إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [7]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أمة الجن من الأمم العظيمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فهم في أعدادهم يزيدون على الإنس، وقد فرض الله عليهم التكاليف كما فرضها على الإنس، وهم بعد ذلك يشتركون مع الإنس في الأكل والشرب والتناكح، وبما أنهم خلق من خلق الله فهم أيضاً يموتون كما جرت سنة الله عز وجل في حق سائر خلقه.

    1.   

    مجمل المباحث المتعلقة بالجن

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي ، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا في المواعظ السابقة: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، وأورد الترمذي في هذا الباب حديثاً واحداً من طريق شيخه هناد بن السري إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن).

    قال أبو عيسى عليه رحمة الله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وكما هي عادتنا في مدارسة الحديث نتكلم على تراجم رجال الإسناد، وعلى تخريج الحديث وبيان درجته، وعلى تخريج الروايات التي أشار إليها الترمذي وفي الباب، وقد مضى الكلام على هذه المباحث الثلاثة، وشرعنا في مدارسة المبحث الرابع ألا وهو فقه الحديث، وقلت: إن الحديث أثبت أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، ولذلك نهينا عن الاستنجاء بطعامهم، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن فنحن منهيون عن الاستنجاء بطعام الإنس من باب أولى كما سيأتينا في المبحث الثالث من فقه الحديث إن شاء الله.

    وقلت: هذا الأمر لا بد له من تفصيل ضمن ثلاثة مباحث:

    أولها: في خلق الجن ووجودهم، وقد تقدم الكلام معنا في ذلك مفصلاً بأدلته، وخلاصة ما تقدم: أن الجن موجودون مخلقون، كما هو الحال فينا، خلقهم الله جل وعلا وأوجدهم، وخلقتهم تختلف عن خلقتنا، وقلت: من أنكر وجودهم، أو أول وجودهم بما يؤدي إلى إنكار وجودهم فقد أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وبالتالي لا شك في كفره.

    والمبحث الثاني: في تكليفهم وجزائهم، وقد انتهينا من مدارسته فيما مضى أيضاً، وخلاصة ما تقدم: أن الجن مكلفون بالإجماع، كما كلفنا نحن، إلا ما قام عليه دليل التخصيص فيما يخالفوننا فيه أو نخالفهم فيه، وقلت: نتج عن هذا التكليف انقسامهم إلى موحد وكافر ملحد، والموحدون أيضاً إلى طائعين وإلى عاصين كما هو الحال فينا تماماً، وقلت: هذا لا خلاف فيه، وهو معلوم من الدين بالضرورة.

    والشق الثاني من المبحث الثاني: جزاؤهم، فقلت: عندنا محل إجماع واتفاق ألا وهو فيما يتعلق بكافر الجن فهو في النار بالاتفاق، وأما طائع الجن فقد اختلف العلماء في ذلك إلى ستة أقوال أرجحها وأولها: أن طائعهم كطائع الإنس، فكما أن العاتي من الجن يدخل نار الجحيم، فالمطيع الموحد من الجن ينعم في جنات النعيم، وقلت: هذا هو الذي دلت عليه خمسة أدلة قررتها فيما مضى: العمومات، والعقل، وآثار الصحابة، ونصوص خاصة من آيات القرآن المجيد، واستقراء الشرع المطهر يدل على هذه القضية، فمن استقرأ النصوص الشرعية لم يرتب بأن موحد الجن في الجنة، كما أن كافرهم في النار.

    والأقوال الأخرى ذكرتها وبينت قيمة كل قول منها، وانتهينا من هذين المبحثين، ووصلنا إلى المبحث الثالث ألا وهو وجوه الاختلاف بيننا وبينهم، وفي أي شيء يتفق الإنس مع الجن؟ والبحث سار فيه شيء من الطول، فهم أمةٌ وعالم نبحث فيهم ولعل عددهم يزيد على عددنا، فلا بد من أن نأخذ فكرةً مفصلةً بعض الشيء عنهم، لا سيما في المبحث الثالث وتفاصيله التي تأتي معنا؛ لأنه يجري كثير من الكلام حولهم دون بينة ولا برهان، فلا بد من أن نكون على علم بهذه القضية.

    الأمر الأول: ما نستوي فيه معهم فسأذكر أربعة أمور فقط:

    أولها: نستوي معهم في الخلق والموت، فنحن مخلوقون وهم كذلك، ونحن نموت وهم كذلك.

    والثاني: نستوي معهم في التكليف ويستوون معنا في ذلك.

    والثالث: نستوي معهم ويستوون معنا في انقسام المكلفين إلى موحدين وملحدين، وطائعين وعاصين.

    ونستوي معهم ويستوون معنا في دخول العصاة منا نار الجحيم ومنهم كذلك، ودخول الطائعين منا جنات النعيم ومنهم كذلك.

    هذه أربعة أمور سأقررها وأتكلم عليها، وما مضى الكلام عليه لا داعي للكلام فيه، وإنما أذكرها واحدةً تلو الأخرى.

    والأمر الثاني: ما نختلف فيه عنهم، ويختلفون فيه عنا سأذكر أربعة أمور أيضاً:

    أولها: عنصر خلقهم، فهم مخلوقون ونحن مخلوقون، لكن مادة خلقهم وعنصر خلقهم يختلف عن عنصر خلقنا، وترتب على هذا أمر ثان يختلفون فيه عنا ألا وهو: رؤيتهم لنا دون رؤيتنا لهم.

    والأمر الثالث: قدرتهم على التشكل حسبما جعل الله في طبيعتهم، فيتشكلون بأشكال مختلفة، وليس هذا في وسعنا.

    ورابع الأمور: طعامهم وشرابهم يختلف عن طعامنا وشرابنا كما سيأتينا.

    الأمر الثالث: صلتنا بهم وصلتهم بنا، سأقتصر أيضاً على أربعة أمور، وكما قلت: هذا اثنا عشر أمراً لا بد من الكلام عليها.

    أول هذه الأمور التي تتعلق بصلتنا بهم قلت: استعانتنا بهم، هل يجوز أن نستعين بالجن في أمور مباحة، وأن نطلب منهم المعونة؟

    وثاني الأمور: مناكحتهم، أقصد مناكحة الإنسي للجني والعكس، دون حصول المناكحة فيما بينهم فهذا متفق عليه كما سيأتينا ضمن مراحل البحث.

    والأمر الثالث: تلبسهم بالإنسي، وصرعهم له، هل هذا يقع؟ وما هو الحكم في ذلك؟.

    وآخر الأمور: بم نتحصن من العاتي المارد العفريت الشرير الشيطان من الجن؟ أختم مبحث الجن بهذا إن شاء الله.

    فلنتدارس هذه الأمور إخوتي الكرام على الترتيب.

    أولها كما قلت: خلقهم وموتهم.

    1.   

    مما يستوي فيه الإنس والجن: الخلق

    الجن مخلوقون مربوبون، كما أننا مخلوقون مربوبون، بل كل من عدا الله مخلوق، وإنما ذكرت هذا وهو معلوم بداهةً، لأبين أن هذا الصنف من العالم فقير إلى الله الجليل كما هو الحال فينا، وكما هو الحال في العجماوات، وكما هو الحال في الجمادات، فكل من عدا الله إليه فقير، ولا يوجد أحد يتصف بصفة الغنى الذاتي إلا الله جل وعلا، كما أن كل من عداه يتصف بصفة الفقر الذاتي، فالجن مخلوقون مربوبون، لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم نفعاً ولا ضراً- والله هو الغني سبحانه وتعالى عن العالمين، وأخص وصف في الإله: الغنى، كما أن أخص وصف في المخلوق: الفقر، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]؛ ولذلك فالعلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه من عرشه إلى فرشه فقر العالم، واحتياج الفقير إلى الغني، وليست العلة خلقهم، وليست العلة إمكان خلقهم، أي: حدوثهم أو إمكان الحدوث، كما يقول الفلاسفة والمتكلمون، وقررت هذا مراراً، إنما العلة في احتياج المخلوقات بأسرها إلى فاطرها أنها فقيرة والله غني، والفقير لا بد من أن يأوي إلى الغني، والحدوث هو الخلق.

    وللحدوث علامتان وأمارتان ودلالتان على الفقر، وليستا بعلتين لاحتياج العالم إلى خالقه، فالخلق حادث مخلوق ليس بأول أزلي، وليس بأبدي، فهذا دليل على فقره.

    فإن كان الحدوث فيه تصور وجوده وعدمه، فهذا دليل على فقره، أما الغني سبحانه وتعالى فلا يتصور عدمه جل وعلا، وهو الله جل وعلا خالق كل شيء.

    إذاً: الجن حالهم كحالنا مخلوقون مربوبون، وقد تقدم معنا شيء من تقرير هذا فيما مضى، وذكرت بعض الآيات التي تدل على ذلك، قال الله جل وعلا في سورة الحجر: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:26-27]، فنحن مخلوقون وهم مخلقون.

    وقال جل وعلا في سورة الرحمن: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15].

    وتقدم معنا الحديث الثابت في المسند وصحيح مسلم وغير ذلك، وكنت قد بينت تخريجه فيما مضى من رواية عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، أي: من طين ومن صلصال كالفخار.

    دخول الجن في معنى العالمين

    نعم: الجن عالم، كما أن الإنس عالم، والله جل وعلا هو رب العالمين وسيدهم ومالكهم وخالقهم، فهو الذي يدبر شئونهم، فالحمد لله رب العالمين سبحانه وتعالى.

    والعالمين جمع عالم، وسمي بهذا الاسم لأنه مأخوذ من العلامة؛ فهو علامة على خالقه وموجده وفاطره، فلا يستغني بنفسه عن خالقه طرفة عين، ولذلك هذه المخلوقات تدل على خالقها وموجدها، ورحمة الله على أبي العتاهية عندما يقول:

    فيا عجباً كيف يعصي الإله؟! أم كيف يجحده الجاحد؟!

    وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

    إذاً: العالمين جمع عالم، والعالم كما قال النووي في شرح بداية كلام مسلم : الحمد لله رب العالمين، قال: المختار عند الجماهير من أهل التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات كلها، فلا يوجد مخلوق إلا ودخل في لفظ العالم، فإذا كان كذلك، فلم جمع العالمين؟ جمع باعتبار تعدد أنواع العوالم، والعوالم كثيرة، الإنس عالم، والجن عالم، وهما الثقلان كما تقدم معنا، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31].

