إسلام ويب

ثمار الأخوةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حين تنبني الأخوة على أساس العقيدة، فإنها تؤتي ثمارها اليانعة في الدنيا، والتي تتمثل في الإيثار، والمناصحة، وغيرها، ثم بعد ذلك تؤتي ثمارها الأخروية، والتي قلّما يتنبه إليها من يحرص على مثل هذه الخصلة.

    1.   

    الأخوة صلة بين المؤمنين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعـد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    وأسأل الله العظيم أن يجزي أخانا أبا محمد كل خير ومن تسبب في هذا الاجتماع الطيب، وأسأله تعالى أن يوفقنا جميعاً فيه لما يحبه ويرضاه من صالح القول والعمل.

    إخواني في الله: الأخوة في الله وشيجة بين المؤمنين وصلة بين عباد الله المتقين، جمعت القلوب على طاعة الله، وألفت بين الأفئدة في سبيل مرضاة الله، وهي أوثق عرى الإيمان، فما آمن عبد بالله عز وجل إلا أحب أحباب الله واتجه قلبه لمحبة إخوانه في الله، ولذلك بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأخوة الصادقة لا تكون إلا لمن ذاق حلاوة الإيمان، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله) فقلوب المؤمنين أحبت رب العالمين وأحبت أحباب رب العالمين وأولياءه المتقين، وسارت إلى الله وإلى سبيل محبة الله بموالاة أولياء الله وأحباب الله .

    ومن هذا الأساس والمنطلق برئت قلوب المؤمنين من حمل الضغائن على إخوانهم، وبرئت قلوب المؤمنين من إيجاد الشحناء بينهم، ولو تأملت في كتاب الله عز وجل لوجدت نصوص الكتاب والسنة تدعوك دعوة صادقة لتكون مع أخيك ولأخيك، لكي نكون عباد الله إخواناً؛ ولكي تنتشر بيننا خصال الإيمان الصادقة التي انتشرت بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما وجدت أخوة أصدق من أخوة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض؛ ولذلك أثنى الله عز وجل عليهم وبين في الكتاب فضلهم، وجعلهم قدوة لنا، ووصف الأخيار التابعين لهم بإحسان أنهم على هذا المنهج.

    وقال جل شأنه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

    سبحان الله! أخوة الإيمان تبقى حتى بعد الوفاة، تبقى بينك وبين المؤمنين فتذكر أموات المسلمين بالخير فتترحم عليهم، وتسأل لمحسنهم أن يزداد إحساناً ولمسيئهم أن يشمله الله جل وعلا عفواً من لدنه وغفراناً، ومن تدبر القرآن وجده يهدي إلى هذه المحبة ويأمر بها ويحث عليها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى فضل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما وصفهم بقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] فمن سمات الإخوان في الله والأحباب في الله أنهم رحماء وبينهم الرحمة التي هي نابعة من الإيمان، فالمؤمن حليم رحيم.

    أحق من ترحمه أخوك في الدين

    وأحق من ترحمه أخوك في الدين الذي قد تبلغ أخوته في الدين علواً وشرفاً فوق أخوة الحسب والنسب، ووالله ما دخل الإيمان إلى قلب عبد إلا أعز إخوانه في الله، وإن بعض الصالحين -يعلم الله عز وجل - أنه يحب أحبابه في الله وإخوانه في الله أكثر من محبته لإخوانه في الحسب والنسب؛ لأن الأخوة في الله عز وجل نابعة من عقيدة ونابعة من إيمان ونابعة من شعور، ولذلك توعد الله عز وجل من أراد قطع وشائج الأخوة في الله بأشد الوعيد، ولذلك جاء هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين فضل هذه الأخوة حينما حذر من قطعها، فلذلك نهى الإسلام عن القطيعة وحرم أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، فمع أخوة الإسلام لا تستديم الخلافات أكثر من ثلاث ليل وإن كان ولا بد فثلاثة أيام، أما الزائد عن ذلك فهو إثم وسيئة وخروج عن منهج الله، وخلاف للأخوة في الله، وهذا يدل دلالة واضحة على عظيم شأن الأخوة في الله عند الله، ثم بين فضلها حينما حرم على العباد أن يسعى بعضهم بين بعض بالقطيعة فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تبارك وتعالى أعد لكل من قطع بين إخوانه المحبة بالنميمة أن الله أعد له فتنة القبر وعذاب القبر -والعياذ بالله- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبرين المعذبين: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنز من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ما هي النميمة؟ هي نقل الأحاديث بين العباد لإفساد المودة بينهم، فلذلك توعد الله صاحب هذا الخلق الذي اعتدى على أخوة الإسلام توعده بهذا الوعيد الشديد، وبين الله تبارك وتعالى العكس أن من سعى في العكس وهو جمع القلوب على طاعة الله، وتأليف الإخوان على منهج الله ومحبة الله أن الله يحبه، قال الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].

    و(عظيماً) من الله ليست بالهينة (من يفعل ذلك) أي: من يفعل الصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [النساء:114] ولذلك كم هي خطوات عزيزة عند الله عز وجل إذا خطاها المؤمن للجمع بين المفترقين والتأليف بين عباد الله المؤمنين.

    المسلم يجمع بين المفترقين من أجل طاعة الله ومرضاة الله ولا يعرف القطيعة، والمسلم أحرص ما يكون على تأليف قلوب إخوانه وأحبابه على طاعة الله ومرضاة الله.

    فهذه من الأمور التي تعين على وشيجة الأخوة في الإسلام، إنها الوشيجة التي تنفع العبد بإذن الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، فقد يبتلى الإنسان بسيئة من السيئات تثقل بها كفة السيئات -والعياذ بالله- فينجيه الله عز وجل بشفاعة أخ له في الله.

    ولذلك قال تعالى في كتابه العزيز لما ذكر عن أصحاب النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].

    قال بعض العلماء: لأنهم يرون المؤمنين يشفع بعضهم لبعض.

    كونوا عباد الله إخواناً

    والله إن لذة العيش إذا صفيت القلوب من الضغائن، ولذة الحياة إذا خلت القلوب من الأحقاد والحسد والبغضاء، ففيمَ التحاسد؟! وفيمَ التهاجر؟ وفيمَ التقاطع وفيما التدابر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أهل الإيمان وينادينا فيقول: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً

    لا تحاسدوا؛ لأن الحسد طريق الفساد، ولا تباغضوا؛ لأن أهل الإيمان لا يعرفون البغضاء، ولا تدابروا؛ فالمؤمن لا يولي دبره إلى أخيه كناية عن القطيعة، ولكن كونوا عباد الله إخواناً، أمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكون عباداً لله في الله إخواناً، وكل واحد منا يتوجه إليه هذا الحديث، كن مع عباد الله أخاً لهم في الله ولله.

    1.   

    الحاجة إلى الأخوة في الله

    كل منا مأمور أن يكون أخاً لأخيه صادقاً في أخوته ومحبته، وهذه الأخوة لها ثمرات طيبة ومن أعظمها وأجلها وأكرمها عند الله، حينما تكمل نقص أخيك وحينما تكون عوناً لأخيك على طاعة الله ومرضاة الله، كل منا والله ولو كان عالماً يحتاج إلى من يناصره، يحتاج إلى من يؤازره، يحتاج إلى من يكون قريباً منه يذكره بالله إذا نسي، ويعينه على ذكر الله إذا غفل، كلنا نحتاج إلى ذلك.

    ووالله إني لمن أحوج الناس أن أجد أخاً صادقاً يذكرني بالله إذا نسيت، ويعينني على ذكر الله إذا غفلت، فمن منا الكامل؟! فلذلك من أجل نعم الله بعد الهداية وجود الإخوان الصادقين، كلنا سيعاشر أخاه ولكن والله شتان بين عبدين، عبدٌ إذا ذكر في المجالس قيل: نعم فلان والله. نِعم الأخ ونِعم الأخوة، ونِعم الحبيب ونِعم المحبة، سيقال عنك ذلك إن كنت على كمال الأخوة في الله وإلا -والعياذ بالله- العكس بالعكس.

    فكن رحمك الله ذلك الأخ الموفق ولن تكون كذلك إلا إذا ابتدأت من أسس أهمها: براءة الصدر للمسلمين.

    صدرك لا تدخل فيه غلاً على مسلم وإياك أن تضع رأسك وتسلم روحك لربك وفي قلبك غل على مسلم، ووالله إن بعض الصالحين يأرق في ليلته ويتأخر نومه وهو يجاهد قلبه على إنسان أخطأ عليه حتى ينام وقلبه مرتاح، ويقول: إن خطأه لعله يقصد كذا وكذا، ولعله يقصد كذا وكذا، والله لو أن كل واحد حاول من الليلة أن يبيت سليم الصدر للمسلمين لوجد والله حلاوة الإيمان.

    هذه الضغينة التي تدخلها في قلبك أو لا سمح الله يدخلها الإنسان في قلبه قد تطفئ نور الإيمان، وقد تحدث قسوة في القلب، وقد تحدث صدوداً وإعراضاً عن الرب، فقد يستهين الإنسان باحتقار مسلم، وقد يستهين الإنسان بازدراء مسلم وهو عند الله عظيم.

    قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فلا تستخف بالمسلمين، وإياك وسوء الظن بعباد الله المؤمنين، كن ذلك الرجل الذي إذا ذكرت مسلماً كأنك تذكر نفسك لنفسك؛ فإن الله تعالى يقول: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ [النور:12] الله أكبر! نزل المؤمن منـزلة النفس، فإذا أردت أن تعرف كمال إيمانك فانظر إذا ذكر أخوك بالغيب، إذا نزلت نفسك منزلته فاعلم أن الله أعطاك إيماناً، وإذا كان العكس فكان كلما ذكر للإنسان أخوه لم يأبه أن يذكر بسوء أو غير ذلك فليبكِ على نفسه، فإن الله وصف المؤمنين بهذه الصفة والله أعلم بخلقه من خلقه بأنفسهم، فهذه قضية مهمة وهي: سلامة الصدور وبراءتها من الإحن، وإياك ثم إياك أن تمسي وتصبح إلا وأنت نقي السريرة محسن الظن بالعباد، وإذا قيل لك فلان أو فلان فقل: أنا المخطئ، أنا الذي مني التقصير، أنا الذي أحتاج إلى من يسد ثغرتي ولمن يجبر كسري، وكذلك يكمل نقص العيب فيّ.

    المؤمن دائماً يتهم نفسه؛ فالمؤمن في نفسه له شغل عن ذنوب العباد.

