إسلام ويب

فتاوى نور على الدرب [319]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    معنى قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل)

    السؤال: هذا يسأل عن قوله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]؟

    الجواب: يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة مبيناً حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل، أي: مضت من قبله الرسل فبلغوا الرسالة ثم كان مآلهم إلى الفناء، لأن: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] ، قد خلت من قبله الرسل ومضت في إبلاغ دعوتها إلى الله عز وجل، ثم ماتوا كسائر البشر.

    ثم ينكر الله عز وجل على من تغيرت حاله لو مات النبي صلى الله عليه وسلم أو قتل، فيقول: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] ، أي: ارتددتم عن الإسلام إلى الكفر.. إلى الوراء بعد أن تقدمتم إلى الإسلام، ومن ينقلب على عقبيه فيكفر بعد ردته، فإنه لن يضر الله شيئاً، لأن الله سبحانه وتعالى غني عن عباده، ولم يأمرهم سبحانه وتعالى بعبادته إلا لمصلحتهم لا لمصلحته هو أو منفعته، فإنهم لم يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] .

    فمن انقلب على عقبه بعد إسلامه فإنه لن يضر الله شيئاً وإنما يضر نفسه، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] ، أي: القائمين بطاعته الذين قاموا بحقيقة الشكر، لأن حقيقة الشكر هو القيام بطاعة المنعم، حيثما تعلقت بالقلب أو باللسان أو بالجوارح، وهذه الآية نزلت حين صاح الشيطان في المسلمين في غزوة أحد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فضعفت نفوس بعض المسلمين من أجل هذه الشائعة الكاذبة الخاطئة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، إشارةً إلى أنه يجب على المسلمين وإن مات نبيهم أو قتل، أن يذودوا عن شريعته وعن سنته في حياته وبعد مماته.

    وفي هذه الآية دليل على أن الكفر هو التأخر والرجعية والانقلاب على العقب، وأما الإسلام فإنه التقدم والمضي إلى الأمام فيما ينفع الإنسان في دينه ودنياه، ويشهد لهذا قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] .

    وبهذا عرف سبب نزول هذه الآية الكريمة، وعرف المراد بها، وأن الواجب على المسلمين أن يكونوا منتصرين لدينهم، سواء كان ذلك في حياة نبيهم أو بعد مماته صلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)

    السؤال: الآية الثانية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21].

    الجواب: هذه الآية نزلت في الكافرين أعداء الله عز وجل الذين قال الله عنهم: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:19-20] ، فأعداء الله وهم الكفار وهم أعداء للمسلمين أيضاً، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1] ، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73] ، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] .

    فأعداء الله تعالى أعداء لكل عباده المؤمنين في كل زمانٍ ومكان، فالله تعالى يذكر عباده بهذه الحال العظيمة، حتى يكونوا من أولياء الله، ويبتعدوا عن أعداء الله عز وجل، وعن أعدائه أيضاً، يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19]، أي: يساقون إليها ويحبس أولهم على آخرهم، يساقون إلى جهنم ورداً والعياذ بالله، فإذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم، يقول: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا [فصلت:20]، (ما) هذه زائدة للتوكيد، وكل ما جاءت (ما) بعد (إذا) فهي زائدة، كما قيل:

    يا طالباً خذ فائدة ما بعد إذا زائدة

    حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا [فصلت:20] ، أي: إذا جاءوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20] ، فيشهد السمع على صاحبه بما سمع من الأقوال المحرمة المنكرة التي استمع إليها صاحب هذا السمع وركن إليها وقام بموجبها، وأبصارهم: بما شاهدوا من الأمور المنكرة التي أقروها ورضوا بها، وجلودهم: بما مسوا، فيشمل كل ما مست أيديهم وأرجلهم وفروجهم من الأمور المنكرة المحرمة، تشهد عليهم بكل ما مست، وهذا أعم من السمع والبصر، ولهذا أنكروا على الجلود دون السمع والبصر، فقالوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:21-24] .

    فيوم القيامة يختم على الألسن وتتكلم الجوارح، قال الله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] ، فتشهد الجلود بكل ما مست من أمرٍ محرم وكذلك السمع والبصر، وحينئذٍ لا يبقى للإنسان عذر، بل يكون مقراً رغم أنفه بما جرى منه من الكفر والمعاصي نسأل الله العافية.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين)

    السؤال: يسأل عن قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] .

    الجواب: قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) السائل هنا قريش، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، وكانت قصته مشهورة ولاسيما عند أهل الكتاب، وهو ملك صالح كان على عهد الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويقال: إنه طاف معه بالبيت فالله أعلم، هذا الرجل الصالح مكن الله له في الأرض، وآتاه من أسباب الملك كل سببٍ يتوصل به إلى الانتصار وقهر أعدائه.

    فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85]، يعني: سلك طريقاً يوصله إلى مقصوده، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا [الكهف:86] فاستولى عليهم وخيره الله فيهم: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ [الكهف:86]، فحكم بينهم بالعدل: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:87-88] ، ثم مضى متجهاً نحو مطلع الشمس: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ [الكهف:90] ليس لهم ستر يحول بينهم وبين حرها، ليس عندهم بناء ولا أشجار، وإنما يعيشون في النهار في السرادب والكهوف، ثم في الليل يخرجون يلتمسون العيش.

    وكان الله عز وجل في جميع أحوال هذا الرجل عالماً به، يسير بعلمٍ من الله عز وجل وهداية، كما قال تعالى: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91] ، ثم مضى حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93] لأنهم كانوا أعاجم لا تفهم لغتهم، ولا يفهمون لغة غيرهم، ولكنهم اشتكوا إلى هذا الملك الصالح.. إلى ذي القرنين ، بأن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، وهما أمتان من بني آدم كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.

    وتذكر روايات وأخبار إسرائيلية في هاتين الأمتين - أعني: في يأجوج ومأجوج - كلها لا أصل لها من الصحة، وإنما يأجوج ومأجوج من بني آدم وعلى شكل بني آدم، كما جاء في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى -يعني: يوم القيامة-: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم في النار، إلا واحداً من الألف، فكبر ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أبشروا، فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج )، وهذا دليل واضح وصريح على أنهم - أعني: يأجوج ومأجوج - من بني آدم، فيكون شكلهم وأحولهم كأحوال بني آدم تماماً، لكنهم من قوم طبعوا والعياذ بالله على الفساد في الأرض وتدمير مصالح الخلق وقتلهم، وغير ذلك مما يكون فساداً في أرض الله عز وجل.

    فقالوا له: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [الكهف:94]، أي: مالاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] ، فأخبرهم بأن الله سبحانه وتعالى أعطاه من الملك والتمكين ما هو خير من المال الذي يعطونه إياه: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [الكهف:95] ، أي: بقوةٍ عملية.. عمالٍ وأدواتٍ وما أشبه ذلك أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف:95] ، ثم طلب منهم زبر الحديد، أي: قطع الحديد، فصف بعضها على بعض حتى بلغت رؤوس الجبلين: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا [الكهف:96] ، فأوقدوا عليه النار ونفخوها حتى صار الحديد ناراً يلتهب، فأفرغ عليه قطراً، أي: نحاساً مذاباً حتى تماسكت هذه القطع من الحديد وصارت جداراً حديداً صلباً، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] يعني: يصعدوا فوقه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97] ، أي: أن ينقبوه من أسفل، فكان ردماً بين يأجوج ومأجوج وبين هؤلاء القوم.

    وقصته معروفة مشهورة ذكرها الله تعالى في سورة الكهف في آخرها، فمن أراد المزيد من علمها فليقرأ ما كتبه أهل التفسير الموثوق بهم في هذه القصة العظيمة.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها..)

    السؤال: أيضاً يسأل عن الآية الكريمة، أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ [يونس:24] .

    الجواب: هذه الآية جزء من آية كريمة ذكرها الله عز وجل في سورة يونس في قوله: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:24-25] .

    ففي هذه الآية الكريمة يضرب الله المثل: مثل الدنيا وما فيها من الزخارف والزهوة والزينة وغيرها، يضربه الله بماءٍ أنزله من السماء إلى أرضٍ يابسة هامدة فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24] أي: أنبتت هذه الأرض من كل زوجٍ بهيج ومن كل صنف، واختلط النبات بعضه ببعض لوفرته ونموه مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ [يونس:24] ، أي: من طعام الآدميين وطعام البهائم، والثمار التي يأكلها الآدميون والزروع وهكذا، حتى أصبحت بهجةً للناظرين، ولما أخذت الأرض زخرفها وازينت وطابت ثمارها ونضجت، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] وأنهم سوف يجنونها عن قرب وبكل سهولة، أتاها أمر الله تعالى إما ليلاً وإما نهاراً، رياح عاصفة أو ثلوج أو صواعق أو غير ذلك مما أهلكها ودمرها، فكانت حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، أي: كأن لم تكن موجودةً على ذلك الوجه البهيج الذي يسر الناظر، أصبحت حصيداً هامدة.

    فهكذا الحياة الدنيا تزهو لصاحبها وتتطور، ويصبح صاحبها كأنه لن يموت وكأنه سيبقى فيها، لما حصل له من الغرور في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك يفجؤه الموت، فإذا هو ذاهب وإذا المال مبعثر في الورثة وكل ما كان كأن لم يكن، والله عز وجل إنما ضرب هذا المثل لئلا نغتر بالدنيا لأجل أن نحترز منها ومن غرورها، وألا نقدمها على الآخرة لأنها فانية زائلة لا خير فيها، إلا ما كان عوناً على طاعة الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا أعقب ذلك المثل بقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] ، أي: إلى الجنة التي هي دار السلام السالمة من كل نقص وتنغيص، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها النعيم المقيم التي من دخلها ينعم ولا يبأس ويصح ولا يمرض ويحيا ولا يموت، وهم في سرورٍ دائم وفي نعيمٍ مقيم، فانظر أيها الإنسان وقارن بين دار السلام السالمة من كل آفة، وبين الدنيا التي مهما تطورت وازدهرت وازدانت، فإنها عند التمام يكون الفناء.

    واعتبر يا أخي ببقائك في هذه الدنيا، فإن عمل الآخرة أقل وأهون وأكثر فائدةً، والنتيجة من عمل الدنيا، وأنا أضرب لك مثلاً واحداً يكفيك عن غيره من الأمثال: أنفقت درهماً واحداً في سبيل الله عز وجل ابتغاء مرضاته، هذا الدرهم يضاعف إلى عشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، الدرهم يكون عشرة.. العشرة تكون إلى سبعمائة إلى أضعافٍ كثيرة لا يحصيها إلا الله عز وجل، وأنت لم تعمل عملاً شاقاً، غاية ما هنالك أنك أوصلت هذا الدرهم إلى مستحقه ابتغاء وجه الله، لكن انظر إلى الدنيا تذهب تجوب الفيافي، وتضرب الأخطار من أجل أن تربح خمسة دراهم في العشرة، أو أقل من خمسة دراهم في العشرة مع المشقة والعناء، وربما لا تربح أيضاً، فأي العملين أهون، وأي العمل أكثر فائدة وأعظم نتيجة وأضمن وأسلم؟

    أعتقد أن الجواب: هو أن عمل الآخرة أهون وأسهل وأعظم نتيجة وأوثق.

    كذلك تصلي في بيتك يكتب لك أجر.. تصلي في المسجد يضاعف لك الأجر، فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة، عمل يسير والربح كثير، الناس الآن لو قيل لهم: إنكم تربحون الواحد بخمسة، لذهب الإنسان إلى بلاد بعيدة من أجل هذا الربح القليل الذي قد يكون مضموناً وقد يكون غير مضمون، لكنه لا يذهب إلى المسجد إلا من هدى الله عز وجل، مع أن الربح مضمون وكثير، وبهذا يتبين حكمة سياق قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] بعد ذكر مثل الحياة الدنيا وما تئول إليه.

    وتأمل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] ، حيث عمم في الدعوة، بأن الله تعالى يدعو كل أحد إلى دار السلام، ولكنه في الهداية قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] ، فليس كل من سمع دعوة الله أجاب الدعوة، ولكن يجيبها من وفقه الله عز وجل وهداه إلى صراط مستقيم، اللهم إنا نسألك أن تهدينا وإخواننا المسلمين صراطك المستقيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012928