إسلام ويب

وقفات في آخر عام هجريللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا شك أن في انقضاء العام الهجري عبرة للمعتبرين، فعند انقضائه يتذكرون أهمية الزمان وسرعة مروره، كما يعودون إلى أنفسهم بالمحاسبة على ما قدموا، ويستعدون أيضاً لفتح صفحة جديدة مع الله تعالى؛ تتسم بالصفاء ورجاء الخير القادم.

    1.   

    الدروس المستفادة من انقضاء العام الهجري

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها المسلمون! نحن اليوم في آخر يومٍ من العام الهجري، ونستقبل عاماً جديداً من الغد، ولنا في هذا اليوم وقفات:

    الاعتبار بمرور الزمان وجريان الأحداث فيه

    أول هذه الوقفات: اعتبار المؤمن بالزمان ومروره وما حواه من أحداث، فإن في اختلاف الليل والنهار آية لأولي الألباب، وفي تقليب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، والزمان وعاء للأحداث، ولا ينبغي للمؤمن أبداً أن يمر عليه الوقت دون أن يعتبر بما فيه وما جرى فيه، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، وقد حوى هذا الزمان أحداثاً عظيمة، منها ما هو معلوم، ومنها ما هو مجهول، ومنها الصغير ومنها الكبير، فكم من حبة أنبتت، وكم من زهرة أثمرت، وكم من ثمرة قطفت، وكم من جنين تكون، وطفل ولد، وشاب شاخ، وكهل مات، كم من عزيز ذل، وذليل عز، جرت أحداث على الناس، ودارت عليهم أمور، كلما دار عليهم الفلك من فوقهم، أو دارت الأرض من تحتهم، وفي هذا الاختلاف وفي تلك التقلبات عبرة لأولي الألباب، كما قال جل شأنه في كتابه الكريم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، وقال جل شأنه: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44].

    إذا عدم الإنسان تفكير أولي الألباب، وعدم نظر أولي الأبصار، فإنه لم يتعظ، ولم يعتبر بمرور الأيام والليالي عليه، بالأمس القريب كنا نرى بعض الناس مشردين خائفين هائمين على وجوههم في أقطار الأرض، أصبحوا اليوم سادة في بلدانهم وقادة لأقوامهم، وبالأمس القريب كنا نرى سادة يترأسون ويتربعون على كراسي الملك، وعلى كراسي العز، وهم اليوم مودعون في السجون، مقيدون بالسلاسل، ومنهم من قتل شر قتلة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44].

    مجرى الأحداث على الناس ينبغي للإنسان العاقل أن يتخذ لنفسه منه عبرة، ويتخذ لنفسه منه ذكرى؛ حتى يتعظ ويعتبر، وينتفع بمرور الأوقات عليه.

    هذه أول الوقفات التي ينبغي للمؤمن أن يقفها عندما يمر عليه جزء من هذا الزمان، الاعتبار بما فيه، والاعتراف بأن هذا الإنسان محل للذل، وموضع للمسكنة، ومكان للفقر والذلة، لا ينفعه إلا الله، ولا يعزه إلا الله، ولا يعطيه ويمنعه إلا الله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44].

    إدراك أهمية الزمان

    أما الوقفة الثانية أيها الكرام! فهي: إدراك أهمية الوقت، وإدراك عظم شرف الزمان، فالوقت وما أدراك ما الوقت، ما هو الوقت؟ الوقت أنت أيها الإنسان، فأنت الليالي والأيام، كما قال الحسن رحمه الله: إنما أنت أيام مجموعة، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، أنت عبارة عن مجموعة من الأيام كلما انقضى يوم، وكلما ذهبت ليلة كلما نقص منك شيء، وقربت إلى النهاية، وكما قال الحكماء: ليس شيء إذا زاد نقص إلا العمر، العمر وحده كلما زاد عليك كلما نقص في الحقيقة، واقتربت من النهاية، أنت أيام مجموعة إذا ذهبت ساعة ذهب بعضك، وإذا ذهب يوم ذهب جزء أكبر من ذلك، أنت أيام مجموعة تركب هذه الأيام مطية تقربك إلى الموت، صحيح أننا نفرح بذهابها، ونسر بمرورها، وما ذاك إلا لغفلتنا.

    إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل

    كل يوم يمضي عليك يقربك من القبر خطوات، فهل تفكرت في عظم هذه الساعات، وفي شرف هذه الأيام والليالي، الأيام فالليالي رأس مالك، بها تتاجر، وأنت بها عرضة للخسارة أو الربح، فإذا أحسنت استغلالها ربحت، وإذا أسأت ندمت أيما ندامة.

    إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق والليالي متجر الإنسان، والأيام سوق

    رأس مالك هذه الأيام والليالي التي تمر عليك، فإن أحسنت استغلالها فزت كل الفوز، وإلا خسرت كل الخسارة.

    العمر والزمن من أعظم ما يعطيه الله عز وجل لهذا الإنسان، أعظم عطية يعطيكها الله أن يمد بعمرك سليماً معافى على هذه الأرض، كما قال عليه الصلاة والسلام حين سئل عن خير الناس، قال: ( خيرهم من طال عمره وحسن عمله، وشرهم من طال عمره وساء عمله ).

    وقد نهى عليه الصلاة والسلام الإنسان المسلم أن يتمنى الموت إذا نزل به الضر، وذلك لشيء واحد: أن زيادة العمر لن تكون إلا في صالحك إذا أحسنت استغلالها ( لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به، فإن كان محسناً فلعله أن يزيد إحساناً، وإن كان مسيئاً فلعله أن يستعتب ).

    اليوم الذي يأتي عليك بعد اليوم الماضي هو منحة جديدة، وفرصة عظيمة، وعطية كبيرة أعطاكها الله، ولا يعرف الإنسان قدر هذه العطية إلا في مقامين:

    المقام الأول: حين تأتيه ملائكة الموت لقبض روحه، فهناك يدرك تمام الإدراك عظم اللحظة التي كان يعيشها في الدنيا، يتمنى أن يمهل ليعمل صالحاً، فيقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، فيأتيه الجواب: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100].

    إن الإنسان لا يدرك شرف هذا الزمان وأهمية العمر في الدنيا إلا حين يوسد في قبره، ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يدفنون أحد موتاهم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ( ركعتان خفيفتان مما تحقرون )، ركعتان من نوافل الصلاة التي لا تعطونها بالاً ولا تولونها اهتماماً مما تحقرون، ( ركعتان خفيفتان مما تحقرون أحب إلى هذا من سائر دنياكم )، لو خيّر هذا المدفون الآن بين أن يمهل دقيقتين يركع فيهما ركعتين خفيفتين مما تحقرون، أو يعطى الدنيا بملكها لاختار دقيقتين يركع فيهما ركعتين.

    والموقف الثاني الذي يدرك فيه الإنسان شرف عمره، وأهمية زمانه: حين يدخل أهل النار النار، فيتمنى الواحد منهم أن يعود وأن يرجع إلى هذه الدنيا لعله يمنح فرصة للتوبة وإصلاح الأعمال، لكن يقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فالزمن شريف، والساعات عظيمة حين يحس المؤمن بأهمية ذلك الزمان.

    وقد جاء بعض الناس إلى أحد الأئمة وهو سفيان الثوري رحمه الله يريد أن يكلمه وهو يطوف حول البيت، فقال له: أمسك الشمس حتى أكلمك لحظة، الليل والنهار يمضي، وهما مع ذلك يعملان فيك، وينحتان في جسمك، كما قال الشاعر:

    تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا

    وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا

    الأيام والليالي تنحتان في جسمك، كل يوم تأخذان منه جزءاً جديداً، وتفسدان منه عضواً صحيحاً، كل يومٍ تقربانك إلى الهزال، وتضعفان فيك القوة، يعملان فيك بقضاء الله عز وجل وقدره، فكن حكيماً لتدرك أنه ينبغي أن تعمل فيهما، اعمل فيهما كما يعملان فيك، ولا تدع الأوقات تذهب عليك سدى، وصدق عليه الصلاة والسلام حين أوصانا بتلك الوصية العظيمة: ( اغتنم خمساً قبل خمس: فراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك )، خذ لنفسك من نفسك، وخذ لعمرك من عمرك، أنت في عمرٍ قصير يتبعه بعد ذلك عمر مديد وحياة طويلة، مبنية على هذه الحياة.

    هذه الدنيا بقصر أيامها وبتعاقب لياليها مزرعة الآخرة، أفلح من تذكر هذه الحقيقة، واستغل الأيام والليالي، واستثمر الساعات والثواني، فعمل لنفسه:

    دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني

    فاعمر لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني

    اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغته

    كم صحيح مات من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلته

    هذه الوقفة ينبغي للإنسان أن يقفها مع نفسه على الدوام، أن يذكر نفسه بأهمية الوقت.

    وقديماً قال أحد الأئمة: لم أستفد من أهل الكلام إلا قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والناس يقولون: الوقت من ذهب، والحقيقة أن الوقت أغلى من الذهب، الذهب إذا فات يمكن أن يعود، بل وقد يعود أضعافاً مضاعفة، والعمر إذا فات لا يمكن أن يعود.

    مضى أمسك الماضي شهيداً معدلا وأصبحت في يوم عليك شهيد

    فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد

    ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد

    أنت لا تدري كم بقي لك من هذا الرصيد، وكم بقي لك من هذه الساعات، فلا تؤخر العمل في الليل والنهار لأنك لا تمتلكه، والزمن ليس تحت سيطرتك، فاعمل فيه، ولا تتركه يعمل فيك من جانب واحد.

    محاسبة النفس على ما مضى من الزمان

    الوقفة الثالثة: أن المؤمن حري به أن يكون واقفاً مع نفسه عند مضي كل جزء من الزمان، يحاسب نفسه على ما مضى من هذا الزمان، ما الذي أودعه فيه؟

    الليل والنهار يا أحباب خزائن الأعمال، هي خزائن نودع فيها أعمالنا، وتفتح علينا هذه الخزائن يوم القيامة ليرى كل واحدٍ منا ما أودع فيها، إذا مضى يومك فينبغي أن تحاسب نفسك، ما الذي أودعته فيه من خير فتسأل الله عز وجل أن يثبته، ويبقي عليه حتى تلقاه، وتسأل نفسك: ما الذي عملت فيه من سوء فتتدارك ما فرطت، وتتدارك ما أفسدت فتصلح، فالليل والنهار خزانة لأعمالك ينبغي لك أن تحاسب نفسك بعد مضي أجزائه، ما الذي أودعت في هذه الخزائن، والحساب آتٍ لا محالة، والله عز وجل أخبرنا في كتابه الكريم عن ثلاثة أنظار: نظران منك أنت أيها العبد لعملك، وما تقوم به، ونظر لله عز وجل إلى عملك أيضاً، أما الله فقد أخبرنا في كتابه أنه لا يغفل عما نعمل: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].

    أخبرنا سبحانه بأنه لا تخفى عليه خافية، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وأنه خير رقيب، وخير شهيد، يطلع علينا ليلاً ونهاراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل )، لا تغيب عنه غائبة، ولا تخفى عليه خافية، خلق الخلق لينظر ماذا يعملون، وأخبرهم بأنه جعلهم خلائف وأجيالاً متعاقبة ليرى أعمالهم، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، فهو ناظر إلى عملك، مطلع على سريرتك، مطلع على أقوالك، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه سبحانه وتعالى أمرك أيها الإنسان بأن تنظر أنت أيضاً إلى صحيفة أعمالك، انظر اليوم فإن نظرك اليوم ينفعك، قبل أن تنظر غداً فلا يعود عليك النظر إلا بالندامة، نظران لك أيها الإنسان، إن فرطت في الأول ندمت عند الثاني، النظر الأول هنا في الدنيا، قال سبحانه في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    اتق الله في نفسك، فانظر في صحيفة أعمالك، وهون على نفسك هذا النظر، خفف على نفسك عناء المحاسبة، فانظر كل يوم، وانظر كل ليلة، وانظر كل شهر، وانظر كل أسبوع، فإن فرطت في هذا فلا أقل من أن تنظر كل عام، وإن بلغ منك الإفراط مبلغه، فانظر في عمرك مرة، انظر في صحيفة أعمالك، انظر في فرائض الله، هل ضيعتها؟ وفي محارم الله هل انتهكتها؟ انظر ما قدمت لنفسك، فإن نظرك اليوم ينفع إذا أتبعت ذلك النظر بالإحسان بأن تتوب من السيئة، وتتبع الحسنة بالحسنة، هذا النظر ينفعك لا محالة، فيخفف عليك الحساب غداً فلا تفاجأ، ولا يظهر لك من الله ما لم تحتسب، إذا حاسبت نفسك كل يوم أدركت أنك وقعت في خطيئة، فتدارك هذه الخطيئة، وصدق الحسن رحمه الله حين قال: إنما خف الحساب غداً على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب غداً على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، من أكثر المحاسبة لنفسه اليوم خف عليه الحساب غداً؛ لأنه بصير بما تحويه الصحائف، عليم بما حوته هذه الكتب، وقد تدارك منها ما استطاع أن يتدارك، فالخطب في حقه بإذن الله يسير، وهو ممن قال الله فيهم: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8].

    إنما يشق الحساب ويطول الموقف ويصعب الأمر على الذين أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، وكأنه لا أحد يراقبهم، وكأنهم لن يوقفوا يوماً ليسألوا عن أعمالهم، ( ولن تزولا قدما عبدٍ حتى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه ) سيسأل لا محالة عن كل لحظة، وعن كل دقيقة أين ذهبت منك تلك الليالي والأيام؟

    يقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر.

    خفف على نفسك طول المقام، ويسر على نفسك عسر الحساب.

    بأن تحاسب نفسك بنفسك، وكفى بنفسك حسيباً، وهكذا يقال لك يوم القيامة: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، فحاسب نفسك يا أخي اليوم لتتدارك ما فرط منك، فأنت خير رقيب على نفسك، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم القائم بهذه الوظيفة المحاسب لنفسه، بأنه الكيس، الرجل العاقل، الرجل الحاذق، الرجل الفطن هو من يتولى هذه المهمة من نفسه، قال عليه الصلاة والسلام، وإن كان في الحديث مقال: ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت )، (من دان) يعني: من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، ( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )، الأماني باطلة، وأكثر الأماني ظنون، وقد قال الله في كتابه: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].

    سنة الله في الخلق جارية أنه يجازي الناس بأعمالهم، وحسن الظن بالله يستلزم حسن العمل، وقد قال الحسن حين قيل له عن بعض الناس الذين يفرطون في الأعمال الصالحة تحت زعم إحسان الظن بالله، وأنه غفور رحيم، قال: (كذبوا، لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل)، ما ظنك بالله؟ أتظن أنه سبحانه لا يغضب حين تنتهك محارمه؟ أتظن أنه سبحانه وتعالى لا ينتقم ممن يتعدى حدوده؟ أتظن أنه سبحانه وتعالى لا يغار حين لا يبالي الناس بأوامره؟ ما ظنك بالله؟! أحسن الظن بالله لتحسن العمل، ولا تخدعك الأماني فالأماني غرور، لا يغرنكم الشيطان، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، انتبه لأماني الشيطان وخداعه، حاسب نفسك اليوم وانظر في صحيفة أعمالك قبل أن يأتي الموقف الأخير، وهو النظر إلى صحيفة الأعمال، لكنه إما أن يعود عليك بالمسرة، وإما أن يجلب عليك أنواع الحسرة والندامة، قال عليه الصلاة والسلام وهو يصف الإنسان يوم القيامة: ( ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه، فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمره )، قال تعالى: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

    ذاك النظر لا يفيد إلا حسرة وندامة على المفرطين المضيعين الغافلين، نظر لا يعود عليك إلا بأنواع من الحسرة، فانظر في صحيفة أعمالك اليوم قبل أن تندم غداً، فـ(الكيس من دان نفسه).

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    آليات محاسبة النفس

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! هذه المحاسبة لن تكون صحيحة إلا إذا توفرت في المحاسب آليات، فإن الناس جرت عادتهم ومضى عرفهم بأنهم لا يولون الحسابات إلا من يتقنها، ومحاسبة النفس أشد وأعسر من محاسبة الشريك الخوان، والمؤمن أشد محاسبة لنفسه من محاسبة الشريك لشريكه الخوان، ولشريكه الشحيح البخيل، هذه المحاسبة تحتاج إلى آليات لتكون محاسبة صحيحة:

    العلم بالحلال والحرام

    أولها: العلم بالحلال والحرام، فإن الإنسان لا يفلح في حساب نفسه إذا كان لا يدري ما هو الحلال لها وما هو المحرم عليها، كيف يدرك أن النفس أخطأت، وأنها قد قصرت؟ إذا كان لا يدري أين مواطن الخلل، وما هي مواضع التقصير، فلا بد من علم بما أوجبه الله عز وجل عليك، وحرمه عز وجل عليك، ومنعك منه حتى تحاسب نفسك وفق ذلك العلم، وإلا خبط المحاسب خبطاً عشوائياً، وكم من الناس يظنون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا تبدت صحائف الأعمال بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

    فالعلم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بالقدر الواجب منها، الذي يلزمك الوقوف عليه أمر في غاية الأهمية لإتقان الحساب.

    معرفة حقيقة النفس

    والأمر الثاني: أن تعرف حقيقة نفسك، وأن تدرك أنها مكمن السوء، ومخزن الفواحش، ومحل الجهل والظلم، فإذا أدركت حقيقة نفسك أمكنك فعلاً أن تحاسبها حساباً صحيحاً، وإذا أحسنت الظن بنفسك وأنها سليمة فإنك لن تتقصى الحقائق وراءها، وقديماً قيل:

    وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

    فإذا عرفت نفسك حقيقة وأنها ظالمة جاهلة أمارة بالسوء، تقودك إلى كل هلاك، وتجرك إلى كل رذيلة، ولا تنصحك، ولا تمحض لك النصيحة، إذا أدركت هذه الحقيقة سهل عليك أن تحاسبها، وأنت يقظ حذر من مغالطها، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].

    التكاليف الشرعية على اختلافها عرضت على السماوات، فبكت السماوات وخافت منها، وعرضت على هذا الإنسان فتحملها بيسر وسهولة، وما ذلك إلا لظلمه وجهله، وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فهي تحتاج إلى عدل لإزالة الظلم، وتحتاج إلى علم لمحو ذلك الجهل، وبغير ذلك لن تجرك إلا إلى الهلاك، فأحسن معرفة نفسك، ومعرفة ربك، فإنك مهما فعلت في حق الله، فلن تبلغ عشر معشار ما يجب له عليك، الملك يسجد لله سجدة طويلة، لا يرفع رأسه إلا حين ينفخ في الصور، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وأنت تتمن وتتفضل على الله، وتتطاول على خلق الله، إذا فعلت حسنة من الحسنات، اعرف نفسك، واعرف ربك، حتى تستطيع محاسبة نفسك.

    معرفة الهدف من محاسبة النفس

    والآلية الثالثة التي لا بد منها أيضاً في المحاسبة: أن يكون الإنسان على بصيرة بأن هذه المحاسبة ليست مطلوبة لذاتها، إنما تطلب لما يترتب عليها من المحاذير الشديدة، أما أن يحاسب الإنسان نفسه ثم يتركها بعد ذلك دون عقاب على السيئة، ودون شكر على الحسنة فلا، فإذا حاسبت نفسك وأدركت في صحيفة أعمالك حسنة، فأتبعها بالحسنة حتى تثبتها، واسأل الله أن يحفظها لك حتى تلقاه بها، وإذا أدركت سيئة فإن العقل والحزم يقضيان بأن تبدل تلك السيئة حسنة، وأن تسعى في محو تلك السيئة من صحيفة عملك، وإلا لماذا حاسبت نفسك؟ وهذا أمر سهل يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ).

    من رحمة الله بنا أنه يبدل سيئات التائب حسنات، وهذا من عظيم فضله سبحانه وتعالى، فما عليك إلا أن تندم على فعل السيئة، وتعزم على ألا ترجع إليها في المستقبل، وتترك فعلها الآن، فإذا فعلت هذا وعدك الله بأن يبدل تلك السيئة حسنات، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]، إذا كانت المحاسبة لذاتها، لا لتبديل السيئات بالحسنات، فإنها لن تزيدك إلا استكثاراً من حجج الله عز وجل عليك.

    الحذر من القنوط واليأس

    وهنا محذور أيها الأخ الكريم! ينبغي أن تنتبه منه، وهو أن المحاسبة والوقوف على صحيفة الأعمال لا يجوز أبداً أن تجرك إلى اليأس والإحباط مهما بلغت ذنوبك، ومهما كثرت سيئاتك، وعظم تفريطك، فإن الله أدخل الجنة رجالاً أحسنوا قبل مماتهم بلحظات، فقد جاء رجل فأسلم في غزوة أحد أو في غيرها من الغزوات، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقاتل مع المسلمين فقتل في نفس المعركة، فأدخله الله الجنة، ولم يسجد لله سجدة، اللحظات الأخيرة من عمرك هي الوجه الذي تلاقي الله عز وجل به، فمن ختم له بخير فذاك السعيد، لكن المشكلة أن الواحد منا لا يدري أين الخاتمة، ومتى النهاية؟ ومتى يزول عن هذه الدنيا ويفارقها؟ ومن ثم فهو مطالب بإحسان العمل في كل لحظات عمره، لكن الإساءة مهما كثرت، والعصيان مهما دام وطال عمره، لا يجوز أبداً أن يجر المؤمن إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، فإن الله لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه ذنب، ففي كتابه الكريم لو قرأناه بتدبر فإننا نجد أن الله دعا أصناف المذنبين الكفار، اليهود، النصارى، الذين قاتلوا الأنبياء، والسراق، والزناة، والمرابين، وكل أصناف المجرمين، دعاهم في آيات كتابه إلى التوبة، ووعدهم بإصلاح أحوالهم ومحو ذنوبهم، اليوم أنت تدعى إلى إصلاح صحيفة عملك، فإن فرطت فإنما على نفسها تجني براقش.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها، اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا برحمتك يا أرحم الراحمين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755924209