أيها الإخوة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذه المحاضرة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن قضية مهمة لنا جميعاً ألا وهي الحديث عن دور الإسلام في تربية الفرد وبنائه بناءً صحيحاً.
إن العنصر الذي تقام عليه المبادئ والعقائد وتنشأ عليه الأمم والحضارات هو الفرد، فإذا استطاعت أمة من الأمم أن تبني أفرادها بناءً قوياً متكاملاً صحيحاً؛ فمعنى ذلك أنها استطاعت بإذن الله أن تحقق لنفسها مستقبلاً زاهراً، وأن تحقق للدين والعقيدة التي تدين بها نصراً ونجاحاً كبيرين، وإذا فشلت أمة من الأمم في بناء أفرادها وتكوينهم أو ركزت هذه الأمة أفرادها على لونٍ معين من نشاطات الحياة؛ فمعنى ذلك أن هذه الأمة حكمت على نفسها بالفناء والدمار.
لو نظرنا إلى هذه الأمة أو تلك لوجدنا أنها لا يمكن أن تقوم قياماً صحيحاً إلا بتربية الفرد الصالح الذي يبدي استعداده للتضحية في سبيل هذا المبدأ أو العقيدة التي يدين بها أو في سبيل هذه الأمة التي ينتمي إليها.
وهذه القضية وهي: قضية أهمية الفرد في بناء الأمم وتكوين الحضارات، كانت تشغل بال المصلحين والغيورين على الدين منذ أول عهد الإسلام.
وإنها أمنية طيبة ولا شك لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر رضي الله عنه، فقد كان يشغل بال عمر أمرٌ أغلى من الذهب فأعاد الكلمة مرة أخرى: تمنوا، فقال آخر أنا أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت جوهراً وزبرجداً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
وهذه أمنية أيضاً تشبه السابقة، لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لهم مرة ثالثة: تمنوا، فقالوا: والله ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان، وهذا الخبر صحيح رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة وغيره.
إذاً فـعمر رضي الله عنه وأرضاه لا يشغل باله المال -مثلاً- أو الذهب أو الفضة التي ينفقها في سبيل الله، بل يشغل باله أمرٌ أخطر من هذا: ألا وهو بناء الفرد الصالح المؤمن إيماناً حقيقياً في عقيدته يستطيع أن يوفر المال والذهب والفضة ولو من قُوتِه، وهذا هو الذي وقع فعلاً وهو ما تشهد به أحداث التاريخ.
وهؤلاء الرجال هم الذين تقوم عليهم الدعوات وتعتمد عليهم الأمم بعد الله عز وجل إذا رزقوا الصبر والثبات على مبدئهم وعقيدتهم؛ حققوا من جليل الأعمال ما يشبه المعجزات ولكن لا بد لهم أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبدئهم، لأنهم هم قوام الحياة فإذا صلحوا صلحت بهم الحياة، لكن إذا انحرفوا أو فسدوا أو مالوا إلى الدنيا أو تأثروا بالمغريات من حولهم، فمعنى ذلك أن الأرض التي تصلح بصلاحهم قد فسدت بفسادهم.
بمعنى آخر أنه لم يأخذ منهم أجراً مادياً دنيوياً، وهذا شأن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] وكان كل نبيٍ يقول لقومه: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود:29] فعيسى عليه السلام لم يأخذ من الحواريين أجراً وهو يعلمهم الإسلام، فيقول لهم: حين تعلمون الناس الإسلام لا تأخذوا منهم أجراً إلا مثل الأجر الذي أخذت منكم، بمعنى: إنني لم آخذ منكم أجراً حين علمتكم، فكذلك أنتم لا تأخذوا من الناس أجراً حين تعلمونهم، ثم يقول بلهف: ويا ملح الأرض لا تفسدوا -يخاطب الحواريين، والحواريون هم -كما تعلمون- خاصة عيسى عليه السلام وبطانته ومقربوه؛ وهم الذين قاموا بالدعوة وبعثهم إلى أنحاء الأرض ينشرون الدين فيه، فهم الفئة القليلة الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فهو يقول لهم: ويا ملح الأرض لا تفسدوا فإن كل شيءٍ إذا فسد فصلاحه بالملح، فإذا فسد الملح لا يصلحه شيء، ثم يقول لهم: واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الخصلة الأولى: هي الضحك بغير سبب، والخصلة الثانية هي: الصبحة من غير سهر.
