إسلام ويب

الرباللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الربا جرم عظيم، وباب مفتوح للحرب مع الله، وصاحبه متوعد بأشد العقوبات في الدنيا والبرزخ والآخرة، وما إفساد الربا لمظاهر الحياة المعاصرة وذهاب الأموال وتشريد أصحابها إلا سنة من سنن الله ويوم من أيامه يعاقب فيها أهل الربا ولو كانوا كفاراً، وعلى المسلم أخذ العبرة والعظة فإن الله لا يحابي أحداً من خلقه عند وقوع الذنوب والمعاصي.

    1.   

    عظم جرم متعاطي الربا

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ذكر الإمام الخطيب الشربيني رحمه الله تعالى في أحد كتبه في فقه الشافعية رواية عن الإمام مالك ، وعزاها إلى الإمام السبكي ، يقول: جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقال: يا أبا عبد الله ! رأيت رجلاً يتقافز يريد أن يمسك القمر بيده، يعني: رجل اختل عقله بسبب شربه للخمر، فهو يقفز يريد أن يمسك القمر بيده، فقال هذا الرجل الذي رآه: امرأته طالق إن كان هناك شيء أشر من الخمر يدخل جوف ابن آدم. فذهب إلى الإمام مالك يستفتيه عن هذه المسألة: هل زوجته طالق، أخطأ فطلقت الزوجة، أم أصاب والمرأة لا تزال زوجته، فقال له أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله: ارجع حتى أتفكر في مسألتك، فجاءه من الغد، فقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لقد تدبرت كتاب الله وسنة رسوله، فوجدت الربا شر من الزنا، وامرأتك طالق. وجدت الربا شر من الزنا، هذا ظواهر النصوص في كتاب الله، وظواهر النصوص في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

    المرابي في حالة حرب مع الله

    الله جل شأنه لم يعلن الحرب في كتابه، ولم يعلن الحرب على لسان رسوله إلا على نوعين من الذنوب:

    الذنب الأول: ذكره في القرآن وهو الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، يعني: أعلمكم بأنني معكم في حرب.

    والذنب الآخر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، الربا أعظم إثماً عند الله جل شأنه من الزنا وأعظم ضرراً، هكذا قال عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث من أحاديث سنته الصحيحة، يقول كما روى البيهقي وصححه غير واحد من أهل العلم، يقول عليه الصلاة والسلام: ( الدرهم من الربا يصيبه الرجل أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم )، ويقول في حديث آخر رواه الحاكم و الطبراني وغيرهما وصححه غير واحد: ( الربا اثنان وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ).

    لعن المرابين

    لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اتصل بالربا وأعان عليه، فقال كما في صحيح مسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء )، كل من شارك في هذا العقد المحرم وأعان عليه فهم سواء في لعنة رسول الله.

    1.   

    آيات الله في المرابين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ذهاب الأموال والتشريد لأهل الربا

    إخوتي في الله! ومع ظهور هذه العظة والعبرة، هذا اليوم من أيام الله الذي حل بالعاصين، الذي حل بالمحاربين، ذهبت أموالهم، وشردوا من دورهم، أكثر من اثنين مليون شردوا من بيوتهم في الولايات المتحدة بسبب هذه الأزمة، هذا العدد قريب من تلك الملايين التي شردت بسبب ظلمهم في أقطار أخرى، قريب من ذلك العدد الذي شرد في أفغانستان، ونصف العدد أو ضعف العدد هو الذي شرد على أرض العراق، إنها أيام الله، أيام الله التي ينال بها من حاربه، ينال بها من عاداه، ينال بها من عانده، المسلم مأمور بأن يتعظ بهذه الأيام، والله عندما أرسل نبيه موسى قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5]، فالله جل شأنه ينزل بالعصاة أنواعاً من العقوبات ليتعظ الإنسان ويعتبر، لكن بعض الناس لشدة العماية، وكما قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

    وبعض الناس كلما رأى آية، كلما رأى عبرة حاول أن يصرفها عن موطن الاهتداء والاعتبار والاتعاظ، وكلما رأى آية من آيات الله حاول أن يجد لها أنواعاً من المبررات، وأنواعاً من التفسيرات، ويرفع بعضهم أصواتهم بملء فيهم، يتحدثون عن هذا النظام ويدافعون عنه، وأنه ليس السبب هو الربا، وليس السبب لأنه رأسمالي، وأن الرأسمالية ستستعيد عافيتها، وهب أن الرأسمالية ستستعيد عافيتها، وهب أنها ستعود إلى أحسن مما كانت عليه، وهب أنها سترجع إلى وضع أقوى مما كانت فيه، ألا تعتبر بكل هذه النكبات التي تعرضوا لها، أليست هذه خسائر! أليست هذه مصائب! ذهبت أرواحهم وذهبت أموالهم، وذهبت سكينتهم، بل وذهبت عقول بعضهم، أليست هذه آية من آيات الله لمن فعل هذه المعصية، ولمن ارتكب هذا الذنب.

    إن الله جل شأنه في كتابه يخبر عن أعدائه منذ قديم الزمن بأنهم كلما رأوا آية من آيات الله صرفوها عما هي عليه، الكفار في مكة كان يأتيهم النبي عليه الصلاة والسلام بكل دلائل الصدق، بكل معجزات النبوة، ومع ذلك كلما أتاهم بآية حاولوا أن يجدوا لها أنواعاً من التبريرات، فأخبر عنهم سبحانه وتعالى قال: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، لو فتحنا لهم باباً من السماء فظلوا يصعدون فيه وينزلون لما قالوا بأن محمداً صادق وأن دينه حق، وأن هذا لا يقدر عليه الإنسان.

    لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، ما هذا إلا سحر ولسنا نعيش حقيقة، نحن لا نصعد في السماء ولا ننزل، لا ندخل فيها ولا نخرج، بل نحن قوم مسحورون.

    وأخبر سبحانه وتعالى عمن مضى، أخبر عن قوم فرعون ومن قبلهم بأنهم يأخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، حتى إذا انكشفت عنهم الضراء قالوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]^، هذه عادة الأيام، وهذه عادة الزمن، تحيط بالناس النكبات والمصائب فتنزل بهم المصيبة، ثم يرجعون إلى ما كانوا عليه أو أحسن، قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]^ ونحن مثلهم.

    وهكذا يقول من عمي عن الاتعاظ والاعتبار بأيام الله: قد مس آباءنا الضراء والسراء.

    اعتبار المسلم بأيام الله وعقوباته على الأمم

    جدير بالمسلم أن يعتبر بهذه الأيام، وأن يعلم بأن قانون الله عز وجل واحد، فإنه سبحانه وتعالى إذا أراد عقاب العاصين لا يفرق بين لون ولون، ولا جنس وجنس، ولا أهل لغة ولغة، قال سبحانه وتعالى وهو يتكلم مع قريش بعد أن قص عليهم أخبار من مضى، قال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، أنتم لماذا تبتعدون بأنفسكم عن العقوبة، أتظنون بأنكم خير من الأمم السابقة التي نزل بها ما نزل من أيام الله، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43].

    إنه ما من أحد إلا وهو معرض لهذه العقوبات، فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر:51]، هذه سنة الله عز وجل في العباد، على المسلمين أن يتعظوا ويعتبروا، إنهم بحاجة أولاً أن يردعوا أنفسهم عن هذه الآفة، ويعتبروا بما حل بغيرهم، وهم بحاجة ثانياً إلى أن يرفعوا أصواتهم ليروا العالم هداية الله عز وجل التي بين أيديهم، والله سائلهم عنها، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم يا حي يا قيوم! اللهم يا حي يا قيوم! اللهم يا حي يا قيوم! انصر عبادك المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))[النحل:90].

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    عقوبات أهل الربا

    وأهل الربا متوعدون بأشد العقوبات في دنياهم، وفي برزخهم، ويوم يبعثون، ثم في دار المستقر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، متوعدون بالعقوبات في مراحل حياتهم.

    عقوبة أهل الربا في الدنيا

    أما في حياتهم الدنيا فإن الله توعد المرابين بالمحق: المحق في بركة أعمارهم، والمحق في أموالهم، والمحق في ذرياتهم، المحق في سكينة النفوس وطمأنينتها، المرابي أعظم الناس قلقاً، المجتمعات التي تعيش على الربا وتأكل من الربا هي أكثر المجتمعات قلقاً وأقلها سكينة وطمأنينة، منها ينبع إلى كل العالم، منها يتفجر إلى كل العالم القلق، يفرون مع ضخامة ما هم فيه من العوامل الاقتصادية، يفرون من حياتهم، ويفرون من بيوتهم، ويفرون من أنفسهم، يريدون في الأخير أن يفروا من أنفسهم ومن أرواحهم، فتكثر فيهم حالات الانتحار ما لا تكثر في غيرهم، محق في أعراضهم، أعراضهم غير مصونة، محق في ذرياتهم، لا يستطيع الواحد أن يحكم ابنه أو بنته، محق في جميع مظاهر حياتهم، وهذا مصداق لقول الله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].

    موعودون بالمحق، وهذا وعد الله الذي لا يتخلف، وبه نطق النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه، فقال: ( إن الربا وإن كثر عاقبته إلى قل )، نهايته إلى قل، وطالما تبجح الرأسماليون، وطالما تبجح أذناب الحضارة الغربية، وطالما تطاولوا على من يعظهم ويهددهم وينذرهم بتلك المؤسسات الضخمة التي يتباهى العالم الغربي بقوة رأس مالها، طالما تفاخروا بتلك المؤسسات النقدية الكبيرة التي تحقق مئات المليارات من الأرباح، طالما تفاخروا بها، وطالما رفعوا بها رءوسهم، وطالما تبجحوا بهذا الاقتصاد الذي يدر عليهم كل تلك الدولارات، وها هم اليوم يرون بأمهات أعينهم آثار المحق: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].

    وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].

    عقوبة أهل الربا في البرزخ

    متوعدون بالعقاب في حياة البرزخ، وهذا ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري في حديث سمرة الطويل الذي رأى فيه عليه الصلاة والسلام أصنافاً من الذين يعذبون في برزخهم، وكان مما رأى كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أتاني ملكان فذهبا بي إلى الأرض المقدسة، فمررت على نهر من دم، وإذا فيه رجل يسبح، كلما جاء إلى الشاطئ وجد رجلاً يقف على الشاطئ وبين يديه حجارة، كلما اقترب من الشاطئ ألقمه في فيه حجراً فرجع حيث كان، ولا يزال يعذب بهذا العذاب حتى يبعث الله عز وجل الناس يوم القيامة للحساب )، وإذا بعثوا للحساب كان المرابي من أوضح الناس عقوبة، كما قال الله جل شأنه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، وفسرها النبي عليه الصلاة والسلام بأوضح تفسير، وبأجلى بيان، فأخبر عليه الصلاة والسلام بأن المرابي يقوم يوم القيامة مجنوناً، يعني: يبعث يوم القيامة يتخبط كما يفعل المجانين، لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

    عقوبة أهل الربا في الآخرة

    ثم هم بعد هذا متوعدون بعقاب الله عز وجل في نار جهنم.

    قال سبحانه وتعالى بعد هذه الآية: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، هم خالدون في نار جهنم إذا قالوا بأن الربا حلال، هم خالدون في نار جهنم مع فرعون وقارون وهامان إذا قالوا بأن الربا مباح؛ لأن هذا تكذيب لكتاب الله، تكذيب لرسول الله، وهم متوعدون في النار إلى ما شاء الله، إن ماتوا مقرين معتقدين أنه حرام ولكنهم فعلوه متوعدون بالعقاب في نار جهنم.

    هذه بعض مظاهر الحرب التي أعلنها الله جل شأنه على آكلي الربا، على هؤلاء الذين يعيشون على امتصاص دماء الفقراء وأكل لحومهم.

    1.   

    الربا في الحياة المعاصرة

    إفساد الربا لجميع مظاهر الحياة

    الربا في الحياة المعاصرة أوضح وأبين حجة على فساده، الحياة المعاصرة في جميع مظاهرها:

    الحياة الاقتصادية التي نراها كل يوم تزداد غلاءً في المعيشة، التي نرى كل يوم تضخماً في الأسعار، والاقتصاديون أنفسهم يقولون: بأن من أعظم أسباب التضخم زيادة الفائدة، كلما زاد سعر الفائدة زاد التضخم، هكذا يقول أهل الشأن. الحياة الاقتصادية مهددة بالركود، مهددة بالكساد، والفقراء مهددون بازدياد الفقر، والجائعون مهددون بازدياد الجوع، وكل ذلك بسبب هذا النظام الجائر الظالم الذي يقوم على الربا ليشبع منه الألوف، ويجوع على أثره المليارات.

    الحياة اليوم حياة الناس الحياة الاجتماعية تعيش أنواعاً من الخلل بسبب هذا النظام المالي الجائر الظالم، اليوم رجال الأعمال يزدادون شرهاً إلى شرههم، وجوعاً إلى جوعهم، كلما حقق المرابي تلالاً وجبالاً من الأرباح انفتحت نفسه إلى المزيد، فتراه في الأخير رجلاً شحيحاً، رجلاً بخيلاً، رجلاً أنانياً، لا يفكر إلا بنفسه، ولا يتفكر إلا كيف تزيد أرصدته، ولا يبالي بعد ذلك أن ذهب الناس في جحيم الجوع، أو ذهبوا في مهاوي الردى والهلاك. هذا أثر من آثار الربا على حياة الإنسان الاجتماعية، وعلى حياته الأخلاقية.

    الربا اليوم من أعظم المظاهر لفساد الحياة السياسية، دول بأكملها تعيش أنواعاً من الذل، تعيش أنواعاً من الاستعباد، يتحكم بمصيرها ويأخذ بقرارها أولئك المرابون الذين يعيشون في تلك المكتبات الضخمة، يعيشون ليتحكموا بمصائر العالم، دول بأسرها لا تستطيع أن تقول قرارها، ولا تستطيع أن تخدم شعوبها؛ لأن مصيرها مرتهن بتلك الديون الضخمة التي ما هي إلا أثر من آثار الربا.

    إباحة الربا مخالف للشرائع السماوية

    الربا أفسد على الناس حياتهم في جميع مشاهد الحياة، في جميع مظاهر الحياة، وهيهات هيهات أن تأتي شرائع السماء بإباحة مثل هذه الرذيلة، تواطأت الشرائع السماوية، القرآن والتوراة والإنجيل، والأنبياء جميعاً تضافروا وتواتروا على تحريم هذه الآفة، هكذا يخبرنا القرآن، يتوعدهم سبحانه وتعالى في سورة المائدة، يتوعد الذين مالوا عن الصراط المستقيم من اليهود، ويخبر سبحانه وتعالى بأنه أنزل بهم عذابه ومقته، فيقول: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:161]، قد نهوا عن الربا في التوراة، ونهوا عن الربا في الإنجيل، وجاء القرآن ليتمم المشوار، جاء القرآن ليبني حياة نظيفة صحيحة على ما سبق من آثار النبوات وآثار الرسالات، فليس بدعاً من القول، الذين يكتبون اليوم للمقارنة بين القرآن وبين الكنيسة، الذين يريدون إيجاد محاولة للانفصام والانفكاك بين الإسلام والنصرانية، بين الإسلام واليهودية في مسألة الربا واهمون مخطئون، الديانات الصحيحة التي لم تحرف ولم تبدل تواطأت على تحريم هذه الآفة، لما فيها من مفاسد، لما فيها من مهالك، لما فيها من مساوئ، لكن لما حرف المحرفون أديان الله لأهوائهم ولمصالحهم صاروا يبيحون الربا لشخص ويحرمونه على شخص.

    فاليهود يبيحون الربا إذا تعامل اليهودي مع غير أبناء جنسه، ويحرمونه إذا تعامل مع ابن عمه، إذا تعامل مع اليهودي مثله فالربا حرام، وإذا تعامل مع غير يهودي فالربا من أحل الحلال، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، يعتقدون أنه ليس عليهم سبيل، وليس عليهم حجة إذا ما أكلوا أموال الناس غير اليهود، لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، لما حرفوا دين الله وبدلوه، ظهرت هذه الآثار، وظهر هذا الانفصام بين الإسلام وبين تلك الديانات، وإلا فإن الله جل شأنه يحرم الربا في جميع رسالاته، وينهى عنه لما فيه من المظالم.

    نظرة دهاقنة الاقتصاد إلى الربا

    اليوم أيها الإخوة! أرباب الاقتصاد الغربي وأساتذة وأباطرة الربا هم بأنفسهم يشهدون بأنه لا مخرج للعالم إلا بالرجوع إلى التعاليم الإسلامية والأحكام الإسلامية، لا نقول هذا تفاخراً فإن الله جل شأنه الذي خلق الناس وخلق البرية، وضع لها القانون وليس نحن، الله الذي خلق هذا الإنسان وضع له النظام الذي يسير عليه، ولكننا نرفع أصواتنا، نرفع عقيرتنا لأبناء جلدتنا أولاً، ولمن يريد الاهتداء بهدي الله أن الهدى هدى الله، أن الخلاص في شريعة الله، أن النجاة في التزام ما قرره الله، ما جاء به الله، وبهذا تنجو البشرية من ألوان الشقاء والتعاسة والضيق.

    اليوم كبرى الصحف الغربية في هذه الأزمة تنادي بالرجوع إلى ما قررته الشريعة الإسلامية، يقول أحدهم: أظن بأننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل، لفهم بما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود.

    ويقول آخر وهو رئيس تحرير صحيفة لوجارنال في افتتاحية أحد الأعداد: تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.

    وتقول إحدى الباحثات وهي الباحثة الإيطالية لوريتنابوليوني في كتاب صدر لها مؤخراً: المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام، وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن المصرفي التقليدي بدأ يظهر تصدعاً ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة.

    قبل عقدين من الزمان يقول الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد موريسألي فيما يتعلق بمعالجة الأزمة المديونية والبطالة: الخروج من الأزمة وإعادة التوازن له شرطان، هما: الأول: تعديل الفائدة إلى حدود الصفر، ومراجعة معدل الضريبة لما يقارب اثنين في المائة. يريد الخروج من أزمة الاقتصاد الغربي برمته، قبل عقدين من الزمان، قبل أكثر من عشرين سنة، ويقول: لهذا الحل شرطان:

    الأول: إلغاء الفائدة وإيصالها إلى الصفر، ومعنى ذلك إلغاء الربا، إنهاء الربا، إيصال سعر الفائدة إلى الصفر.

    والثاني: تعديل الضريبة، يعني: الأخذ من الأغنياء وإعطاء الفقراء، تعديل الضريبة لتصل إلى اثنين في المائة، وهذا قريب من ربع العشر الذي نأخذه في الفقه الإسلامي، اثنين ونصف في المائة، إنها مناداة إلى الالتزام بأحكام هذه الشريعة، بغض النظر صدقوها أم لم يصدقوها.

    ما أحوجنا نحن أولاً معشر المسلمين أن نقيم هذا الشرع في أنفسنا، وأن نتيقن، كفانا تعامياً، كفانا إغلاقاً لآذاننا عما يحل بمن حولنا، كفانا تعامياً عن عبر الله عز وجل وعظاته، وآن الأوان لأن نرجع إلى رشدنا.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756373075