكفر بما لا نشاء، فنتبع ما نريد ونعرض عما لا نريد، فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، لماذا هذا التفريق بين هدي الله وأحكام الله؟ والله أمرنا بأن نستسلم لشرعه كله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208].

    وكذلك نهانا الله عن التشبه بأخلاقهم، كما حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن مخالفتهم في هديهم؛ ليجمع لنا الخير كله، حتى تتم لنا الهداية، وحتى نحقق اتباع الصراط المستقيم، نحن كل يومٍ وليلة ندعو الله تعالى ما لا يقل عن سبع عشرة مرة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، والذين أنعم الله عليهم أخبرنا بهم وبوصفهم في كتابه، فالذين آمنوا بالله ورسله، والصديقون والشهداء والصالحون، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، ونحن ندعو الله سبع عشرة مرة على الأقل كل يومٍ وليلة أن يهدينا طريقهم، وأن يسلك بنا سبيلهم، وأن يتبعنا بهم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .

    ثم حذرنا من سبيلين آخرين: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة:7] وهم اليهود، وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وهم النصارى، واليهود والنصارى كلهم ضال، وكلهم مغضوب عليه، ولكن اليهود أحق باللعنة؛ لأنهم خالفوا الحق بعد أن علموه، والنصارى أحق بالضلال لأنهم عبدوا الله عز وجل على جهالة، والمؤمن يحس في نفسه كل يوم بحاجته إلى مخالفة طريق الفريقين، وأنه لا يقدر على ذلك إلا بعون الله وتوفيقه، فيبتهل إلى الله راجياً منه الإعانة على أن يتجنب طريق اليهود وطريق النصارى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

    والمقصود بالمشابهة أيها الأحباب! المشابهة بهم فيما يختصون به، بحيث يميزهم عن غيرهم، ولا يشتركون مع غيرهم من المسلمين فيه، فهذه الخصلة ينبغي أن يحرص المسلم أشد الحرص على منابذتهم فيها ومفارقتهم فيها؛ حتى يتبين ولي الله من عدوه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756402846