وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي في تكفير المشبهة].
ختم المصنف هذا الباب بما روي في تكفير المشبهة، وهذا باب عظيم، وأصل بديع، وكان الحق أن نفصل فيه في كتاب الإيمان والكفر، ولكنا ننوه تنويهات ونقعد قواعداً ترسى لطالب العلم ما روي في تكفير المشبهة، فهم قوم مبتدعة أنزلوا صفات الخالق إلى منزلة صفات المخلوق، وقالوا: نثبت صفات الله، ولا نقول كما قالت الجهمية، بل نقول: لله يد، وساق، ورجل، وأنامل، وعين، لكن عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق، وساق الله كساق المخلوق.
والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان وقد أخذ هذه البدعة عن الجعد بن درهم فهو الذي أنشأها، لكن الجهم أخذها وجعلها تعلو إلى السماء، وجر الخلفاء عليها، وامتحن أهل العلم بهذه البدعة الظلماء، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أصل مقالة هؤلاء من أصل يهودي، وهي مقالة لبيد الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نفى صفات الله جل وعلا وأسمائه.
كفر أكبر، وكفر أصغر، ونحن بصدد بيان الكفر الأكبر والكلام على أهل البدع.
والتكفير نوعان: تكفير النوع، وتكفير العين، فتكفير النوع بمعنى أن القول أو الفعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزول عنه الشبه، وهذا التأصيل أتينا به من الآيات التي تكفر الذين يفعلون الكفر، فهي إنما جاءت للأعيان، ولم تأت للأنواع، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في الأعيان لا في الأنواع.
والسؤال هو: هل هناك دليل على التفريق بين كفر النوع وكفر العين مع أن الظاهر أن الأدلة كلها نزلت في تكفير الأعيان؟
الجواب هو أن دليل التفريق بين كفر النوع وكفر العين يستند على الوعيد، سواء الوعيد المطلق، أو الوعيد المقيد، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن في الخمر عشر -والملعون هو: المطرود من رحمة الله جل وعلا- شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاريها، وبائعها) فكل هؤلاء لعنوا في الخمر، وهذا وعيد مطلق، وهو يشابه كفر النوع.
وفي الصحيحين أن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه كان كثيراً ما يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يؤتى به ليحد من شرب الخمر، فجيء به مرة وهو مخمور، فلما جلدوه بالنعال أو بالجريد، قال قائل: لعنة الله عليه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، والله إني لا أراه إلا يحب الله ورسوله)، ووجه الدلالة أن النبي لعن في الخمر عشرة: الشارب، والحامل، والبائع، والمشتري، والعاصر، والمعتصر، فكل هؤلاء لعنوا في الخمر لعناً مطلقاً أو لعن نوع، ومع ذلك فالذي شربها وجيء به يجلد لم يوقع عليه النبي صلى الله عليه وسلم عين اللعن، فهذا تفريق بين النوع وبين العين من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فعل السلف يبين التفريق بين النوع والعين، فالإمام أحمد بن حنبل قال: من قال بخلق القرآن فقد كفر، والخليفة امتحنه في ذلك، بل جلده على ذلك، ومع ذلك سألوه: أنخرج عليه؟ قال: لا، والله! إن له عندي دعوة أدعو له كل يوم أو كل ليلة بالتسديد والتوفيق، وما كان يكفره، بل كان يصلي خلفه، مع أنه القائل: بأن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، واستفدنا من ذلك قاعدة مهمة وهي: من ثبت إيمانه بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فهذا تفريق بين تكفير النوع وتكفير العين.
إذاً: فالكفر نوعان: كفر نوع، وكفر عين، تقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا بد أن تقام عليه الحجة بدليل قول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذا وجد رجل يطوف بالقبر فيكفر الفعل، أما هذا الطائف بالقبر فليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً، أو نشأ في بيئة بعيدة لا يعلم شيئاً عن الدين بحال من الأحوال غير لا إله إلا الله محمد رسول الله.
رجل آخر وجد ساجداً أمام صنم، فيكون: السجود للصنم كفر، والساجد ليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون يقرأ في القرآن وما رأى الصنم ثم مر على آية سجدة فسجد فصادف سجوده للصنم، فهذا الرجل يعذر أيضاً، ولا بد أن تقام عليه الحجة، والكفر يدرأ بأي عذر؛ ولذلك قال الإمام مالك : لو كان المرء على تسعة وتسعين كفراً وواحدة إيمان لحملته على الواحدة إحساناً للظن بالمسلم.
أيضاً قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فلا أحد يكافئ لله جل وعلا في ذاته ولا في صفاته، وأيضاً قال الله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، وفي آية أخرى قال: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فالذين يشبهون صفات الله جل وعلا بصفات المخلوق نزلوا الخالق منزلة المخلوق، فكفروا من هذا الوجه.
الوجه الثاني من أوجه تكفير المشبهة: أنهم اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم البلاغ والبيان، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، وقال جل وعلا في بيان التبليغ: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يبين أن يد الله كيد البشر، لم يبين الذكر الذي نزل إليه، فهذا اتهام صريح سافر للنبي بأنه قصر في البلاغ.
الوجه الثالث في تكفير المشبهة: هو الإلحاد في صفات الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، فمن باب الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وصفاته تشبيه صفاته بصفات المخلوق.
الوجه الرابع والأخير: هو نسبة النقص والعيب إلى الله جل وعلا، وعدم توقير الله وعدم تعظيمه؛ لأنهم إذا قالوا عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق وصفوا الله جل وعلا بالنقائص، والله جل وعلا يقول: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، يقول جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
الجواب: المفوضة: هم الذين يفوضون ويمررون الكيفية والمعنى، ويقولون: السميع لا نعلم عنه إلا الألف واللام والسين والميم والياء والعين، ضمت هذه الحروف فنتجت هذه الكلمة: السميع.
وأنت لو قيل لك: هذا رجل سميع، فإنك تعلم أنه يسمع، وله أذن يسمع بها، فإذا قيل لك: الله سميع، تعلم أنه يسمع الخلق ويسمع ما تتكلم به، يقول مالك : الاستواء معلوم-أي: في اللغة، فتفسيره معلوم لدينا- والكيف مجهول، أي: لا يفسر، ولذلك أجملت بعض الكلمات في الصفات عن الإمام أحمد فقال: أمروها كما جاءت، وشيخ الإسلام ابن تيمية دافع عن الإمام أحمد ، وقال: لا يقصد بها إلا إمرار الكيفية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر