إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [38]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكفير المعين من أخطر المسائل التي يجب التورع فيها، وقد زل فيها الخوارج قديماً وحديثاً، ومن عقيدة أهل السنة عدم التكفير بالذنب، ولا الحكم على المعين بنار ولا جنة.

    1.   

    التكفير بالذنب

    قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله).

    أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.

    واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية. فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: (إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء)، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].

    ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله).

    وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك].

    من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة بالذنب، ولا يصل عندهم إلى حد الكفر، ولكن هناك بدع توصل إلى حد الكفر، بدع محدثات في الدين وكبيرات وعظائم من عظائم المحدثات توصل إلى الكفر، وأما مطلق الذنوب ولو كانت كبائر، ولو كان مصراً عليها، فإنه لا يكفر بها، فلا يكفر ما دام أنه يعترف أنها ذنوب وأنها محرمة، إذا أكل الربا وهو يعتقد أنه محرم، أو فعل الزنا وهو يعترف أنه ذنب وحرام، أو شرب الخمر مع اعترافه بتحريمها، وكذلك غيرها من الذنوب لا يصل إلى حد الكفر، إلا إذا اعتقد حلها فإنه يكفر بذلك، فإنه يكفر مستحل الذنب المحرم ولو لم يفعله.

    المخالف في هذا هم الخوارج الذين يجعلون الذنب كفراً، والعفو ذنباً، والمعتزلة الذين يجعلون أصحاب الكبائر غير مسلمين ولا مؤمنين ولا كافرين، يجعلونهم بمنزلة بين الكفر والإيمان، وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين، أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بالذنوب.

    الآثار الدالة على خطورة التكفير

    وردت أدلة في خطر التكفير منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه) يعني: رجع عليه التكفير، وهذا وعيد شديد.

    وكذلك: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل مر على صاحب له يعمل ذنباً فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)، يقول الراوي: (قال كلمة أحبطت دنياه وآخرته).

    هذه تدل الآثار على خطر التكفير.

    إطلاق الكفر على ذنوب لا تخرج من الملة

    هناك ذنوب أطلق عليها كفر، ولكن يقول العلماء: إنه كفر دون كفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فإن الكفر هنا هو كفر أصغر لا يصل إلى الإخراج من الملة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) المراد هنا: كفران النعمة أو كفر دون كفر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة) يقولون: إنه كفر للنعمة لا أنه الكفر المبيح للدم والمال؛ لأن الطعن في النسب إنما هو عيب الإنسان والطعن في نسبه بأنه ليس ابن فلان أو ليس من آل فلان، وهو ذنب لا يصل إلى الكفر الذي يخرج من الملة، وكذلك النياحة على الميت لا توصل صاحبها إلى أن يخرج من الملة ويستباح دمه وماله.

    فعرف بذلك أنه كفر دون كفر، هذا محمل هذه الأحاديث.

    كفر تارك الصلاة

    ما حكم تارك الصلاة؟

    بعض العلماء يحمل الأحاديث التي فيه على أنه كفر النعمة، ويوجد فيه حديثان: حديث عن جابر : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وحديث بريدة : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهذا فيه إطلاق الكفر على تارك الصلاة.

    بعض العلماء يقول: إنه الكفر الأصغر، أي: كفر النعمة مثل الأحاديث الأخرى، والقول الثاني: أنه كفر يخرج من الملة، ودليله: قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)، فنقل عن الصحابة أنهم يرون أن ترك الصلاة كفر، ولا يرون ذلك في بقية الشرائع.

    والصحيح أنه إذا تركها تهاوناً بها، وتمادى على هذا الترك واستمر عليه؛ فإنه يعتبر كفراً؛ وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على ذلك منها حديث في البخاري : (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، وأحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة، ومعنى ذلك: أنه لا يكون مسلماً.

    وفيه أحاديث كثيرة مذكورة في الكتب المطولة، وهو يدل على خطر ترك الصلاة، وأنه حتى ولو كان الأعمال الأخرى لا توصل صاحبها إلى الكفر إلا إذا استحلها، لكن ترك الصلاة له أهميته وله منزلته، حيث ذهب الجماهير إلى أنه يكفر، وتوسع ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه الذي اسمه: كتاب الصلاة،

    فتكلم على أن تارك الصلاة يقتل، ثم تكلم على الخلاف: هل يقتل حداً أم يقتل كفراً؟

    وذكر حجج الفريقين، حجج من يقول هذا وحجج من يقول هذا،ورجح أنه إذا أصر وعاند وتمادى وامتنع أنه يصير جاحداً فيحكم بكفره وردته.

    هذا نوع من التكفير.

    البدع المكفرة وغير المكفرة

    أكثر البدع لا يكفر بها كبدعة المرجئة وبدعة الخوارج وبدعة الجبرية والقدرية والأشعرية ونحوهم، فهذه البدع لا توصل إلى الكفر والبراءة من أصحابها، والأحاديث التي وردت في الخوارج: (أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أحاديث وعيد، فقد تنطبق على بعضهم وقد لا تنطبق، والدليل على عدم التكفير: أن علياً رضي الله عنه سئل عنهم لما قاتلهم، فقالوا: أكفار هم؟فقال: من الكفر فروا،قالوا: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً؛ فدل على أنه لم يكفرهم مع أنه قاتلهم؛ وذلك لأنهم يكفرون بالكبائر، فإذا كفرناهم صرنا مثلهم.

    هناك بدعتان مكفرتان: بدعة غلاة الجهمية، وبدعة غلاة الروافض.

    غلاة الجهمية: هم الذين غلوا في إنكار الصفات حتى صار حقيقة قولهم التعطيل.

    وأما غلاة الرافضة: فهم الذين طعنوا في القرآن وطعنوا في السنة، وطعنوا في حملة الشريعة -وهم الصحابة -وكفروهم، فهؤلاء لم يكن عندهم دين يعتقدونه، فأصبحوا بذلك قد أبطلوا الشريعة وكفروا أهلها؛ فيكونون هم أولى بالكفر، مادام أنهم طعنوا في القرآن وادعوا أنه محرف قد زيد فيه ونقص منه النقص الكثير، وكذلك لم يقبلوا السنة ولو ثبتت، ولو رواها الخلفاء الثلاثة وغيرهم لا يقبلونها، ويرمون الخلفاء بأنهم كفرة وخونة ونحو ذلك،فهؤلاء ليس عندهم شرع يتمسكون به، فيكونون بذلك على غير شريعة، هذا يقال في غلاتهم الذين وصلوا إلى هذا الحد، أما الذين لم يكفروا الصحابة ولم يكفروا الخلفاء فلا يوصل في حقهم إلى التكفير.

    عقيدة المرجئة في مرتكب الذنوب

    قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ...) إلى آخر كلامه، رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!

    وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره، أو يقولون: يكفر كل مبتدع!

    وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك].

    ذكر الشارح أن هناك طائفتين متقابلتين: المرجئة، والوعيدية، فالمرجئة يبيحون إكثار الإنسان من الذنوب، ويقولون: إن الذنوب لا تضر ولو أكثر صاحبها، ويتعلقون بنصوص الوعد التي فيها أن أهل التوحيد ناجون، وأنهم من أهل الجنة، وأنهم يخرجون من النار، وأنهم يشفع فيهم ولو لم يفعلوا خيراً ونحو ذلك، هؤلاء هم المرجئة، يقولون: لا تضر الذنوب، حتى قال قائلهم:

    فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم

    يقولون: نتعلق بكرمه، وقد روي عن بعض الزهاد أنه قرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] فقال: إذا قال لي ربي: ما غرك بربك الكريم؟ أقول: غرني كرمك! وهذا خطأ، والصواب أن يقال: إن الكريم لا ينبغي أن يقابل بالمعصية، إذا كان ربنا كريماً لا يجوز لنا أن نتجرأ على معصيته، ولا أن نتهاون بحقه، بل علينا أن نطيعه ونحذر من أسباب سخطه.

    فعلى كل حال المرجئة هم الذين يقولون: لا تضر الذنوب وأصحابها يدخلون الجنة ولا يعذب أحد من أهل الذنوب ولو كانت كبيرة.

    معلوم أنه قد وردت أحاديث فيها أنهم يعذبون وأنهم يحترقون، وأنهم يشفع فيهم، وأن الشافعين يعرفونهم بآثار السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون ومع ذلك دخلوا النار، إلا أن النار لم تأكل آثار السجود، يعني: أعضاء السجود لا تأكلها النار، أما بقيتها فإنهم يحترقون كما ورد.

    فدخلوا النار وهم مسلمون؛ بسبب ذنوب اقترفوها.

    من عقيدة أهل السنة أن المعاصي التي دون الشرك قد يغفرها الله، وقد يعاقب عليها، وأما الشرك فإنه لابد أن يعاقب عليه، من عمل ما دون الشرك فقد يعفى عنه، ويغفر له ذنبه مهما كبر بمشيئة الله، وقد يدخله الله النار بسبب ما اقترفه من السيئات، ويكون ذلك تمحيصاً له من تلك السيئات، ودخوله في النار لأجل تمحيصه وإزالة ما فيه من الدرن، كالحديد الذي يدخل النار حتى يُصفى، حتى لا يبقى عليه شيء من الخبث، فهكذا هؤلاء الذين يدخلون النار من أهل الكبائر.

    هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل.

    وقياسهم ليس بصحيح، نحن نوافقهم على أن الشرك يحبط الأعمال، فالمشرك لو عمل أي عمل فأعماله حابطة؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ونحو ذلك من الآيات.

    فقولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، قياس خاطئ، نحن نقول: صحيح أنه لا تنفع الأعمال والحسنات مع الشرك؛ لقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] لأن الشرك أحبطها، وقد قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] ، وفي آية أخرى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] ، وفي آية أخرى: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] صفاة صلبة عليها تراب وجاءها مطر شديد، لا يبقى على الصفاة شيء من التراب فهكذا أعمالهم ونفقاتهم لا تبقى، حيث إنه لا أساس لها ولا أصل.

    عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الذنوب

    الطرف الثاني المقابل للمرجئة: الوعيدية، الوعيدية من المعتزلة ومن الخوارج، كلهم يقولون: إن من دخل النار فهو مخلد فيها، وإن أصحاب الكبائر يدخلونها ولا يخرجون منها، ويستدلون ببعض الآيات التي فيها عدم الخروج، مثل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37] نقول: الآية في الذين يدخلونها من الكفار الذين حكم عليهم بالخلود، وكذلك قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] إنما هي في الكفار، أما المؤمنون الذين معهم أصل الإيمان وأصل التوحيد فقد دلت الأدلة على أنهم يخرجون بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى.

    عقيدة أهل السنة في مرتكب الذنوب

    قول أهل السنة وسط بين طرفين:

    طرف شددوا، وهم الخوارج والمعتزلة، وجعلوا المذنبين كفاراً ومخلدين في النار، سواء كفروه في الدنيا أو أخرجوه من الإيمان ولم يكفروه.

    وطرف غلا في فعل الذنوب، فأباح للمسلم أن يفعل الذنوب، وأن يفعل الفواحش، وقال: إنها لا تضر.

    وتوسط أهل السنة، وقالوا: لا نوصل العاصي إلى الكفر، ولا نخلده في النار، ولكن نخشى عليه من العذاب، ومن يطيق العذاب ولو ساعة! ومن يطيق دخول النار ولو قليلاً.

    وإذا كنا نخاف عليه أن يدخل النار حتى ولو ساعة، فعليه أن يهرب من هذا السجن ومن هذا العذاب، فإن ذلك يوجب عليه أن يخشى من أسباب دخول النار ويحذرها.

    1.   

    حكم من قال بأن القرآن مخلوق

    قال الشارح رحمه الله: [والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون.

    والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة.

    ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة، المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.

    وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر].

    هذه تعتبر أمثلة من البدع، يعني: أن هناك بدعاً توصل إلى الكفر، وقد ذكرنا أن أهل السنة يكفرون غلاة الجهمية؛ وذلك لأن من قول الجهمية القول بأن القرآن مخلوق، والذي حملهم على هذا اعتقادهم أن الله تعالى لا يتكلم، فنفوا صفة الكلام عن الله، ومعلوم أن هذه الصفة صفة كمال، ونفيها يستلزم ضدها وهو النقص.

    ولا شك أن من نفى هذه الصفة فقد تنقص الخالق، وكذلك قد أبطل الشرائع، فلا جرم أن أهل السنة قالوا: إن من قال بخلق القرآن فإنه كافر.

    وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه أنه لما كان يناظر على القرآن ويقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقالوا له: القرآن من جملة الموجودات. فقال: القرآن من علم الله، وعلم الله صفة من صفاته. فقال له بعض أولئك الجدليين: أنا أقول: إن علم الله مخلوق. -تعالى الله عن ذلك!- فقال: قد كفرت بهذه الكلمة.

    الله تعالى هو الخالق، وصفاته من ذاته، وكلامه من صفاته، وعلمه من صفاته، وكلامه من علمه، ومن ادعى أن صفة من صفاته مخلوقة فقد جعل الرب تعالى محلاً للحوادث، فيكون بذلك متنقصاً لله تعالى أكبر التنقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    الحامل للمبتدعة على القول بخلق القرآن

    الذي حمل الجهمية على القول بخلق القرآن هو إنكارهم للصفات، ولما أنكروا الصفات أصبحوا معطلة، ولما عطلوا الله عن هذه الصفات وصفهم السلف بالكفر، وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله صرح بتكفيرهم عن جماهير العلماء، يقول في نونيته:

    ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان

    واللالكائي الإمام حكاه عنـ هم بل حكاه قبله الطبراني

    خمسون في عشر، خمسون من العلماء، تضرب في عشرة فيكون خمسمائة عالم، وذكرنا أن اللالكائي نقل ذلك عن جمع كبير من العلماء أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، ومن غلا في نفي الصفات، وكتابه مطبوع متداول -ويسمى (شرح أصول السنة)- في عدة مجلدات.

    اللالكائي إمام من أئمة أهل السنة، نقل بأسانيده هذه الأقوال عن سلف الأمة: أنهم كفروا من قال بخلق القرآن.

    وقد اشتهر أن أول من أظهر ذلك هو الجعد بن درهم ، ولما نفى أن يكون الله تعالى متكلماً، وأن يكون القرآن كلامه، صرح بأن الله لم يكلم موسى تكليماً؛ فقتله أمير العراق في وقته خالد بن عبد الله القسري ؛ لأنه خرج في العراق وأضل خلقاً كثيراً، فاشتكى علماء أهل السنة إلى الأمير القسري فقتله بعد صلاة عيد النحر، ومشهور أنه قال: (ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه).

    يقول ابن القيم في نونيته:

    ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان

    إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان

    شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

    القربان: هي الأضاحي، فجعله أضحية تقرب بذبحه إلى الله، فأقروه أهل السنة في زمانه، وهذا دليل على أن هذه المقالة كفرية؛ لأن مستلزماتها كثيرة.

    ما يلزم من نفي الكلام عن الله سبحانه

    الذين قالوا: إن الله غير متكلم، وكلامه مخلوق كسائر المخلوقات. نقول لهم: من أين عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كلام الله؟ ومن أين يعرفون أن الله أمر بهذا أو نهى عن هذا؟ ومن أين يعرف أن هذا شرعه وأن هذا أمره؟ إذا كان لا يتكلم فكيف يعرف ذلك؟! وكيف يكون الخلق إلا بالأمر؟! ما يكون هناك خلق إلا بأمر، الله تعالى ذكر أن المخلوقات تكون بأمره: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، فالخلق لابد أن يكون بالأمر، والأمر لابد أن يكون بالكلام، فمن عطل الكلام فقد عطل الخلق، وقد عطل الشرع، وقد افترى على الله، فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ شيئاً ما أنزل إليه، أو ما تحقق أنه شرع الله؛ لأنه إذا كان لا يتكلم فمن أين عرفوا أن هذا كلامه، أو أن هذا شرعه، أو أن هذا دينه؟!

    يستلزم قولهم بشاعة شنيعة، فلا جرم أن أهل السنة حكموا بأنهم كفار إذا صرحوا بذلك وعاندوا عليه، هذا مثال من قال بأن علم الله أو أن كلام الله مخلوق، وعاند على ذلك، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر.

    وإطلاق هذه الكلمة، وتكرارها من هؤلاء الأئمة يقتضي أنهم يجعلونه كفراً مخرجاً من الملة، كفراً ناقلاً عن الإسلام مبيحاً للدم والمال، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.

    أما البدع الأخرى التي تقدمت فقد لا توصل إلى الكفر، وإن كانت مفسقة.

    1.   

    حكم تكفير المعين

    قال الشارح رحمه الله: [وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟

    فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت. ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده! لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، وهو حديث حسن.

    ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غُفر للذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته)، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.

    لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا؛ لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه.

    ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف:

    صنف: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين.

    وصنف: المؤمنون باطناً وظاهراً.

    وصنف: أقروا به ظاهراً لا باطناً.

    وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة.

    وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر، وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.

    وهنا يظهر غلط الطرفين، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه: عبد الله، وكان يلقب: حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله) وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية، أو المرجئة، أو القدرية، أو الشيعة، أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون].

    هذا يتعلق بتكفير المعين، وهو غير التكفير العام؛ وذلك لأن هناك فرقاً بين أن يقال: فلان كافر. وبين أن يقال: فلان يعمل عمل الكفار، أو يقال: هذا العمل كفر.

    موانع تكفير المعين

    الشهادة على معين بأنه كافر لا تجوز إذا كان من أهل القبلة ومن أهل الإسلام، من دخل في الإسلام وأعلن الدخول فيه ظاهراً لا يجوز أن يحكم عليه بعينه أنه كافر.

    مثلاً: لو عمل إنسان عمل أهل الكفر، أو عمل معاص قد أطلق عليها أنها كفر، لا نكفره ما دام أنه من أهل القبلة،

    حتى ولو قال بمثل تلك الأقوال التي ذكرنا أن السلف كفروا بها، لكنهم لا يكفرون المعين لأسباب منها:

    أنه قد يكون مقلداً، وإثمه على من قلده وأحسن الظن به، يحسن الظن ببعض المشاهير، فيظن أنه على صواب فيتبعه، فنحن لا نحكم بكفره ما دام أنه لم يكن عنده الدليل الذي قام عليه، وإذا لم نكفره فلا نقاتله حتى نقيم عليه الحجة ويصر على كفره.

    في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في القرن الثاني عشر خرج على أناس قد فشا فيهم الشرك، كتعظيم القبور، والذبح عندها، والتمسح بها، والتبرك بتربتها، ودعاء الأموات، ونحوه مما هو شرك، بل هو شرك الأولين، ولما دعا إلى ذلك لم يكفر إلا من عاند، فالجهلة وعوام الناس لم يكفرهم، وإنما يخطئهم، فإذا قامت الحجة عليهم وأصروا وعاندوا وتمادوا، وردوا الحق مع وضوحه، فهنالك يقاتلهم، ويكفر من قتل منهم، ويستبيح أموالهم ودماءهم؛ لأنهم أصبحوا كالمشركين الأولين الذين عبدوا غير الله، وأما قبل ذلك فلا يحكم بكفرهم.

    وهذا مخالف لما ينقله عنه أعداؤه، فأعداؤه قد كذبوا عليه رحمه الله، وقالوا عنه شناعات، وقد رُد عليهم بكتب مثل: الأسنة الحداد في الرد على شبهات علوي الحداد، وهو حضرمي غال في الكذب عليه، ادعى أنه إذا جاءه إنسان ليدخل في دينه يقول له: لا أقبل منك حتى تقر أنك كنت كافراً، وتشهد على أبويك اللذين ماتا أنهما ماتا كافرين، وتشهد على أن الناس كفار منذ ستمائة سنة، ومثل هذه الأكاذيب التي ذكرها علوي الحداد في كتاب له في الرد على محمد بن عبد الوهاب. وكذلك يوجد كتاب في الرد على آخر يقال له: بابصيل، وهو حضرمي أيضاً، جمع ترهات وأكاذيب مثل هذه الأشياء.

    فالحاصل أنه رحمه الله ما كان يكفر إلا من قامت عليه الحجة، ولا يقاتل إلا بعدما يبين لمن قاتلهم أن هذا شرك، فإذا بينه وأوضحه فعند ذلك ينذرهم ويقول: إن تبتم وإلا قاتلناكم؛ لأنكم أصبحتم من المشركين الذين يعملون عمل المشركين.

    فهذا دليل على أن أهل السنة لا يكفرون المعين حتى ولو كان عمله كفراً، إلا بعدما تقوم عليه الحجة.

    إذاً من الشبهات: التقليد وإحسان الظن بالعلماء الذين بين ظهراني أولئك الناس المقلدين لهم، بحيث لا يحكم بتكفيرهم حتى تقام عليهم الحجة ويصروا على الكفر.

    كذلك من الشبهات أيضاً: أنهم قد يجدون بعض الكتب المؤلفة فيما هم عليه، فلأجل ذلك يسيرون عليها، ويعتقدون أن ما فيها هو الصواب، ولا يقفون على ردودها، ولا يقفون على أدلة غيرها؛ فيسيرون عليها، فنعذرهم في ذلك حتى نبين لهم الخطأ الذي فيها، فإذا بينا لهم فأصروا، وكانت تلك الأعمال من الكفر، حينئذ كفرناهم وقاتلناهم، وإلا فلا.

    وهناك أعمال دون الكفر، وهي التي تعرض لها الشارح رحمه الله، وذكر أنها من جملة البدع التي لا توصل إلى الكفر، وإنما هي أمور اجتهادية، ولكنها خاطئة.

    فالأشاعرة عندهم بدع، وهي: إنكار بعض الصفات، والقول بأن كلام الله كلام نفسي، وأن هذا الموجود إنما هو المعنى لا الحروف، ونحو ذلك من بدعهم، ولكن لا نوصل ذلك إلى الكفر.

    كذلك المرجئة الذين غلبوا جانب الرجاء لا نقول: إنهم وصلوا إلى الكفر، ولكن نقول: إنهم وقعوا في بدعة مفسقة لا مكفرة.

    وعلى كل حال: فالتكفير خطره كبير، قد سمعنا هذه القصة التي أوردها الشارح رحمه الله، وهي قصة ذلك الشخص العابد الذي قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك. قال الله لذلك المذنب: ادخل الجنة برحمتي، وعذب ذلك الذي تألى عليه، يقول أبو هريرة: (قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته)، وهذا يدل على أن التكفير ذنبه كبير وخطؤه عظيم؛ فلأجل ذلك على الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يكفر المعين.

    حكم إطلاق الكفر على العمل

    تقدم تكفير المعين، أما العمل فيقال: هذا العمل كفر. فيقال مثلاً: القول بخلق القرآن كفر. ولا نقول مثلاً: فلان كافر؛ لأنه يقول بكذا؛ لأنا لا نعلم ما الخاتمة، يمكن أن يكون قد رجع عن قوله وقد تاب، أو كان متأولاً، أو ختم له بخاتمة حسنة، أو محيت عنه سيئاته؛ أو ما أشبه ذلك، ففرق بين أن يقال: هذا العمل كفر، أو هذا الشخص كافر؛ لأنه يعمل هذا العمل.

    الأعمال قد يطلق عليها الكفر، فيقال مثلاً: ترك الصلاة كفر ولكن ما نحكم على الإنسان أنه كافر بمجرد عمله، إلا إذا أصر على ذلك وعاند وقتل عليه، فإذا عاند وأصر وامتنع من أداء الصلاة حتى قتل، فعند ذلك يقول العلماء: إنه يعامل معاملة الكافر الخارج من الملة، بحيث لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.

    وعلى كل حال: فالناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام مذكورة في أول سورة البقرة، فالخمس الآيات الأولى من سور البقرة في المؤمنين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3] إلى آخر الآية الخامسة والآيتان بعدها في الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] إلى قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7].

    وثلاثة عشر آية بعدها في المنافقين، من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ.. [البقرة:8-9] إلى قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.. [البقرة:20] إلى آخر الآية، فهذه الآيات في المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والعلماء يسمونهم زنادقة، فأمرهم خفي؛ لأننا لا نطلع على ما في قلوبهم؛ ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المسلمين؛ لأنهم يظهرون الإسلام ، ولأنهم يظهرون محبة المسلمين.

    وعلى كل حال فتكفير المعين شيء، والحكم على العمل بأنه كفر شيء آخر، فرق بين هذا وهذا.

    هذه مسائل في التكفير، والإنسان عليه أن يتثبت في الحكم على المعين بالكفر، ولابد أن يعرف الدليل على أن العمل من أعمال الكفار.

    المسميات الشرعية في الدين وتعلقها بالعقيدة

    مما يتعلق بالعقيدة مسألة أحكام الإسلام والدين، أو مسألة أسماء الإيمان والأسماء الشرعية، فالشرع نقل بعض المسميات من مسمياتها اللغوية إلى مسميات شرعية، فبدل ما كان الإيمان مجرد التصديق في اللغة، أصبح الإيمان يدخل فيه أعمال الجوارح وأعمال القلوب، ولا يكون مؤمناً إلا من ظهرت آثار الإيمان على جوارحه، هذا قول أهل السنة.

    كذلك بدل ما كان الإسلام في اللغة هو الإذعان والانقياد، أصبح الإسلام يصدق على من أقام الشرائع والأركان الظاهرة ودان بها، هذا هو المسلم.

    وكذلك مسمى الإحسان، الأصل فيه: أنه إحسان العمل أياً كان ولو عملاً دنيوياً، فنقله الشارع إلى الإحسان في الأعمال الصالحة، الذي هو إتقانها بأن يستحضر حالة أدائها مَن يؤديها له.

    وكذلك يقال في مسمى التوحيد في اللغة: هو مشتق من الواحد، الذي هو العدد الفرد، فنقله الشارع إلى إفراد الله بالعبادة، أي: اعتقاد أن العبادة لله وحده، وأن الله وحده هو المتصف بصفات الكمال لا يشاركه فيها غيره، وأنه المتفرد بالملك والتصرف، هذا حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل.

    وهكذا يقال في التقوى، لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، فالتقوى في اللغة: هي اتقاء الشرور والأضرار، وأما في الشرع: فهي اتقاء عذاب الله وغضبه بفعل الأوامر وترك النواهي.

    وكذلك مسمى البر الذي حث الله عليه، بدل ما كان بالإحسان إلى الإنسان، أصبح هو إحسان العمل كله، وتدخل فيه جميع الأعمال التي تدل على بر صاحبها وتصديقه.

    ويقال كذلك في المسائل التي هي ضدها، فمثلاً: الشرك، كانوا يطلقونه على اشتراك اثنين في عمل، أو اشتراك اثنين في مال، هذا هو الشرك قبل الإسلام، أما الشرع فجعله اسماً لإشراك العبد مع الله غيره، أن يجعل العبادة مشتركة بين الله وبين غيره، فيدعوه ويدعو غيره، ويعبده ويعبد غيره، ويتقيه ويتقي غيره، ويخافه ويخاف غيره، ويرجوه ويرجو غيره على حد سواء، يسمى هذا: شركاً؛ لأنه تشريك في العبادة بين الخالق والمخلوق، وهو الذي ورد فيه الوعيد.

    كذلك الكفر: العرب تعرف الكفر بأنه الستر، ستر الشيء، ولكن جاء الشرع وأطلقه على جحد الربوبية، أو جحد الإسلام، أو جحد الشريعة وإنكارها وسترها وتغطيتها تغطية معنوية، هذا مسمى الكفر.

    مذهب أهل السنة في مسألة التكفير والتفسيق والتبديع

    مسألة التكفير والتفسيق والتبديع قد تكلم فيها العلماء وأطالوا، وقرأنا بعضاً مما يتعلق بها.

    مذهب أهل السنة فيها كما سمعنا: أنا لا نكفر أهل القبلة بالذنوب ولو كانت كبائر؛ إلا إذا استحل الذنب فإنه يكفر، فإذا استحله كفر ولو لم يفعله، من قال: إن الخمر حلال. ولو لم يشربها؛ كفر؛ لأنه خالف نصاً، ومن قال: إن الربا حلال. كفر وإن لم يرابي؛ لأنه يخالف النصوص، ومن قال: الصلاة ليست فريضة. كفر، ولو لم يترك الصلاة، ومن قال: لم يوجب الله الحج، أو لا يجب الصوم، وأنكر ذلك، أو أنكر شرعية الجهاد، وقال: الجهاد تعرض للقتل، لا يمكن أن يشرعه الله، هذا ظلم، أو قتل للنفوس وإراقة لها، إذا أنكر ذلك ولو كان يجاهد نقول: إن هذا قد كفر بهذا الإنكار.

    أما إذا فعل ذنباً ولكنه لم يستحله فإنه لا يكفر، كما لو فعل الزنا وهو يعتقد أنه حرام، أو شرب الخمر، أو قتل نفساً وهو يعتقد أنه مذنب ومخطئ، فنقول: هذا مذنب، وهذا فعل كبيرة من الكبائر، ولكن لا تصل إلى حد الكفر الذي يبيح الدم والمال، بل لا يزال موصوفاً بأنه مذنب، وأنه قد وقع في ذنب، وإن كان ذلك الذنب يحتمل أن يعاقب عليه، ويحتمل أن يغفر.

    حكم المصر على الذنب

    ماذا نسمي المذنب المصر على الذنب؟

    لا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً كامل الإيمان، بل نسميه ناقص الإيمان، أو يطلق عليه اسم فاسق أو عاص، هذه عقيدة أهل السنة: أنه لا يصل إلى الكفر؛ لأن ذنبه دون الكفر، ولا يوصف بكمال الإيمان؛ لأنه قد نقص إيمانه بهذا الذنب.

    والذين كفروه انقسموا إلى طائفتين:

    طائفة أخرجته من الإسلام ولم تدخله في الكفر، وهم المعتزلة الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين.

    وطائفة أخرجته من الإسلام وأدخلته في الكفر، واستحلت دمه وماله، وهم الخوارج.

    واتفق الفريقان على أنه مخلد في النار.

    وأهل السنة لا يخرجونه من الملة، ولكن يقولون: هو معرض للوعيد، وهو تحت مشيئة الله ما دام أن ذنبه دون الكفر ودون الشرك، ففي الآخرة هو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، هذه هي عقيدة أهل السنة.

    1.   

    وجه تسمية الشارع لبعض الذنوب كفراً

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .

    وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) .

    و (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) .

    وقال صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد)

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) .

    ونظائر ذلك كثيرة.

    والجواب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.

    ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] إلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد: أخوة الدين؛ بلا ريب.

    وقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، إلى أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] ، ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد.

    وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين. فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه.

    وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من ليس له درهم ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم . وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته، وهذا مبسوط موضعه].

    الأحاديث التي تقدمت هي التي استدل بها الخوارج على مسألة التكفير بالذنوب، أخذوا بظاهرها، وأهل السنة قد أوردوها وأوردوا ما يبينها. فمثلاً: الإمام مسلم صاحب الصحيح في أول كتابه كتاب الإيمان سرد أحاديث كثيرة فيها التكفير بالذنوب، ثم سرد أحاديث بعدها فيها الرجاء، وفيها نفع الشفاعة لأهل التوحيد، وأن أهل التوحيد يخرجون من النار ولو عملوا ذنوباً، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال من لا يشرك بالله شيئاً، وأنهم ولو دخلوا النار بذنوب أذنبوها فإنهم لا يخلدون فيها، فهذا دليل على أن أحاديث الوعيد ليست دالة على الإخراج من الملة.

    ثم إن كثيراً من العلماء قالوا في أحاديث الوعيد: إنها تجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، مع اعتقادنا أن أهل التوحيد الذين لم يشوبوه بشرك، ولم يبتدعوا بدعاً مكفرة؛ لا يخلدون في النار ولو دخلوها، وعلى هذا فنسكت عن تأويل هذه الأحاديث، أو نحملها على محامل كما ذكر الشارح، ونحرص على الجمع بينها.

    أمثلة لبعض الأدلة التي حملها العلماء على محامل غير الكفر

    قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، هل كل من تقاتلوا لفتنة أو لخلافات سياسية يصيرون كفاراً؟

    لا يكونون كذلك، فقد تقاتل الصحابة في عهد علي ومعاوية ، ولم نحكم بكفر هؤلاء ولا هؤلاء، بل نقول: تلك فتن قدرها الله تعالى، وكل منهم له مقصد وله تأويل، ولم يكونوا كفاراً، وكل من قتل في هذه الفتنة تحت مشيئة الله.

    كذلك الذين تقاتلوا في وقعة الجمل لم يقل أحد بأنهم كفار، ما عدا المعتزلة ونحوهم، بل قتل فيها من الصحابة من قتل كـالزبير وطلحة وغيرهما، ولا شك أنها فتن، ولا نقول: إنهم وصلوا إلى مرتبة الكفر -والعياذ بالله- بل ننزههم عن ذلك.

    إذاً: قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) نجريه على ظاهره، ونعتقد أن القتال بنوع من التأويل لا يصل إلى الكفر، ونقول: لعله قصد الزجر والتحذير من قتال المسلمين بعضهم لبعض.

    وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) نقول: هذا من أحاديث الوعيد، أطلق عليه كفراً وإن لم يكن مخرجاً من الملة من باب الزجر، ومن باب التحذير عن قتل المسلم والاستهانة به.

    ومثل ذلك الآيات التي فيها وعيد شديد على بعض الذنوب، مثلاً: توعد الله على أكل الربا بقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:275] معلوم أنهم وإن دخلوها بذنوبهم فإنهم تحت مشيئة الله، وكذلك قال في القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] عقيدة أهل السنة: أنه مسلم لا يخرج من الملة، لكن هذا من باب الوعيد، وكثير منهم يقولون: ذلك جزاؤه إن جازاه.

    وكذلك قوله تعالى في الفرار من الزحف: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [الأنفال:16] ، فهذا أيضاً نص فيه وعيد، فأهل السنة يقولون: هو وإن دخلها لا يخلد فيها أو قد يعفو الله عنه فلا يدخلها.

    وكذلك القذف، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:23-25] هذه الآيات من نصوص الوعيد أيضاً، مع أنها كلمة قد يكون فيها خطر وقد لا يكون، ومع ذلك توعد الله عليها بهذا الوعيد.

    وهكذا الوعيد في الأحاديث التي سمعنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) لا شك أن هذا أيضاً فيه تهديد وتخويف شديد على هذه الأعمال التي هي من كبائر الذنوب.

    وقوله: (وهو مؤمن) أي: ليس يفعلها وهو كامل الإيمان؛ فإن إيمانه يزجره عنها، ويحذره عن اقترافها، لكن هو ناقص الإيمان، وقال بعضهم: ينزع منه الإيمان، ويكون عليه كالظلة، ثم إذا انتهى رجع إليه، ولكن لا يرجع كاملاً.

    وهكذا حديث النفاق في قوله: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً : .. إذا حدث كذب) إلى آخره، لا نقول: إنها تخرج من الملة لمجرد كذبة أو خيانة، ولكنها من نصوص الوعيد.

    وقد أثبت الله عز وجل الإيمان بين المتقاتلين الذين يتقاتلون لضغائن وعداوات في الآيات التي سمعنا، يقول الله في القاتل: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] سماه: أخاً مع كونه قاتلاً، وكذلك في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] سماهم: إخوة مع كونهم يتقاتلون، ولكنه قتال بغي، فالمخطئون منهم بغاة.

    ومعلوم أنهم لو كانوا كفاراً لحبطت أعمالهم، ولم يبق لهم حسنات، فإن الكفر يحبط الأعمال، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] إذا حبط عملك فلا تكتب لك حسنة، الكفار ما تكتب لهم حسنات، ولا يثبت لهم شيء من الأعمال الصالحة، بل أعمالهم تبطل، يقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فلو كانوا كفاراً ما كان لهم حسنات، بل إما أن يجازوا بها في الدنيا كما في قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] ، وإما أن يبطلها كفرهم وشركهم، يقول تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ، ويقول تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217] حبطت أي: بطلت، ومثل الله تعالى أعمالهم بأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يبقى منها شيء، فلو كانوا كفاراً ما بقي لهم أعمال صالحة، ولا حسنات يؤخذ منها للمظلومين.

    وقد سمعنا أنه يكون لهم حسنات في هذه الأحاديث، هذا الذي يأتي وقد قتل هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، فمع ذلك يؤخذ من حسناته، أليس ذلك دليل على أنها باقية؟

    إذاً: فهو لم يصل إلى درجة الكفر.

    فهذا دليل على أن أعمالهم لا توصلهم إلى الإخراج من الملة، وعلى هذا ماذا نسميهم؟ نسميهم: عصاة، ونسميهم: فسقة، ونسميهم: أهل كبائر، ونسميهم: ناقصي الإيمان غير كاملي الإيمان، هكذا نسميهم.

    هذا قولنا في أهل المعاصي، أما الشرك والكفر فمعلوم أنه يصير كفراً مخرجاً من الملة، وأن الشرك لا يغفر حتى ولو كان صغيراً، ومن الشرك الأصغر: الحلف بغير الله، فقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) المراد به: الشرك الأصغر؛ وذلك لأن الحلف بغير الله فيه إشراك بنوع تعظيم لذلك المخلوق، وتخصيصه بالحلف به حتى يكون شريكاً لله، والتعظيم حق الله، فالحالف قد عظم الذي حلف به، فمن حلف بالله فقد عظم الله، ومن حلف بالمخلوق فقد عظم المخلوق، فيكون تعظيمه شركاً، ولكنه من الأصغر، ولا يصل إلى الشرك الأكبر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757118274