إسلام ويب

تفسير سورة التينللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( والتين والزيتون ... وهذا البلد الأمين )

    سورة التين هي السورة الخامسة والتسعون، وهي مكية، وقيل: مدنية، والأرجح الأول لقوله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، إشارة إلى المكان الذي نزلت فيه السورة، وهو مكة. وآيها ثمان. عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بـ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، فما سمعت أحسن صوتاً أو قراءة منه) أخرجه الجماعة. بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3].

    أقوال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين )

    اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]. أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين. فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد : التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وعن ابن عباس : التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس. فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان. وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.

    كلام القاسمي في قوله تعالى: ( والتين والزيتون ... )

    يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن جرير : لا، مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومعروف في التاريخ القديم أن جبل الزيتون جبل بفلسطين، يكون معروفاً ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين. قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء، ويسمى أيضاً: طور زيتا إلى الآن، أي: جبل الزيتون. فعلى قول ابن جرير الطبري : إن التين والزيتون هما الشجرتان. وكان طور سينين موضعاً أو مكاناً، والبلد الأمين مكان، فإذا أمكن أن نحمل التين والزيتون على أنهما منابت التين والزيتون، أو أنهما موضعان، فسيكون هناك اتفاق بين المقسمات كلها. ثم يقول القاسمي: على أن في ما قرره ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معاً في نسق واحد غير مفهوم، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معروف، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.

    كلام ابن كثير قي قوله تعالى: ( والتين والزيتون ... )

    قال ابن كثير : وقال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة -أي: أماكن ثلاثة- بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محلة التين والزيتون، وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى بن مريم عليهما السلام. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء، وسيناء: الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة وفيها: (جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران). وهذا اللفظ موجود في التوراة إلى اليوم، وهو بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أن ينكره إلا مكابر. قوله: (جاء الله من طور سيناء)، أي: الذي كلم الله عليه موسى، (وأشرق من ساعير)، أي: جبل بيت المقدس، الذي بعث الله عنده عيسى، (واستعلن من جبال فاران)، فاران: مكة في لغة ما يسمى بـ(العهد القديم)، وجبال فاران: أي: جبال مكة. ويوجد أيضاً في التوراة لفظ: (إن إسماعيل نشأ في جبال فاران) أو (..بين جبال فاران). قال ابن كثير: أي: جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب المدني بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير .

    كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: ( والتين والزيتون .... وهذا البلد الأمين )

    لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه كتاب: (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)، وهذا الكتاب من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو كتاب جدير أن يفنى العمر في دراسته؛ لأنه كتاب قيم جداً، ومن أروع الكتب في هذا الفن، والأمريكان من اهتمامهم بهذا الكتاب ترجموه، وتوجد منه نسخة في مكتبة الكونجرس باللغة الانكليزية، مع أن منا من لم يره أصلاً -فضلاً عن أن يقرأه أو يبحث فيه- فليعلم أن هذا الكتاب من أروع الكتب، وأكثر من ألّف في بحث عقيدة النصارى إنما كان عالة على هذا الكتاب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فصل: شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول -في الترجمة-: تجلّى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء -واللفظ لـأبي محمد بن قتيبة -: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى: ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة. قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادّعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم. قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران؟! والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس (استعلن) و(عَلِنَ) هما بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف؟! هل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ إن استعلن هي: الظهور والإعلان والانتصار الكبير، وهذا ليس إلا من ملة الإسلام. وقال أبو هاشم بن ظفر : (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام. قلت -القائل: ابن تيمية -: وبجانب بيت لحم -القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم: ساعير ولها جبال تسمى: جبال ساعير... وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة. وجبل النور أو الجبل الذي فيه غار حراء شكله مميز جداً، حيث ترى المنظر في قبة الجبل كأن الجبل مُنطوٍ يستقبل شيئاً من السماء. ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: (وذلك المكان يسمى (فاران) إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى: برية فاران، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه. وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً)، وسمى الشمس (سراجاً وهاجا). والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زُويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها)اهـ. ونحن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرجح القول بأن قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1] أن القسم هو بالمكان الذي ينبت فيه التين والزيتون، وأيضاً: وَطُورِ سِينِينَ [التين:2] مكان، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] مكان أيضاً. وذلك يتضح من قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق: (وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3] ... الآيات. فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين، وهو مكة، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر فيه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً. ثم قال شيخ الإسلام في بسط هذه الآيات الثلاث: فقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]؛ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق). إذاً: التوراة جاءت في الترتيب الزماني الأول، حيث بدأ بها بقوله: جاء الله من طور سيناء. أي: رسالة موسى، وأشرق من ساعير. أي: رسالة عيسى، واستعلن من جبال فاران. أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ثم قال شيخ الإسلام: (وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وتعالى وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل). والتوراة أعظم وأهم بكثير من الإنجيل؛ لأن الإنجيل جاء مكملاً ومتمماً فقط، كما قال عيسى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] إلى آخر الآيات. لكن الشريعة كاملة كانت في التوراة، فانظر إلى هذه الدقة؛ لأن السياق في القرآن سياق تعظيم لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فبدأ بها حسب دلالتها، فقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1] هذه رسالة عيسى، وَطُورِ سِينِينَ [التين:2] رسالة موسى عليه السلام، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] القرآن الذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال شيخ الإسلام : وكذلك الأنبياء، فأقسم بهم على وجه التدريج حسب مقامهم، فهذا كقوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:1-4]. فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر، فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]. انتهى كلامه رحمه الله. (فالمقسمات أمراً): هي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.

    تفسير آخر لقوله تعالى: ( والتين )

    استظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: وَالتِّينِ [التين:1] أي: شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية، والتي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي. وقال هذا المعاصر: فإن تعاليم بوذا لم تكتب في زمانه، وإنما رويت كأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعه. ثم قال: والراجح في ذلك -بل المحقق- إذا صح تفسيره لهذه الآية: أنه كان -أي: بوذا- نبياً صادقاً، ويسمى: خيامونجي أو زوناما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة، وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم: التينة المقدسة، وبلغتهم: أجافالا. ثم قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها، ثم ارتقى إلى النصرانية، ثم اليهودية، ثم الإسلامية ... إلخ.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )

    قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] هذا هو المقسم عليه، والمعنى: في تقويمٍ هو أحسن تقويم، فـ(أحسن تقويم) نعت لمحذوف، والتقويم هو التعديل كما في قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا [الكهف:1-2]، والتعديل أو التقويم حسّاً ومعنى، حساً: في شكل الإنسان وبُنيته، حيث يمشي منتصب القامة، ولا يمشي على أربع، وهذه أكمل وأجمل صورة. وأما معنوياً: فمن حيث أن الله سبحانه وتعالى ميّزه بالروح الإنسانية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، أي: عدلها. وهذا التقويم الذي قوم الله الإنسان أو عدله عليه هو من دلائل القدرة ودلائل البعث، وبالتالي يكون دليلاً على قدرته على البعث والنشور، كما يقول الشاعر: دواؤك منك وما تشعرُ وداؤك منك وما تبصرُ وتزعم أنك جُرْمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ يقول تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:37-40]؟ بلى. وقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) الإنسان هنا مفرد لكنها اسم جنس، والدليل على أنها اسم جنس أنه قال بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التين:6] يعني: أن كلمة الإنسان يستثنى منها الذين آمنوا فدلّ على أنها اسم جنس، مثل سورة العصر: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:2-3] فهذا الاستثناء يدل على أن كلمة (إنسان) اسم جنس. قوله: (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أحسن تعديل خلقاً وشكلاً صورة ومعنى، فهو في أحسن صورة وأعدلها.

    كلام الشنقيطي في قوله تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] تُوهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه، فالكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء، فأكد لهم الإيجاد الأول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7]، أي: إذا كان الله هو الذي خلقك وبدأك بأحسن تقويم (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)، الدين: هو الجزاء، كما قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، يوم الدين: يوم الجزاء. أي: ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أولاً؟! فمن أوجدك أولاً فهو قادر على أن يوجدك ثانياً، كما قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]، وقال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104], وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] إلى غير ذلك من الآيات. فلذلك ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول، مع أنه مُقرّ بأن الله هو الذي خلقه، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، فهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلقهم، لكنهم تصرفوا تصرف الذي ينكر أن الله خلقهم؛ لأنهم ينكرون البعث والنشور، فلذلك زعموا بأنهم أيضاً ينكرون الإيجاد الأول، ولذلك فإن الإنسان لا ينكر البعث والنشور إلا إذا نسي الإيجاد الأول، قال الله سبحانه وتعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]. وقال تعالى: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ [مريم:66-67]. وفي هذا إشارة إلى أنه ليس من الممكن أنه ينكر النشور إلا إذا نسي البعث، فتأمل كلمة: (أولا يذكر!)، وفي سورة يس: وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]، أي: أنه يقرّ أن الله هو الذي خلقه، لكنه ينسى؛ لأنه بإنكاره البعث والنشور يلزمه أن ينكر أيضاً بداية الخلق، فلذلك هو ينسى الخلق الأول: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:66-67]. وبعض المفسرين قالوا في تفسير: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7]، أي: من يقدر على تكذيبك يا نبي الله! بالثواب والعقاب بعدما تبين أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ثم رددناه أسفل سافلين .... ) إلى آخر السورة

    يقول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، أي: جعلناه أسفل من سَفُل، وهُم أصحاب النار؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وأسفل سافل للمتعثر المتفاوت؛ لأن دركات النار كلما كانت أسفل تكون أسوأ، فقوله: أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] يعني: أحطّ منزلة، و(ثم) للتراخي الزماني، أو هو رتبي، أو (أسفل سافلين) أي: إلى مكان أشد سفولاً وهو النار بمعنى: جهنم. وقوله: (أسفل سافلين) قيل: نزلهم منزلة العقلاء، كذا قالوا، ولو قيل: هم أهل النار والدركات؛ لأنهم أسفل السفل لكان أولى. قوله: (ثم رددناه) يعني: أننا نفعل هذا بكثير من الناس، وليس بكل إنسان، والعرب تقول لمن ينفق: أَنفَقَ ماله على فلان. مع أنه لم ينفق كل المال، وإنما بعض المال، ويقول تعالى: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18] هل يقصد كل ماله؟ لا، بل بعض ماله. وبعض المفسرين ذهبوا إلى أن معنى قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، أي: القوة والشباب والفتوة، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، أي: بأن يُردّ إلى أرذل العمر.

    الاختلاف حول معنى قوله تعالى: ( ثم رددناه أسفل سافلين ... )

    يقول تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [التين:6]. المقصود بهذا الاستثناء قولان: القول الأول: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا )) يعني: فإنهم لا يُردون إلى الخرف وأرذل العمر، وإن عُمّروا طويلاً فهم في عافية من أن يصيبهم الخرف ونحوه. قال ابن عباس : من قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العمر. القول الثاني: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا )) أي: فإنهم لا يُردّون إلى النار، فالنار هي المقصودة بقوله: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]. قوله تعالى: (( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )) أي: غير مقطوع، أو غير منقوص، أو غير محسوب، أو غير ممنون به عليهم، وسبق في سورة القلم البيان بالتفصيل أن هذا التفسير الأخير لا يصح؛ لأن الذي يمنّ هو الله سبحانه وتعالى، فله المنّة وله الفضل، وما من خير إلا من الله سبحانه وتعالى.

    تفسير ابن جرير لهذه الآيات

    وقد اعتمد ابن جرير في تخريج الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن معنى الآية: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] أي: ثم رددناه إلى أرذل العمر، وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كُتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمله في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته. انتهى كلامه. وهذا غير صحيح؛ لأن الواقع يشهد بخلافه، فكم نرى من أناس صالحين أصابهم الخرف، مثل بعض علماء الحديث تجد أنه تغير في آخر عمره واختلط حفظه! وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، فإن كل كمال يؤول وينتهي إلى النقصان، ومهما بلغ الإنسان فلابد أنه يرجع إلى الضعف، وتضمحل قواه، وهذا ليس بعيب، وإن كان يوجد فعلاً بركة في العمر وفي الصحة لكثير من الناس والعلماء الأفاضل ممن طعنوا في السن، ومع ذلك لم تذهب عنهم العافية، وهذا من بركة القرآن وبركة العلم والطاعة، لكن هل نقول: إن عدم وجودها نذير شؤم وبلاء على صاحبه وعلامة سوء خاتمة والعياذ بالله؟! الجواب: لا؛ لأنه لا يُتصور أن الإنسان الذي اجتهد طول عمره في الطاعة والاستقامة ثم ابتلي بمرض من أمراض الشيخوخة المعروفة، مثل فقدان الذاكرة أو نحو ذلك أن نعامله كأنه إنسان مجنون. فالله سبحانه وتعالى هنا كأنه يُطمئن من جرت عليه هذه السنّة حين طعن في السن ورد إلى أرذل العمر أنه ما دام مكلفاً فهو ينال ثواب عمله إذا ابتلي بأي مرض، وبعض الناس لو رأى أحداً ممن ابتلي بالسرطان أو غيره من الأمراض فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذه علامة سوء! نقول: لا، هذه سنن الله، وهي تمضي على كل خلق الله سبحانه وتعالى، وربما ترتفع بها درجات الإنسان إذا ابتلي بالبلاء الكبير. وعلى هذا، فقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:6]، كأنها بشارة ومواساة وتعزية لمن يبتلى بمثل هذا، أنه إذا اختلّ عقله مثلاً بسبب كبر السن، فلا يؤاخذ على ما يصدر منه من أشياء غير حميدة، وفي هذه الحالة يبشره الله سبحانه وتعالى أنه ما دام حياً فإنه يجري عليه ثواب الأعمال الصالحة التي كان يعملها قبل أن يبتلى بهذا المرض؛ لأنه ظل مستقيماً إلى آخر إمكانياته. ولذلك قال تعالى: (( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )) يعني: غير منقطع عند تغير العقل بسبب كبر السن، وسيظل يجري عليه أجره تامّاً، كما جاء في الحديث: (إذا سافر العبد أو مرض كتب الله مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً). ومثله من كان مواظباً على قيام الليل ثم فاته قيام بعض الليالي لمرض أو نحوه، فإنه يكتب أجره كاملاً كما كان يقوم الليل من قبل، ما دام أن الذي أقعده هو المرض. فكذلك قوله: (( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )) أي: أنه إذا دخل في هذا السن وأصابه المرض فلا ينقطع أجره، بل يجري عليه أجر ما كان يعمله في حال شبابه وقوته؛ لأنه ما حال بينه وبين الطاعة إلا عذر سماوي لا يد له فيه. وفي آخر العمر يصيب الإنسان الضعف وذهاب العقل، يقول الشاعر: إن الثمانين وقد بُلَّغْتُهَا أحوجت سمعي إلى ترجمان فالحواس كلها تضعف، والآيات في هذا واضحة بأن معنى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: الرد إلى أرذل العمر، يقول تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس:68]، ولذلك قال الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أي: لأن الكبير يعود إلى حال الأطفال بالضبط، وكما كانت أمك وهي تنظفك من النجاسات والأقذار دون أن تتأفف أو تتضجر، فإذا احتاجت هي وأبوك لهذا في يوم من الأيام فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]. قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل:70]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الروم:54] سبحانه وتعالى!!

    تفسير النخعي وابن قتيبة لقوله تعالى: ( فلهم أجر غير ممنون )

    يقول النخعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل، كُتب له ما كان يعمل، وهو قوله تعالى: (( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )). وقال ابن قتيبة : (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) يعني: إلا الذين آمنوا في وقت القدرة والقوة، فإنهم حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات؛ لأن الله تعالى علم أنه لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك. فكأن الله من رحمته يثيبه على النية، مثلما يحصل في سبب خلود أهل النار وخلود أهل الجنة، فإن الخلود للنية، مع أن الكافر يكفر لفترة سنوات محدودة، والمؤمن يؤمن ويطيع الله لمدة محدودة، وله مقابل إيمانه وعمله الخلود في الجنة؛ لأن المؤمن ينوي أن يستقيم على طاعة الله مهما امتدّ به العمر، ولو عاش للأبد سيظل مستقيماً على طاعة الله، مؤدياًحق الله، والكافر مُصرّ على الكفر إلى آخر ما أمكنه، فعامل الله هذا بنيته وذاك بنيته. فكذلك المؤمن في حياته، ما دام ينوي الاستقامة على الطاعة، ثم حيل بينه وبينها بمرض أو عذر، كما في هذه الأحوال التي ذكرنا، فإنه لا ينقطع أجره، بل يستمر وكأنه يعمل نفس الأعمال التي كان يعملها قبل هذه الشيخوخة.

    إيراد كلام ابن جرير حول هذه الآيات، وما رجح في تفسيرها

    قال ابن جرير : (وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) في حال صحتهم وشبابهم، (( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )) بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل). والسورة فيها الإشارة إلى المراحل التي يمر بها ابن آدم: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:4-5]. فهذا الكلام جاء في سياق الاحتجاج بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت؛ لأن الآية بعد إقامة هذه الحجة والدليل الواضح على البعث والنشور لا يجرؤ إنسان على أن يكذب بالدين، وهو هنا: الجزاء، لذا قال في آخر السورة: (( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ )) أي: من الذي يقوى ويتجاسر ويجرؤ على أن يكذب بالبعث والنشور بعد هذه الحجة، وقد احتج الله عليهم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه. يقول الإمام ابن جرير رحمه الله: قوله: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] فيها احتمالين: الأول: إما (رددناه أسفل سافلين) بأن يُردّ إلى أرذل العمر والكبر. الثاني: أن يدخل النار في أسفل سافلين. وسياق الآيات هنا سياق إقامة الحجة عليهم بقدرة الله على البعث والنشور، وأنت إذا أردت أن تقيم الحجة على الخصم، فإنك تأتي له بكلام لا يمكن أن ينكره أو يدفعه، فأنت لو قلت له: إن معنى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7]، أي: فما يكذبك بعد هذه الحجة -وهي: أن العصاة والكفرة يردون إلى أسفل السافلين من جهنم؟ فمن الممكن أن يقول لك الخصم: أنا أنكر النار أصلاً، ولا يوجد شيء اسمه نار! فالله سبحانه وتعالى هنا في سياق إقامة الحجة بمراحل الخلق لإثبات القدرة على البعث والنشور، أتى بشيء لا يستطيعون أن ينكروه، فهو يصلح أن يكون حجة على البعث والنشور. يقول الإمام ابن جرير: وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب في ذلك؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال، احتجاجاً بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7] يعني: بعد هذه الحجج، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه، مما يعاينونه ويحسونه، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين، وإذا كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهَرَم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، عُلم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف.

    إيراد كلام الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان

    يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: لأن الله تعالى قال في آخرها: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7] أي: بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو الشاهد لهم، يحتج به عليهم. أما رده إلى النار فأمر لم يشهدوه ولم يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلاً يقيمه عليهم؛ لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول، والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه. ومما يشهد لهذا الوجه: أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلاً، فغلاماً، فشيخاً، فهرماً، فهرم وعجز، جاء مثلها في النبات، وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الحديد:20] إلى قوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ [الحديد:20]. وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21]. فكذلك الإنسان؛ لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:17-18]. ويكون الاستثناء: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا )) فإنهم لا يصلون إلى حالة الخرف وأرذل العمر؛ لأن المؤمن مهما طال عمره فهو في طاعة وفي ذكر الله، فهو كامل العقل، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يصاب بالخرف ولا الهذيان. وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة، الشيخ: حسن الشاعر لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع، وهو يضبط على الجميع. انتهى كلامه. وهذا أمر ملاحظ، ولكنه ليس قاعدة في أن من وصل إلى هذه السن وحفظ الله عليه صحته، فإن ذلك يكون بسبب العلم أو نحوه، وليس معناه أن من ابتلي بأمراض الشيخوخة يكون هذا بذنب منه أو أن هذا غمز فيه، لا، بل هذه سنة الحياة. فمثلاً: العلامة الألباني رحمه الله تعالى توفي عما يقارب تسعين سنة، والشيخ ابن باز كان عمره حوالي واحد وتسعين سنة، رحمهم الله أجمعين. فهذا موجود ومشاهد، ومن العجيب جداً ما كان من أمر العلامة الكبير القاضي الشيخ عبد الله بن يوسف ، الذي تلقيت عنه شيئاً بسيطاً من العلم في أبها، وكان قرين ابن باز أو ربما أكبر منه قليلاً، وهو إلى الآن حي يُرزق، وهو مشهور جداً بصفة معينة -والشيخ عائض القرني باعتباره من بلده يعرف هذه الصفة- وهي: أنه لا يفتر أبداً عن ذكر الله بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن يوقف لسانه عن الذكر مطلقاً، وهذا من العجائب، وهذا الشيخ كبير جداً في السن، ومع ذلك -ما شاء الله- يحفظ بعض كتب العلم بالحرف، فهو يحفظ كتاب (المغني) من الجلدة إلى الجلدة عن ظهر قلب، وأنا كنت أقرأ عليه أحياناً في كتاب (لطائف المعارف) لـابن رجب ، فكان يصحح لي في الكتاب غيباً. فالله أعلم، ربما ما تعلم كتاباً إلا وكان حافظاً له. وقد كان على درجة عظيمة جداً من العلم، وكان إذا تغيب شيخه عن الدرس فإنه يقوم مقامه في إلقاء الدرس للشيخ ابن باز ورفاقه. وقد كنت أظن أنه توفي؛ لأنه كبير جداً في السن، ولكن قبل شهور قليلة فوجئت بأحد الإخوة من أبها يقول لي: إنه ما زال حياً يُرزق، حفظه الله تعالى. فالشاهد: أن هذا شيء ملاحظ، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحفظ العبد إذا حفظ جوارحه.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756378492