    ولكن هناك أحوال خاصة قد يجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين، فهذه مستثناة، كأن يكون إنسان على بعد عن طاعة ومنهج الله، يفسد بين عباد الله، أو إنسان حاد عن صراط الله المستقيم عقيدة أو سلوكاً أو خلقاً، فهذا له حكمه المستثنى، وإنما قضيتنا الأصلية وكلامنا في الأصل، وهو ما ينبغي أن يكون للمسلم الذي لم تثبت عليه شائبة تشوبه في دينه وخلقه.

    1.   

    قضايا تتعلق بالأخوة ينبغي الإلمام بها

    ثم هناك قضايا ينبغي أن نلم بها وهي:

    إبليس وتفريق قلوب المؤمنين

    إن هناك أعداء أعظمهم عدونا إبليس الذي أقسم على تفريق هذه القلوب، هذا العدو دائماً يأتيك بالضغائن وبالمنغصات التي تنغص الأخوة، ولذلك يقع الخطأ من بعض إخوانك - مثلاً - يمر عليك ولا يسلم لكونه مشغول البال، فيأتيك الشيطان فيقول: فلان لا يحبك، فلان يكرهك، فلان يخالفك، فلان كذا وكذا، وهكذا وحتى تتربى أو يتربى في ذلك القلب الحقد على أخيه المسلم؛ فلذلك يحذر المسلم إذا جاءته وساوس الشيطان أو ألمت به خطرات ذلك العدو اللدود برئ إلى الله وضرع إلى الله فقال: أعوذ بالله، قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] قل لعبادي، أي: قل لأهل الإيمان، قل للذين يرجون لقائي، انظر أسلوب التشويق، ووالله بمجرد ما تقرأ بداية الآية: (قل لعبادي) كأنها تشعر بأن الذي يتخلق بهذا الخلق عبد صادق لله.

    قل يا محمد لعبادي الذين يرجون لقائي ويرجون محبتي، قل لعبادي وينسبهم إليه جل شأنه مثلما قال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان:63].

    يقول بعض العلماء: من أجل الأوصاف وصف العبد بالعبودية لله، ولذلك لما أراد الله أن يشرف نبيه قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فرفعه وشرف قدره، كذلك أهل الإيمان شرفهم فقال: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] إذا جاءك إنسان بضغينة أو جاءك فقال لك: فلان يقول كذا وكذا، فهناك حسن وهناك أحسن ما قال: يقولوا حسنى، بل: يقولوا التي هي أحسن أفعل التفضيل، يدل على أنك لا تبادل الإساءة بالإساءة؛ لأنه إذا أساء الغير فمن حقك أن ترد الإساءة بالإساءة، ولكن الأحسن أن ترد الإساءة بالإحسان: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] يقول تعالى مبيناً فضل عباده المتقين: فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17] من هم يا رب ؟: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18].

    العفو عمن ظلمك

    إذا وقفت في موقف بينك وبين أخيك فاعلم أنك بين الجنة والنار، واعلم والله أنه إذا أساء إليك أخوك أنك أولاً وقبل كل شيء ممتحن من الله، نحن بحاجة إلى من يغذي قلوبنا عند حصول الفتن، فقد تحصل بعض الخلافات فلا يوجد أحد كامل، فرب يوم من الأيام يزل أخوك بكلمة أو تخرج من فمه زلة، أو يذكر أمراً من أمور الجاهلية؛ فما العمل؟ جاء الإسلام بالعلاج، جاء بالعلاج حينما ذكرك بأنه ينبغي عليك أن تعامل الله عز وجل وأن ترجو الله والدار الآخرة. وكيف ترجو الله والدار الآخرة؟

    ترجو الله والدار الآخرة حينما تقول لأخيك: أنا عاف عنك لوجه الله.

    هذه الكلمة لها ثقل عند الله. كأنك تقول: أنا لا أعفو إلا من أجل أنني إذا لقيت الله أجد عنده حسنة هذا العفو، لوجه الله أي: من أجل وجه الله عز وجل.

    ولذلك ثبت في الأثر وقد حكاه بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران:134] ورد في الأثر أن الله تبارك وتعالى يقول: (من كان أجره على الله فليقم - في عرصات يوم القيامة- فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب).

    وهذا من أسمى ما يكون المنهج؛ لأن منهج التشريع كماله أن يضع المشرع فرضاً واحتمالاً بأن تقع خلافات، فالشريعة حببت الأخوة وذكرت ثمارها في الدنيا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي في طاعة الله، وذكرت ثمارها في الآخرة من الشفاعة، وجاءت بالفرض المحتمل وهو فرض الخلافات، فعالجت المختلفين، وأيضاً عالجت من خارج المختلفين، عالجت المختلفين حينما أمرتهم أن يقولوا التي هي أحسن، وعالجت من خارج المختلفين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] كأنهم ما خلقوا إلا من أجل الأخوة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] عالجت من الخارج وعالجت من الداخل ثم كذلك حببت فيما عند الله عز وجل من الأجر، والفضل والثناء وحسن الذكر.

    ووالله لن يتسع صدرك لأذية مؤمن يؤذيك فترجو رحمة الله ويتسع صدرك وتقول: أنا عاف لوجه الله إلا رفع الله قدرك، ففي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) لا تظن أنك إذا عفوت ذليل، لا، صحيح أن الذلة للمؤمن مستحبة: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] أقوام ليل وصوام نهار لا. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54].

    هذا أول شيء، كيف أذلة على المؤمنين؟ بمعنى أنه إذا أساء إليه الغير لا يقابل الإساءة، بل يذل له ؛ لأنه يأتيه الشيطان ويقول له كيف تترك؟ أنت ضعيف .. أنت جبان .. أنت تخاف، يقول: نعم ضعيف جبان أمام لا إله إلا الله، أريد أن أنتقم لكن بيني وبينه كلمة " لا إله إلا الله " لا أستطيع أن أضرب مسلماً، وهذا يدل على كمال الإيمان، يدل على أن الإيمان قد توغل إلى أعماق ذلك الفؤاد وذلك القلب.

    ثبوت الأخوة باتساع الصدور

    إذاً: لا بد لهذه الأخوة أن تثبت ولكنها تحتاج إلى رجال صادقين، تحتاج منا أن تتسع صدورنا إذا حصل أي خلاف أو شقاق، فلا نعين أهل الخلاف والشقاق على الخلاف والشقاق، وإنما قول بالحسنى وابتغاء لمرضاة الله جل وعلا، وإحسان لا إساءة، وجمع لا تفريق، وتأليف لا شتات، فهي وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ومن رحمة الله أن الغالب في أهل الإيمان مهما وقع بينهم من الخلافات، ومهما وقع بينهم من الشقاق؛ فإن صدورهم رحبة، أهل الإيمان -غالباً- مهما يقع بينهم فإن صدورهم رحبة.

    وأذكر ذات مرة أن شابين كانا دعاة في بلدهما، وكان بينهما من العداوة والفرقة شيء كثير، وحصل ما حصل وكنت لا أعرفهما، فجاء شخص وأخبرني وشاء الله أنهما اجتمعا في المدينة في مناسبة من المناسبات فدعوتهما -وهذه أقصها لكي أبين أن القلوب لا زال فيها خير- وكان بينهم من القطيعة والتهم وبينهم من الشقاق الشيء الكثير، فشاء الله أني انفردت بأحدهما وذكرته بالله عز وجل، وبينت له ما للعفو وللصفح من خير، وما للإسلام من مقصد في جمع القلوب إلى آخره، ورهبته بالله، كيف يكون هذا من هذه القلوب البريئة؟! يقسمون المسلمين وكل ذلك لمصالح شخصية، وكل ذلك لأشياء لا تمت إلى الإسلام بصلة، كل يتهم الآخر، وكل منهما ينابذ الآخر، كلمت الأول وكلمت الثاني ثم جمعتهما مع بعضهما، فشاء الله أنني رغبتهما بالصلح قبل أن يصطلحا وبينت لهما الخير والفضل في الذي يبدأ قبل الآخر، ووالله بمجرد أن انتهيت من الحديث وكل منهما يهجم على الآخر يريد أن يكون هو البادئ بالسلام، يريد أن يكون هو الذي يعفو ويبكي ويقول له: سامحني! وكل منهم يحس أن التقصير منه، وببداية الأمر كل منهما يحس أنه هو صاحب الكمال، لكن إذا قرعت قلوب أهل الإيمان بقوارع التنـزيل عرفت قدر نفسها؛ ولذلك لا يعرف إنسان قدر نفسه بشيء مثل خشية الله، خشية الله إذا دخلت إلى القلب جعلت صاحبها في الحضيض وجعلت تتهمه بكل تقصير.

    فلذلك -سبحان الله عجبت!!- فما تمالكت نفسي في موقف عجيب! كان بينهما من القطيعة والتهم الشيء الكثير وكل منهما يحاول أن يسبق الشخص الآخر وجمع الله قلوبهما، ونسأل الله أن يجمعها إلى يوم الدين، ويجمع قلوبنا أيضاً معهم على طاعته ومرضاته، المقصود أن هذا يدل على أن القلوب فيها خير.

    من شواهد عهد النبوة في الأخوة

    ومن شواهد عهد النبوة لما جاء أهل النفاق فأورثوا الشحناء والبغضاء بين الأوس والخزرج وقال الأوسي: يا للأوس! وقال الخزرجي: يا للخزرج! فثاروا إلى السلاح حينما تذاكروا يوم بعاث، هذه الضغينة التي كانت بينهم حركها ذلك اليهودي قاتله الله وعامله بما يستحق، وهو شاس بن قيس اليهودي لما حركها وبلغت تلك الصيحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يجر رداءه لكي يتدارك أخوة الإسلام، اشتغل بثوبه يجر رداءه من أجل أن يدرك هذه الأمة الطاهرة ، فجاءهم وهم يريدون أن يقتتلوا، يا للأوس! وياللخزرج! كل منهم ينادي أخاه للفتنة والضغينة، فشاء الله عز وجل أنه نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس فاجتمعوا، فرقى المنبر وتلا آيات من الكتاب عليه الصلاة والسلام في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:100-101].

    سبحان الله! أساليب ربانية تحرك هذه القلوب وتدل على أن بيننا صفاء ومودة عظيمة.

    صفاء ومودة بماذا؟ بعقيدة الإيمان التي هي أقدس شيء وجد على وجه الأرض: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101] استفهام إنكاري وأسلوب رباني رفيع في معالجة الداء: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ِوَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] ثم بين لهم أهمية الأخوة، ثم أوجد لهم الأمل: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] كأنه يقول لهم: ارجعوا واعتصموا بالله واتركوا هذا الخلاف: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] ثم يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:102-103] .

    يقول بعض العلماء: إن ذكر الاعتصام بعد الإسلام والوصية بالإسلام يدل على أن من آكد الفرائض بعد التوحيد والإيمان تحقيق الأخوة في الله، هذه من آكد الفرائض بعد الإيمان، ولذلك قال الله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] هذه العقيدة والأساس والأصل: وَاعْتَصِمُوا [آل عمران: 103] هذه ثمار العقيدة وفروع العقيدة ولازم العقيدة.

    ما دمنا أننا أهل إيمان ماذا نفعل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103].

    يقول الوالد رحمة الله عليه في تفسيرها: يمتن بجمع القلوب قبل النجاة من النار قال الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران: 103] ولذلك السياق له تأثير، يعني: ذكر الشيء قبل الشيء يدل على أهميته؛ لأن العناية بالبداية تدل على فضل الشيء المبتدأ به .

    فالمقصود: قيل إنه أراد أن يبين خطر الفرقة، وهذه الآيات ما إن تلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوام قد غلت قلوبهم من الأحقاد والذكريات الأليمة من ذلك الخبيث الذي أشعل نار الفتنة، ما إن تلاها وإذا بتلك العيون تدمع من خشية الله، قاموا يتباكون ويعانق بعضهم بعضاً من شدة أثر القرآن في قلوبهم، ما استطاع أحد منهم فرموا السلاح وأقبلوا يتعانقون ويبكون من شدة أثر القرآن في قلوبهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، نعم والله القوم! نعم والله العبد الذي ما إن تبلغه الآية من كتاب الله، أو تبلغه الوصية من وصايا الله إلا وجدته أسبق الناس إلى فعلها والعمل بها! جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.

    1.   

    وصية في الأخوة

    إخواني! هذه وصية أقولها لأننا تمزقنا، أقولها لأننا تفرقنا، لأنه دخلت بيننا دواخل كثيرة وأصبحنا والله نعايش آلاما، أصبح الإنسان في بعض الأحيان يشتكي أموراً والله قد لا تحصل بين أهل الدنيا، وتعتبر من أهم الأمور الموجبة للقطيعة فكيف بأهل الإيمان؟ لماذا هذه الشحناء ولماذا هذه البغضاء؟ هل يتصور إنسان مسلم أخاه لله وفي الله سمته سمت صالح يمر ولا يسلم عليه؟

    والله إنه لأمر لا يمكن أن يحتمله قلب، لا أتحمل إنساناً مسلماً يمر سمته الصلاح ولا يسلم علي أو لا أسلم عليه، أعتبرها كأنها جريمة، وهي ليست جريمة في الشرع بل السلام مندوب ومطلوب، ولكن هذه الأمور من دعائم الإيمان، وهذا يدل على ضعف الإيمان في القلوب، ولذلك ينبغي أن نحيي هذا الأمر، والله تبارك وتعالى بين أنه يوجد في كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ما يجمع القلوب، ولذلك ليس هناك أخوة أصدق من أخوة أهل الإيمان، وليس هناك أخوة أصدق من أخوة المسلمين بعضهم مع بعض، فلذلك إخواني! أمامنا كتاب الله الذي هو الحبل بيننا والرابطة لنا، عليها نجتمع، وعليها نأتلف، ومن أجلها نقول، وبها نصول ونجول.

    هي كلمة الله؛ كلنا قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.

    ما المانع أن يهش المؤمن لأخيه إذا لقيه وأن يسأله عن حاله، وأن يتفقده ولو لم يكن يعرفه؛ لأن ذلك من أدعى ما يكون من وشائج الإيمان.

    تصور لو أن إنساناً غريباً نزل بين المسلمين -وهو مسلم- فوجد هذا يسلم عليه، ووجد هذا يهش له ويبش، كيف يكون أثر الإيمان؟ يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً.

    لكن، نخشى والله أن نكون حجر عثرة أمام المهتدين إلى طاعته، والله نخشى من ذلك، ولذلك عندي وصية أخيرة أوصيكم بها ونفسي، وأوصي الدعاة والمربين والإخوان بها.

    الشباب المهتدون الذين هم في بداية الطريق إلى الله، أوصيكم يا إخوان، وأوصيكم أن توصوا إخوانكم بهم خيراً، والله إنهم أمانة في أعناقنا، الشاب إذا ابتدأ في الهداية يكون عنده طاقة عجيبة من الإيمان فأقل شيء قد يؤثر عليه، وأقل تصرف من الصدود أو الإعراض أوالاحتقار أو النظر إليه كأنه حديث عهد بجاهلية، يكون له أثر لا يعلمه إلا الله، وقد انتكس البعض -والعياذ بالله- وهو في ميزان سيئات من كان السبب في انتكاسته والعياذ بالله، فإياك أن تكون رحمك الله ذلك الرجل الذي يكون حجر عثرة في طاعة الله ومرضاة الله.

    افتح صدرك لعبد يريد أن يقبل على الله وإذا لم تنفتح صدورنا لأمثال هؤلاء التائبين المنيبين المنكسرين لرحمة رب العالمين فلمن تنفتح؟ وأقسم بالله العظيم أنني أعرف بعض المجالس للتائبين حديثي التوبة أجد فيها من الرقة والخشوع وحلاوة الإيمان ما لا أجده في بعض الأحيان في مجالس بعض طلاب العلم، أقولها عن تجربة! وجدت فيهم من الصدق ومن حلاوة الإيمان شيئاً عجيباً، وفيهم خصال عجيبة من الإقبال على الهداية وتحس كأنه يريد أن يبتلعك من شدة ملازمتك، فبعض الأحيان يتضايق بعض الشباب يحس أنه دائماً وراءه وراءه يسأل ويقول: ما هذا الرجل؟ فسرعان ما ينفر منه، لا. إياك أن تنفر منه، يعطيك بعضه أعطه كلك، يعطيك شيئاً يسيراً أعطه شيئاً كثيراً، فوالله ما وجدنا في ذلك إلا كل خير، ومن فتح لهم صدره فإنه مرحوم برحمة الله، وهو الموفق وهو السعيد، فالله تعالى يعاتب نبيه من فوق سبع سماوات على أعمى جاء يريد من يهديه إلى سواء السبيل، وهو لم يهتد يريد من يهديه، عاتبه الله من فوق سبع سماوات، سبحان الله! فكيف بمن اهتدى؟ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3] إلى الآن ما اهتدى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:3-4] يعاتبه الله عز وجل في ذلك وهو ما اهتدى فكيف بمن اهتدى؟

    ولذلك والله أخشى في بعض الأحيان منهم، أخشى أن أحدهم يكون سبباً في طريق لي إلى النار إذا قصرت معه، والله لا أقولها مبالغة، أخشى أن تخرج مني فلتة يغضب الله عزوجل عليّ بها أو يمقتني الله عز وجل بشاب يمتلئ قلبه من الإيمان، يريد أن يتوجه إلى الله فآتيه بكلمة تثبطه عن طاعة الله، أو آتيه بكلمة تحقره أو آتيه بكلمة أقتل فيه روح الإيمان والحماس في طاعة الله، هذه وصية أقولها عن معاناة الشباب حديث العهد بطاعة الله، افتحوا لهم صدوركم، وحببوهم واشرحوا لهم الصدور.

    فبعض الإخوان لا يألف إلا لإخوان لهم قدم سابقة في الهداية، والله ما ندري من المقبول ولا ندري من المحروم والأمور مردها إلى الله، فلا تحتقر عبداً يريد أن ينيب إلى الله؛ فإن الله عز وجل نهى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عن مجالس أمثال هؤلاء فلذلك هذه وصية أقولها عن معاناة عاناها بعض الشباب واشتكى من ذلك.

    فرفقاً رفقاً يا دعاة الإسلام، ورفقاً يا هداة الإسلام، ورفقاً يا أساتذة، ورفقاً يا معلمين، رفقاً يا مربين، فكل مسلم مطالب أن يرفق بأمثال هؤلاء المهتدين، وأن يحس بأنه على خير، إذا جلس مع مثل هؤلاء أشعره بأنه قد أصاب خيراً، وأنه قد أصاب رحمة من رحمات الله، وينبغي أن تشعره أنه في بداية طريق خاتمته السعادة الحقيقية ونهايته الفوز برضوان الله تبارك وتعالى.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الذين حققوا الإيمان صدقاً، ونسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وختاماً جزى الله من تسبب في هذا المجلس المبارك كل خير، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    جوانب من حياة الشيخ في طلب العلم

    السؤال: كثير من الإخوة يرغبون أن يتكلم الشيخ عن حياته في طلب العلم ؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    أما طلبي للعلم فأسأل الله العظيم أن يجزي الوالد كل خير، وأحمد الله تبارك وتعالى أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله، كان رحمه الله حريصاً على أخذنا إلى مجالسه في الحرم وإحضارنا في دروسه في البيت، وكنت من الصغر أحياناً أنام في حجره في الحرم رحمة الله عليه؛ لأنه كان يدرس بعد الفروض كلها عدا فرض العصر يكون في درسه في البيت.

    فلما بلغت الخامسة عشرة أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم فابتدأت معه بـسنن الترمذي وتعرفون بداية واحد مثلي بداية ضعيف، يعني: أمام جمع من الناس في داخل الحرم، ولكنه أراد رحمة الله عليه أن يشحذ الهمة وكان يحسن الظن بي كثيراً، وأسأل الله عز وجل ألا يخيب ظنه فيّ، فابتدأت بقرءاة سنن الترمذي ثم انتهيت منه، فابتدأ بـالموطأ وختمته عليه، ثم بعد هذا ابتدأت بـسنن ابن ماجة، وتوفي رحمه الله ولم يكمله ونسأل الله أن يكتب له أجر إكماله هذا بالنسبة للدرس الأول الذي بعد المغرب.

    ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درساً في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درساً في الفقه، وكنت أحضر معه، وبعد العشاء قرأت عليه صحيح مسلم حتى ختمه ثم ختمه الختمة الثانية وتوفي في آخرها.

    ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة، وأذكر أنه ذكر في آخر مجالسه حديث فضل الدفن في المدينة وهذا الحديث قد قرأته عليه قرابة أربع مرات في صحيح البخاري، وكذلك في صحيح مسلم ولا أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته وكان صحيحاً ليس به بأس، فبعد أن ذكر الفضل وذكر أقوال السلف رحمهم الله، قال: وأسأل الله جل وعلا أن لا يحرمنا ذلك فأمن الحاضرون، ولا زلت أذكرها حتى قلت: من تأمينك مثل آمين في الحرم من كثرة الحضور رحمة الله عليه في درسه، فكنت حافظاً لذلك المجلس لأنني أعرف في العادة يمر على هذا الحديث وما دعا.

    ثم في الفجر كان يقرأ بعد صلاة الفجر التفسير حتى تطلع الشمس، وأما بعد صلاة الظهر فقد كنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم أيضاً ابتدأ قراءة ثانية فتوفي ولم أكملها عليه.

    وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه: قرأت عليه متن الرسالة حتى أكملته، وقرأت عليه في بداية المجتهد من مذاهب العلماء والفقهاء شيئاً كثيراً من مسائلها وكنت أحررها وكان رحمه الله واسع الباع في علم الخلاف، ويذكر الأدلة لكن كان عنده ورع في الترجيح، وأما بالنسبة لعلم الأصول: فقرأت عليه لكنه كان رحمه الله لا يحب كثرة الجدل الموجود في علم الأصول -كما تعرفون أن علم الأصول يقوم على المنطق في كثير من مسائله- فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم -يطردني- لأنه كان يرى تحريم المنطق وهذا قول لبعض العلماء وإن كان اختيار بعض المحققين منهم شيخ الإسلام بالتفصيل.

    كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله:

    و ابن الصلاح والنووي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما

    والقولة المشهورة الصحيحـه جوازه لكامل القريحـه

    ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب

    المقصود: أنا أدلل بهذه الكلمة ما استوعبت معه جانب الأصول من ناحية المنطق والخلافات، وكان هناك بعض المشايخ ممن له قوة باع في المنطق، قرأت عليهم بعض المسائل التي أرجو من الله تعالى أن يكون فيها تعويض لبعضها.

    أما بالنسبة للمصطلح: فقرأت عليه بعض المنظومات منها: منظومة البيقونية ، وكذلك طلعة الأنوار، وكذلك قرأت عليه في تدريب الراوي جزء منه رحمة الله عليه.

    وأما السيرة فكان له درس في رمضان يقرأ فيه البداية والنهاية وكان رحمه الله في التاريخ شيء عجيب، أذكر أن الشيخ: ابن عثيمين يقول لي: والدك يحفظ البداية والنهاية.

    قالها عن معرفة رحمة الله عليه، كان يلم ومعرفته بالتاريخ والأنساب عجيبة، وهذا العلم الحقيقة قصرت فيه ولم آخذه، ويعلم الله عز وجل ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول: إن هذه القبيلة تنتهي إلى كذا فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية عنها.

    لكن الحمدلله في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه - إن شاء الله - غناء عن غيرها.

    جوانب من طلب العلم: كان رحمه الله قوياً في طلب العلم، وكان لا يقبل كل طالب علم -يعني: لا يحتضن أو يضم كل طالب علم إليه- لا يضم إلا الفذ الصابر، وذلك له أثر لأنه هو بدايتة كانت بهذه الطريقة، كان رحمه الله من المعروف عنه يقول لي العم محل إجماع عندنا في القرابة: أن والدك رحمة الله عليه ما عرفت له صبوة إلى الحرام من الصبا وكان معروفاً لا يعرف ضياع الوقت، وكان وهو ابن تسع عشرة سنة يرتحل إليه في علم رسم القرآن من إتقانه رحمة الله عليه، ونزل عند بعض مشايخه وكان لا يأتي لقرابته إلا بقدر ما يسلم ويؤنسهم ثم ينطلق إلى دروسه.

    هذا كشاهد على صبره في طلب العلم وأنه لا يقبل كل أحد، أذكر منه -رحمه الله- أنه يذكر عن بعض مشايخه أنه سهر الوالد سهر في الليل وهو يراجع درسه في القرآن أيام ما كان يحفظ، أظن أنه استظهر القرآن وهو لم يتم الحادية عشرة من عمره، المقصود أنه سهر الليل في مراجعة حزبه ثم لما صلى الفجر ارتاح قليلاً فمر عليه شيخه -تعرفون التعليم في البلاد خاصة في قضية التحفيظ هذه لها طابع خاص وفيه من الضرب والتأديب شيء لا يخطر على البال- فلما نام بعد صلاة الفجر مر عليه شيخه وركضه برجله وقال: له يا مخيتير ما بلغت الساعة التي تنام، ما بلغت من العلم ما يؤهل لك أن تنام مثل هذه الساعة.

    يقول: فقمت من ساعتي أراجع حفظي، يعني: من شدة الضبط والتحرير، وكان عنده همة وكان من أهم الأمور التي رأيتها فيه أنه لا يحب ضياع الوقت، يمكن أن يقبل كل شيء إلا ضياع الوقت، يدخل البيت أول ما يستفتح يصلي ما كتب له، ثم -والله يا إخوان- ينقلب على فراشه والكتاب في حجره، آتيه بمشكلة معضلة يلتفت إليّ فقط والكتاب في حجره، ماذا تريد؟ أقول: كذا وكذا، يقول: افعل كذا وكذا ثم يلتفت إلى الكتاب.

    همة عجيبة، لما هاجر من البلاد وخرج -رحمة الله عليه - خرج بكتبه وعزت عليه الكتب في شدة البرد وضعها على جراب من جلد، يقول: إنه لما حملها وكثرت تفسخ معه جلد ظهره، ومع ذلك عزت عليه الكتب أن يفرط فيها، فالأولون الحقيقة كان لهم همة.

    وذات مرة كأني أعتذر من كثرة المشاغل علي معه رحمة الله عليه ما كنت أفارقه أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره، ولو أني الطالب المهمل والتلميذ المقصر كان رحمة الله عليه في آخر حياته لا أفارقه حتى إذا جاء ينام لا أفارقه حتى يرتاح، وأسأل الله أن يتولى عني حمد هذه النعمة، فأنا أحقر في حمدها ومقصر في شكرها، كنت أعتذر أحياناً بالتعب فذات مرة كنت أراجع مسألة فتعبت، قال: سبحان الله! والله يا بني! لقد كنت أوقظ الفتيل لأقرأ المسألة فيمتلأ الدخان في أنفي حتى لا أعي ما أقرأ - من شدة الدخان- يقول: فأطفئ الفتيل ثم أوقده ثم أطفئه ثم أوقده إلى قرابة منتصف الليل حتى أستظهر المسألة، فأنت الآن في مصباح وفي براد وفي كذا وفي كذا يعني: يحقر منه.

    وإذا أخذ كتاباً وقرأ نسي الدنيا وما فيها، قصة طريفة تخبرني بها الوالدة: ذات مرة كان يقرأ في كتابه فجيء له بحليب فبرد الحليب فوضع الدفاية الصغيرة حتى يسخن الحليب، ثم جلس يقرأ، طبعاً فار الحليب واشتعل ناراً ودخن في الغرفة وما انتبه له إلا الوالدة من الغرفة الثانية وهو جالس يقرأ في كتابه، كان عنده انصراف عجيب، إذا أقبل إلى العلم أعطاه كله، وإذا أعطى لك المسألة يعطيها عن تحرير، وقل أن يقدم على الشيء إلا وهو يحسنه، أما الشيء الذي لا يحسنه ما يقدم عليه رحمة الله عليه.

    أما الجوانب التي يحفزني فيها في طلب العلم فمن أهمها: كان يعتني بجانب الإخلاص ويعلم الله كم له من كلمات، والله إلى اليوم في قلبي كلمات يسيرات لكن كانت تقرع القلب، وكان يحرص أن يكون العلم هذا لوجه الله، إنه لا يراد به إلا ما عند الله عز وجل، وهذا جانب في الحقيقة أحوج ما يكون إليه طالب العلم، وهو بداية النجاح والفلاح والتوفيق في طلب العلم.

    الأمر الثاني: من الأمور في طلب العلم، أنه يعتز ويفتخر إذا جئت تسأل ويعطيك الوقت، والله أحياناً يكون مريضاً وأذكر أن بعض الدروس كان يأتيه الطلاب وهو في الحمى رحمة الله عليه ومع ذلك لا يعتذر وينـزل ويصبر، حتى أذكر أنه مرض فجئته بالطبيب بعد ذلك، قال الطبيب: كيف أعالجه وهو جالس -وليس متصور- يقول كيف هذا جالس؟ كان عنده صبر وجلد وتحمل من أجل العلم، ومع ذلك لا يعد نفسه شيئاً رحمة الله عليه، أسأل الله عز وجل أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء.

    وكان دائماً ينبه على قضية أن العلم مشاع، وأنه لا يحتكر، وأن المقصود به نشره وبذله، وكان يقول: إذا جاء السائل إن كنت نائماً فأيقظوني، وإن كنت بين الأهل فآذنوني ولا تمنعوا السائل عني، ولو كان من أحقر العباد، والله يأتيه الرجل من البادية مرقع الثياب، يقول: أين الشيخ؟ عندي فتوى نقول: عندك فتوى نذهب نوقظه من النوم في الظهيرة وينـزل ولا يمل ولا يسخط ويجيب له سؤاله، ويأتي الرجل من علية القوم ورفعة القوم يقول: أريد أن أودعه لأنني مسافر نقول له: نائم لا نستطيع أن نوقظه، كان من يريد العلم أو الفائدة لا يضن به عليه، في الحقيقة حياته سجل.

    أما بالنسبة للقراءة العامة في الجامعة فكما هي معلومة عند الجميع. ولولا إلحاح الإخوان والله ما كنت أريد أن أتكلم بهذا ولكن نسأل الله أن ينفع بها.

    النصيحة للعاصي

    السؤال: كيف أنصح أخي إذا رأيته على خطأ ؟

    الجواب: نأخذ بوصية الشيخ حماد، يقول: إذا حضر الهرس بطل الدرس، كيف تنصحه أولاً: إخلاص، أسلوب حسن، ووقت مناسب، وإن شاء الله وبإذن الله عز وجل تأتي النتيجة، يعني تحاول أن تخلص وأن يكون الأسلوب حسناً والوقت مناسباً، فبإذن الله عز وجل يكون هناك أثر، غالباً بعد انتهائه من المعصية أو الخطأ انصحه حتى تعرفه بقيمته تقول له: ما الذي استفدت الآن؟ فهذا إن شاء الله إذا صدق العبد مع الله صدق الله معه. والله تعالى أعلم.

    هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755791522