إسلام ويب

تفسير سورة لقمان [10 - 11]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه الآيات يخبر الله سبحانه عن عظمته وقدرته، وأنه خلق السماوات من غير أعمدة، ووضع في باطن الأرض وظاهرها جبالاً خشية أن تضطرب الأرض بسكانها، وخلق فيها من كل دابة سواء علمها الإنسان أو لم يعلمها، وأنزل من السماء ماء فأنبت به كل نوع طيب، فهذا هو خلق الله وحده فأين خلق الآلهة التي يعبدونها من دون الله؟ لا يوجد لها أي خلق، فدل هذا على أن من عبدها من دون الله فهو ظالم لنفسه، حيث عبد من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحق العبادة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خلق السموات بغير عمد ترونها ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة لقمان:

    خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [لقمان:10-11].

    يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة، وعن آياته في هذا الكون، التي يجب على كل إنسان عاقل أن ينظر فيها، وأن يتأملها؛ ليعرف قدرة الله سبحانه وتعالى، وليستيقن من عظمته سبحانه، وتقديره لكل شيء.

    قال الله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [لقمان:10] آية من آيات الله سبحانه، أن رفع هذه الكواكب، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها من أفلاك، ورفع المجرات في هذا الفضاء العظيم بغير عمد ترونها.

    فليس هناك عمود تراه بين السماء والأرض يرفع الله عليه السماء، أو يضع عليه الأرض، ولكن كل شيء في فلكه يدور بأمر الله وقضائه، وقدره، وبحكمته، وحكمه، وإتقانه، وبديع صنعته سبحانه وتعالى.

    وكلمة ( تَرَوْنَهَا ) إما أن المحل فيها على الكسر فتكون وصفاً لما قبلها، فيكون قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ ) أي: بغير أعمدة تَرَوْنَهَا، فيكون المعنى على ذلك، هناك أعمدة غير مرئية، لا ترونها أنتم.

    وهذا ما يسميه علماء الفلك: قوة التجاذب بين الكواكب، وبين المجرات، وبين الشمس والقمر، فكأنه يخرج من مركز الشمس مع القمر ومع المجموعة الشمسية التي حولها أعمدة من التجاذب لا يراها الإنسان، فهذه مجذوبة إلى هذه، في فلكها تدور، فيدور القمر حول الأرض، والقمر والأرض مع بعضهما يدوران حول الشمس مع باقي مجموعة الكواكب الشمسية التي تدور حولها مرتبطة بها، لا تنفك عن جاذبيتها، فكأن معنى (بغير عمد): ليس هناك أعمدة كالتي تتخيلونها، عموداً بين الأرض وبين السقف، يرتفع عليه السقف، فترى عموداً، فليس الأمر كذلك، ولكنه شيء آخر من قدرة الله سبحانه، جعله من تجاذب بين هذه مع هذه، فلو زادت كمية الجذب لدخلت المجموعة الشمسية بداخل الشمس فأحرقتها، ولو ضعف هذا التجاذب لابتعدت عنها، وتاهت في الفضاء، وضاعت، ولما لم يحدث شيء من ذلك دل على قدرة الله العظيمة في ربط هذه الأشياء بعضها ببعض، هذا على النطاق الضيق.

    والمجرات مليارات، وكل منها يحتوي على مليارات المليارات من الشموس والأقمار والنجوم، وكلها تدور في هذا الفضاء الواسع العظيم، فيرينا الله سبحانه آياته العظيمة، فلا توجد أعمدة مرئية كالتي تتخيلها، ولكن الله يخلق ما يشاء مما لا ترون يجذب هذه إلى هذه، فتدور هذه حول هذه، ويحرك هذه بطريقة، وهذه بطريقة، وكل في فلك يسبحون في هذا الكون العظيم.

    إذاً قوله سبحانه: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [لقمان:10] جملة (تَرَوْنَهَا ) إما أنها وصف للأعمدة، أي: بغير عمد مرئية، أو هي على الحال من السموات، فيكون المعنى: خلق السموات حال كونكم ترونها بغير عمد، أي: لا أعمدة حقيقة موجودة فيما بينها، وكلا المعنيين صحيح.

    فليست أعمدة على الوجه الذي نعرفه ونتخيله، أنك ترفع سقفاً وتضع أربعة أعمدة حتى تضع عليه السقف، فليس الأمر كذلك أبداً، بل إن الله سبحانه وتعالى خلقها بنظام معين، من قوة شد وجذب بين هذه الكواكب، الله قدرها وخلقها سبحانه وتعالى على غير ما تعرفه أنت مما اعتدت عليه.

    عظمة خلق الله تعالى للأرض

    وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ [لقمان:10] والتعبير بـ(في)، غير التعبير بـ(على)، فقوله: ( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ ) الرواسي فوق الأرض، ولكن الباحثين في علوم الأرض وطبقاتها يقولون: الجبل ليس فوق الأرض، الجبل جزء منه فوق الأرض وباقي الجبل تحت الأرض، فخمس الجبل فوق الأرض وأربعة أخماس الجبل تحت الأرض.

    فالتعبير القرآني العظيم حين يعبر عن الجبال أنها أوتاد للأرض: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان:10] هو تعبير عظيم ودقيق يذهل ويعجز العلماء حين ينظرون فيه.

    فالجبال داخل الأرض وفوق الأرض، وصفة هذه الجبال أنها أوتاد -جمع وتد- والوتد هو الذي تجعله للخيمة، فتدق في الأرض أعمدة من خشب تجعلها وتداً في الأرض، وتربط فيها الخيمة حتى لا تميل ولا تتحرك.

    كذلك الجبال تثبت الأرض بعضها في بعض، والقشرة الأرضية العليا التي قد يكون سمكها من خمسمائة متر إلى الألف والألفين متر تحتها سوائل منصهرة في باطن الأرض، وفيها مياه جوفية، وفيها أشياء لو لم توجد الجبال لاضطربت الأرض ومالت القشرة الأرضية كالسفينة على الماء.

    ولكن الله عز وجل ثبت هذه القشرة العليا في باطن الأرض بهذه الجبال الرواسي، فتتحرك الأرض وتدور حول نفسها، وتجري الأرض بحسب ما قدر الله عز وجل لها، ولا يحدث اهتزاز أو تحرك، والإنسان يركب حافلة مثلاً، ويشعر بأن الحافلة تتحرك، أما في حال دوران الأرض فلا يشعر بها، مع أن الأرض تتحرك بسرعة أعظم بكثير من سرعة القطار ومن سرعة الحافلة.

    قال هنا سبحانه وتعالى: أَنْ تَمِيدَ بِكْم [لقمان:10] أي: لئلا، أي: كراهة أن تميد، والميد: هو الاضطراب، ومعنى تمور الأرض وتميد: تضطرب وتتحرك، كما تضطرب السفينة فوق الماء، فلم يجعل الله الأرض على هذا الحال، ولكنه ثبتها لكم لتستقروا فوقها بفضله وقدرته العظيمة سبحانه.

    وَبَثَّ [لقمان:10] أي: نشر سبحانه وتعالى.

    فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [لقمان:10] ويخلق ما لا تعلمون، فقد بث في الأرض من كل دابة سواء اكتشفتم هذه الدواب أو لم تكتشفوها التي جعلها الله عز وجل على الأرض.

    والإنسان قد أوتي من العلم شيئاً، ويظن أنه عرف كل شيء، وهو يجهل أشياء كثيرة موجودة على الأرض، ويجهل الحكمة من خلق الله عز وجل لهذه الأشياء، ولكن الله سبحانه لا يخلق شيئاً إلا بعلم وبحكمة سبحانه وتعالى.

    وقد تكلمنا في سورة العنكبوت عن حشرة ضعيفة صغيرة ذكرها الله عز وجل، قال الله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41] وهذه الحشرة التي يحتقرها الإنسان يقول بعض العلماء: إنه لو انقرضت هذه الحشرة من على وجه الأرض لفني الإنسان، فلا يكون للإنسان بقاء مع عدم وجود هذه الحشرة، وكأن هذه الحشرة تقضي على أعداء للإنسان لا يقدر على القضاء عليها، والإنسان لا يدري ولا يعرف؛ بل إنه يحتقر هذه الحشرة.

    وكذلك النملة التي تقرص الإنسان ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النمل، وإذا كانت مؤذية فاقتل ما يؤذيك، ودع ما لا يؤذيك، فيقول العلماء: إن هذه النملة نافعة جداً للإنسان، تنفعه وتقضي على حشرات معينة لا يقدر على القضاء عليها.

    ولذلك ذكرنا أنهم في اليمن يبيعون النمل، يأخذونه من الغابات بفروع الأشجار، وينقلون هذه الفروع على الجمال من الغابة إلى مكان البيع في السوق، ليأخذها أصحاب حقول الموالح، ليضعوا هذه الفروع في أشجار الموالح التابعة لهم، فيصعد النمل على الأشجار ويقضي على ميكروبات أو جراثيم معينة موجودة تتلف الموالح: البرتقال واليوسف أفندي وغيرها مما يأكله الإنسان، فالنملة نافعة للإنسان، وحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها كان كثير من الناس لا يدرون ما الحكمة في ذلك، وأنت قد لا تعرف، ولكن غيرك يعرف، وعلم الله فوق كل ذي علم سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] فكل شيء له حكمة، والله عز وجل لم يخلق الذبابة عبثاً، ولم يضرب المثل بالبعوضة عبثاً، ولكن الله عز وجل يخلق الدواب ويضرب بها الأمثال، ليريك آيته وقدرته، فهل تقدر أن تصنع مثل ذلك؟ فانظر إلى آيات الله في خلقه من أصغر الأشياء إلى أكبر الأشياء!

    والبعوضة الصغيرة التي يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]، التي تطير فيضربها الإنسان بيده ليقتلها، هذه البعوضة التي تؤذي الإنسان وتقرصه عندما يتأملها العلماء يقولون عنها لها تقريباً ستة وثلاثون عيناً، فهي تنظر بنظر عجيب جداً، وترى ما حولها من كل مكان.

    والإنسان لا يقدر أن ينظر إلا إلى أمامه، أو يحرك عينه لليمين والشمال وفوق وتحت، لكن البعوضة تستطيع أن ترى ثلاثمائة وستين درجة، وكيف تقرص الإنسان هذه البعوضة؟ أنت عندما تذهب لتضرب إبرة تكون خائفاً وتقول: ضع لي شيئاً قبل أن تعطيني الإبرة، والبعوضة قبل أن تقرصك تبحث عن العرق الذي فيه دم؛ من أجل أن تسحبه، فترش قليلاً من البنج، وهو سائل موجود في داخلها، ثم تنزل إبرتها وأنت لا تحس بها، لكن تحس بشفط الدم، واللسعة تشعر بها وقت خروج الدم منك ودخوله في البعوضة، أما وخز الإبرة فلا تشعر بها، وأمهر مخلوق يضرب الإبر هي البعوضة.

    والجاهل لا يعرف شيئاً، فالبعوضة تأتي أمامه فيغتاظ: لماذا خلقها الله مع أنها تؤذينا?!

    والعالم يتأمل البعوضة ويشرحها، فالبعوضة لها أربعون ضرساً وأنت معك ستة وثلاثون ضرساً، فسبحان الخلاق العظيم ! حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً [البقرة:26] لأنها خلق عظيم من خلق الله لا تقدر أنت ولا غيرك، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا شيئاً ما استطاعوا أن يوجدوا ولا أقل الأشياء التي خلقها الله سبحانه وتعالى.

    فهنا يقول الله: أنه بث في الأرض من كل دابة، والدابة هي التي تدب على الأرض، وكل ما يدب على الأرض يسمى دابة سواء كان يمشي برجليه أو يطير بجناحيه.

    قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [لقمان:10] وقد عبر سبحانه وتعالى بنون العظمة هنا.

    فقوله : (خَلَقَ) الضمير عائد على الله سبحانه وتعالى، (وألقى) الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى في الأرض رواسي أن تميد بكم، (وبث) ستجد الضمائر كلها عائدة على الله سبحانه وتعالى على الإفراد، وفي قوله: (وَأَنزَلْنَا) عبر بنون العظمة سبحانه وتعالى، وكأن هذه الأشياء السابقة لا يجرؤ الإنسان أن يقول فيها شيئاً، فلا يجرؤ أن يقول: أنا أخلق سموات، أو أنا أخلق أرضاً كهذه الأرض، أو أنا أخلق جبالاً، لا يقدر الإنسان أن يقول ذلك.

    وكأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا سأنزل من السماء ماء، أنا سأوجه السحاب من مكان إلى مكان، وعندما تأتي سأفجر فيها بقنبلة أو بمدفع أو شيء آخر فتنزل الماء، وقد أراد الإنسان أن يصنع ذلك، وإذا بنون العظمة تقول: لا، لن تستطيع، فنحن الذين نتحكم في ذلك، لا تقدر أنت على ذلك، فالله وحده هو القادر على أن ينزل من السماء ماء، ويرسل الرياح فتثير سحاباً فيسيره الله سبحانه وتعالى إلى أي مكان شاء، ثم يقول له: كن فيكون، فينزل من السماء هذا الماء الذي يغيث الله عز وجل به عباده، فإذا بالعباد لا يملكون إلا أن يتضرعوا عندما يعجزون وييأسون: لم نستطع أن نحضر ماء، حركنا السحاب من مكان إلى مكان فلم نستطيع، انتظرنا حتى تأتي سحابة مليئة بالماء وفجرناها بقنبلة وبغيرها، ولم ينزل أي شيء، ولما نزل نزل رذاذ ولم نستفد منه، فعرفوا أنهم لا يقدرون على شيء فرجعوا إلى الله وقالوا: يا رب! ووقفوا يصلون صلاة استسقاء يطلبون من الله عز وجل أن ينزل عليهم من السماء ماء.

    قال تعالى: (وأنزلنا) فعبر بنون العظمة هنا، وكل أفعال الله سبحانه وتعالى عظيمة.

    قال تعالى: فَأَنْبَتْنَا [لقمان:10] عبر بنون العظمة أيضاً؛ لأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا زرعت هذه الأرض، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لك غذاءك وكساءك وماءك وشرابك، قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:68-69] من الذي أنزل الماء من السماء ؟! أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:63-65]، فالله عز وجل هو القادر على كل شيء سبحانه.

    فهنا قال: فَأَنْبَتْنَا [لقمان:10] وهناك قال: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:64-65]، والإنسان يرى نفسه أنه يزرع، ولكن هل الفعل الذي فعلته هو الذي شق هذه الحبة التي في الأرض، وهو الذي أنبت بذرها، وأخرج ساقها، وأخرج ورقها، وأخرج ثمارها؟ الجواب: لا، فما أنت إلا سبب من الأسباب.

    قد تبذر الحب وقد لا تبذر، فتأتي الرياح على حبوب موجودة في مكان فتذروه الرياح فيطير ويقع على الأرض، فينزل المطر فيخرج من الأرض سنابل بقدرة الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجب عليه أن ينظر إلى نفسه أنه سبب من الأسباب، وأنه ليس خالقاً يخلق، وليس هو الذي يخرج الزرع وإنما الذي يخرجه هو الله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان:10] أي: أنبتنا في الأرض من كل زوج أي: من كل صنف، ومن كل نوع، ومن كل ما يشتهيه الإنسان من طعام، (كريم) وصفه الله عز وجل بأنه كريم، والكريم عكسه: اللئيم، فالزرع الذي ينبت لئيماً لا ينتفع به الإنسان، ويكون خبيثاً، ولا يكون فيه منفعة، ولكن الكريم هو الشيء الطيب الذي يتلذذ به الإنسان ويأكله فيكون له قوتاً وفاكهة وغذاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ...)

    قال تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان:11] أي: هذا الذي أراكم الله سبحانه هو خلقه البديع العظيم، فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11].

    والسورة مكية، والسور المكية تهتم بجانب التوحيد والعقيدة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، كما تهتم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية.

    وتوحيد الربوبية: هو أنه لا رب إلا الله، ومقتضى ربوبيته أنه يخلق ويرزق، وينفع، ويضر، ويعطي، ويمنع، ويفعل ما يشاء سبحانه، والإله مقتضى ألوهيته أن يعبد سبحانه، لذلك يقرن بين الاثنين ليبين أن الرب هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً.

    والمشركون لم يتكلموا في أمر الربوبية، فلم ينكروا ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولم يقولوا: نحن نخلق، ونحن نرزق؛ بل إنهم نسبوا الخلق والرزق لله سبحانه.

    لكن إذا قيل لهم من تعبدون؟ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71]، نعبد أوثاناً صنعناها لتقربنا إلى الله، فالله عز وجل يقول: هذه الأوثان والأصنام هل خلقت؟! هل رزقت؟! هل خلقت السموات والأرض؟! أو أخرجت لكم غذاء أو ماء؟ فإذا كانت لا تفعل فلم تعبدوها؟ ولم تتوجهون إليها بالعبادة وتزعموا أنها آلهة؟!

    قال سبحانه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان:11] أي: هذا الخلق الذي خلقه هو الرب وهو الله سبحانه المستحق للتأليه، المستحق للعبادة.

    فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] والذين من دون الله هي هذه الآلهة التي تعبدونها، أي شيء خلقت؟ ثم أضرب عن هذا وقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [لقمان:11] فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، فاعتقدوا غير ما هو حق، عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وإذا بهم يعطون صفات الله عز وجل لغير الله سبحانه، فظلموا وبهتوا، ووقعوا في هذا الباطل الشنيع العظيم، فوصفهم بأنه ظالمون، والظلم هنا هو الظلم الأكبر وهو: الكفر بالله سبحانه وتعالى.

    والظلم: هو أن يضع الإنسان الشيء في غير مكانه، فإذا بهم بدلاً من أن يصرفوا العبادة لصاحبها صرفوها لغير صاحبها، وقد ضرب يحيى بن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مثلاً للناس في أمر الشرك بالله سبحانه وتعالى: كمثل رجل بنى بيتاً وجعل حانوتاً واشترى عبداً بماله، وقال للعبد: هذا بيتي وهذا عملي، اعمل هنا وضع هنا، أي: اعمل في دكاني، وهات الأجر وضعه هنا في البيت، والبيت والدكان والعبد ملك لصاحبه، فإذا بهذا العبد يعمل في هذا المحل، ويعطي المال لإنسان آخر، فهل هناك أحد يرضى أن يعمل عبده في ماله ويعطي الربح لغير صاحبه؟ الإنسان لا يرضى بذلك، ويقول: هذا ظلم، فكيف إذا كان الأمر لكم قلتم: هذا ظلم؟ وإذا كان لله جعلتموه من الحق، وجعلتموه من العدل؟

    فالله هو الذي خلقكم سبحانه، وسخر لكم ما في الأرض، وأنعم عليكم بنعمه، فإذا بكم تتوجهون إلى غيره بالعبادة، كعبد السوء هذا.

    فالله سبحانه وتعالى يقول: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ [لقمان:11] وإذا تاه الإنسان وابتعد عن الحق فقد وقع في الضلال.

    وضل الإنسان بمعنى: تاه، فهؤلاء تائهون متحيرون، ابتعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى، ولم يعرفوا الحق، أو عرفوا فأنكروا، فكانوا في ضلال مبين، ومعنى (مبين): بين واضح.

    نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756575041