ما هي الصبحة؟ هي ما نسميه نحن بالسفرة، وهو النوم بعد صلاة الفجر، فهذه الكلمة من عيسى عليه الصلاة والسلام يهمنا منها قوله: ويا ملح الأرض لا تفسدوا وقد نظم هذا بعض السلف بقوله:
sh= 9901340>يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
فلو نظرنا مثلاً إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتساءلنا لم كانت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية؟ ولم تكن في أرض فارس أو الروم أو بين النصارى واليهود لوجدنا أن الله عز وجل اختار هذه الجزيرة وهو على علمٍ سبحانه بخصائص أهلها، وأن العرب على ما كانوا عليه من الانحراف والفساد إلا أن صحراءهم المترامية الأطراف كانت تمنع وصول كثيرٍ من المفاسد والمراذل إليهم، ومعيشتهم المعيشة البدوية الصحراوية كانت تمنع تأثرهم بالمذاهب الفلسفية المنحرفة التي كانت تسيطر على الناس في ذلك الوقت، فكانوا يتمتعون بالشجاعة مثلاً والكرم والقوة والنجدة والصراحة، ولذلك لما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول: لا إله إلا الله، كان بإمكان بعضهم أن يقولوها نفاقاً مثلاً أو مجاملة أو محاولة للتقريب بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، ولكن لأنهم أناسٌ صرحاء، الغالب على أحوالهم الوضوح والصدق والصراحة والبعد عن أساليب الالتواء واللف والدوران، لم يقبلوا هذه الكلمة وردوها صراحة وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
فالعرب كانوا يتمتعون بخصائص فطرية جيدة بالقياس إلى ما كان يوجد في الأمم الأخرى في عصرهم، ومع هذه الخصائص الفطرية التي لا بد أن توجد في كل من يدعو إلى الإسلام ويقوم بشأنه، فإن هناك ثلاث قضايا لا بد من التركيز عليها في بناء هؤلاء القوم ودعوتهم حتى تتحول خصائصهم هذه إلى خصائص تخدم الدعوة الإسلامية.
يذكر الإمام محمد بن إسحاق صاحب المغازي والحاكم في المستدرك وابن حبان وغيرهم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما أسلم ذهب إلى رجل يقال له جميل بن معمر الجمحي، وكان هذا الرجل مشهوراً بإفشاء السر ونشر الكلام، فاختاره عمر وقال له هل علمت أني قد أسلمت؟ فقام جميل بن معمر في نوادي قريش وهو يصرخ بأعلى صوته، يقول: يا معشر قريش إن عمر قد صبأ، وعمر يركض خلفه؛ ويقول: كذبت كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يتجمع القرشيون حول هذا الرجل الشديد عمر رضي الله عنه، وهو ما زال حديث عهدٍ بالإسلام، فيظل يقاتلهم -كما تقول الرواية- منذ غدوه حتى صارت الشمس حيال رأسه، يقاتل هذا الجمع الغفير من القرشيين في مسجد مكة بيده بطبيعة الحال، لأن القتال بالسيف لم يكن مشروعاً حينذاك، فلما صارت الشمس حيال رأسه كأنه تعب وأعيا فقعد، وهم يعرشون حوله -ملتفون حوله- وهو يقول: [[يا أعداء الله: اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا ثلاثمائة رجل لأخرجناكم منها أو أخرجتمونا منها]] يعني: مكة.
إنها صورة من صور القوة في الحق، وهذه القوة كانت موجودة في عمر كصفة مجردة قبل الإسلام، لكن لما أسلم توظفت وتوجهت هذه القوة في سبيل الخير، واستغلت أو استثمرت لصالح الإسلام فلم يأتِ الإسلام ليحطم شخصيات الرجال ويقضي عليها؛ ويجعل الناس كلهم عبارة عن نسخة واحدة أو قالب مصبوب، لا بد أن يكون الناس كلهم على هذه النسخة أو على هذا القالب، لا،بل جاء الإسلام لينقل كل فرد من وضعه الذي يعيش فيه، وخصائصه الذي يتميز بها ليكون مسلماً متسماً بخصائص معينة؛ يوجه هذه الخصائص لخدمة الإسلام، لم يأت الإسلام ليجعل الناس كلهم علماء مثلاً، ولا ليجعل الناس كلهم مجاهدين يحملون السيف في سبيل الله، ولا ليجعل الناس كلهم متعبدين يحيون ليلهم ويصومون نهارهم، لا،بل جاء الإسلام يخاطب كل فرد بما يناسبه، فالقوي في الجاهلية يبقى قوياً في الإسلام، والإنسان الذي يتمتع بفطرته بخصائص عاطفية تجده يجد في الإسلام ما يشبع هذه العواطف فيتحول إلى متعبد لله عز وجل غير خارجٍ عن التعبد إلى الصوفية، والإنسان الذي يحب القوة يجد في الإسلام وفي ميدان الجهاد ما يستغل هذه الطاقة، والإنسان الذي يملك ذهناً متطلعاً إلى تحصيل المعلومات يجد في الإسلام الحث على التعلم وطلب العلم.
ومع هذه الشدة التي كان عمر رضي الله عنه يتحلى بها فإننا نجد أن الإسلام قد هذب هذه الصفة فيه رضي الله عنه، وإيمانه بالله واليوم الآخر والجنة والنار جعله يكثر من لوم نفسه وتقريعها، ولذلك روى الإمام مالك في الموطأ وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على كتاب الزهد لأبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه [[أنه خرج مع
وهكذا استفاد الإسلام من هذه الخصيصة الموجودة عند عمر وهي القوة في الحق مع تهذيبها وتوجيهها توجيهاً صحيحاً بحيث لا تتعدى حدها.
هذا أنموذج لرجل يتميز بالقوة.
وهناك أنموذج ثانٍ لرجلٍ يتميز بالشجاعة وهو خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه حيث تتحول شجاعته بل يتحول تهوره في الجاهلية؛ إلى شجاعةٍ وإقدامٍ في سبيل الله ونصر للإسلام وخذلانٍ لأعداء الدين، ولذلك يروي الإمام أحمد في فضائل الصحابة وأبو يعلى في مسنده وابن حبان وغيرهم بسندٍ صحيح أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: " والله ما ليلة تهدى إليّ عروس أنا لها محب أبشر فيها بغلام، بأحب إليّ من ليلةٍ شديدة الجليد قضيتها مع نفرٍ من المهاجرين -يعني مجاهدين في سبيل الله عز وجل- " فيتحول إقدام خالد وشجاعته إلى رغبة حقيقية ملحة في الجهاد في سبيل الله، ويجد هذا الرجل الباسل المجاهد لذته وطمأنينة نفسه في الخروج إلى سبيل الله لقتال أعداء الله، حتى وهو يجد ألم البرد، حتى وهو يجد الخوف كما يخاف غيره من الناس، ومع ذلك يحس بأن هذه ألذ ليلة يقضيها في عمره، إنه أنموذج لقدرة التربية الإسلامية الصحيحة على الاستفادة من خصائص الناس وتوجيهها توجيهاً صحيحاً.
هذه هي النقطة الأولى التي تفعلها التربية الإسلامية في نفوس الناس وهي الاستفادة من الخصائص الفطرية الموجودة فيهم استفادة صحيحة وليس إلغاء هذه الخصائص أو القضاء عليها.
فالفطرة أحياناً تكون مدفونة بطبقة كثيفة من الانحراف يصور للإنسان أن هذا الشخص المنحرف الذي أمامه هو إنسان شرير من جميع جوانبه، لكن في الواقع أنه لا يخلو من جانب خير، فالتربية الإسلامية تهدف إلى مخاطبة هذا الجانب الخيِّر وتحريكه وإثارته حتى يكبر هذا الجانب ويصبح بارزاً، وبطبيعة الحال يضعف جانب الشر، وهكذا حتى يزول الشر أو يضعف ويكثر الخير ويصبح هو الغالب على نفس هذا الإنسان، ولو نظرنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه من الشباب وغيرهم لوجدنا ملمحاً قوياً في هذا الجانب.
فعلى سبيل المثال يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خرج في سرية مع مجموعة من الصحابة فحاص الناس حيصةً -يعني: هزموا في المعركة وكأنهم فروا منها- فلما التقى بعضهم ببعض قالوا: ماذا صنعنا؟ فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب لأن الله عز وجل توعد من فر من الزحف بالوعيد الشديد، كما قال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16] ثم تشاوروا في ماذا يصنعون؟ فقالوا: لنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان الأمر غير ذلك ذهبنا، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدروه قبل أن يصلي الفجر، فجاءوا يسلمون أنفسهم؛ ويقولون: يا رسول الله نحن الفرارون، نحن الفرارون -وقد شعروا بأن القضية خطيرة فيمكن ألا تقبل توبتهم، ويمكن أن يكونوا قد باءوا بغضب من الله، ويمكن أن يكون مأواهم جهنم كما يفهم من ظاهر الآية، فشعروا بالخطر، ولذلك تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الجانب الآخر وبعث الخير في نفوسهم فلم يوافقهم على ما قالوا، ولم يقل: نعم أنتم فررتم وفعلتم وفعلتم، ويوبخهم على ما فعلوا، كلا، بل قال لهم صلى الله عليه وسلم- بل أنتم الكرارون، يعني: أنتم الكرارون الذين تغادرون العدو ثم تكرون عليهم مرة أخرى، فأثار في نفوسهم الخير لأنهم مستعدون والحالة هذه أن يخوضوا معركة ولا يغادروها حتى ولو قتلوا عن بكرة أبيهم، فأثار النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الجانب الخير في نفوسهم واستفاد من شعورهم بالخطأ أو بالمعصية استفادة صحيحة يحتاج إليها الدعاة إلى الله عز وجل ويحتاج إليها المربون في كل مكان، قال فجئنا وقبلنا يده صلى الله عليه وسلم فقال لنا: {أنا فئة المسلمين} وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الإمام أحمد أيضاً، فهو أنموذج لتحريك الخير الكامن في النفوس.
وثمة أنموذج آخر يحكيه لنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: إن صفية بنت حيي بن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وسلم سمعت أن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقول لـصفية: إنها ابنة يهودي، وهذا الكلام صحيح فـصفية أبوها يهودي وهو حيي بن أخطب ومات ولم يسلم، فهذا جانب قد يفسر بأنه جانب ضعف قد تحس به صفية خاصةً حين تعيرها به إحدى ضراتها، فيدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فيقول لها ما يبكيكِ؟ فتقول له: يا رسول الله حفصة تعيرني بأنني بنت يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام: {أفلا قلتِ لها بأنني بنت نبي، وعمي نبي، وتحت نبي} وهذه الرواية عند الترمذي وقد صححها، وفي رواية أخرى عنده أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: {أفلا قلتِ لها: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم} وقد كانت صفية من نسل هارون عليه السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين لمحت حفصة الجانب الذي قد يفسر عند البعض بأنه جانب سلبي وهو أن صفية بنت يهودي لمح صلى الله عليه وسلم الجانب الآخر وهو أن صفية من نسل النبي هارون، وعمها موسى عليهما السلام، وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يضيرها أن يكون أبوها يهودياً.
هذا هو الجانب الثاني من الجوانب التي تعني التربية الإسلامية، وهو استخراج الخير الكامن في النفوس أو التركيز على الجوانب الإيجابية عند الإنسان.
فمثلاً نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من الجنة: يا عبد الله هذا خير والمقصود بزوجين، أي: شيئين اثنين من أنواع الخير كأن ينفق درهمين أو دينارين أو بعيرين أو غير ذلك، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. قال
إذاً: طرق الخير كثيرة وقد يشعر الإنسان بأنه يستطيع أن يساهم في مجال معين من مجالات الخير وقد يشعر بأن عنده طاقاتٍ كبيرة يمكن أن يصرفها في العديد من المجالات، ولذلك كان أبو بكر ممن يدعى من أبواب الجنة كلها، فكل ملأ من الملائكة عند بابٍ من أبواب الجنة يدعونه ويقولون له: يا أبا بكر هذا خير فتعال وادخل منه، وهذا لا شك أن فيه مزية وفضل لـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهذا ليس بغريب فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال
لقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أربعة أسئلة: من أصبح منكم صائماً؟ من عاد منكم مريضاً؟ من تبع جنازة؟ من تصدق منكم على فقير أو مسكين؟ كلها يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فبشره بعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
هذه الوسائل الثلاث وغيرها هي من أهم الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في بناء وتكوين أصحابه، ولذلك نجد أن أمهر وأقوى خريجي المدارس هم خريجو المدرسة المحمدية الذين تخرجوا على يدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورباهم على عينه، ودائماً قوة المدرسة تعرف من نتائجها.
هذا الصحابي المضحي الباذل في سبيل الله والذي تعرفون كيف كانت حياته في مكة من الترف والنعيم، وكانت أمه تلبسه أحسن الثياب وتطعمه أحسن الطعام؛ حتى إنه كان إذا مشى في الشارع شمت الفتيات في بيوتهن طيبه من مسافة بعيدة، وحتى إنها كانت تضع الطعام عند رأسه وهو نائم ليأكل كلما استيقظ، وكان شاباً مدللاً كما نعبر، فلما أسلم تحول هذا النعيم إلى حد أن هذا الشاب الذي لم يتعود على شظف العيش يهاجر إلى الحبشة في بلد الغربة؛ ويجد فيها من اللأواء والتعب ومشقة الغربة ما يجد، ثم يعود مرة أخرى، ثم يهاجر، إلى المدينة قبل المهاجرين وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلَّم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، ويدعو أهل المدينة أيضاً، وكان يسمى المقرئ، ثم يستشهد بعد فترة قليلة من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يتمتع طويلاً بصحبته صلى الله عليه وسلم بـالمدينة بعد ما أعز الله الإسلام ودون أن تينع له ثمرته، كما يعبر خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، وقد كانت قصته كما تعرفون أنه يحمل الراية فتقطع يده اليمنى فيحملها باليسرى فتقطع، ثم يضمها بعضديه إلى صدره ثم يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] فهذا أنموذج حي عظيم من نماذج خريجي المدرسة النبوية.
فهذا الرجل الذي سلك هذه الطريقة بالتعلم لما تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على التعليم، بل والدعاء له بالفقه في الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} كما في الصحيح، هذا الرجل يصبح وهو شاب في مقتبل عمره يضالع المشايخ الكبار، فيحضره عمر رضي الله عنه وأرضاه في مجلسه مع كبار المهاجرين، فيقول له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتحضر معنا هذا الفتى وفي أولادنا من هو في مثل سنه؟ فيقول لهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ليثبت لهم دقة علمه بالرجال ومعرفته بخصائصهم: أرأيتم قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] ما معنى هذه السورة؟ فظل الصحابة رضي الله عنهم يتكلمون في معناها دون أن يقعوا على السر الذي أراده عمر حتى إذا وصل الكلام إلى ابن عباس قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله إياه، فقال له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3]]].
فهو إشارة إلى أن النصر والفتح قد جاء ودخل الناس في الدين فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم]] وهذا الحديث رواه الترمذي وحسنه.
وهناك رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه دخل ابن عباس رضي الله عنه مع شيوخ المهاجرين فأراد يوماً من الأيام أن يختبرهم ويبين لهم قوة ابن عباس فقال لهم: [[أرأيتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر الأواخر، يعني: من رمضان أية ليلة هي ليلة القدر؟ فقال بعضهم: هي ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: هي ليلة ثلاث وعشرين واختلفوا، فقال: ما عندك يا
صورة رائعة من صور الإيثار ليست في الرخاء، لأن الذين يؤثرون في الرخاء كثيرون، لكن من الإيثار في حالة الشدة بل في أشد شدة يمكن أن تعرض للإنسان وهي حاجته إلى جرعة يبرد بها ما يجد من الحر في جوفه وهو يجود بنفسه، ولا عجب أن يصل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين إلى هذا المستوى، وليس ما ذكرته إلا نماذج فقط، وإلا فبإمكان أي واحد أن يقرأ بعض الكتب التي جمعت أخبارهم ليجد العجب العجاب، وهي كثيرة أذكر منها: سير أعلام النبلاء للذهبي وحلية الأولياء لـأبي نعيمو الإصابة لــابن حجر والاستيعاب وأسد الغابة وغيرها، من الكتب التي تحدثت عن الصحابة والتابعين أو عمن جاءوا بعدهم من المقتدين بهم.
إن من واجبنا -أيها الشباب- أن نجعل هذه القدوات مثلاً أعلى لنا، وأن نحرص في حياتنا على أن نصل إلى بعض ما وصلوا إليه فإن كل إنسان لا بد له في حياته من مثل أعلى، فإذا كان كثير من الناس اليوم جعلوا مثلهم الأعلى فلاناً وفلاناً؛ من أهل الغناء أو الرياضة أو الجاه أو الثروة أو غيرهم، فليكن مثلنا وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر