الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فتقدم الكلام على تعريف الإيمان, والكلام على أركان الإيمان, وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وذكرنا أن الإيمان بلغة العرب المراد به التصديق، وذكرنا الطوائف المختلفة في فهم هذا المعنى.
قال المصنف رحمه الله: [والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، ولا يجوز القول إلا بالعمل ].
قوله: (قول وعمل ونية) أي: لا يمكن أن يصح ويستقر الإيمان إلا باجتماع هذه الأوصاف الثلاثة المتلازمة، وقد جاء عن غير واحد من السلف أن الله جل وعلا لا يقبل العمل إلا بقول، والقول إلا بعمل، والقول والعمل إلا بنية، فجاء عن سعيد بن جبير , وهو من أئمة الفقهاء، فقد روى ابن إياس عن سعيد بن جبير قال: (لا يقبل الله قولاً إلا بعمل, ولا عمل إلا بقول, ولا القول والعمل إلا بنية، ولا القول والعمل والنية إلا بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا دليل على أن الإيمان متكون من هذه الثلاث: عمل القلب, وعمل الجوارح, وقول اللسان.
وقد تقدم معنا في مسألة القول هل يسمى فعلاً أم لا؟ وأن غير واحد من العلماء يسمونه فعلاً، وهذا ظاهر في كلام الله كما تقدم الكلام عليه، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام كما في كتابه الإيمان.
قوله: (يزيد وينقص) الإيمان يزيد وينقص، يقوى ويضعف، وهذه المعاني مترادفة، وقد جاء ذلك في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قول الله جل وعلا: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري : ( وذلك أضعف الإيمان )، وهذا فيه إشارة إلى الزيادة والنقصان والقوة والضعف.
والعلماء يقولون: (يزيد وينقص) ولا يشيرون إلى مسألة الذهاب عند هذه المسألة، أي: الذهاب في الأغلب, وهو ذهاب الإيمان بالكلية؛ لأن مسألة الزيادة والنقصان هي في دائرة الإيمان، وأما بالنسبة لمراتب الكفر ودرجاته فهذا باب آخر، والعلماء يتكلمون على مراتب الكفر وأن الطوائف تتباين، فهناك طوائف كفرية, وكفرها في ذلك شديد، والكفر ملة واحدة؛ كحال الملاحدة والزنادقة وغيرهم، وهناك من الطوائف ما كفرها دون ذلك، والله عز وجل قد جعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع كونهم مع الكفار في ذلك الكفر.
والزيادة والنقصان عليها اعتقاد أهل السنة والجماعة, ولا خلاف عندهم في ذلك، وقد ترجم على هذا البخاري رحمه الله كما في الصحيح، في كتاب الإيمان، قال: (باب زيادة الإيمان ونقصانه)، وأورد في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغني في هذا ما ظهر في حديث أبي سعيد الخدري في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )، يعني: أدنى مراتبه.
وبماذا يزيد وينقص؟
لا خلاف عند العلماء أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعة والمعصية باطنة وظاهرة، فيزيد لدى الإنسان الإيمان بقوة العمل باطناً وظاهراً، فقد يكون الإنسان قليل العمل في الظاهر، ولكنه كثير العمل في الباطن فيزداد إيمانه، وقد يكون الإنسان عكس ذلك، ولهذا حينما يقول العلماء: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) يرجع فيه إلى أصل الطاعة، وأصلها على أصل الإيمان، وهو وجوده في القلب, ووجوده في اللسان، ووجوده أيضاً في الجوارح، وهذا أمر مستقر, ولا خلاف عند العلماء فيه, وتعضده النصوص الظاهرة من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسألة قبول العمل وعدمه لا يتحقق من جهة الأصل إلا بتحقق أصل الإيمان, وهو: توحيد الله جل وعلا, وتقدم الإشارة إلى هذه المسألة.
وفي قول المصنف رحمه الله: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) فإن الطاعات والمعاصي لا تسمى طاعات ومعاصي إلا وقد دل الدليل عليها, ويخرج من هذه الطاعات البدع والمحدثات التي يحدثها الإنسان من تلقاء نفسه، وهي على أنواع: مغلظة, ومخففة، وهذه المغلظة والمخففة على نوعين: بدع أصلية أو بدع إضافية, والبدع الأصلية والبدع الإضافية كلها خارجة عن الدين، ولكن منها ما يكفر الإنسان به، ومنها ما لا يكفر به الإنسان.
والبدعة الأصلية هي التي ينشئها الإنسان أصلاً من غير ورود دليل شرعي؛ فيحدث الإنسان فعلاً من الأعمال من العبادات التي لم يشرعها الله عز وجل؛ كأن يصلي الإنسان لله جل وعلا صلاة بسجدة واحدة، وركوع واحد، فهذا لم يشرعه الله عز وجل، فهذه بدعة أصلية.
وأما البدعة الإضافية، فأصلها قد دل الدليل عليه، ولكن الرجل الذي ابتدعها أضاف إليها شيئاً آخر، وهذه الإضافة إما إضافة زمن أو عدد، وهذه الإضافة هي أهون من البدعة الأصلية.
والغالب أن البدعة الأصلية هي التي يخرج بها الناس من الإسلام، وهذه تتباين بحسب نوع البدعة، فلا يحكم على ذلك بالإطلاق بالكفر، ولكن هو الأغلب، وأما البدع الإضافية فهي في الأغلب تكون تحت دائرة الإسلام, وهي من الإحداث والابتداع المردود.
وفي مسألة المعاصي كذلك، فإنه لا معصية إلا ما قدره الشارع، والمعاصي على نوعين: الكبائر والصغائر، والكبائر والصغائر مردها إلى العمل الباطن والعمل الظاهر، فقد تكون لدى الإنسان الكبيرة كبيرة في الشرع، ولكنها عنده صغيرة في عمله؛ لشيء من العمل الباطن الذي أضعفها؛ كحال الإنسان حينما يقع في المعصية وقلبه وجل، فهذا الوجل الذي يقع في قلبه يضعف هذه الكبيرة حتى تكون صغيرة، وهذا يرجعنا إلى ذات الأصل الذي نرجع إليه؛ أنه في أبواب مقادير الأعمال وتفسير الطاعات والمعاصي أننا نرجع إلى تفسيرها إلى أصل العمل، والعمل هو الظاهر والباطن، والظاهر هو القول والعمل، والباطن هو عمل القلب وقوله.
وكذلك في أبواب الطاعات نجد أنها تعظم عند الله جل وعلا بحسب إقبال الإنسان ظاهراً وباطناً، فمن استحضر الطاعة ظاهراً وباطناً في العمل الصغير عظم عند الله جل وعلا، ومن لم يستحضرها ظاهراً وباطناً فأقبل على الله وهو ساهٍ لاهٍ تكون العبادة العظيمة عند الله قليلة؛ كالذي يصلي وقلبه ساهٍ، وهذا لا خلاف عند العلماء فيه، فالإنسان الذي يصلي صلاة بركعتين وبجواره آخر يصلي صلاة بركعتين، فهذه ترفعه بأعلى عليين، وهذه تضعه أسفل سافلين؛ لعدم توفر وجوه العمل الثلاثة وهي: عمل القلب, والجوارح, واللسان.
أما أبواب مقادير الأعمال قد جاءت في الشريعة ببيان أعيانها، لا ببيان كسب الإنسان لها، فالشريعة جاءت ببيان الخمر بأنه أم الخبائث، وجاءت بأن الزنا والقتل والسحر وغير ذلك بأنه من الموبقات.
والعلماء يقررون أن الطاعات تكفر المعاصي، وهذه المعاصي على قول جمهور العلماء تكفر الصغائر، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والصلوات الخمس كفارة لما بينهما )، وهذا ظاهر أيضاً في عموم قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فالحسنة تذهب السيئة، والحسنة الكبيرة تذهب الصغيرة.
لكن ما هذه المقادير التي يرجع إليها في تفسير الطاعات؟
يرجع إليها بحسب أصلين:
الأصل الأول: بتقدير وصف الشارع لها.
الأصل الثاني: بحسب ما يقع في قلب الإنسان من تعظيم لذلك العمل أو وجل منه وخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح في حديث حميد ، ويرويه عن حميد ابن شهاب الزهري قال: أعجب حديثين سمعتهما أو بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثني بها حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها، ولا هي جعلتها تأكل من خشاش الأرض )، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط، فقال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين )، وهذا الأمر عمل متباين، وكلها ذنوب، وهذا أوجب دخول النار، وهذا أوجب دخول الجنة, وهي بذاتها معصية؛ لماذا؟ لأن الذي فعل الذنب الأول كانت معصيته عظيمة؛ لوجود ضعف حضور القلب في هيبة تلك المعصية وهو حبس الهرة، وهذا شيء قليل، وكذلك في حال الإنسان الذي لم يعمل خيراً قط، أي: أنه فعل الشر كله، فإذا قلنا أنه لم يفعل خيراً قط فما بقي للجوارح أن تعمل؟ يبقى المعاصي، وحينئذٍ فعل الشر كله من غير عد ولا تحديد, ومع هذا كان قلبه وجلاً ومقبلاً، وكانت تلك صغائر.
وبهذا نعلم أن مقادير الصغائر والكبائر يرجع فيها إلى أمرين: يرجع فيها إلى تفسير النص الوارد في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً إلى أصل منشأ ذلك العمل، ومنشأ ذلك العمل هو حضور القلب أو الجهل بذلك المعلوم.
والإنسان قد يصل إليه النص؛ أن الله عز وجل قد حرم ذنباً بعينه، ووصول النص إليه إما أن يكون يقينياً، وإما أن يكون ظنياً، فإذا كان يقيناً قد حرمه الله جل وعلا وثبت لديه ذلك؛ فإقباله على تلك المعصية موبق ومهلك، بخلاف الذي يصل إليه التحريم على سبيل الظن، وهذا مقتضى قول الله جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فبقدر بيان الرسول وحجته على قومه من المبشرين والمنذرين وقدر ذلك البلاغ هل هو مباشرة أو بوسيط؟ فإنه يضعف العمل عند الله عز وجل ويقوى.
وهذا الكلام في مسائل قوة الأعمال وضعفها مما يتكلم عليه العلماء في مسائل أعمال القلوب وفي أبواب الصغائر والكبائر.
ويصنف العلماء رحمهم الله في أبواب الكبائر مصنفات كثيرة ولا يصنفون في أبواب الصغائر؛ لماذا؟ لأن الصغائر أكثر وروداً على جوارح الإنسان، وهي تصل إلى درجة الكبائر، ولكن الكبائر يندر أن تصل إلى درجة الصغائر؛ لهذا لا يصنفون في أبواب الصغائر، وكذلك من المصلحة حتى لا يتجرأ الناس عليها.
وكذلك فإن من وجوه ضعف الإيمان: ورود المعصية على الإنسان وورود الطاعة، فبقدر العمل يقوى الإيمان، فإذا جاءت الحسنة عظيمة قوي عمل الإنسان لا لعدد ذلك العمل، وكذلك بالنسبة للمعصية، فإذا أتى الإنسان بذنب واحد كبير أعظم عند الله عز وجل ممن يأتي بصغائر متعددة، وذلك أن نقصان المعصية يرتبط بالعدد وكذلك بالنوع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة].
هذا جاء كما تقدم عن سعيد بن جبير رحمه الله, وهو من أئمة التابعين، ومن فقهاء المكيين أيضاً كما رواه عنه وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير عليه رضوان الله أنه قال: (لا يقبل الله القول إلا بعمل، ولا يقبل العمل إلا بقول، ولا يقبل القول والعمل إلا بنية، ولا يقبل الله جل وعلا القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة)، أي: بموافقة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبول العمل ورده للشريعة إذا أردنا أن ننظر إليه لا بد فيه من شرطين:
الشرط الأول: هو متابعة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: الإخلاص.
وبقدر إقبال الإنسان على الله بعمله يعظم الثواب عند الله جل وعلا ويزيد في ذلك الإيمان، ولهذا نقول: إن الذي يربط أحوال الناس بظواهر أعمال الجوارح هذا فيه نوع قصور، بل يقال: إن الأمر لا يتعلق بظواهر الأمور، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( حينما مر عنده رجلان، وفضل الناس أحدهما على الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمفضول: هذا خير من ملء الأرض من هذا )، في إشارة إلى أن الله عز وجل لا ينظر إلى العمل الظاهر كما ينظر الناس, وإنما ينظر إلى العمل الظاهر والباطن.
وموافقة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لها أثر على رفع إيمان الإنسان وقوته وقبوله عند الله سبحانه وتعالى، وما لم يوافق به الإنسان السنة فإنه مردود، وهذا ظاهر كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قال عليه الصلاة والسلام: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وجاء أيضاً في الصحيحين: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وهذا مقتضى ما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، وكذلك ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال في قول الله جل وعلا: (( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ )) هي البدع والشبهات.
والبدع التي يسلك الإنسان طريقها ويتعبد لله عز وجل بها، والبدعة هي أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأنها تستقر في قلب الإنسان، ولا تمحى كالمعصية، والإنسان يفعلها وقلبه وجل من المعصية ويتمنى التوبة, فإذا ضعف وازع القلب عظم الإثم، وقلت مبادرة الإنسان لذلك العمل، وهذا من وجوه تعظيم السيئة، فالقلب الذي يُقبل على المعصية ولديه نزوة نفسية إلى العمل، فالإثم بالنسبة له أقل، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن زنا الشيخ الكبير أعظم من زنا الشاب، وكذلك فإن كذب السلطان والحاكم ليس ككذب غيره، وكذلك فإن تكبر الفقير يختلف عن تكبر الغني؛ لضعف الموجب في قلب الإنسان، فإذا قوي الموجب في قلب الإنسان قل الإثم، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ومقتضى عدله جل وعلا.
والقول في مسألة النية وموافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة) المراد بذلك الصحة والقبول، ولا يلزم من الصحة القبول, ولا يلزم من القبول الصحة على الإطلاق.
وقد يقبل الله عز وجل من الإنسان عملاً باطلاً، وهذا العمل الباطل له مقتضيات وصور:
من هذه الصور: أن يتقرب الإنسان لله جل وعلا بعمل محدث ومبتدع، ولم يصل إليه فيه دليل، أو وصل إليه دليل باطل في ذلك، وظنه حقاً، فالله عز وجل لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى، وهذا من مقتضى رحمة الله عز وجل بعباده، وكذلك فيما يقابله في أمر عقاب الله سبحانه وتعالى.
ومن صوره أيضاً: أن الله عز وجل يقبل للعبد العمل الفاسد الذي فعله؛ لأن الإنسان أصلح نيته بعد ذلك، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله تعالى في قصة حكيم بن حزام , وجاء أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أعمالاً أتحنث بها في الجاهلية من عتاقة وصلة وصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير )، فهذا العمل الذي فعله ذلك الجاهلي في حال جاهليته وفي حال عبادته للأصنام فعل أعمالاً هي باطلة في ذاتها, ولكنه لما دخل الإسلام أخلص النية بعد ذلك، فإن الله عز وجل يقبلها بعد أن كانت مردودة، وبعد أن كان بينها وبين الله حجاب.
وبهذا نعلم أن الإنسان قد يعمل العمل الباطل، ثم بعد ذلك يخلص لله عز وجل فيجعله موافقاً.
ولهذا نقول: إن الموافقة والنية ينبغي أن تصاحب العمل، وهو الأكمل، وإذا جاءت بعد العمل وفسد العمل قَبِل الله عز وجل من الإنسان إخلاصه، وهذا مقتضى حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع), وكذلك (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع )، إلى آخر الخبر, وكذلك فإن الله عز وجل يبدل للعصاة والكفرة بعد إسلامهم سيئاتهم حسنات.
وإذا قلنا في مسألة من فعل فعلاً في حال كفره، كما في قصة حكيم بن حزام ، أنه إذا دخل الإسلام وأخلص لله عز وجل العمل من النفقات وغيرها التي ينفقها صدقات أن الله عز وجل يتقبلها منه، فمن باب أولى الذي يفعلها في حال الإسلام ثم يرتد ثم يرجع إلى الإسلام أنها ترجع إليه.
وبعض الأصوليين يورد هذه المسألة ويقول: من ارتد يجب عليه أن يأتي بحجة أخرى، أو يأتي بعبادات مما وجب عليه قبل ذلك؛ كحال الإنسان الذي يعجل الزكاة ثم يرتد، ثم يرجع إلى الإسلام ثم يحول عليه الحول، قالوا: يجب عليه أن يستكمل الحول الماضي ثم يأتي بزكاة جديدة، وهذا القول يخالفه الدليل من ظواهر النصوص من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والنية مشتقة من النوى, وهو بذرة الثمرة, ومحلها في جوفها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى )، ونأخذ من هذا التعريف ومن ظاهر المعاني أن النية إذا أُخرجت وتلفظ بها الإنسان أنها لا تسمى نية, فتخرج عن مقصودها الشرعي، يعني: أن الجهر بالنية إخراج لها عن معناها في الشريعة.
قال المصنف رحمه الله: [ قال شعيب : فقلت له: يا أبا عبد الله ! وما موافقة السنة؟ قال: تقدمة الشيخين: أبي بكر و عمر رضي الله عنهما].
موافقة السنة هنا فسرها ببعض وجوهها في قوله: (موافقة السنة وهو تقدمة الشيحين) أو تقدم الشيخين, والمراد بذلك أبا بكر و عمر .
والسنة المراد بها الطريقة والنهج, وهي: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ومما يجب فيه أو يقتضي ذلك الاقتداء، ويخرج من هذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكون من جملة السِيَر والأخبار, أو من خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كطول قامته وجسده ونحو ذلك من أوصافه وشمائله عليه الصلاة والسلام, وهل تدخل في تعريف السنة أم لا؟ هذا على أقوال عند المعرفين لمعناها من الفقهاء والأصوليين والمحدثين.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الأمر بالتمسك بها كما جاء في قول الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، يعني: يجب على من كان معي على طريقتي أن يتبعني لا أن يتبع غيري، وكذلك ما جاء في حديث العرباض بن سارية في المسند والسنن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ )، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، وأكد على التمسك بها لأهميتها.
وهنا جاءت عدة من المتأكدات لأهمية كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه هو موضع الاحتجاج, فقال: (عليكم), و(على) من ألفاظ الوجوب وصيغه، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها ) أكد الوجوب بقوله: ( تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ )، وأمر بالعض عليها, وهو حال الإنسان الذي يمسك شيئاً ثميناً؛ كحال الذي يمسك كيساً أو خريطة فيها مال يعض بها خشية أن تؤخذ من يده، وفي هذا إشارة إلى وجود المنازع له في تمسكه ذلك وهي البدع، ونزوات النفس وشياطين الإنس والجن, وهم أعداء الإنسان، وأعداء الإنسان ثلاثة: نفسه، وشيطان الإنس، وشيطان الجن، وقد أمر الله عز وجل بالاستعاذة منهم كما في سورة الناس.
قال المصنف رحمه الله: [قال: تقدمة الشيخين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما. يا شعيب ! لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان و علياً على من بعدهما ].
هنا فسر سفيان الثوري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدمة أبي بكر و عمر , وكأنه جعل ذلك لزوماً, أو تفسير العام بأحد أوصافه, وذلك أنه لا يمكن لأحد أن يقدم أبا بكر و عمر إلا وقد أقر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضليته على غيره، وهذ أمر مُسَلَّم أنه لا يوجد أحد في الإسلام يقدم أبا بكر و عمر على غيرهما إلا وقد حفظ لمقام النبوة قدرها من جهة السمع والطاعة والفضل، وأما من اختل لديه هذا الميزان فإنه يختل لديه مقام الطاعة والاتباع لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: (تقدمة الشيخين) سماهما بالشيخين؛ لتسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر و عمر ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر شيخاً, وجاء في بعض النصوص عن عمر عليه رضوان الله تعالى.
وذكر أبا بكر و عمر أيضاً للزوم أن من قدم أبا بكر و عمر فإنه يحفظ قدر من جاء بعدهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا من يقتصر في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان ، ويؤمن بتقديم أبي بكر و عمر لا يمكن أن يلمز أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل تقديم أبي بكر و عمر على عثمان وعلى علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى جميعاً، وفي هذا إشارة على أنه يلزم منه التمسك بمجموع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قول سفيان الثوري بتقديم أبي بكر و عمر إشارة إلى بدعة ظاهرة في زمنه، و سفيان الثوري هو من أئمة الكوفة من العراقيين، وأهل العراق وأهل الكوفة على سبيل الخصوص لديهم تقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان , ومنهم من قدم علي بن أبي طالب على أبي بكر و عمر .
وكان أول ما ظهر الرفض والتشيع هو في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان , وهذا أول عقد الرفض كما قال ذلك أبو الحسن الدارقطني رحمه الله، وقد قال أبو الحسن الدارقطني : (أتاني أقوام يسألونني عن تقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان فسكت، ثم رأيت أنه لا يسعني إلا أن أبين، فناديتهم، فقلت: أخبر الناس أن أفضل الأمة أبو بكر , ثم عمر , ثم عثمان , ثم علي بن أبي طالب ), ومن قدم علياً على عثمان فقد عقد أول عقد الرفض، والمراد بذلك أن بداية الرفض هي كانت على سبيل التدرج, بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان عليه رضوان الله تعالى، ثم بعد ذلك تدرجوا في ذلك الابتداع حتى وصلوا إلى درجة الكفر من الرافضة وغيرهم، وهم على طوائف متعددة, أعظمهم وأشنعهم في ذلك هم المألهة الذين يخطئون جبريل, ويسمون بالمخطئة, أي: الذين يخطئون جبريل ويقولون: قد أخطأ بالرسالة ووجب عليه أن يأتي بها إلى علي بن أبي طالب ، لكنه قدم النبي صلى الله عليه وسلم محمداً على علي بن أبي طالب ، ويقولون: خان الأمين الرسالة, على جبريل وعلى رسولنا السلام.
وتقديم أبي بكر و عمر هي عقيدة أهل السنة والجماعة، من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم, وهو قول الأئمة الأربعة، ولا خلاف عندهم في ذلك، فإنهم كانوا يقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب , وقد ثبت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التفضيل، كما جاء في حديث يحيى بن سعيد عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: ( كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقدم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ، ويبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتكلم )، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الأمة على هذا الأمر، وكذلك فإن اعتقاد أهل السنة هو أن فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين هو بحسب ترتيبهم في الخلافة.
والتشيع انقرض، أي: التشيع القديم، وهو بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان ، ولا يكاد يوجد اليوم عند المنضوين في التشيع، وإنما يوجد عند المنضوين في لواء أهل السنة في بعضهم، وذلك عند بعض من يعتقد بعقيدة الزيدية، ممن ينابذ ويناكف الإثنا عشرية اليوم، ولا يطعنون في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا من جاء بعدهم.
وفي قوله: (لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان و علياً على من بعدهما) إشارة إلى لزوم الأعمال وترابطها في الإسلام, وأن الأعمال الظاهرة والباطنة بينها تلازم، وقد يبطل بعضها بعضاً، وينقض بعضها بعضاً، وهذا تقدم الإشارة إليه، أن الإنسان لا يكتمل إيمانه إلا باجتماع شعب الإيمان ومجموعها، ويتحقق الكفر فيه بوجود شعبة من شعب الكفر، والذي يسجد لصنم ولو صلى وصام فإنه كافر، فشعبة واحدة جعلته كافراً أصلياً، أما بالنسبة للإيمان فليس لأحد أن يأتي بشعبة واحدة ويجعل نفسه من أهل الإيمان.
وفي قوله: (لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان و علياً ) إشارة إلى أهمية كتابة العلم، وأهمية الاستدراك وبيان العموم الذي يطلقه الإنسان، فينبغي أن يبينه كطريقة بيان القرآن للمجمل، وبيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن ولبعضها البعض.
وفي قوله: (حتى تقدم عثمان و علياً على من بعدهما) هنا ذكر تقديم أبي بكر و عمر على غيرهما من الصحابة, ثم ذكر تقديم عثمان و علياً على من بعدهما, وكأنه لم يفضل بينهما, ولهذا نُسب إلى سفيان الثوري القول بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان , وجاء في ذلك عنه روايتان: الرواية الأولى وينقلها عنه كثير من أهل الكوفة بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان ، والرواية الثانية وهي الأشهر وأسانيدها عنه صحيحة، وهي بتقديم عثمان بن عفان على علي بن أبي طالب ، وثمة قرينة هنا بأنه قد قدم اسم عثمان على اسم علي بن أبي طالب عليهما رضوان الله تعالى.
وقاعدة أهل السنة والجماعة وظواهر الأدلة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصحابة مفضلون جميعاً بتفضيل الله عز وجل لهم، وأن الله عز وجل رضي عنهم ورضوا عنه، وأن ترتيبهم من جهة الفضل على المراتب التالية:
المرتبة الأولى: المهاجرون, وهم أفضل الصحابة على الإطلاق، من جهة مجموعهم.
المرتبة الثانية: الأنصار, وهذا بمجموعهم وجمهورهم.
المرتبة الثالثة: الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة.
المرتبة الرابعة: الذين أسلموا قبل الفتح.
المرتبة الخامسة: الذين أسلموا بعد الفتح, وهي من المراتب التي يذكرها العلماء المتأخرون في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما جاء دليل في كلام الله في فضل الصحابة فهو شامل لهذه الأنواع ولهذه المراتب الخمس, وكذلك ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وهذا ما يقول به حتى الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فقد جاء عن سعيد بن زيد كما رواه أبو داود قال: ( إن أحدكم لن يبلغ فضل يوم لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو عمر عمر نوح )، في إشارة إلى أن الإنسان لو تقرب لله جل وعلا عمراً طويلاً لن يبلغ يوماً واحداً من فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، وقد جاء هذا أيضاً عن غير واحد من السلف كما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.
وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة وضلال، ويصل إلى الكفر بحسب نوع السب، ومسألة سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتب:
المرتبة الأولى: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجمال، فطعن فيهم من غير تقييد, ومن غير تخصيص أحد بعينه، فطعن بهم جميعاً، فهذا كفر وردة، ولا خلاف عند العلماء في ذلك عند سائر طواف أهل السنة, وقد حكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء؛ كالقاضي عياض وابن تيمية و ابن القيم و ابن رجب و ابن كثير وغيرهم من أئمة الإسلام.
المرتبة الثانية: من طعن بفئة منهم، ولم يطلق ذلك عليهم جميعاً, يعني: أنه أطلق على فئة منهم شهدوا مشهداً, أو طعن بفئة منهم فعلوا فعلة، ولم يطعن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، وهذه الفئة فئة قليلة, لا غالبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ابتداع وضلال وزيغ, ولا خلاف عند العلماء في تبديع القائل بذلك.
المرتبة الثالثة: أن يطعن الإنسان في أحد بعينه مخصصاً، فيقول: إن فلاناً فيه بخل أو جبن أو شح أو خوف ونحو ذلك ممن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزو، وهذا ابتداع, وهو أدنى المراتب.
ويستثنى من ذلك من طعن في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعناً يظهر منه التكذيب المتواتر بكلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان واحداً، فمن طعن في أبي بكر بعينه فكفَّره، أو طعن في عائشة في عرضها واتهمها بالفحش والزنا ونحو ذلك فإن هذا يلزم منه تكذيب المتواتر في كلام الله عز وجل والمعلوم من الدين بالضرورة من فضل أبي بكر , وكذلك تبرئة عائشة عليها رضوان الله تعالى، وهذا كفر وخروج من الإسلام.
وكذلك من طعن في أحد من الصحابة ممن ثبت النص بالتواتر أنه من أهل الجنة، فنقول: إن هذا كافر ولا خلاف في ذلك. ويخرج من النوع الثاني من تكلم على طائفة بعينها بتضليل أو تفسيق, وهذه الطائفة بعينها قد دل الدليل على فضلها؛ كمن طعن بمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فهؤلاء قد دل الدليل على فضلهم، وهذا يعني أنه قد كذب بالنص الوارد في ذلك، والنص معلوم بالضرورة, وهذا كفر، والله جل وعلا قد بين الفضل والمزية، وهذا تكذيب، وقد حكى غير واحد من العلماء كـاللالكائي وابن بطة من الحنابلة، وحكاه جماعة من الفقهاء من المالكية والشافعية على كفر من فعل ذلك، ويحكون الإجماع في هذه المسألة.
وكذلك من طعن بأحد أمهات المؤمنين في عرضها ولو أثبت إيمانها، فذلك كفر يخرج من الملة ولو قال بالإيمان؛ ولا تلازم بين الإيمان وأمر الأعراض؛ لأن أمر العرض يتعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الزوج، ومعلوم أن الرجل إذا أقر الخبث في أهله فهو ديوث، وهذا ينطبق على الرافضة الذين يتكلمون في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الأخص عائشة ، ويستثنون قلة من أزواج وأمهات المؤمنين، وذلك كفر ولا خلاف في ذلك، بل إننا نقول: من طعن في امرأة نوح وامرأة لوط، وهما على غير دين أنبياء الله عز وجل، فمن طعن في عرضهما فهو كافر، وهما كافرتان بنص القرآن والسنة، ولا خلاف في ذلك؛ لأن الطعن في العرض أمر متعدٍ، والطعن في الدين لا يتعدى، والإنسان لو طعن في دين بنته أو دين زوجته من جهة كذبها وفسقها, أو مروءتها أو نظرها تلصصاً لأسرار الناس ونحو ذلك, فهذا من أمور الأخلاق, ولكن لو طعن بعرضها فإن الأمر متعدٍ، وهذا طعن بالنبي، ولهذا نقول بأن ذلك كفر، وإذا كفرنا ذلك في الطعن بعرض زوجة نبي وهي كافرة، فكيف بمن بين الله عز وجل فضلها في كتابه العظيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أيضاً كما أنه يشمل الأفراد يشمل الجماعات؛ كالذين يبايعون تحت الشجرة, أو الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية، ولهذا قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، فالذي يكفر أولئك وتلك الطائفة كافر بالله سبحانه وتعالى، وعددهم كما ذكر غير واحد من المؤرخين أنهم ألف وأربعمائة، وقيل ألف وخمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرتهم.
وعلى هذا عقيدة الأئمة الأربعة، وقد نقله أبو حمزة السكري عن أبي حنيفة , فإنه يقول بتقديم الصحابة على الترتيب: أبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب , وكذلك نقله أبو يوسف عنه, ونقل تفضيله, وأنه من طعن في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتركه عليه رحمة الله.
وكذلك نقل هذا عن الإمام مالك كما رواه أبو نعيم في حديث عبد الله العنبري عن الإمام مالك أنه كان يقول: (أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب ), بل إنه يقول: (إن من طعن بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس له نصيب في فيء المسلمين)، بل إنه يرى أن من طعن بجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالله جل وعلا.
وقد جاء هذا عن الإمام الشافعي كما نقله عنه البيهقي في كتابه المناقب, وجاء هذا التفضيل على النحو الذي جاء عن الإمام مالك , وكذلك جاء عن الإمام أحمد كما نقله عنه ابنه عبد الله في كتابه السنة وفي كتاب العلل، وجاء أيضاً عن الإمام أحمد في مواضع عدة كما نقله القاضي ابن أبي يعلى ونقله أبو الفرج بن الجوزي .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يا شعيب بن حرب ! لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار, إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكلهم من قريش ].
العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم من المهاجرين، ولهذا نقول: إن هؤلاء العشرة من وجوه تفضيل المهاجرين على الأنصار، وهؤلاء العشرة هم أبو بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وهؤلاء العشرة قد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كما جاء في غير حديث فيما رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لجماعة من أصحابه بالجنة، ويُشهد لأولئك بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأزواجه, وذلك أن الله عز وجل شهد لهن بالجنة وسماهن أمهات المؤمنين: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصوص بعينها تحديد بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما في عائشة و خديجة و سودة و حفصة و أم سلمة , وغيرهن من أمهات المؤمنين, وكذلك ما جاء عن بعض نساء الصحابة؛ كـفاطمة عليها رضوان الله تعالى, والمرأة السوداء. وكذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال كثير؛ كحال أسامة و زيد و بلال بن رباح و عمار بن ياسر , وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا نشير إلى مسألة وهي: لماذا يكثر العلماء من ذكر العشرة المبشرين بالجنة مع أن النصوص الواردة في دخول غيرهم أقوى سنداً وهي في الصحيحين، وذكر العشرة المبشرين بالجنة ليست في الصحيحين؟
نقول: لأن هؤلاء العشرة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل العد والسرد، وكذلك فإنها لازمة لبيان ترتيبهم وفضلهم, ولهذا الحديث يورد العلماء مسألة تفضيل الصحابة بعضهم على بعض, فيقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب استدلالاً بهذا الحديث فيوردونه، وكذلك فإن الحديث من أصلح الأحاديث لفظاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف كل واحد منهم بالجنة، كقوله: ( أبو بكر في الجنة، و عمر بالجنة، و عثمان في الجنة، و علي بن أبي طالب في الجنة )، فذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً.
وفي قوله هنا: (حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار) إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم لأحد الجنة أو النار؛ لأن هذا مقتضى أصول الإيمان؛ وأمور الإيمان قلنا: إنها اعتقاد وأقوال وأفعال، ولا بد من الاطلاع على هذه الأشياء حتى لا يحكم لأحد بالجنة والنار، والله عز وجل يؤاخذ الإنسان بهذه الأشياء الثلاثة، ولا يحكم الإنسان بظاهر فعل إنسان بعينه بجنة ولا نار؛ لأنه خفي عليه غيره.
ولهذا نقول: لا يشهد لأحد بالجنة ولا نار إلا من شهد له الله جل وعلا ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه الشهادة تكون على أحوال: شهادة صريحة، وهو أن يقال: فلان في الجنة، وهذا لا يجوز إلا لمن جاء فيه الدليل. وشهادة على سبيل اللزوم؛ كأن يقال: فلان شهيد، أو فلان مات مؤمناً، أو مات مسلماً ونحو ذلك، فإنه يلزم أن من مات مسلماً فإنه من أهل الجنة، وإذا قلنا بعكس ذلك فإن هذا تكذيب للنص، ولكن نقول: إن المعنى الثاني جائز على الصحيح؛ وذلك إذا سبر الإنسان حال من حَكَم عليه، فيحكم الإنسان على أحد بعينه بأنه مات مؤمناً؛ لسبره لحاله, أو مات مسلماً ونحو ذلك، ولو قيده بمشيئة الله عز وجل فهو حسن.
وأما الإنسان الذي لا يعلم من حاله إلا فعلة واحدة، ولا يعلم من حاله إلا ما يذكره غيره فهذا قصور، أو لا يعلم من حاله إلا ما مات عليه, أو لا يعلم من حاله إلا يوماً أو مخالطة أيام، ولا يدري عن عمره ونحو ذلك, فهذا لا يحكم عليه، أو علم يوماً ولم يعلم ما ختم الله عز وجل له بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )، ومعنى ذلك: أن عمله السابق كان نفاقاً، والإنسان قد يستديم على النفاق من حيث لا يشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ) فيه إشارة إلى أن العمل السابق هو أطول من الذراع أضعاف مضاعفة.
والإنسان قد يستديم على النفاق ثم يظهر الكفر وعمله الباطل, ويظهر على جوارحه فيختم على ذلك، ويؤخذ من هذا أن الإنسان لا يموت على عمل صالح وهو منافق، ولهذا المنافق لا يمكن أن يموت ساجداً، ولا يمكن أن يموت صائماً أو أن يموت معتكفاً أو نحو ذلك، إلا أن يكون نفاقه الذي وقع فيه قليل، وإنما يظهر الكفر الباطن فيه على جوارحه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث سهل الساعدي عليه رضوان الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فيعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )، يعني: في عمل الظاهر، وهذا فصل للعمل الظاهر عن الباطن، ولهذا نقول: إن عدم الحكم لأحد بالجنة والنار هو فرع عن عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك, أي: أنهم يجعلون الإيمان هو: عمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يا شعيب بن حرب ! لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك ].
هنا ذكر سفيان الثوري رحمه الله مسألة المسح على الخفين وهي من المسائل الفرعية، وربما يدعها الإنسان مع الإيمان بها تورعاً، أو ربما لا يحتاج إليها الإنسان دهراً, أو أن الإنسان لا يلبس الخف والشراب مدى حياته، ولكن أورد هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة أصبحت علَماً للرافضة والخوارج, فإنهم لا يقولون بالمسح على الخفين، ويقولون بالمسح على الأقدام, ويردون المسح على الخفين، وذلك برد الأحاديث الواردة, ويقولون: إن المسح على الخف إقراره فضول, وقد أمرنا بالمسح على القدم.
وفيه إشارة إلى أنه ينبغي من تكلم على مسائل العقائد أن يؤصلها على معرفة العصريين له من أهل الضلال، والعالم الحق الذي يتكلم على قضايا العقائد وقضايا أهل البدع ونحوه ينبغي له أن يكون مستبصراً بأقوال الطوائف في زمنه، ولا يليق بالعالم أن ينظر إلى طوائف أو تأصيلات وتقعيدات قديمة قد خلا منها زمنه الحالي، أو وجدت ولكن وجد ما هو أخطر منها، وينبغي لطالب العلم حتى في التدوين وكلامه على المسائل ونحو ذلك أن يمثل ويبين مسائل العلم للناس في مسائل الفروع لأمور مشاهدة ومسائل العقائد في الفرق والطوائف المشاهدة المعلومة، ويدلل على ذلك كتاباً وسنة بأقوال السلف الصالح.
ولهذا نقول: إن كثيراً من تقريرات طلاب العلم أو الفقهاء من المعاصرين إنما هي حكايات لأقوال أئمة سالفين لا يفهمها الإنسان في زمنه، وهذا لا ينبغي أن يستمسك به الإنسان؛ لأن الله عز وجل إنما أمرنا بالتمسك بكتابه وسنته وبعمل القرون المفضلة؛ كما في الصحيح من حديث عمران بن حصين : ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم )، أما ما عدا ذلك من اصطلاحات الفقهاء فينبغي ألا نستمسك بها.
والعجب أن ترى كثيراً من التدوينات الفقهية في زماننا تضرب أمثلة بالية, بل إنني أقرأ كتاباً فقهياً لأحد المعاصرين حينما ورد على مسألة المياه فقال: كمياه المصانع التي في طريق مكة، وما هي مياه المصانع التي في طريق مكة؟ بالية, هل يناسب ضرب هذا المثل أم أنه وجد في كتب الفقه ثم ذكر؟ لا حاجة إليه، ولهذا ينبغي للإنسان أن يمثل بشيء محسوس، ولا ينقل مصطلحات الفقهاء، لكن لو جاءت مسألة شرعية، وحكمها الشرعي ورد في حديث ونحو ذلك فينبغي أن يُستمسك بذلك؛ كما نأتي مثلاً بالحكم على بئر بضاعة ونصفها ونحو ذلك؛ لأن هذا قد جاء بها النص في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن المسائل المطروحة ربما تتغير، وينبغي ألا ترد؛ مثلاً: من مسائل الحج حينما يتكلم الفقهاء على أن من طاف في المطاف ثم دخل أثناء طوافه في السعي ثم خرج هل يستأنف أم لا؟ هذه المسألة لا ينبغي أن تثار في زماننا؛ لأن المسعى أصبح من المسجد, وإلى زمن قريب كان المسعى منفصلاً عن الطواف, بل كان بينهما سوق ومبيت للناس ينامون ويلغطون فيه، ويتبايعون ويشترون, بل ربما كان فيه مواضع للنجاسات والقاذورات، يعني: للفيصل بينهما, والناس يطوفون ثم يخرجون ربما إلى شيء من السوق, أو يبحثون عن شخص من رفقائهم بين الصفا والمروة, ثم يرجعون يكملون ذلك، فيوردون هذه المسألة، أما الآن فلا حاجة إلى إيرادها في مسائل الفقه, وما زالت تتكرر عندما نتكلم في مسألة المناسك.
وسفيان الثوري رحمه الله من أهل اليقظة في هذا فذكر مسألة الخفين؛ لأن المخالفين فيها بين ظهرانيه, وهم الرافضة، وهذا يدل على أن المسائل الفرعية الأعلام بين أهل السنة وغيرها ينبغي فيها المفارقة, وأن تظهر تمييزاً لأهل السنة عن غيرهم، وهذا تقدم الإشارة إليه أن العلماء يوردون مسائل الفروع في العقائد؛ لبيان المفاصلة والمفارقة بين أهل السنة وغيرهم؛ كمسألة المسح على الخفين، والمسألة الآتية في الجهر بالبسملة, ومسألة الصلاة بالسراويل, وهي الفرق بين الخوارج وأهل السنة، والوضوء بتقديم الشمال على اليمين في من أراد أن يتوضأ, وهذا فيه مخالفة أيضاً للرافضة والخوارج فإنهم يقولون ببطلان وضوء من قدم غسل يده اليسرى قبل اليمنى, أو قدم الرجل اليسرى على اليمنى، ولكننا نقول: إن ذلك جائز، فيجعلونها فيصلاً.
وهذه المسألة وهي مسألة المسح على الخفين نص عليها جماعة من العلماء من المتقدمين والمتأخرين كـسهل بن عبد الله التستري و أبو عمرو الداني وغيرهم من الأئمة, فينصون على هذه الفروع, وهي فروع كثيرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يا شعيب بن حرب ! ولا ينفعك ما كتبت لك حتى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بهما ].
في هذا إشارة إلى أن المفارقة لأهل البدع حتى في الفروع تدخل في أبواب العقائد على سبيل التبع أو ربما على سبيل اللزوم؛ وذلك أن مسألة المسح على الخفين أو الجهر بالبسملة وإن كانت من مسائل الفروع إلا أنها في حال اختلاط أهل السنة مع أهل الضلال والبدعة الذين يفارقون أهل السنة في مسائل الأصول ينبغي للإنسان ولو كان يتعبد بها ينبغي ألا يعملها؛ حتى لا يكثر سواد المبتدعة ولو كان بعمل صالح.
والنبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي جاءه وقال: ( إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل فيها عيد من أعيادهم؟ هل فيها وثن يعبد؟ فقال: لا, قال: أوف بنذرك )، في إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان ولو كان العمل صالح في ذاته إلا أنه إذا كان يكثر سواد المبتدعة فينبغي له أن يبتعد عن حياضهم, وهذا في سائر المسائل إذا كانت فروعاً، فضلاً عن أن تكون من مسائل الأصول.
ومسألة الجهر بالبسملة هي من المسائل الفرعية اليسيرة، وقد ذكر غير واحد من العلماء مع كثرة الأحاديث الواردة في هذا إلا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الجهر بالبسملة، ونص على هذا الإمام أحمد و الدارقطني والحافظ العقيلي في كتابه الضعفاء وغيرهم من الأئمة على أنه لا يثبت على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالبسملة.
وهذه المسألة هي فرع عن مسالة أصلية، وهي: هل البسملة آية من كل سورة أم لا؟ وهل هي آية من الفاتحة أم لا؟
والجهر بالبسملة هنا غالباً ما يذكرونه عند قراءة الفاتحة، وهذه المسألة العلماء فيها على خلاف، فجمهور العلماء وهو قول أبي حنيفة و مالك والإمام أحمد يقولون بعدم الجهر بالبسملة، على خلاف عند أولئك هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟
وأما الإمام الشافعي فيرى الجهر بها، ولكن الإمام الشافعي رحمه الله وإن كان يقول بها إلا أنه لا يشدد على المخالفين الذين لا يقولونها جهراً أو سراً، وقد سئل الإمام الشافعي رحمه الله عمن يصلي خلف من لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، هل تصح صلاته أم لا؟ فقال: أنا أقول بعدم صحة الصلاة خلف الإمام مالك ! والإمام مالك هو شيخ الإمام الشافعي رحمه الله؛ والإمام مالك لا يرى أن بسم الله الرحمن الرحيم تُقرأ في الفاتحة.
وبسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ هذا موضع خلاف، والأمر فيها سائغ, وبعض العلماء يقول: إنها ليست بآية, ويستدل على ذلك بأصل حسن في هذا، فيقول: لو كانت آية لما ساغ فيها الخلاف؛ لأن القرآن لا يُختلف فيه، والله عز وجل يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فعند أهل الإسلام لا يختلف في الفاتحة لو كانت من القرآن، فلما وقع الخلاف دل على أنها خارجة من هذا الأصل.
وعلى كل فهذه المسألة ترجع إلى مسألة القراءات السبع, فمن يقرأ بقراءة معينة فإنه يلزم أن يأخذ بمن قرأ بها، هل هي من الفاتحة أم لا, على قراءته، و الشافعي رحمه الله يقول بهذه المسألة وعلى ذلك أصحابه.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر