إسلام ويب

تفسير سورة النساء [69-72]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول...)

    انتهينا في تفسير سورة النساء إلى الآية التاسعة والستين إلى قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) يعني: في طاعة الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذكره صلى الله عليه وآله وسلم جاء تشريفاً لقدره وتنويهاً باسمه صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).

    تفسير آية النساء لآية الفاتحة

    هذه الآية هي تفسير لقوله تبارك وتعالى في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] فهذه الآية تبين الذين أنعم الله عليهم، والذين أجمل ذكرهم في سورة الفاتحة، فهؤلاء الذين أوجب الله علينا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن نسأله أن يهدينا صراطهم، هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما ذكر في هذه الآية أيضاً هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم عند موته: (اللهم الرفيق الأعلى) يعني: أسألك الرفيق الأعلى. والرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية: (الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين). وفي البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة). وتقول: (وكان صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قالت: فعلمت أنه خير) يعني: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سمعته صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تقول: فعلمت أنه خير) فهذه الرواية أيضاً تفسر قوله في الرواية الأخرى: (بل الرفيق الأعلى) فمعنى ذلك: أن الرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية الكريمة.

    الحكمة من عدم ذكر المنعم به في الآية

    لم يذكر الله تبارك وتعالى المنعم به ولم يعينه إشعاراً بأن النعمة التي أنعمها عليهم تقصر كل عبارة دون وصفها، فإن دار النعيم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تقوى عبارة مهما كانت على وصف هذا النعيم. قوله: ((من النبيين)) أي: الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام، وأمرهم بإنبائها الخلق كلاً بمقدار استعداده.

    الصديقية ومنزلتها وفضلها وحقيقة الشهداء والصالحين

    قوله: (الصديقين) الصديقين: جمع صديق، وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة، صادق في ظاهره في العبادات والمعاملات، وفي باطنه بمراقبة الله سبحانه وتعالى، أو هو الذي يصدق قوله فعله. وقال الرازي : للمفسرين في الصديق وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الدين ولا يتخالجه فيه شك فهو صديق، أي: فالصديق مبالغة من التصديق بكل ما جاء من أمر الدين. والدليل عليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19]. الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك فـأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف، فإن أعظم الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله عنه، فهو أفضل البشر بعد الأنبياء، وأعظم الأولياء وأحبهم إلى الله سبحانه وتعالى. ثم جود الرازي الكلام في سبقه رضي الله تعالى عنه إلى التصديق، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صدق وبادر بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد ما علم أنه أرسل أو نبئ صار قدوة لمن تبعه على الإسلام بعد ذلك. في هذه الآية أيضاً دليل على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ لأن هذه الآية تدل على إنعام الله عز وجل على هؤلاء الصديقين، وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بـالصديق ، فدل على أوليته وأحقيته بالإمامة دون من عداه. (والشهداء) يعني: الذين استشهدوا في سبيل الله تبارك وتعالى. (والصالحين) الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

    مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة

    (وحسن أولئك) يعني: هؤلاء المذكورين. (رفيقاً) يعني: في الجنة، والرفيق الصاحب، سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته. (وحسن أولئك رفيقاً) يمكن أن يقال: رفقاء، هنا عبر عن الجمع بالواحد؛ لأن هذا يحصل من العرب كثيراً في كونهم يعبرون عن الجمع بالواحد، كالصديق أو الخليل كما في قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق. وقوله تعالى: (( وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا )) فيها معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً!

    فوائد مستقاة من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم...)

    هنا بعض التنبيهات المتعلقة بهذه الآية الكريمة: أولها: أنه ليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، بينما لا يمكن أن تكون مرتبة ومنزلة واحد من عوام المسلمين في الجنة كمرتبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو كمرتبة أبي بكر وعمر وغير هؤلاء المذكورين. لكن المقصود أن أولئك يكونون معهم في دار واحدة، يعني: تضمهم دار واحدة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية، يعني: يمكنهم أن يتلاقوا وأن يتزاوروا، فهم مع الذين أنعم الله عليهم جميعاً في دار واحدة وهي الجنة، وإن تفاوتت مراتبهم ومنازلهم، فهم يتفاوتون ولكنهم يتزاورون، وكل من فيها قد رزق الرضا بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول؛ لأنه لن يشعر بأن غيره أفضل منه، حيث ينزع منه هذا الشعور حتى لا يكدر عليه هذا النعيم، فلا يحس أن غيره أفضل منه، بل رزق الرضا بما أتاه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر:47]. ثانيها: أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم أفضل من مرتبة الصديقية، ولذلك أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة كما قال عز وجل في صفة إدريس: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:56] وقال هنا: (( فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ )) فهو يقرن دائماً بين الصديقين والأنبياء، وإذا ترقيت في النطق من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة ستجد أسفل الأنبياء مباشرة الصديقين ولا متوسط بينهما، وقال عز وجل: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] فلم يجعل بينهما واسطة. وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وصف الله هذه الأمة بأنها خير أمة، والأمة أجمعت على جعل أبي بكر حتى جعلوا الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم توجد واسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر في الخلافة، وإنما خلفه مباشرة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وتحقق عموم قوله عز وجل في شأن الصديق رضي الله تعالى عنه: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا أبكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!). فتحقق هذا الأمر فلم يطلق لقب: خليفة رسول الله إلا على أبي بكر ؛ لأنه في عهد عمر رضي الله تعالى عنه قالوا: لو ظللنا كلما أتى خليفة جديد نضيف له هذا اللفظ لطال جداً، يعني: إذا قيل في حق أبي بكر : خليفة رسول الله، ثم قيل في حق عمر : خليفة خليفة رسول الله، وفي حق الثالث: خليفة خليفة خليفة رسول الله، فإن الأمر سيطول، فمن لذلك رأوا أن يستبدلوها بلقب أمير المؤمنين. فشاء الله سبحانه وتعالى أن يختص أبا بكر بهذه النسبة، وأن يكون الله ثالثهما، كما في الحديث: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فعبارة خليفة رسول الله قرن فيها اسم أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأيضاً لما توفي رضي الله تعالى عنه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية. فمن ثم ارتفعت الواسطة بينهما في هذه الوجوه التي ذكرناها.

    سبب نزول قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم...)

    أما سبب نزول هذه الآية فعن سعيد بن جبير قال: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان! ما لي أراك محزوناً؟ قال: يا نبي الله! شيء فكرت فيه، قال: وما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره). وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس ، وروي في بعض الآثار أن ذلك الصحابي الذي حصل معه هذا هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان. بل ذكر مكي ولم يذكره بسنده: (أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن زيد : اللهم! أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي مكانه)، ولو صح أنه دعا على نفسه بالعمى حتى لا تقع عينه على شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك وقع لاشتهر ولشاع، فيبعد أن يصح مثل هذا خاصة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا الدعاء بالعافية.

    من أسباب مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة

    في معنى هذه الآية أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، -أي: أسألك- أن تدعو لي بمرافقتك في الجنة- فقال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذلك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: لا تحصل هذه المنزلة إلا بكثرة السجود. ومن الأحاديث في نفس هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن مرة الجهني قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات على ذلك كان مع النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا، ما لم يعق والديه، ونصب أصبعيه). وقال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب، المرء مع من أحب، قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث، ثم قال أنس بن مالك : والله! إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن يبعثني معهم، وإن لم أعمل بعملهم). إذاً: هذا من أوثق الأسباب التي يتعلق بها الإنسان كي ينال هذه المراتب العالية، لا بالأماني والغرور ولكن بالاجتهاد في الطاعة وفي العبادة. انظر! مجرد محبة هؤلاء الصالحين تنفعك في الآخرة، وتنال هذا الثواب العظيم: (المرء مع من أحب). وقوله: (المرء مع من أحب) هذا عام يشمل كل من يحب أحداً من المخلوقين، فالذي يحب المغنين والممثلين والمطربين وأبطال الكرة والرياضة يكون معهم، والذي يحب الظلمة والمتجبرين يكون معهم، وكذلك الذي يحب الرسول عليه الصلاة والسلام والذي يحب الصحابة فإنه يكون معهم. فإذاً: من الأسباب التي توصل إلى المراتب العالية في الجنة الاجتهاد في محبة الصالحين، كما قال الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم. وقال الإمام الشافعي : أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأبغض من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة على أي الأحوال؟ فمحبة الصحابة من أعظم الأسباب التي يرجى أن تنفع صاحبها يوم القيامة، وبالعكس من وجد في قلبه والعياذ بالله بغضاً لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهذا نذير شؤم عليه، ونذير سوء عاقبة؛ لأن من يكون في صف مقابل ومضاد لصف فيه أبو بكر وعمر فسوف يوليه الله عز وجل الظالمين مثله، قال عز وجل: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]. فينبغي على كل من وجد في قلبه شيئاً على أحد من الصحابة أن يطهر قلبه منه، وللأسف الشديد كنت أتحدث مع بعض الناس عن مسألة الصحابة رضي الله عنهم وما ينبغي لهم من المحبة في قلوبنا، والجميل الذي في أعناقنا، ونذكر ما بذله لنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فوجدت أن بعض الناس الذين نشئوا على المناهج الدراسية في ظل الثورة المشئومة يحطون من قدر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فالمسلم المنصف مهما قرأ فإنه لا يتصور أن هذا هو الشخص الذي درست شخصيته في التاريخ، وصارت الصورة منطبعة في ذهن الكثيرين بشكل مشوه، حتى إن أغلب الناس نتيجة تربيتهم منذ نعومة أظفارهم يبغضون عمرو بن العاص ويبغضون معاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة؛ لأن الخبثاء يعمدون إلى شخصيات مثل شخصية عمرو بن العاص فيشوهون صورته كذباً وزوراً، مع أنه هو الذي فتح مصر وطهرها من الوثنية والرجس والأوثان والكفر المبين، وهو الذي جعله الله سبباً لأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأعداء الدين يريدون أن يقطعونا عن هذه الجذور. فلو أن كل أمم الأرض خاضوا في حق عمرو بن العاص لكان واجباً على المصريين بالذات أن لا يخوضوا معهم أبداً، بل الواجب عليهم أن يذبوا عنه ويستغفروا له ويترضوا عنه رضي الله تعالى عنه. عمرو بن العاص وأمثاله من الصحابة -الذين تتطاول عليهم الأقلام المسمومة- داخلون في عموم نصوص القرآن والسنة التي تحث على محبة الصحابة واحترامهم، وهي كثيرة جداً. والله سبحانه وتعالى قد قسم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، والأنصار، ومن يحب المهاجرين والأنصار، فمن ليس من هؤلاء الأقسام الثلاثة فليس من المؤمنين، إما أن تكون مهاجرياً أو أنصارياً وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو تكون ممن أتى بعدهم محباً لهم، فإذا لم تحبهم فلست منهم وليسوا منك. يقول سبحانه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] أي: المهاجرون، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] أي: الأنصار، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. فمن وجد في قلبه غلاً لواحد من الصحابة فهذا علامة نفاقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار). وأيضاً يقول الله سبحانه وتعالى في وصف الصحابة رضي الله تعالى عنهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] معنى ذلك: أن الصحابة مدحوا في الكتب السابقة قبل أن يخلقوا، فصفتهم المذكورة هنا في سورة الفتح هي هي تماماً كما وجدت في التوراة التي أنزلها الله على موسى، وفي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام. وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]. قال الإمام مالك : فمن وجد في قلبه غيظاً من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ليس من المؤمنين بل هو من الكفار. فنذير شؤم على أي إنسان أن ينساق وراء هؤلاء الزنادقة والملاحدة الذين يعتلون الآن جميع المنابر الإعلامية، ومناهج التعليم، فصار سمهم منتشراً في كل مكان، بحيث لا ينجو منهم إلا من أراد الله سبحانه وتعالى أن يعافيه من هذا البلاء المستطير، ففي هذا الزمان العجيب لا يكاد يخلو أحد من هذه السموم، فواجبنا أن نطهر قلوبنا وقلوب أبنائنا من سموم المناهج التعليمية، خاصة التي تتطاول على الصحابة. ترى هؤلاء الخبثاء يحرصون على أن يسموا الفتح الإسلامي بالفتح العربي؛ حتى يهربوا من كلمة الفتح الإسلامي. كذلك فتح باب المعاداة لبعض الصحابة خاصة عمرو بن العاص ومعاوية رضي الله عنهما، وما يتبع ذلك من الطعن فيهم وفي غيرهم من الصحابة معناه: أننا نطعن في القرآن والسنة، وهذا هو غرض أعداء الدين. من الذي أدى إلينا هذا الدين؟! ومن الذي حمل إلينا القرآن والسنة؟ إنهم الصحابة، فإذا طعنت في الصحابة كان ذلك طعناً في القرآن والسنة. ولذلك يقول الإمام أبو زرعة رحمه الله تعالى: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، فالصحابة هم الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة، وإنما يريدون بذلك أن يجرحوا شهودنا ليعطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة). ومعنى ذلك: أن من رأيته يسب أحداً من الصحابة أو ينطوي قلبه على عداوة لأحد من الصحابة فاعلم أنه منافق. على أي الأحوال هذا الشخص الذي كنت أتكلم معه يقول: مهما تعلمت رغم حبي الشديد للصحابة واجتهادي في محبتهم لكن أجد من الصعب أن يتخلص قلبي مما بذر في مناهج التعليم التي تعلمناها منذ نعومة أظفارنا من موقف عدائي تجاه عمرو بن العاص ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! الصحابي الذي طهرنا من النصرانية، وطهرنا من الفرعونية، وطهرنا من الشرك، وأنار بلادنا بعد ظلمة الكفر، يكون جزاؤه أن نحمل في صدورنا غلاً عليه رضي الله تعالى عنه. كيف وهو يدخل في كل العمومات التي فيها مدح الصحابة من القرآن أو السنة! فضلاً عما اختص به، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام) فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد له بالإيمان وأنت تطعن فيه وتتطاول عليه. ومن أعظم مناقب عمرو بن العاص ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، وجهاده في سبيل الله عز وجل، وأنه يدخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا لي أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله...)

    يقول تبارك وتعالى: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:70] (ذلك) مبتدأ، وهي بمعنى: هذا الذي تقدم، والخبر الفضل من الله، أو (الفضل) تكون بدلاً (من الله) تكون خبراً، يعني: في هذا إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم. (الفضل من الله) يعني: ليس من غير الله إنما هو من الله سبحانه وتعالى. إذاً هنا معنى مهم جداً يقول الناصر : معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق الله تعالى وفعله، وأن قدرتهم لا تأثير لها في أعمالهم بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها. فالطاعة إذاً من فضله سبحانه فله الفضل على كل حال، والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة. إذاً: فهذه إشارة إلى أن ما نالوه من النعيم المذكور في الآية السابقة ليس بكسبهم، وإنما هو محض فضل من الله عز وجل، فأخبر أنهم لن ينالوا هذه الدرجة العالية بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه، خلافاً لما قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله، دل ذلك على بطلان قول المعتزلة والله تعالى أعلم. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله: (ومن يطع الله والرسول) أي: فيما أمر به (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) وهم أفاضل أصحاب الأنبياء، وسموا صديقين لمبالغتهم في الصدق والتصديق، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). و(الشهداء) أي: القتلى في سبيل الله، ولا يعد الإنسان مقاتلاً في سبيل الله إلا إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وما هي كلمة الله، هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما كلمة الكافرين فهي كفرهم بالله تبارك وتعالى. (والصالحين) غير من ذكر. (وحسن أولئك رفيقاً) أي: رفقاء في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم. (ذلك) أي: كونهم مع من ذُكِرَ مبتدأ خبره: (الفضل من الله) تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم. (وكفى بالله عليماً) بثواب الآخرة، فثقوا بما أخبركم به وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)

    قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71] يعني: تيقظوا واحترزوا من العدو، ولا تمكنوه من أنفسكم. (خذوا حذركم) فيه الأمر باتخاذ السلاح، وأنه لا ينافي التوكل، وقال بعض المفسرين: دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر من العدو وترك التفرق والاختلاف. (فانفروا) أي: اخرجوا إلى الجهاد. (ثبات) جمع ثبة، والثبة: هي الجماعة، يعني: جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة؛ إظهاراً للقوة أمام الأعداء. (أو انفروا جميعاً) أي انفروا مجتمعين كلكم كوكبة واحدة لإظهار المهابة ولتكثير السواد، والمبالغة في التحرز عن الخطر. والتخيير في هذا الأمر هل يكون النفور ثبات -أي: جماعات متفرقة- أو جماعة واحدة موكول إلى اجتهاد الإمام، خاصة إذا كان في العصر الحديث حيث اختلفت طرائق الحروب واستراتيجياتها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن...)

    يقول تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72]. (وإن منكم لمن ليبطئن) اللام الأولى في قوله: (لمن) هذه لام توكيد، (ليبطئن) لام القسم يعني: يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد والخروج مع الجماعة للنفاق. فالمقصود أن منكم ممن ينتمون لكم في الظاهر وليس هم من المؤمنين، لكنهم يدخلون في جملة المؤمنين بحكم الظاهر؛ لأنهم منافقون يحتمون بكلمة التوحيد وإظهار أنهم من المسلمين. (ليبطئن) يعني: يتثاقل أو يتخلف عن الخروج إلى الجهاد، أو يبطئ غيره ويشيع فيهم ما يثبطهم عن الخروج إلى الجهاد، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم. وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي وهو الذي ثبط الناس يوم أحد، وروي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين؛ لأن الذي حكي في هذه الآية هو عادة ودأب المنافقين، وقيل: الخطاب للمؤمنين وقوفاً مع صدر الآية التي قبل هذه حيث تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:71-72]. الله سبحانه وتعالى قال في المنافقين: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]. وقوله: (وإن منكم) هذا في الحقيقة خطاب صريح للمؤمنين ولمن يدخل معهم في الظاهر بصفة الإيمان وهم المنافقون؛ لأن ما ذكر لا يصدر عن مؤمن (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً) يعني: حاضراً. (منكم) يعني: إن من دخلائكم وجيشكم وممن أظهر إيمانه منكم. فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين وتجري أحكام المسلمين عليهم. والجمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب لا من جهة الإيمان، (وإن منكم) يعني: ممن هم في الظاهر من جنسكم، لكن هم في الحقيقة بخلاف ذلك، ولو أصابتكم هزيمة أو شهادة أو تغلب العدو عليكم لما لله في ذلك من الحكمة قال هذا المبطئ فرحاً بصنيعه: (قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756657692