    وعوالم الله ومخلوقات الله كثيرة تصل إلى ألف عالم، ستمائة عالم منها في البحر، وأربعمائة عالم منها في البر، فعوالم البحر أكثر من عوالم البر، وقد روي هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي الإسناد شيء من الضعف، رواه أبو يعلى في مسنده كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

    ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قل الجراد في سنة من سني عمر )، أيام خلافته قل الجراد في المدينة المنورة وفي جزيرة العرب وبلاد الحجاز (قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه، فأرسل ثلاثةً من الصحابة إلى ثلاث جهات يبحثون هل يوجد جراد أو انقطع من العالم، واحد إلى الشام، وواحد إلى اليمن، وواحد إلى العراق، فعاد رجلان ممن ذهب، وهما اللذان ذهبا إلى الشام والعراق، فقالا: لم نجد الجراد يا أمير المؤمنين، انقطع في بلاد الشام وفي العراق كما انقطع في بلاد الحجاز، وجاء الرجل الذي أرسله إلى اليمن بحفنة من جراد في ثوبه، فنثرها بين يدي عمر رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق ألف عالم، ألف أمة، ستمائة منها في البحر، وأربعمائة منها في البر، وأولها هلاكاً الجراد، فإذا هلك بعضها تتابعت كالنظام إذا قطع سلكه)، والنظام هو العقد، إذا قطعت خيطة السبحة فالحبة الأولى تسقط مباشرةً والبقية تتبعها، فحقيقةً الجراد على وجه الخصوص من العوالم قل، مع أنه كان كثيراً كثيراً كثيراً، وسبع غزوات غزا فيها الصحابة ليس لهم طعام إلا الجراد، فالجراد الآن قل وكان الجراد أيضاً يأتي كبيراً بحجم العصفور، فلو أكله إنسان يشبع، لو أكل عشر جرادات كأنه أكل طعاماً كثيراً من الطعام الذي نأكله، وهو لذيذ طيب عند من اعتاد عليه، وسألت كثيراً من الشيبان الذين يعيشون الآن وكانوا يأكلونه، فيقول: يا شيخ ما ألذه لما يأتي، (وأحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد)، سمك وجراد لا يشترط له تذكية، (وأما الدمان فالكبد والطحال).

    هذا الحديث رواه أبو يعلى ، وفي إسناده كما قال الهيثمي في المجمع عبيد بن واقد القيسي ، وهو ضعيف، وعبيد بن واقد من رجال الترمذي ولم يخرج له أحدٌ من أهل الكتب الستة إلا الترمذي ؛ ولذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وفي إسناد الحديث أيضاً شيخ عبيد ، وهو محمد بن عيسى الهلالي ، وهو ضعيف أيضاً، وما أشار إلى ذلك الهيثمي ، لكن أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره، فكل واحد تكلم على واحد، والتلميذ وشيخه ضعيفان من حيث الرواية.

    قال ابن كثير في تفسيره في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين: في إسناده محمد بن عيسى الهلالي وهو ضعيف، انظر ترجمة محمد بن عيسى الهلالي في ميزان الاعتدال في الجزء الثالث صفحة واحدة وثلاثين ومائة حيث نقل عن ابن عدي أنه أنكر عليه أحاديث منها هذا الحديث، وهذا الحديث يرويه عبيد بن واقد القيسي عن شيخه محمد بن عيسى الهلالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله .. إلى آخره.

    دخول الجن في مسمى الأشياء التي خلقها الله

    إذاً: الجن عالم من العوالم، وأمة من الأمم، كما أن الإنس أمة، والله خالق الأمم بأسرها، وهو رب المخلوقات كلها، فالحمد لله رب العالمين، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ومن هذا لا يخرج شيء على الإطلاق، فكل ما هو شيء فهو مخلوق.

    ومن باب تحريك الأذهان لو قيل: إن القرآن شيء، كما قال سفهاء المعتزلة: فيلزم أن يكون مخلوقاً بنص الآية: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وهذا مما استدلوا به على مخلوقية القرآن، وأنه مخلوق كسائر الكلام، وهذا من عمى قلوبهم وانطماس بصيرتهم، ومن تتبعهم للمتشابه وتركهم للمحكم، لكن إذا أوردوا شبهةً فليس يعني ذلك أن تروج علينا وما عندنا إزالةً لها.

    والجواب أننا نقول لهم: الله خالق أو مخلوق؟ إذا قالوا: مخلوق كفروا؛ لأنه لا إشكال في ذلك، وبأي شيء تتحقق ألوهيته وربوبيته؟ ولا يمكن وجود ذات مجردة عن صفاتها، فهذا لا يعقل، إذاً: من صفاته جل وعلا أنه خالق كل شيء، وصفات الله دخلت في لفظ الله، فالله تعالى بصفاته خالق كل شيء، فعندما نقول: فعل هذا مجرداً من صفاته، مجرداً من يديه، مجرداً من رجليه، مجرداً من سمعه، مجرداً من بصره، هل هذا يمكن؟ أو أن فعل هذا اسم مجموع له بجميع ذاته وصفاته.

    وعندما قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، لفظ (العبد) مقول على جميع ما في ذلك المخلوق من صفات وذات فدخلت الروح، ودخل اليدان، ومن قال: الإسراء بالروح فقط فنقول له: أنت تتلاعب بكلام الله؛ لأن معنى العبد ليس خاصاً بالروح، فالعبد بروحه وبدنه من رأسه لرجليه، أوليس كذلك؟ وهنا لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] الله لفظ الجلالة دخلت ذات الله وصفاته، ولا تعقل ذات من غير صفة.

    وعليه (الله خالق)، إذاً الله الخالق، (كل شيء)، يعني: من عدا الله من شيء، ولم يستثن شيء على الإطلاق، فلا يجوز أن نقول: تدمر كل شيء واستثني ما لا يدمر، والآية باقية على إطلاقها وعمومها ولا يخرج شيء منها، فكل من عدا الله مخلوق، وكان الله ولا شيء معه سبحانه وتعالى، فإن قيل: صفات الله دخلت، نقول: أنت لا تعي الكلام؛ لأن صفات الله دخلت في لفظ (الله) وليس في لفظ (كل)؛ لأنه لا يعقل أن يكون خالق ذات بلا صفات.

    وهذا جواب الإمام ابن عقيل الحنبلي الذي كان من المعتزلة ثم هداه الله وقصم رءوسهم عندما كان يناظرهم، ونقل عنه هذا الجواب ابن القيم في آخر كتابه بدائع الفوائد وقال: فائدة عزيزة الوجود، وهي أن صفات ربنا المعبود تدخل في لفظ الجلالة الله، وعليه لا إشكال في الآية على الإطلاق، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، كما أن قدرة الله ليست مخلوقة، وأن علم الله ليس بمخلوق، وأن سمع الله ليس بمخلوق، لأن هذه صفات قائمة في هذا الموصوف، ولا يعقل في الأصل ذات من غير صفة، ولذلك من أنكر الصفات يؤدي إنكارهم إلى تعطيل الذات، وتقدم معنا حالهم كما قال حماد بن زيد : حالهم كحال رجل قال: في بيتنا نخلة، فقيل له: لها ساق؟ قال: لا، قيل له: لها أغصان؟ قال: لا، قيل له: لها أقناء؟ قال: لا، لها ثمر؟ لا، لها أوراق؟ لا، قيل: ما في بيتكم نخلة، فنخلة ليس لها ساق، وليس لها أغصان، وليس لها أوراق، وليس لها ثمر، ليست نخلة، وإذا وجدت نخلة فلا بد من أن يكون لها ساق وأغصان وثمر وفروع، وهنا يقال لهذا المعطل: الله جل وعلا له يدان؟ يقول: لا، له سمع؟ نقول: لا، له كلام؟ يقول: لا، نقول: إذاً على كلامك لا وجود لله من نفيك للصفات، كمن يقول: عندنا نخلة نظرية وليست حقيقية، تعالى الله عما يقول المعطلون علواً كبيراً.

    إذاً: الله -لفظ الجلالة- بذاته وصفاته جل وعلا؛ لأنه يدخل في هذا اللفظ كمالات الله سبحانه وتعالى، فهو علم على الإله المعبود بحق الذي يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان، هذا معنى اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، من عداه فهو مخلوق لا يستثنى من هذا أحد، وائتنا بشيء وقل: ليس بمخلوق فإننا نقول لك: لا يمكن، أما أن تأتي وتقول: القرآن كلام الله وأنت لا تدري، فقد بدأت تخبط وتدخل صفات الله التي دخلت في لفظ (الله)، تريد أن تدخلها في لفظ (كل)، وهذا لا يصح، فالله خالق وهذا مخلوق، فكلام الله دخل في لفظ الله، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].

    هذه فائدة استطرادية كما يقال، وإلا نحن في مبحث خلق الجن، فهم مخلوقون بالإجماع، وكل من عدا الله فهو مخلوق، وكل من عدا الله علامة على موجده وخالقه سبحانه وتعالى؛ كما قلت: أخص وصف في المخلوق الفقر، فهو فقير لا يستغني عن الله طرفة عين، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    وذكرت سابقاً أبياتاً للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، من أحسن ما قيل في بيان حقيقة العبد وحقيقة الرب، وقد نظمها عندما كان في السجن، وما سجن إلا من أجل الله، أرسل قاعدةً في ذلك إلى تلميذه ابن القيم وهو في السجن وفيها:

    والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

    وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي

    فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي

    وغالب ظني هي في مدارج السالكين في الجزء الأول في حدود صفحة خمسمائة وخمس وعشرين.

    1.   

    مما يستوي فيه الإنس والجن: الموت

    الذي يستوي الجن فيه معنا أنهم مخلوقون وأيضاً ميتون، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، هذا الخطاب للذكور، ويدخل فيه الإناث، ويدخل فيه الجن، ويدخل فيه كل مخلوق، فكل مخلوق تبع، فإذا كان أشرف المخلوقات أعني: الإنس يعتريهم هذا الأمر وهو الموت -وكل مخلوق سيموت- فالجن كذلك ميتون، وقد وردت بذلك آيات القرآن، قال الله جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    وتقدم معنا أن الجن على الأرض، ويقال لهم مع الإنس: ثقلان؛ لأنه يحصل منهم ثقل على الأرض، وذلك إذا ماتوا وقبروا فيها، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:1-2]، أي: تخرج ما دفن فيها من أموات.

    وهكذا عمومات الأدلة التي قررت بأن كل مخلوق يموت، قال الله جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، إلى آخر الآية الكريمة، والجن يتصفون بهذه الصفة (نفس)، وقال جل وعلا في آخر سورة القصص: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].

    1.   

    دخول الجن في قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)

    ولفظ (كل) هنا في الآية كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، هالك فانٍ زائل، (إلا وجهه)، ولكن عندنا أشياء حقيقةً لا تهلك ولا تفنى، ولا تبيد ولا تزول، منها الروح؛ فالروح تخرج من البدن فقط لكن لا يعتريها ما يعتري البدن، ومنها عجب الذنب كما في الصحيحين وغيرهما: ( منه خلق الإنسان، وفيه يركب )، فهو لا يفنى وهو عظمة صغيرة بمقدار حبة خردلة في رأس العصعص، وقيل لها: عجب الذنب؛ لأنها تكون في المكان الذي يغرس فيه الذنب من ذوات الأربع، فكل شيء يأكله التراب من ابن آدم إلا عجب الذنب، ومنها الجنة لا تفنى وكذا منها النار.

    والنار حق أوجدت كالجنة فلا تمل لجاحد ذي جنة

    دار خلود للسعيد والشقي معذب منعم مهما بقي

    والنار والجنة مخلوقة، هذا معلوم من الدين بالضرورة، مخلوقة أعدت للمتقين، ودخلها نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وكان فيها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام وأخرج منها، والنار مخلوقة كذلك، والأدلة في ذلك كثيرة، وقد أحصى علماؤنا ثمانية أشياء وردت فيها نصوص لا تفنى ولا تهلك ولا تبيد ولا تزول، قال السيوطي عليه رحمة الله:

    ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم

    هي العرش والكرسي نار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

    ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في مجموع الفتاوى في المجلد الثامن عشر الذي هو في قسم الحديث عندما سئل عن حديث: (سبعة أشياء لا تفنى)، هل ورد الحديث بذلك؟ قال: لم يرد، لكن أجمع المسلمون على أن من الأشياء ما لا يفنى ولا يهلك ولا يزول بالكلية، فالعرش والكرسي والجنة والنار وغير ذلك.. إلى آخر كلامه.

    إذاً كيف سنوفق الآن بين هذا وبين قول الله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]؟

    نقول: لا إشكال، فلفظ (كل) هنا إما أن يكون المراد منه خصوص ما يهلك مما أذن الله، وما شاء وقدر الله هلاكه، وعليه فهو من العام الذي يراد به الخصوص، وليس مخصوصاً، فهو لا يراد منه جميع الأشياء أصالةً، وإنما يراد منه أشياء قدر الله عليها الهلاك، ومعنى الآية: كل شيء كتب عليه الهلاك فان إلا وجهه، وهذه الأشياء الثمانية ما كتب الله لها الهلاك، إنما قدر لها البقاء بمشيئته لا من ذاتها، والله على كل شيء قدير.

    ويمكن أن تقول: إنها من العام المخصوص دخلت في لفظ (كل)، ثم قام الدليل على استثنائها وتخصيصها وإخراجها من لفظ كل.

    والفارق بين العام المخصوص والعام الذي يراد به الخصوص: أن العام الذي يراد به الخصوص لا يشمل جميع أفراد العام بلفظه، وإنما يراد منه بعض أفراده فيقال: العام يراد به الخصوص، أما العام المخصوص فلفظه شامل لجميع الأفراد من غير حصر، ثم استثني منه ما استثني بأدلة أخرى، مثلاً: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، هذا عام ليس يراد به الخصوص، وإنما هو عام مخصوص بأن: ( أحل لنا ميتتان ) فخرج هذا من هذا العموم، والعموم باقٍ على عمومه في غير الصور التي استثنيت، فهو عام مخصوص. وعندما تقول: (كل شيء) إما عام يراد به الخصوص، أي: كل شيء كتب الله عليه الهلاك فان، وإما أن تقول: كل شيء هالك إلا وجهه، وكل من ألفاظ العموم شاملة لجميع المخلوقات، ثم قام الدليل الشرعي على عدم فناء بعض الأشياء مما قدر الله له البقاء سبحانه وتعالى، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].

    معنى قوله تعالى: (إلا وجهه)

    قوله جل وعلا: (إلا وجهه)، كثير من كتب التفسير تتساهل فتقول: إلا ذاته، وبعضها يزيد أحياناً بالتأويل فيقول: إلا ما أريد به وجهه، وفي شرح الطحاوية بعد أن ذكر إنما أريد به وجهه وأيضاً قال: إلا ملكه.

    وأنا أعجب غاية العجب ما الصلة بين الملك وبين الوجه؟ وما أعلم تفسير الوجه بالملك، ما الصلة اللغوية والعلاقة اللغوية بين أن نقول: إلا وجهه إلا ملكه؟ فنحن من ملك الله سبحانه وتعالى، وما أعلم هذه التأويلات البعيدة التي لا يدل عليها دليل، ولا يلزم هذا على الإطلاق أن نقوله ولا ينبغي أن نقوله، هم لما توهموا وقالوا: لو قلنا: إن الوجه لا يفنى فقد يفهم منه أن بقية صفات الله تفنى وتهلك، تعالى الله عما يتوهم المتوهمون علواً كبيراً، إنما ذلك تخصيص لصفة الوجه التي هي أشرف الصفات في الموصوف، ولذلك يستعيذ الداعي بوجهه سبحانه؛ لأنها أشرف صفة في الموصوف، والله يقول في كتابه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [الإسراء:7]، أي: لتظهر المساءة عليها والمذلة، وإذا أذل وجه الإنسان أذل سائر بدنه، ولذلك تقول: كرم الله وجهك، فإذا كرم الوجه كرم البقية، وهنا كذلك: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، فلا داعي للتلاعب، ولا نقول: إلا ما أريد به وجهه، إلا ملكه، إلا ذاته، مع أنه صحيح من حيث المعنى، لكن اللفظ ليس المراد منه هذا، فاللفظ مسوق بإثبات هذه الصفة الجليلة كقول الله جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو [الرحمن:26-27]، ولو كانت صفة للرب لقال: ذي، يعني: هذا الوجه الموصوف بجلال وجمال وإكرام سبحانه وتعالى، فذو صفة للوجه لا للرب، وإذا كان وجه الله خص بالبقاء، فذاته وصفاته باقية قطعاً وجزماً، ولا يتوهم فناء هذا وزواله إلا من غضب الله عليه ولا يعي الكلام ولا يفقهه.

    والنصوص متواترة بإثبات صفة الوجه لله جل وعلا، وأهل البدع وفي مقدمتهم أهل التأويل من الإباضية وغيرهم عندما تذكر صفة الوجه ينتفضون ويقولون: الله يتصف بصفة الوجه، تعالى الله عن تعطيلكم علواً كبيراً.

    وقد سمع مرةً بعض المتكلمين رجلاً يدعو في بيت رب العالمين، يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، فقال له: يا هذا! هب أن لله وجهاً، وأيضاً ستتنعم بالنظر إليه فهل ستتنعم كما تتنعم بالمخلوقات؟ وهذا الذي أنكره عليه تقدم معنا في حديث عمار بن ياسر ، وقلت: إنه حديث صحيح، (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، هذا حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وإذا لم نتلذذ بالنظر إلى وجه ربنا فبمن سنتلذذ وهو أعظم نعيم يمن الله به على عباده المؤمنين الموحدين؟! ورضي الله عن الحسن البصري وغيره عندما كان يقول: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم لماتوا، من حزنهم وهمهم وغمهم، ونحن منعنا من رؤية الله في هذه الحياة لا لأنها مستحيلة في ذاتها، وإنما لاعتبارات أخرى:

    أولها: المطالب منا الإيمان بالغيب، ولو رأيناه لصار إيمان مشاهدة.

    الأمر الثاني: إن قوانا لا تحتمل رؤية ربنا في هذه الحياة، فلا يراه حي إلا مات، ولا جانب إلا تدهده، ويوم القيامة يقوي ربنا أبصارنا، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

    والأمر الثالث وهو أعظم الأمور: أن الدنيا من أولها لآخرها لا تساوي جناح بعوضة، فهل يحصل فيها أعظم النعيم وهو النظر إلى وجه الله الكريم؟ هذه ليست ظرفاً لهذه النعمة، فلو حصلت الرؤية في الدنيا لامتهنت هذه النعمة، فهذه النعمة جليلة، والدنيا فيها نعم تتناسب معها، أما هذه النعمة فهي في دار الخلد، في الدار التي لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، وقد تقدم معنا أن من ضلال هذا المبتدع وإضلاله أنه يأتي يلبس على الناس -وله شأن- يقول: بما أنه وافقنا من يسمون أنفسهم بأهل السنة، وافقونا بأن الله لا يرى في هذه الحياة، فصفات الله لا تتبدل، فلم ير في نعيم الجنات، قال: وإذا قلتم: إن الله يرى في الجنة فينبغي أن تقولوا: له زوجة في الآخرة، وله ولد في الآخرة، ويظلم في الآخرة؛ لأنه نفى هذا عن نفسه في الدنيا، وإذا كان ما نفي عنه ممكن أن يحصل له فسيحصل له زوجة وولد... ، تعالى الله عن تهويس هذا المهوس علواً كبيراً.

    أيها العبد المخذول! أما عندك عقل تعي به؟ هذه الأشياء نقائص انتفت عن الله؛ لأن ذات الله لا تقبلها: زوجة، ولد، ظلم، كذب، هذا كله يتنزه عنه ربنا لأنه نقيصة لا يمكن أن يتصف به بحال، وأما رؤيتنا له فليست نقيصة، منعنا منها في الدنيا لاعتبار فينا لا لاعتبار فيه، فشتان بين الأمرين، فانظر كيف يقيس الرؤية على الظلم، هذه هي الأقيسة الشيطانية التي ابتلي بها هؤلاء المخرفون المعاصرون والسابقون.

    الذي جرنا إلى كل هذا قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، وقول الله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، فالآية الأولى: عام يراد به الخصوص، والمعنى تدمر كل شيء أمرت بتدميره، فما دمرت الأرض ولا دمرت المساكن؛ لأن الله قال: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25].

    ويمكن أن تقول: من العام المخصوص، ولفظه شامل لكل شيء، ثم قامت الأدلة والقرائن على تخصيص بعض الأشياء أنها لم تدمر، أما قول الله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فهو عام باق على عمومه، لا يستثنى منه شيء، والعام الباقي على عمومه كما يقول أئمتنا: إنه قليل الوجود، وقل عموم إلا وقد دخله التخصيص.

    يقولون: ومثال العام الباقي على عمومه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، هذا عام باقي على عمومه لا يخرج منه شيء على الإطلاق.

    وأما قول الله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، فيقولون: هذا عام مخصوص، فقدرة الله جل وعلا لا تتعلق بالواجبات، كما أنها لا تتعلق بالمستحيلات، ومجالها فقط الجائزات الممكنات، أما الواجب فلا يتصور -أبداً- في العقل عدمه، والمستحيل لا يتصور -أبداً- في العقل وجوده، فلا يقال فيها: يقدر ولا يقدر، بل يقال: ليست هذه وظيفة القدرة، يعني: لو قال إنسان وخطر في باله: هل يقدر الله أن يخلق مثله؟ قل: هذا كلام باطل، ولو قال: هل يقدر الله أن يوجد إنساناً حياً ميتاً في وقت واحد؟ قل: يا عبد الله إن كان حياً انتفى عنه الموت، وإن كان ميتاً انتفت عنه الحياة، فلا نقول: لا يقدر، ولا نقول: يقدر، فليس هذا متعلق بالقدرة، وأنت قل لنا: هل يقدر الله أن يجعل هذا الطائرة تطير؟ نقول: يقدر، وهل يستطيع أن يجعلها باخرة تسبح في البحر وتحوم؟ نقول: يقدر، وهل باستطاعة الله وقدرته وإمكانه أن يجعله بيتاً ويجعله شجرة؟ نقول: هذا كله يقدر، وأن يجعله يعيش إلى ألف سنة؟ نقول: يقدر، هذا كله يمكن أن يتصور وجوده وعدمه، ولذلك قال أئمتنا: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، عام يراد به خصوص الممكنات الجائزات التي يتصور وجودها وعدمها.

    وأما إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، فهذا يتعلق بالأقسام الثلاثة: بالممكن، والواجب، والمستحيل، لا يخرج عنها شيء، وأحاط علمه بكل شيء سبحانه وتعالى.

    دخول الملائكة في قوله صلى الله عليه وسلم: (والجن والإنس يموتون)

    وخلاصة الكلام أن الجن يساووننا بالخلق، فنحن مخلوقون وهم كذلك، ونحن سنموت وهم سيموتون، وكما دلت هذه الآيات على ذلك فقد ورد هذا صراحةً من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند أحمد والصحيحين وغير ذلك من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت)، من الإنابة، بمعنى أقبلت ورجعت إليك، وتركت خطيئاتي وزلاتي، (إليك أنبت، وبك خاصمت)، أي: بك أحتج وأدافع عن نفسي وأدفع خصمي، يعني: استعين بك في خصومتي، ( وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك! لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون ).

    وقد يرد إشكال على هذا الحديث، خلاصته: الجن والإنس يموتون، والملائكة لم يذكروا، فهل يصح التعلق بهذا على أن الملائكة لا يموتون؟

    والجواب: لا ثم لا، وقد أورد ابن حجر هذا الإشكال، ورد عليه في الفتح في الجزء الثالث عشر صفحة سبعين وثلاثمائة فقال: لا حجة لمن زعم أن الملائكة لا تموت تعلقاً بهذا الحديث: ( والجن والإنس يموتون ) قال: لأن ذلك مفهوم لقب ولا اعتبار له.

    وعلى التنزل بأنه معتبر فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو قول الله جل وعلا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، ثم قال: على أنه -وهو جواب ثالث- لا مانع من دخول الملائكة في مسمى الجن بجامع الاستتار في كل منهم، فالجن من الاجتنان والستر، والملائكة فيها هذه الصفة فهم مستورون عنا.

    إذاً: الجن والإنس يموتون، ودخل الملائكة في لفظ الجن دخولاً لغوياً وليس المراد بالجن الأمة المعلومة المعروفة، وإنما المراد خلاف الإنس، يعني: الذي هو مجتن ومستور لا يرى من ملائكة وجن.

    أورد السيوطي في لقط المرجان صفحة ست وستين ومائة قصةً عن خليد -عبدٌ صالح- أنه قرأ آيةً من القرآن ورددها فمات عند سماعها أربعة من الجن، تسبب بعد ذلك لنفسه ولهاً وذهولاً وحيرة ودهشة.

    وخلاصة القصة: عن امرأته الصالحة القانتة قالت: كان خليد قائماً يصلي، فقرأ قول الله جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ورددها مراراً، فناداه مناد: كم ترددها يا خليد ؟ لقد قتلت منا أربعة نفر، ما رفعوا رءوسهم إلى السماء طرفة عين حياءً من ربهم عز وجل، وأنت تردد هذه الآية: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ونحن الآن نستمع لقراءتك ونأتم بك، وأنت عندما ترددها يعمل هذا في قلوب هؤلاء فمات أربعة منهم، كم ترددها؟ أي: كف عن تردادها حتى لا تلحق البقية منا بمن مات، قالت امرأته: فوله، يعني: أصابه الوله والذهول والدهشة وشيء من ضياع العقل، فوله خليد ولهاً شديداً فأنكرناه حتى كأنه ليس بالذي كان.

    وهذا يقع بكثرة، وأحياناً يصلي الإنسان بمفرده في خلوته، ويقرأ سورة الفاتحة وإذا رفع صوته: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، يسمع تأميناً وراءه: آمين، يصلي وراءه مؤمنوا الجن، وهذا وقع لكثير من الناس، لكن بعض الناس إذا سمع الصوت يفزع، فيعتريه هذا الوله، ولا داعي للفزع، فمؤمنهم أخ لك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه زاد إخوانكم من الجن)، وعاصيهم عدو لك فلم تفزع؟ بل اربط قلبك بالله، فلو جاءك عدو من الإنس هل تفزع منه أم تقف له؟ كذلك لو وقفت لعدوك الجني لتاب أكثر من عدوك الإنسي؛ لأنه يفرق من بني آدم أكثر مما يفرق عدوك الإنسي منك، لكن إذا فرقت منه وخفت تركك وذهب، وإذا اعتراك ما اعتراك من الاضطراب والفزع أعانك الله في تلك الأحوال، لكن إذا رأيته فاشدد عليه واضربه ما استطعت حتى يستغيث بالله، ويطلب منك أن تتركه ولا يعود، واضربه إن شئت بيدك وإن شئت بعصا معك، وإن شئت بأي شيء، فسم الله واضرب ولا تبال، فإنه يذل غاية المذلة، كما لو جاء جبان من بني الإنس ليسرق بيتك وقبضت عليه، فكلما ضربته يذل أكثر، ويترجاك ويقول: اتركني لن أعود، وإذا رأى منك الضعف، كأن رأيته فذهبت واختبأت في الحجرة وأغلقت على نفسك فإنه يقول: هذه نعمة، لنسرق بقية الحجر كما نريد، لأنك مختبئ بل يقول لمن معه: اتركوه في الحجرة فقد كفانا شره.

    ولو قدر أنه من عتاة الجن، وجاء يريد مضرة فشد عليه حتى يهرب أمامك أكثر من هروب عدوك الإنسي، وعلى الحالتين ما ينبغي أن يحصل عندك روعة ولا اختلاج، (وما سلك عمر رضي الله عنه فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه)، وسيأتينا الحديث في الصحيحين، ولا تظن أن المسألة سهلة، فهي تحتاج إلى قوة إيمان، لكن إذا وهنت نفسك وخبلتها كما هو حال كثير من المخبولين في هذا الحين، فلا علاج لك؛ لأن الأمر يحتاج إلى استعانة بالله، وجرأة وشد عزم، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، فهذا العبد الصالح لما قيل له هذا الكلام وله ولهاً شديداً فأنكره أهله وقالوا: حتى كأنه ليس بالذي كان.

    موت عامة الجن وعلى رأسهم الشيطان رغم إنظاره إلى قيام الساعة

    إن الجن مخلوقون ويموتون، رئيسهم وهو الشيطان الرجيم منظر إلى يوم الدين لحكمة يعلمها الله كما هو ثابت بآيات القرآن العظيم، لكن سيموت بعد ذلك ولا بد، كما أن ملك الموت سيموت، وكما أن إسرافيل الذي ينفخ في الصور من أجل إحياء الأموات سيموت، ولن يسلم من ذلك أحد.

    قال الشبلي في آكام المرجان صفحة اثنتين وخمسين ومائة: ظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار -بالظاء يعني: بالإمهال- فإنه يوجد أيضاً عوالم ممهلة إلى يوم القيامة، وأما ولده وقبيله فلم يقم دليل على إنظارهم إلى يوم القيامة، وظاهر قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [الأعراف:15]، يدل على أن ثم منظرين غير إبليس، وليس في القرآن ما يدل على أن المنظرين هم الجن كلهم، فيحتمل أن يكون بعض الجن منظرين، وأما كلهم فلا دليل عليه.

    والذي يبدو لي -والعلم عند ربي- أن قول الله جل وعلا: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحجر:37]، يعني: من جملة من قدرت إنظارهم إلى يوم القيامة، ولا يشترط أن من قدر إنظارهم إلى يوم القيامة من الجن، إنما قدر إنظار بعض الملائكة الكرام أو كلهم إلى يوم القيامة، فلا يموتون إلا عند قيام القيامة فقط، وما عدا ذلك فهم أحياء، فلا يحصل فيهم الموت كما يحصل فينا، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:37-38]، يعني: أنا أنظرت أناساً كثيرين لن يحل بهم الموت كما هو الحال في بني آدم، إنما ينظرون ويمهلون، وكما قلت: منهم ملائكة الله الأطهار عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وعليه فأنت لك هذا الحكم معهم، وليس في ذلك دليل على أن قبيل الجن وولد الجن ينظر كحال أبيهم إبليس، وقد ثبت في كتاب العظمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: أتموت الجن؟ قال: نعم إلا إبليس.

    ويقصد أنهم يموتون كما نموت إلا إبليس فإنه ينظر، وسيموت ولا بد لكن إلى حال يوم القيامة والنفخ في الصور، وموت كل من عدا الله جل وعلا وإبليس معهم.

    الثاني: التكليف للجن مر معنا، ولا داعي للكلام عليه ولا بكلمة واحدة، فإن الجن مكلفون كما قلت بالإجماع، وهذا معلوم بالاضطرار، ولا خلاف في ذلك، كما أنهم مخلوقون موجودون.

    الأمر الثالث الذي يستوون فيه معنا: أنهم ينقسمون إلى موحدين وكافرين، والموحدون طائعون وعاصون، وتقدم معنا هذا ضمن تكليفهم، فلا داعي لإعادة ذلك.

    الأمر الرابع: ثوابهم وعقابهم: مر الكلام على ذلك مفصلاً، وقلنا: العقاب بالإجماع يقر على الكافر، والثواب اختلف فيه إلى ستة أقوال، المعتمد منها: أنه يثاب طائعهم كما يعذب عاصيهم تماماً كما هو الحال فينا، وذكرت الأقوال الأخرى التي سردتها وانتهينا منها.

    هذا فيما يتعلق بأول هذه الأمور الثلاثة، ولها أربعة أنواع: يستوون معنا في الخلق والموت، وفي التكليف، وفي انقسامهم إلى موحدين وكافرين، طائعين وعاصين، وفي الجزاء يشتركون معنا تماماً، يكرمون كما نكرم، ويعذبون كما نعذب.

    وأما أوجه الاختلاف بيننا وبين الجن فسنذكرها في الموعظة التالية.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755929716