إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحمن صالح المحمود
  5. منهج تلقي العقيدة عند السلف ومنهجهم في الاستدلال

منهج تلقي العقيدة عند السلف ومنهجهم في الاستدلالللشيخ : عبد الرحمن صالح المحمود

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ليس من شك أن منهج السلف الصالح وفهمهم للدين أصلح وأحكم، وأعمق وأسلم، فقد عاشوا الوحي والتنزيل، فكانوا لذلك أعرف الأمة بالتفسير والتأويل، وهم المشهود لهم بالخيرية في القرآن، وعلى لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يعيب فهمهم، ولا أن يتنقص علمهم، فما المتأخر بالنسبة لهم إلا كزرع صغير في أصول نخل طوال.

    1.   

    مقدمات لابد منها في منهج العقيدة

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! موضوعنا لهذه الليلة هو كالمقدمة للدروس القادمة إن شاء الله تعالى، ومن ثم فسيكون الحديث بعون الله تبارك وتعالى في هذه الليلة عن منهج السلف رحمهم الله تعالى في الاستدلال، ومنهجهم في تلقي هذه العقيدة، وقد سبق أن طرحت هذا الموضوع أو قريباً منه، ومن ثم فسيكون حديثي إن شاء الله تعالى مستكملاً لما سبق. تعلمون جميعاً أن مسألة الإيمان والحكم به على الناس ودخول الناس في الإسلام مسألة أصيلة في حياة البشر، وكيف لا تكون كذلك والله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، ولأجل هذا، ولأجل أن تقوم الحجة عليهم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح للناس المحجة، حتى ترك رسل الله عليهم الصلاة والسلام -وعلى رأسهم هذا الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- أممهم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أيها الإخوة! لما كان الأمر كذلك كانت مسألة العقيدة والاعتصام بها، وسلوك منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ليست مسألة اجتهادية يأخذ بها من شاء، ويتركها من شاء، وإنما هي مسألة عقيدة تمس حياة الإنسان في هذه الدنيا، وتمس موقفه يوم القيامة حينما يقدم على ربه تبارك وتعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن هذه الواحدة هي الجماعة، وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولما كانت هذه القضية -قضية الاعتقاد على منهج السلف رحمهم الله تعالى- قضية مهمة يجب أن يبحث عنها كل مسلم، ويجب أن يعتمدها، كان حديثنا هذه الليلة لبيان بعض معالم هذا المنهج. وقبل الدخول في شرح بعض قضاياه أود أن أقدم بعدة مقدمات مهمة:

    تقسيم الدين إلى أصول وفروع

    أول هذه المقدمات: أنه اشتهر عند كثير من أهل الكلام وممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الفلسفة وغيرهم تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فيقولون: إن هذا أصل من أصول الدين، وهذا فرع من فروع الدين، فيجعلون مسائل الاعتقاد من أصول الدين، ومسائل الأحكام الشرعية الفرعية من فروع الدين، ثم يرتبون على هذا عدة ترتيبات، فمثلاً يقولون: إن الخطأ في مسائل الأصول قد يوصل صاحبه إلى الكفر، لكن الخطأ في مسائل الفروع، لا يوصله إلى الكفر وإنما يبقى خطأ اجتهادياً. أيضاً من ناحية الإثبات: فإنهم قد يثبتون الفروع بأخبار الآحاد، ولكن الأصول يرفضون أن يثبتوها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقتصرون في إثباتها على المتواتر، وعلى أدلة العقول كما هو منهجهم. وهؤلاء الذين قسموا الدين إلى أصول وفروع خلطوا خلطاً عجيباً في هذا الباب، ولاشك أن تقسيمهم حادث لم يكن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا على عهد القرون المفضلة من السلف رحمهم الله تعالى، فمثلاً: يجعلون كل قضية خبرية تتعلق بالإيمان بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو باليوم الآخر أو نحو ذلك من أصول الدين، وكل قضية تتعلق بأحكام الفروع ولو كانت الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام يجعلونها من فروع الدين، وجعلوا الأمور الأولى أموراً مهمة، والأمور الأخرى أموراً فرعية ليست ذات أهمية، والحق أن هذا التقسيم خطأ كبير جداً؛ لأن الدين الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وقال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) شامل للإسلام بأركانه الخمسة، وشامل للإيمان بأركانه الستة، كما أنه أيضاً شامل للإحسان، وهو المرتبة العليا من الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). ومن ثم: فإن مسألة الصلاة يقولون: إنها من فروع الدين، ولكنها بلا شك من أصول الدين، بمعنى أن الإقرار بهذه الصلاة واعتراف المؤمن بها أصل من أصول الدين، ومن جحدها فهو كافر بإجماع العلماء. وكذلك الزكاة، وأيضاً تحريم الربا، وتحريم شرب الخمر، وتحريم الزنا وغير ذلك، فهذه كلها أمور معلومة من الدين بالضرورة، فهي من أصوله، فمن جاء ليجحدها ويقول: إن الله لم يحرم الربا، أو إن الله لم يحرم الخمر، أو إن الله لم يوجب الصلاة أو الزكاة فهو خارج عن دائرة الإسلام، فكيف يأتي قائل بعد ذلك ليقول: إن هذه من فروع الدين وليست من أصوله؟! فحينما نأتي ونقول: منهج السلف رحمهم الله تعالى في الاعتقاد لا يعني قضايا الاعتقاد التي يتحدث عنها بعض الناس، وإنما يشمل هذا أصول الدين التي هي أصول، ومن ثم: فإن التقسيم الصحيح لهذه المسائل إنما هو بتقسيمها إلى قسمين: خبر وطلب. القسم الأول: خبر إما عن الله أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو خبر عن اليوم الآخر أو غيره من الأخبار، فهذه كلها تسمى أخباراً. القسم الثاني: طلب، وهذا الطلب هو الذي فيه الأوامر والنواهي، ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به من الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، وما نهانا الله سبحانه وتعالى عنه من أكل الربا والخمر وغير ذلك، وهذا هو التقسيم المناسب والصحيح لهذا الدين، وكل من الخبر والطلب فيه ما هو أصول، وفيه ما هو فروع، وهذه هي القضية الأولى التي وددنا أن نشير إليها هنا.

    أقسام الناس في اتباع الكتاب والسنة

    المسألة الثانية: هي أن المتتبع لأحوال الناس جميعاً يجدهم ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: القسم الأول: المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم على منهج الحق ظاهراً وباطناً. القسم الثاني: المخالفون في ذلك، المعترضون على حكم الله وأمره، وعلى حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمره، ومن ثم: فإننا نشير هنا في هذه المقدمة إلى أنواع الذين اعترضوا على أمر الله سبحانه وتعالى وحكمه وشرعه، وهؤلاء ثلاثة أنواع: النوع الأول: الذين يعترضون بالشبه الباطلة، والتي يسمونها قواطع عقلية، وليست قواطع عقلية، وإنما هي خيالات، كالذين ينكرون أسماء الله وصفاته، أو عموم قدرته تبارك وتعالى، أو غير ذلك بأدلة العموم، هذه هي الطائفة الأولى من المتفلسفة وأهل الكلام وغيرهم. الطائفة الثانية: الذين يعترضون على شرعه وأمره، وهؤلاء ثلاثة أقسام: القسم الأول منهم: الذين يعترضون بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أباحه الله سبحانه وتعالى، أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه... إلى آخره، وهؤلاء هم أصحاب الأقيسة العقلية الفاسدة التي أرادوا أن يفسدوا بها دين الله سبحانه وتعالى. القسم الثاني: الذين يعترضون على حقائق الإيمان وعلى حقائق الشرع بما عندهم، أو ما يسمونه بالأذواق والمواجيد والخيالات وغيرها، وهذا مشهور عند المتصوفة، فإن هؤلاء يعتقدون أن هذه الكشوفات -وهي كشوفات باطلة- تقدم على حقائق الإيمان والشرع، وقد يصل ببعضهم الأمر إلى أن يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذا مرتبة من مراتب الولاية. القسم الثالث: الذين يعترضون على شرع الله وأمره بالسياسات الجائرة التي يقدمونها على حكم الله سبحانه وتعالى وعلى حكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه الأقسام الماضية كل واحد منهم يقدم أمراً على أمر الله ورسوله، فالأولون إذا تعارض عندهم العقل والنقل قالوا: نقدم العقل. الطائفة الثانية: إذا تعارض الأثر مع القياس قدموا القياس على الأثر. الطائفة الثالثة: إذا تعارض الذوق والوجد والكشوفات مع ظواهر الشرع قدموا أذواقهم وكشوفاتهم. النوع الرابع: أصحاب السياسات يقولون: إذا تعارضت السياسة والشرع نقدم السياسة وهي السياسة الجائرة. النوع الثالث: الذين يعترضون على أفعال الله سبحانه وتعالى وقدره، وهؤلاء هم أعظم الناس ضلالاً وجهالة. وهذه الاعتراضات التي أشرنا إليها قبل قليل هي اعتراضات أولئك الذين يريدون أن يحرفوا الناس عن دينهم، وأن يبدلوا شرع الله سبحانه وتعالى ودينه بعقائد وفلسفات، ويريدون أن يصرفوا الناس عن تحقيق وتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، وهذا مبني على النقطة الأولى، وهو: أننا لا نقسم الدين إلى أصول وفروع، بل الدين كله دين، والتزام أمر الله وشرعه، والتزام العقيدة الصحيحة، كل ذلك شيء واحد يجب على الجميع أن يلتزمه، ولا يجوز لإنسان أن يعتقد أنه يجوز أن يتخلى عن شيء من ذلك.

    المنهج العقلي الذي يصحح كل المفاهيم والمناهج

    المسألة الثالثة في هذه المقدمة: أنه قد نبغت نابغة من قديم الزمان وهي موجودة إلى الآن جعلوا لهم منهجاً عقلياً، وهذا المنهج العقلي يسمى قديماً بالسوفسطائية، ويلتزمه كثير من أرباب الفلسفات المعاصرة، وقد ينتحله كثير من أرباب الحداثة وغيرهم، وهؤلاء هم الذين يقولون: ليس هناك حق ثابت في نفس الأمر، بل كل من اعتقد عقيدة، وكل من قال قولاً، فإن قوله يحتمل أن يكون حقاً، بل يجب أن يكون حقاً، وهؤلاء هم الذين يتنكرون لكل ثابت، ويقولون: إنه ليس هناك شيء ثابت في دين الله سبحانه وتعالى، فيناقشون في البدهيات، ويدعي الواحد منهم علم كل شيء، والحق عند هؤلاء مسألة نسبية وإضافية، وهو ما يراه كل شخص بعينه، وهذه القضية تجد كثيراً ممن يطرحها ويقول: لماذا نأتي ونقول: نرجع إلى مذهب السلف الصالح؟ ولماذا تريدون أن تعودوا بنا إلى ذلك العهد؟ الظروف تختلف، والأحوال تختلف، ومن ثم فإن الحقائق أيضاً تختلف، ولما كان الأمر كذلك فإنك تجد الواحد من هؤلاء يظن أن كل من انتحل نحلة أو اعتقد عقيدة فإنه يجوز أن تكون هذه النحلة وهذه العقيدة صحيحة، وهذا ما نشاهده لدى كثير من العلمانيين والحداثيين وغيرهم، يقول الواحد من هؤلاء: إن كل شيء تنتجه الأرض الإسلامية فهو إسلامي وهو حق، ويجب أن نصدقه، ويجب أن يكون منهجاً لنا في مستقبل حياتنا، ولو كان هذا الشيء كفراً وشركاً وإلحاداً.. وغير ذلك، وهذه قضية من القضايا التي يطرحونها دائماً وباستمرار، وينبغي أن يتنبه لها أهل العلم، وطلبة العلم، والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فقضية الرجوع إلى منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى هي مسألة دين وعقيدة، وليست مسألة اجتهاد، وكل مجتهد مصيب كما يزعم كثير من هؤلاء.

    1.   

    مصدر التلقي عند السلف الصالح

    بعد هذه المقدمات الثلاث ننتقل إلى منهج السلف رحمهم الله تعالى ومصدرهم في التلقي.

    الكتاب والسنة مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة

    أول قضية بدهية تقف معنا في هذا الباب هي أن مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هو الكتاب والسنة، فكتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المصدران الأساسيان لهذه العقيدة، ولا يجوز لأي إنسان يدعي الإسلام ويدعي أنه مؤمن بهذا الدين أن يتخلى أو أن يتنقص هذين المصدرين بأي حال من الأحوال، وهذه قضية دلت عليها الأدلة الكثيرة، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويقول سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وهذا دليل على أن من اعتمد على الكتاب والسنة ولم يخرج عنهما فهو الذي سلك المنهج الحق، ولا خيار لأي إنسان أن يسلك أي منهج شاء، يقول سبحانه وتعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، وهذا في الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويتركون بعضه. أما من السنة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في هذا الباب تبين وجوب اتباع شرعه، وأنه عليه الصلاة والسلام آتاه الله القرآن ومثله معه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. فمسألة الاعتصام بالكتاب والسنة مسألة أساسية، وهي المصدر الأساسي لتلقي هذه العقيدة بأصولها وفروعها، والسلف رحمهم الله تعالى كانوا مسلمين بهذا تسليماً تاماً، ولما سئل الزهري رحمه الله تعالى عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من شق الجيوب) ما معناه؟ فقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى كلمته المشهورة: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. فما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيار لأحد أن يسلكه أو لا يسلكه، بل يجب عليه أن يسلكه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فالخيرة ليست لأحد، وإنما هي لما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما اللذان سلكهما السلف الصالح رحمهما الله تعالى، وهما اللذان يجب أن نسلكهما إذا أردنا أن تعود لهذه الأمة الإسلامية حقيقة مجدها وعزها الذي عاشت فيه، والله سبحانه وتعالى تكفل بنصر دينه إذا نحن نصرناه، يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ونصر الله سبحانه وتعالى إنما يتحقق إذا نصرنا دينه، ونصر دينه إنما يكون بالاعتصام بهذا الدين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    أقسام الناس تجاه الكتاب والسنة

    الناس تجاه هذين المصدرين -الكتاب والسنة- على أنواع: النوع الأول: الذين يقبلونه ظاهراً وباطناً، يقبلون ما جاء به الكتاب ظاهراً وباطناً، وهؤلاء قسمان: أهل فقه وفهم، وأهل حفظ ورواية. النوع الثاني: الذين يردون الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهؤلاء أيضاً قسمان: قسم عرف الحق ولكنه حسداً من عند نفسه رفض الإيمان، ورفض اتباع الكتاب والسنة، والقسم الثاني هم أتباع لهؤلاء. النوع الثالث: هم الذين قبلوه ظاهراً وردوه باطناً، وهؤلاء هم المنافقون الذين يعلنون أنهم مؤمنون، وأنهم لا يرضون عن الكتاب والسنة بديلاً، ثم هم في الباطن يحاربون الكتاب والسنة، ويحاربون الدعاة إلى الكتاب والسنة، قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. النوع الرابع: من قبله باطناً وجحده ظاهراً، وهذه قد تحدث للمستضعفين في بعض الأزمان وفي بعض الأماكن، فلا يستطيع أن يظهر الإسلام، بل قد يضطر إلى أن يعلن أنه ليس من أهل الإسلام وإنما هو في حقيقة أمره في الباطن من المؤمنين الصادقين، وهذا حدث في فترات من تاريخنا الإسلامي، ففي الأندلس لما هجم النصارى على المسلمين هناك أرغموهم على إعلان النصرانية، فكان المسلمون هناك يظهرون النصرانية ويذهبون بأولادهم إلى الكنائس، ثم إذا رجعوا إلى بيوتهم يجلسون في الخلوات يعلمون أولادهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلك محنة جرت للأمة الإسلامية يطول وصفها.

    المعالم الأساسية في الاعتماد على الكتاب والسنة

    ينبغي أن يعلم أن الاعتماد على الكتاب والسنة له معالم أساسية، وأول هذه المعالم: أن الإيمان لا يتحقق إلا بذلك. الأمر الثاني: أن العقول البشرية لا يمكن أن تستقل بتحصيل المعارف بنفسها، فلا بد من الالتزام والاعتماد على خبر الصادق. الأمر الثالث: ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم تمام العصمة فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى. الأمر الرابع: ينبغي أن نعلم أنه لا يمكن أن تكون بين نصوص الكتاب والسنة تعارض وتنازع، فلا يمكن أن يأتي نص يناقض نصاً ولا يخالفه؛ لأن نصوص الكتاب والسنة كما سلف قسمان: إما أخبار وإما أوامر ونواهي، فأما الأخبار فإن هذه لا يمكن أن يأتي نص يخالف نصاً أبداً، وأما الأوامر والنواهي فهي الأحكام الشرعية التي قد يدخلها النسخ، وقد تختلف فيها اجتهادات العلماء كما اختلف فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهذه من حكمة الله تبارك وتعالى، لكن لا يمكن أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد نصان متعارضان أبداً، وإنما قد يرد نص في الدلالة على أمر معين والأمر به، ثم بعد ذلك ينسخه الله أو ينسخه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تبارك وتعالى، لكن أن يكون هناك نصان يتعارضان فهذا لا يمكن أن يحدث أبداً. وفي ختام الكلام على هذين المصدرين أود أن أشير إلى فكرة ربما يطرحها بعض الذين في قلوبهم مرض من العلمانيين وغيرهم، وهذه الفكرة قد تكون بدأت بوادرها الآن وهي: أن هؤلاء يرفعون الآن لواء الرجوع إلى الكتاب والسنة دون الرجوع إلى فهم السلف للكتاب والسنة، وهذه قد تكون كلمة حق ولكن أرادوا بها باطلاً، وهم يعلمون أنه لا يمكن الهجوم على الكتاب والسنة، ولا يمكن أن يكون هناك رفض تام للعقيدة، ولا للكتاب ولا للسنة؛ لأن هذه ردة مفضوحة لا يستطيعون أن يطرحوها، فلجئوا إلى أسلوب آخر يريدون أن يبدءوا من خلاله تحطيم شريعتنا وتحطيم عقيدتنا، فجاءت هذه الفكرة تقول: ينبغي أن نرجع إلى الكتاب والسنة، وأن نفهمهما من خلال واقعنا المعاصر، ولا نلتفت إلى فهم السلف، ولا إلى فهم العلماء السابقين، ولا إلى ما أصلوه من أصول، ولا إلى ما قعدوه من قواعد، ومن ثم فنحن نرجع إلى الكتاب والسنة ونتدارس مفاهيمهما وما نخلص إليه هو الذي نتفق عليه، وهو الذي نعمل به، وهذه معناها أن نتخلى عن كل ما سبق من تاريخنا وتراثنا في فهم الكتاب والسنة وشروحهما، ثم نبدأ فهماً جديداً، ومن هو الذي يفهم هذا الفهم الجديد؟ كل من أراد أن يفهم الكتاب والسنة فليفهمهما، العالم والجاهل والعامي وهذا الملحد الزنديق الذي لم يعلم كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتشبع بهما، كل هؤلاء يمكن أن يفسروا كتاب الله، وأن يفسروا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه قضية خطيرة جداً لعل فيما يأتي إن شاء الله تعالى إشارة إلى بعض جوانبها.

    فهم الصحابة للنصوص مقدم على فهم غيرهم

    القضية الثانية المتعلقة بمصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هي: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم المبلغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن فهمهم للنصوص مقدم على فهوم غيرهم، وهذه قضية تابعة للأولى لكنها مرتبطة بها ارتباطاً تاماً، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس رضي الله عنهم وأرضاهم على فهم الكتاب والسنة وعلى تطبيقهما، ومن ثم فإن التطبيق العملي عقيدة وشريعة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجده أفضل ما يكون عند أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ولقد تميز هؤلاء الصحابة بعدة ميزات، ولعل من أهمها حرصهم الشديد على الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان الواحد منهم إذا حدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به عليه الصلاة والسلام. كذلك أيضاً كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسائل وعما يشكل عليهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم له: لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسأل عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث). وكانوا أيضاً يراجعون السنة، بل كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وهذا في صحيح البخاري . وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول: (كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه). فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين كل الحرص على التلقي عن رسول الله، وعلى حسن الفهم عنه، وعلى تطبيق ما يرد إليهم وما يسمعونه، سواء كان من كتاب الله أو من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد آتاهم الله حفظاً، ودعا الرسول لبعضهم، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يحتاطون في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتياطاً شديداً، وهذه القضية معروفة لدى علماء الحديث، والنتيجة التي ينبغي أن نخلص منها هنا هي: أن الكتاب والسنة يرتبط فهمهما وتفسيرهما في الاعتقاد والفروع أول ما يرتبط بفهم السلف رحمهم الله تعالى، وأي انفكاك عن هذا الفهم فهو ضلال مبين، وانفتاح لباب القرامطة والرافضة، والعقلانيين والفلاسفة، والمعتزلة والمتأولة وغيرهم. وهذه القضية -وهي قضية أن السلف رحمهم الله تعالى هم الذين يجب أن يتلقى عنهم فهم النصوص- هي التي قررها علماء السلف المتقدمون منهم والمتأخرون، حتى أن الإمام أبا حامد الغزالي وهو الذي عرف عنه تصوف ودخول في علم الكلام ثم بعد ذلك رجوعه في آخر أمره إلى الحديث. هذا الرجل الذي اشتهرت كتبه وفيها كثير من البدع، لما كان في آخر عمره رجع إلى علم الحديث، ورجع إلى مذهب السلف رحمهم الله تعالى، وقرر أن الحق هو مذهب السلف، وأن هذا إنما يجب لأننا لا بد أن نسلم بعدة أصول: أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بصلاح أحوال العباد في معاشهم ومعادهم، الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، ولم يكتم شيئاً، وأنه كان أحرص الخلق على صلاح الخلق وإرشادهم إلى صلاح المعاش والمعاد. الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأحراهم بالوقوف على كنهه، وإدراك أسراره، الذين لازموه وعاينوا التنزيل، وعرفوا التأويل وهم أصحابه. الرابع: -وهذا كله للغزالي في آخر أمره- أن الصحابة في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل، ولو كان من الدين لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً، ودعوا أولادهم وأهلهم إليه. يقول الغزالي : فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه، والصواب ما رأوا. وهذه نتيجة تجربة لأكبر علم من علماء أهل الكلام والتصوف، يقرر بعد تجربة امتدت عشرات السنين أن مذهب السلف رحمهم الله تعالى هو الحق ولا حق غيره، فهل يعي ذلك أولئك العقلانيون وغيرهم الذين يريدون أن يدخلوا في ديننا وشرعنا تلك المعقولات الباهتة، والآراء والأقيسة العقلية، هل يعقلون تجارب هؤلاء نرجو ذلك.

    1.   

    من مصادر تلقي العقيدة: الإجماع

    الأمر الثالث: من أمور مصادر تلقي العقيدة الإجماع، ومسألة الإجماع معناها: أن ما أجمع عليه المسلمون في عصر من العصور فلا يجوز لأحد خلافه أبداً، وقد يقول قائل: وهل المسائل التي أجمع عليها المسلمون كثيرة؟ نقول: نعم، المسائل التي أجمع عليها المسلمون مسائل واضحة ومحددة، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، فما أجمع عليه العلماء فلا يجوز لأحد خلافه مهما كان؛ لأن إجماع هؤلاء العلماء إنما هو إجماع مبني على الكتاب والسنة، أي: إجماع مبني على دليل فلا يجوز لأحد أن يخالفه بعد حدوث ذلك الإجماع، وبعض أهل الكلام حصروا الإجماع في مسائل الفروع، أما مسائل الأصول فيقولون: إن الإجماع لا يدخلها، وسبب ذلك أنهم يرون أن أدلة العقول يمكن أن تدخل في باب العقائد، ومادام يمكن أن تدخل فالإجماع غير وارد هنا، وهذه قضية من الخطأ بمكان؛ لأن الإجماع على أي أمر كان صواباً سواء من الأمور العقدية أو من أمور الشرع هو إجماع، ولا يجوز لأحد خلافه أبداً، وهذه المسألة -وهي مسألة الإجماع- من المسائل التي تحسم تلك النظرية التي تقول: إننا يجب أن نرجع إلى الكتاب والسنة دون أن نرجع إلى ما قاله العلماء، فماذا سيفعل هؤلاء بالإجماع؟ ما أجمع عليه السلف رحمهم الله تعالى هل سيقولون: نتخلى عنه، وننقض ذلك الإجماع، ونأتي بأفهام وآراء جديدة؟! تلك قضية واحدة فقط من القضايا الخطيرة التي تترتب على ذلك الرأي الخطير.

    1.   

    من مصادر التلقي: العقل الموافق للنقل

    المصدر الرابع: هو دلائل العقول، وينبغي أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما يفهم أن مذهب السلف رحمهم الله تعالى إنما هو الرجوع إلى الكتاب والسنة عن طريق الخبر فقط، وأما العقول فإنه لا مدخل لها في هذا الباب، وهذا فهم خاطئ تماماً، فإن السلف رحمهم الله تعالى يعتمدون على الكتاب والسنة في فهم ما يدل عليه الكتاب والسنة، ولكن لا يعني ذلك أن العقل لا مدخل له في هذا الباب، وإنما يقولون: إذا تعارض العقل والنقل ظاهراً -وهما في الحقيقة لا يمكن أن يتعارضا- فالواجب تقديم النقل على العقل؛ لأنه أسلم، والعقل الذي يدعي أولئك المتكلمون والفلاسفة وغيرهم أنه مصدر مستقل في باب العقائد، وفي باب الإيمان والدين، هذا العقل لم يجتمعوا عليه ما هو: هل العقل هو الغريزة التي تميز الإنسان عن الحيوان؟ أم أن العقل هو العلوم الضرورية التي يصدق بها الجميع كالقول بأن الواحد نصف الاثنين وأن الكل أكبر من الجزء؟ أم أن العقل هو العلوم النظرية التي تحصل بالنظر والاستدلال ونحوها؟ ما هو العقل عند هؤلاء؟ لقد اختلفوا اختلافاً كبيراً في تحديد ذلك العقل، واختلافهم هذا أدى إلى تباين آرائهم وأقوالهم في هذا الباب، ومن ثم كان السلف رحمهم الله تعالى يجعلون للعقل دوره المناسب له، ولا يرفعونه فوق منزلته، ويجعلونه مستقلاً كما فعله أولئك المنحرفون، وليسوا من الذين يلغون العقل إلغاءً تاماً، وإنما يضعونه في منزلته الصحيحة له. وهذا ابن قتيبة رحمه الله تعالى في كتابه: تأويل مختلف الحديث يقول مبيناً ضلال أولئك: وقد كان يجب على ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ألا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون؛ لأن آلاتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، فما بالهم -أي: أهل الكلام والفلسفة- أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد من الدين؟! وهذا يعطيك أن القول باستقلال العقل في باب الدين هو قول يؤدي إلى الضلال والانحراف. السلف رحمهم الله تعالى كما في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعتمدون على النقل الذي جاء بالدلائل العقلية، والله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال وأمرنا أن نعتبر بالأمم من قبلنا؛ لأن أولئك الأمم لما خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم جرى لهم ما جرى، ونحن أيضاً إذا فعلنا مثل فعلهم وخالفنا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فسيجري علينا مثل ما جرى عليهم. كذلك أيضاً بين الله سبحانه وتعالى أدلة البعث بعد الموت بأدلة عقلية، وأمثلة مضروبة توضح للإنسان أن الله سبحانه وتعالى قادر على البعث، وأنه يبعث من في القبور، وأن الناس لا بد أن تكون لهم رجعة يقفون فيها بين يدي ربهم تبارك وتعالى.

    1.   

    من مصادر التلقي الفطرة السليمة

    ثم يأتي المصدر الأخير وهو الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها، فكل العباد مفطورون على الإيمان الصحيح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، ومعنى الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، فلو ترك الصغير وفطرته لكان من المؤمنين المسلمين، أما إذا وجد من يؤثر فيه فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما هو معروف، وهذه قضية مهمة جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على فهم الأمور بأبسط الدلائل، الأعرابي يستدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى أن الله موجود بدلائل الفطرة؛ لأن الفطرة تدل على أن هذا الكون لا بد له من خالق، فالبعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، أرض وأمواج، وسماء ذات أبراج، ألا تدل على الحكيم الخبير؟! الفطرة تدل على أن الإنسان يطلب ربه سبحانه وتعالى في العلو، فما احتاج الإنسان إلى ربه في أمر من أموره إلا ورفع بصره إلى السماء، وتلك الفطرة هي التي فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها، بل إن الفطرة تدل على توحيد الألوهية؛ لأن الإنسان إذا آمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، وبيده الأمر كله سبحانه وتعالى، إذا اعتقد ذلك فلا بد أن ينتهي به الأمر إلى أن هذا الإله الخالق الرازق المحيي المميت هو الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له، فلا تخضع القلوب إلا له محبة وإنابة وذلاً وخوفاً وخشية وتوكلاً.. وغير ذلك من أنواع العبادة لا تهفو القلوب بهذه العبادات إلا لله وحده لا شريك له، فكيف يخاف الإنسان أو يحب الإنسان محبة عبادة أو يتوكل الإنسان على مخلوق لا يملك هو لنفسه نفعاً ولا ضراً، تلك قضايا الفطرة تدل على ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفطرة والعقول السليمة مؤيدة لما جاء به كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يأتي في الكتاب ولا في السنة شيء يخالف أو يناقض تلك العقول الصريحة ولا تلك الفطر السليمة.

    1.   

    منهج أهل السنة والجماعة في العقائد مستمد من الكتاب والسنة

    أيها الإخوة! بعد هذا العرض السريع لمصادر تلقي العقيدة ننتقل إلى قضية عقدية أخرى مرتبطة بها، ألا وهي: أن منهج أهل السنة والجماعة في العقائد لا بد أن يستمد من الكتاب والسنة التي هي الأمور الخبرية، والتي يجب الإيمان بها والعمل على ضوئها، وكذلك أيضاً الاستدلال الشرعي على الأحكام الشرعية يجب أن يكون مبنياً على منهج واضح، ولا يقول قائل: تلك فروع، نقول: وإن كانت فروعاً إلا أن الاستدلال عليها يجب أن يكون المسلك فيه على وفق منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والاستدلال الشرعي في باب الأحكام ليس فرعياً وإنما هو أصولي، فحينما تأتي قضايا تتعلق بعباداتنا، أو تتعلق بأمور معاملاتنا، أو تتعلق بحياتنا فكيف نستنبط حكمها الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى علينا؟

    لا بد من منهج شرعي سار عليه السلف رحمهم الله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يحيد عنه، وهذه هي مسألة وجوب التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية ليس أمراً فرعياً، وإنما هو أمر أصولي، ومن ثم فحينما نقول: منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في العقائد لا يعني فقط ذلك الجانب الذي يفهمه البعض فقط، وهو ما يتعلق بالإيمان بالله أو بأسمائه وصفاته أو بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يرتبط بذلك ارتباطاً أصيلاً منهج الاستدلال الشرعي، لأن الناس جميعاً يجب أن يكون حكمهم ورجوعهم عند التنازع والاختلاف إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في آيات عديدة، يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وفي الآية الثانية: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[المائدة:45]، وفي الآية الثالثة: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[المائدة:47]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[النساء:65] ... إلى آخره.

    وهنا تظهر في البلاد الإسلامية أحياناً دعوات صريحة، وأحياناً مبطنة إلى رفض التحاكم إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، في بعض البلاد الإسلامية تطرح القضية علناً: هل تكون الشريعة هي المصدر الأساسي أو تكون مصدراً من المصادر؟ وفي بعض البلاد قد لا يجرؤ هؤلاء العلمانيون وغيرهم على مثل هذا الطرح الصريح؛ فيبحثون عن طروح أخرى مبطنة، ولهم في ذلك وسائل، وقد سبق أن ذكرنا وسيلة منها، وهي تلك التي يزعم فيها هؤلاء أنه ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة فقط دون الرجوع إلى فهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى لها، وهذا معناها: عود جديد، على وضع جديد، وتصدير جديد، وربما يؤدي إلى دين جديد.

    ومن ذلك أيضاً ما يدعيه هؤلاء أن استنباط الأحكام الشرعية ليس مختصاً بالعلماء المجتهدين، وإنما هو أمر متروك لجميع الناس أو لكل من أراد أن يفكر ويستنبط من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في ذلك العلماء المجتهدون، ويدخل في ذلك الجهلة، ويدخل في ذلك من ليس عنده علم لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مدخل خطير جداً؛ لأن معنى ذلك أن الحكم الشرعي وتطبيقه والإفتاء به لا يكون مختصاً كما كان في التاريخ الإسلامي وفي الأمة الإسلامية بفئة العلماء المجتهدين، وإنما ينتقل من هؤلاء إلى غيرهم، وسيتحول الأمر حينذاك إلى فوضى لا نهاية لها.

    وهناك أيضاً طريقة أخرى لبعض هؤلاء تشبه طريقة الذين يتتبعون الرخص، فإن هؤلاء يقولون: كل مسألة للعلماء فيها أكثر من قول فيجوز أن نأخذ بأي قول من أقوالهم، فإذا طرحت قضية من القضايا قال لك: هذه القضية قال فيها فلان كذا.. وقال فيها فلان كذا.. وقال فيها فلان كذا.. وانتهى، أي رأي نأخذه من هذه الآراء هو رأي صحيح؛ لأنه قد قال به بعض العلماء، ومعنى هذا أن يتتبع الإنسان شواذ المسائل وشواذ أقوال العلماء والأقوال المرجوحة المخالفة للدليل الصحيح، وتتحول هذه القضايا وهذه المسائل إلى أصول، وهذا منهج أيضاً خطير جداً؛ لأن الواجب على الإنسان أن يعتمد على الدليل، وإذا وجد عنده قولان أو عرض له قولان فإنه لا بد أن يسأل عن الدليل ويبحث عنه، وإذا كان الإنسان عامياً لا يعرف فإنه يقلد من العلماء من كان أوثق وأعرف عنده بالكتاب والسنة، أما دعوى أن يترك الأمر لكل من أراد أن يفتي وأن يقول، ولكل مسألة توجد في الكتب لتكون معتمدة ومطبقة نقول: لا، المنهج الصحيح هو البحث عن الدليل، والترجيح بين الأقوال على ضوء الأصول التي ضبطها علماء السلف رحمهم الله تعالى.

    المهم أن هؤلاء العلمانيين وأذنابهم يريدون أن يحطموا شريعة الله سبحانه وتعالى من الداخل، ويريدون أن ينتهي الأمر إلى طرح القضايا أمام الناس طرحاً يسمونه أحياناً طرحاً ديمقراطياً، فنقول: ما رأيكم في القضية الفلانية صوتوا؟! ثم نجمع الناس ويصوتون، فإذا صوت خمسة وخمسون بالمائة أو ستون بالمائة على الرأي الآخر أخذنا به ولو كان مخالفاً للدليل، ولو كان مخالفاً للشرع... إلى آخره، بينما المنهج الصحيح في هذا الباب هو أن ترد الأمور عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وترد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بردها إلى العلماء المجتهدين العاملين، فلا ترد إلى آراء الرعاع وعامة الناس.

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معقباً على قول الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[النساء:59]: وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق.

    وشيخ الإسلام هنا يشير إلى قول المنافقين: ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[النساء:62] وهذا الذي يقوله أصحاب السياسات الجائرة التي تخالف الكتاب والسنة، إذا جئتهم قالوا: السياسة والأمور لا تصلح إلا بهذا، ولو كانت مخالفة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    شيخ الإسلام يقول: وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب.

    ومن ثم فإن علماء الإسلام رحمهم الله تعالى بينوا أن من يتصدى للقضاء والإفتاء لا بد أن يتصف بعدة صفات ذكروا من ذلك: الإسلام، والتكليف، والعدالة، ثم ذكروا أن يكون من أهل الاجتهاد، وهذا الاجتهاد يشمل عدة أمور: أولها: العلم بالكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام، وتمييز ناسخ الآيات ومنسوخها، وناسخ الحديث ومنسوخه، وتمييز صحيحه من ضعيفه... إلى آخره.

    الأمر الثاني: العلم بلسان العرب.

    الأمر الثالث: العلم بأصول الفقه التي هي أصول الاستدلال، حتى يكون المفتي بانياً فتواه على أصل مقرر لا على دعاوى، أو آراء عقلية مجردة.

    وذكروا أيضاً صفات لمن يتصدى للإفتاء وللقضاء، ومنها: أن تكون له نية صالحة يريد فيها أن يبين أحكام الله للناس، وليس من الذين يريدون أن يبدلوا شرع الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً أن يكون متضلعاً في العلم الشرعي، دارساً له، متقناً له.

    وكذلك أن تكون له معرفة بأخلاق الناس، وعاداتهم وانحرافاتهم ومقاصدهم؛ حتى تكون فتواه على بينة ومعرفة بأمرهم، ثم أن يكون حليماً متأنياً غير متسرع في إصدار الأحكام، وهذه قضايا مهمة جداً.

    وينبغي أيضا أن يعلم أن الإفتاء أنواع:

    النوع الأول: إفتاء مجرد عن الاجتهاد، وهذا ما يكون من باب الأخبار الخالصة، كأن يسأل العالم سؤالاً فيجيب بما يعلمه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيسأله السائل ويقول له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فيأتي هذا العالم ويقول: آية الكرسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك.

    النوع الثاني: ما يكون معه اجتهاد، بأن يجتهد العالم لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا أيضاً على ضربين:

    أحدهما: ما يسمى بعلم أصول الفقه بتحقيق المناط، بمعنى: أن تكون الأحكام الشرعية معلومة بالكتاب والسنة والإجماع، ثم يأتي هذا المجتهد فينزل تلك الأحكام على هذه الواقعة، وفي هذه الحالة يجب على المفتي أن يعرف هذه الحالة فينزل عليها هذا الحكم، وهذا في الأمور التي قد وضحت دلالتها من الكتاب والسنة، وتكون مهمة المجتهد المفتي هنا هي فهم الواقعة فهماً صحيحاً لتنزيل ذلك الحكم عليها.

    النوع الثاني من أنواع الاجتهاد: أن يكون الحكم الشرعي الذي يريده المجتهد لهذه الواقعة غير معلوم له، فيحتاج منه إلى أن يبحث في الأدلة ويجتهد فيها؛ ليستخرج الحكم، ثم بعد ذلك يطبق ذلك الحكم على تلك الواقعة، وكما تعلمون جميعاً فإن العلماء اشترطوا للمفتي شرطين أساسيين: أحدهما: معرفة الأحكام الشرعية، وهذه هي قضية الاجتهاد التي أشرنا إليها.

    الثاني: فهم الواقع، ومعرفة صورة الواقعة التي حدثت معرفة تامة؛ حتى يكون إفتاؤه وحكمه فيها حكماً مبنياً على تصور واضح، فلا بد أولاً من تصور الحكم الشرعي، ولا بد ثانياً من فهم الواقعة.

    ثم يأتي التطبيق العملي وهو الأمر الثالث، بتنزيل ذلك الحكم على تلك الواقعة، فأين هذا من منهج أولئك الذين يريدون أن يحرفوا الناس عن عقيدتهم وعن شريعتهم بتلك الوسائل، ويريدون ألا ترد الأمور إلى أهلها، وإنما ترد إلى عامة الرعاع من غير المجتهدين ومن غير العلماء؟! ذلك منهج خاطئ يجب أن ننتبه له، والعلمانيون وغيرهم قد بدءوا يسلكون هذا المسلك؛ ليجعلوا قضية فهم نصوص الكتاب والسنة عقيدة وشريعة متاحة للجميع، وكل يقول فيها بما يشاء، ويفتي فيها بما يشاء، وحينئذ تتحول الأحوال والأمور إلى آراء وأفكار بعيدة عن الشرع، والله سبحانه وتعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[النساء:59].

    أيها الإخوة الأحباب! هذه خلاصة منهج السلف رحمهم الله تعالى في مصادر التلقي أولاً، وفي بيان ما يرتبط بذلك من قضايا الأحكام الشرعية ومنهج الاستدلال لها ثانياً.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بديننا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا الخطأ والزلل، وأن يغفر لنا خطايانا، وأن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    ضوابط الحوار في مسائل العقيدة

    السؤال: نحن نعتقد أن المسائل الأصولية لا حوار ولا نقاش فيها، لكن بعض العلمانيين يقولون: لا بد من هذا الحوار، ويستدلون بالمناظرات والحوار الذي كان يجريه علماء السلف كـابن تيمية وغيره رحمهم الله تعالى، أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب: هناك أنواع من الحوار: النوع الأول: الحوار الذي يقع بين العلماء، وهذه قضية أظنها واضحة، وهي أن العلماء المجتهدين يجتمعون ويتحاورون، وينظرون في الأدلة، ثم إن اتفقوا على رأي فبها، وإلا صار لكل منهم رأيه المبني على الدليل، وقد وقع في التاريخ الإسلامي محاضرات ومساجلات علمية بين علماء الإسلام. النوع الثاني من الحوار: الحوار لأهل الباطل للرد عليهم، بمعنى: أن يأتي هذا العالم والداعية ليحاور أولئك ليبين ضلالهم، وهذا هو الذي فعله شيخ الإسلام ابن تيمية ، وفعله عبد العزيز المكي الكناني لما حاور المعتزلة، وهو الحوار الذي ينطلق فيه الداعية من منطلق أحقية ما يدعو إليه وبيان انحراف الطرف المخالف. لكن هناك نوع من الحوار يدعو إليه أهل الباطل، وهذا الحوار يقصدون منه أن تتحول أمورنا ومسلماتنا إلى حوار، فمثلاً يأتي ليقول القائل من هؤلاء: لماذا لا نتحاور هل نعتمد الشريعة الإسلامية أو لا نعتمدها، وننظر؟! فهل الاعتماد على الشريعة الإسلامية وتطبيقها أمر يدخل في الحوار؟! هل الاعتماد على الكتاب والسنة في مسائل العقيدة يدخل في الحوار؟! هل الإقرار للملاحدة بأن يعلنوا إلحادهم ونلغي باب الردة في الفقه الإسلامي كله ونقول: من أراد أن يكون شيوعياً فليكن لأجل الحوار؟! لا، هذا لا يمكن، ومن ثم فإن هؤلاء الذين يدعون إلى الحوار ليس هو الحوار الشرعي الذي ذكرنا أنواعه، وإنما هو حوار يريدون منه أن يتحول الحوار إلى غاية، ما معنى أن يتحول الحوار إلى غاية؟ معناه: أن يكون هدفي وهدفك هو الحوار، إذاً لا تلزمني برأيك، ولا ألزمك برأيي، نطرح القضية، ونتحاور فيها، وكل يخرج مقتنعاً بما يريد، وهذا أمر خطير، معناه: أن كل إنسان يريد أن يطرح قضية فليطرحها ويقول: أنا أريد الحوار، ففرق بين هذا وذاك؛ لأن الحوار على مفهوم هؤلاء: أن تترك الحرية لجميع الآراء وللأفكار تناقش، بينما منهج السلف رحمهم الله تعالى أن الأمور المؤصلة المقطوع بها لا يمكن أن يدخل فيها حوار، بل يعاقب مخالفها، وهؤلاء يريدون أن ينقضوا هذه المسائل.

    فهم العلمانيين لنصوص الكتاب والسنة

    السؤال: فضيلة الشيخ! أشرت إلى أن العلمانيين يريدون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولكن بفهمهم لا بفهم غيرهم من السلف، فهل يصدقون في ذلك؟ ثم هل يمكن ذكر مثال لتأويلهم لبعض النصوص؟ الجواب: إما أن يصدقوا أو لا يصدقوا، فهذه قضية علمها عند الله سبحانه وتعالى، وإنما نحن نحاكم الفكرة نفسها، ونقول: إن هؤلاء يريدون من هذه القضية إلغاء الشريعة الإسلامية، وكما تعلمون جميعاً لو جئنا إلى نصوص الكتاب والسنة لنأخذها مجردة دون ما أجمع عليه السلف وفهموه؛ لأدى الأمر إلى فوضى متناهية، وكما تعلمون جميعاً أن النصوص أحياناً يسمعها الإنسان فربما يفهمها، وباب التأويل الذي دخل منه الصوفية والباطنية وغيرهم هو هذا الفهم الذي يقول: أنا إذا فهمت من الكتاب والسنة شيئاً ففهمي صحيح، وأنت إذا فهمت شيئاً ففهمك صحيح، إذا جاء الرافضي ليقول: قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] البقرة هي عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهل هذا فهم صحيح؟! أو حينما يأتي الصوفي إلى قول الله تبارك وتعالى لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:17-18]، فيقول هذا الصوفي: فرعون هو قلبك. معنى ذلك: أن الله ما أمر موسى أن يقول لفرعون الطاغية حاكم مصر هذا الكلام، فالقول بأن أي فهم يدخل فيه هو فهم صحيح هو المنطلق الذي يريده هؤلاء العلمانيون، بينما نصوص الشرع مضبوطة بفهم السلف، والسلف هم خير القرون زمناً، والذين ساروا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في منهجه. إذاً: عندنا قضيتان عندما نتكلم عن السلف، القضية الأولى: المنهج، بمعنى: من سار على مثل ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه صار من السلف. القضية الثانية: وهي القضية الزمنية، وهي أن القرون المفضلة يسمون سلفاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالخيرية، لكن من سار بعدهم على منهجهم فهو أيضاً من السلف، وهذا هو الذي يرجع إليه العلماء، ما كان مرتبطاً بمنهج السلف، وما كان واقعاً في تلك الفترة الخيرية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

    علاقة القياس بمصادر التشريع

    السؤال: أرجو إيضاح كل من: القياس وعلاقته بمصادر التشريع. الثاني: هل لولي الأمر الحكم في مسألة ما وهو ليس من العلماء؟ الجواب: أما القياس فقد عرفه العلماء: بأنه إلحاق فرع بأصل لوجود العلة التي يشتركان فيها بحكم معين، والقياس كما سبق نوعان: قياس جلي: وهو ما يسمى بتحقيق المناط، وهذا التحقيق هو عين تطبيق الشريعة الإسلامية، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] هذه الرقبة كونها ذلك الشخص الذي تريد أن تعتقه يكون تطبيقه على هذا، هذا يسمونه قياساً جلياً ولا أحد ينكره أبداً؛ لأن أي إنسان لا بد أن يطبق الأحكام على مواضعها. النوع الثاني: تخريج المناط، وهو الذي تلحق به مسألة بمسألة أخرى، فمثلاً: تقول: الخمر مسكر وحرام، ثم تأتي إلى النبيذ فتراه مسكراً فتلحق النبيذ بالخمر بجامع الإسكار، وتنتهي بهما إلى حكم واحد وهو التحريم، فتلحق الفرع الذي هو النبيذ بالأصل الذي هو الخمر، بعلة الإسكار في كل منهما بحكم واحد وهو التحريم، فالنبيذ ما ورد نصاً في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي العالم ليلحق هذا الأمر بالخمر، وتكون النتيجة هي التحريم، هذا مثال مبسط للقياس. أما الفقرة الثانية من السؤال وهي: هل للحاكم أن يحكم بما يراه؟ نقول: ليس لأي حاكم أن يحكم بما يراه أبداً إذا كانت المسألة مما ورد فيها دليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى نميز المسائل التي هي مرتبطة بشرعنا، والمسائل التي هي مستجدة وقد تكون من القضايا الإدارية، وتلك ملحقة بتلك الأصول الشرعية. فالخلاصة: أن الحكم إنما هو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

    حكم من توفي ولم تبلغه العقيدة الصحيحة

    السؤال: ما حكم من توفي ولم تبلغه العقيدة الصحيحة أو لم يبلغه الإسلام، أو بلغه محرفاً، أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب: هؤلاء الذين لم تبلغهم العقيدة وأيضاً كانوا في وقت جاهلية ما يسمون فيه بأهل الفترات بين الرسل، فهؤلاء حكمهم معروف، وهو أن أهل الفترة والذين لم تبلغهم الشريعة اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، مع قطعهم بأن حكمهم في الدنيا على ما هم عليه، إن كانوا يعبدون الأصنام فهم مشركون، وإن كانوا ليسوا على دين فهم كفار، لكن هل يعذرون في الآخرة؟ اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال، منهم من جعلهم في الجنة، ومنهم من جعلهم في النار، ومنهم من فسق، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون يوم القيامة كما ورد بذلك الحديث، فتوقد لهم نار فيؤمرون بالدخول فيها، فمن أطاع الله ودخل فيها كان من أهل الجنة والنعيم، ومن عصى مع وضوح الأمور له فهو من أهل النار. أما ما ذكره في آخر السؤال، وهو من بلغه الدين محرفاً فهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن من بلغه الدين قد يكون بلغه الدين على حقيقته لكن لا ينفك عن التحريف، بمعنى أن رؤساء الضلالة مثلاً من اليهود أو من النصارى أو من الملاحدة أو من المشركين، وإن كان يبلغهم دين الله سبحانه وتعالى إلا أنهم يحرفونه فيقولون مثلاً: إن هذا دين غير صحيح، هذا دين يأمر بكذا.. هذا دين يأمر بكذا... إلى آخره وينفرون أتباعهم منه، فهؤلاء إذا كانت قد بلغتهم الرسالة فحينئذ حكمهم إذا أعرضوا عنها أنهم كفار.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755911747