وهو حريص على أمته، وعلى جلب المصالح لها، وعلى دفع المفاسد والمساوئ عنها. (بالمؤمنين رؤوف رحيم).
أيها الإخوة.. نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الضالين والمبتدعين، الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون به عن الحدود التي وصفه الله سبحانه وتعالى بها ليمنحوه شيئاً من خصائص الألوهية، فيدعون أنه يعلم شيئاً من الغيب، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أنه يعلم المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله، أو يصرفون له شيئاً من ألوان العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله تبارك وتعالى.
ولذلك فإنني أقول: إن من واجبنا نحن أهل السنة أن نكثر من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نكثر من ذكره، وذكر فضائله ومحاسنه ومناقبه وصفاته صلى الله عليه وسلم، وأن نرقق بها قلوبنا، ونربي عليها أولادنا، ونخلص له الحب من أعماق قلوبنا.
ومن واجبنا ألا يكون كلامنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدحنا له وثناؤنا عليه رد فعل لما يدعيه الأقوام المبتدعون من أننا لا نحبه، كلا! يجب أن نقوم ابتداءً بواجب المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وواجب الثناء عليه، وواجب اتباعه وواجب الصلاة عليه، كما ذكر في الصلاة وغيرها، وهذا بعض حقه علينا صلى الله عليه وسلم.
الصنف الأول: من جهلوا أو تجاهلوا حقيقة هذه الآية: رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] جهلوا معنى هذه الآية، وجهلوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله تبارك وتعالى عليهم، وأصابهم من الأسباب الشرعية والقدرية ما جعل كثيراً من أمورهم تصعب وتتعسر كما سنبين من خلال الحديث.
الصنف الثاني: من فهموا هذه الآية، ولكنهم نسوا حقيقة التيسير في الإسلام، وأنَّ التيسير في الحقيقة ليس بما تهواه النفوس، وتميل إليه القلوب، وتطمح إليه الشهوات، إنما هو بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالآية نصت على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128] أي: يشق عليه ما يعنتكم ويحرجكم وهو لم يأتكم إلا باليسر، نسوا هذا الأمر، ونسوا أن معنى الآية أن كل أمر في الدين فهو يسر، فوسعوا على أنفسهم بما لم يوسع الله به عليهم، وهؤلاء -أيضاً- لم يخلصوا المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثالث: هم الأمة الوسط أهل السنة والجماعة الذين جردوا المتابعة له صلى الله عليه وسلم، وتخلصوا من شهوات نفوسهم ورق قلوبهم، وأرغموا أنفسهم على المتابعة التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وفيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما تهوى أنفسهم وفيما لا تهوى، وهؤلاء حقاً هم أهل المتابعة، وهم الذين حققوا معنى شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم.
لقد خلق الله جنس الإنسان من لدن أبينا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بصفات هو بها أعلم، ووصف الإنسان في محكم تنـزيله بالضعف والجهل والعجلة والظلم والنقص، وخلق الإنسان كما في الحديث الصحيح: {خلقاً لا يتمالك}.. خلق الإنسان محتاجاً للطعام ومحتاجاً للشراب ومحتاجاً للنوم ومحتاجاً للزوجة ومحتاجاً للأنس والترويح، ساعة بعد ساعة، ومحباً للمال والأهل والولد والمتاع، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] فالإنسان بطبعه بشر من البشر، فيه ضعف البشر، ونقصهم، وجهلهم، وحاجتهم، لا ينفك عن هذه الخصائص مهما ارتقى في مراقي العبودية والإخلاص لله تبارك وتعالى.
ونـزل الدين ملبياً للرغبات البشرية بالطريقة المشروعة، شريطة أن يقف الناس عند الحلال ولا يتجاوزوه إلى الحرام، وقد وصف الله المؤمنين المستحقين للفردوس والخلود فيها بقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5] لم تقف الآية عند هذا الحد بل استثنى الذي خلق الإنسان وهو اللطيف الخبير- لما يعلم من طبيعة الإنسان وجبلته فقال: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6] ثم قال (وانظر إلى هذا التعقيب): فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6] أي: لا يلامون في هذا؛ لأنها جبلة خلقها الله عز وجل فيهم لحكمة، وأنـزل الأديان لتنظيم هذه الغريزة وأن تأخذ طريقها المشروع، فلا تنحرف إلى الحرام، ولم ينـزل الدين ليكبس هذه الغريزة ويمنعها، بل لينظمها بالطريق المشروع، وهو الزواج أو ما ملكت اليمين من الإماء.
لقد قاوم الإسلام هذا المنـزلق الخطير من المزالق التي تردى فيها عباد اليهود والنصارى، حتى وصل بهم الحال إلى صور فظيعة من صور التزهد والترهب، يذكر بعض المؤرخين منها ما تقشعر منه الأبدان.
اسمعوا إلى أين وصل أولئك القوم الذين لم يرضوا بحكم الله، ولا بحكم رسوله، ولا بشرعه، فبلغ بهم الغلو في الدين إلى حد أن انقطعوا في الأديرة والصوامع، ووصلوا إلى الحال التي يقول عنها بعض المؤرخين ما يلي:
وهناك راهب آخر أقام ثلاثة أعوام في بئر نـزح منه الماء يترهبن ويتعبد، وجلس أحد الرهبان سنين قائماً على رجله، لم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، وإذا تعب أسند ظهره إلى الجدار، ثم واصل العبادة فيما يزعم ويظن، وكان كثير من هؤلاء القوم يتسترون بشعرهم الطويل الذين يرسلونه باستمرار، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، ويسكنون في مغارات السباع والآبار والمقابر، ويأكلون الحشيش والكلأ، ويتأثمون من لمس الماء، ويعتبرون هذا منافياً لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، حتى قال أحدهم: إن الراهب فلاناً لم يغسل الرجلين طول عمره وقال آخر: إن فلان لم يمس وجه الماء ولا رجله مده خمسين عاماً، وبعدما ضعفت هذه الروح عندهم، قام أحد رهبانهم يتأسف على الأيام التي مضت، لهؤلاء الأقوام الذين فرضوا على أنفسهم نوعاً من الرهبانية لم يأذن به الله، ويقول: وآأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه، حراماً، فإذا بنا الآن ندخل في الحمامات! وينعى على نفسه هذه الحال.. إلى آخر ما يذكر المؤرخون عن حال هؤلاء الأقوام.
إننا قد نستغرب هذه الصورة، وهي ليست إلا صورة واحدة من صور كثيرة عج بها تاريخ النصارى، والذين كان الرهبان عندهم يعدون بعشرات الآلاف، بل كان أحد الرهبان يحكم تحت يده أكثر من عشرة الآلاف راهب، وكانوا كهلم بهذه المثابة قد تركوا الدنيا، وتركوا الزواج، والأموال والأولاد والمتاع وكل شيء، وتخلصوا لما يزعمون، أو يرون أنه عبادة، وهذه صورة ناطقة تمثل جزءاً من قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:1-7].. كما قال ذلك بعض السلف.
ويقول أحد المؤرخين أيضاً: إن هؤلاء الرهبان الذين كان الواحد منهم مثالاً في رقة القلب والزهد في الدنيا قد عدوا عدُّ الفضائل عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها.
وقبل أن أدخل في ذكر صور التشدد وأسبابه ونماذج من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم تنير لنا الطريق، وتبين لنا كيف كان هدي هذا الرسول الحريص علينا، الذي بعث رحمة لنا، قبل أن أدخل في هذا أو هذا أحب أن أبين أن موقف الإسلام كان صريحاً في رفض جميع ألوان الرهبانية أو المسالك التي تشتط بالإنسان، وتخالف جبلته البشرية، ولا تراعي فطرته.
لماذا كان أصدق الأسماء حارث وهمام؟ لأن حارثاً مأخوذ من الحرث، وهماماً مأخوذ من الهم وما من إنسان مخلوق على هذا الأرض إلا وهو حارث وهمام؛ لأنه يهم ويعمل، فالإنسان خلق ليعمل لا ليترك ولا يترك شيئاً إلا بشيء.
ويقول رحمه الله كلمة مكملة للكلمة الأولى: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، ولم بتبديل الفطرة وتغييرها، فالفطرة التي جبل الله الناس عليها نـزلت الأديان موافقة لها منسجمة معها، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة واتفق على إخراجه البخاري ومسلم: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، حتى يبين عنه لسانه -والمقصود بالفطرة الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء } أي: أن الأصل عند البهيمة أن تولد مكتملة الأعضاء، حتى يأتي أهلها، فيقطعون أذنها أو يشقونها، أو يفعلون ما كانوا يفعلون في الأزمان الغابرة.
ويقول رحمه الله في كلمة له: إن التشديد على النفس ابتداءً يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله، أي أن الإنسان إذا بدأ يشدد على نفسه تشديداً لم يأتِ به الإسلام والشرع، فإن الله عز وجل يقيض له تشديداً حقيقياً، فيكون تشديده على نفسه في البداية سبباً لتشديد آخر يفعله الله به، إما في الشرع وإما في القدر.
قال: فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا في صلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الموجبة بأسبابها.
أي أن الناس الذين كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وفي وقت التشريع عن أمور فيها تشديد قد يبتلون نتيجة لذلك بأن تفرض عليهم هذه الأشياء، كما علل الرسول صلى الله عليه وسلم عدم استمراره على صلاة التراويح جماعة في رمضان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح { إن من أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته} وكذلك من نذر شيئاً قد يكون صعباً وشديداً، هذا الشيء ليس موجباً عليه في الأصل، فمن نذر إن شفا الله مريضه أن يصوم شهراً على سبيل المثال، فصوم هذا الشهر هو ليس موجباً عليه في أصل الشرع، والعليم الخبير بالنفوس لم يوجب على الناس إلا صيام شهر واحد في السنة، لكن من شدد على نفسه بالنذر، شدد الله عليه فصار واجباً عليه أن يفي بنذره، مع أن النذر ليس مشروعاً في الأصل، بل هو مكروه، بل قال شيخ الإسلام: إنه محرم.
وكذلك الكفارات الموجبة لأسباب يفعلها الإنسان ابتداءً، فهذا تشديد من الله في الشرع على من شدد على نفسه ابتداءً.
أما تشديده سبحانه وتعالى على من شدد على نفسه ابتداء أيضاً، فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، مثل كثير من الموسوسين في الطهارات، إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب عليهم أشياءً فيها عظيم مشقة ومضرة، فالله عز وجل أوجب علينا في الوضوء غسل هذه الأعضاء مرة، وما زاد إلى ثانية أو ثالثة فهو تطوع، خلا الرأس فإنه لا يمسح إلا مرة واحدة، ولكن من شدد على نفسه في أمور الطهارة، وبالغ في التطهر حتى غلا وبلغ الحد المشروع، قدر الله عليه أسباباً حقيقية تجعله يزداد في غلوه وتشدده وتنطعه، وهكذا.. من شدد شدد الله عليه، وفي الحديث شددوا فُشدِّد عليهم} كما في سنن أبي داود.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
وقول الله أبلغ: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة:77] وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو} وقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم الغلو}.
إذاً يجب أن نتكلم عن التشدد في الدين، وأنه خلاف التيسير الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، كما نتحدث عن التساهل، والتفريط في الدين، وهذا وذاك وجهان لعملة واحدة.
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال |
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال |
ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال |
وهذه خبرة رجل قضى عمره في هذا العلم، وهذه نتيجته، وهذه غايته.
وهذا الرازي يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمسالك الفلسفية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فوجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في النفي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] واقرأ في الإثبات قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
إذاً: الطريقة الوسط الميسرة في العقائد هي طريقة القرآن والسنة، لا تتكلف ما ليس لك به علم، ولا تتعمق في البحث عن مسائل لم يأتِ بها نص عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وآمن بالله وبما جاء عن الله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
وكثيراً ما تجد بعض المبتدئين في العلم، بل بعض العوام الذين يجالسون بعض العلماء، يدخلون أنفسهم في أمور العقائد، وينفون ويثبتون، ويتكلمون في قضايا لم يتكلم فيها السلف، كما تجد كثيراً من الناس يبالغ في السؤال عن الناس، هذا عقيدته صحيحة، وهذا لا أصلي خلفه حتى أسأل عن عقيدته، وهذا لا بد أن أختبره.
وقد أنكر السلف على من هذا مسلكه، وقالوا: الأصل في المسلم الستر والصيانة، فإن ظهر لك منه ما يدل على انحرافه، أو ضلاله فهذا أمر آخر، أما أن أُنقب عن الناس وعما في قلوبهم وأختبرهم، وإلا أتبرأ منهم، بل قال بعضهم، الأصل في هؤلاء عدم البراءة حتى تثبت براءتهم، وهذا مسلك خطير، ومخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
{كان يأتيه الأعرابي فيقول: يا رسول الله، رأيت هلال رمضان، أو هلال شوال، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقبل شهادته } وهكذا مسلك التيسير والتسهيل، وتجد أصحاب هذا المسلك ممن خففوا فخفف الله عنهم ووافقوا السنة، وعاشوا بارتياح، وهكذا كل من اتبع السنة تجده مرتاحاً في حياته الدنيا قبل الآخرة.
أما أصحاب المسلك الآخر المتشددين، فتجدهم دائماً في تعب وجهد وفي شك وتردد. يقول أحدهم: صلاة صليتها خلف فلان أريد أن أعيدها فلان، لا أصلي خلفه؛ لأني لا أدري عنه شيئاً! شددوا فشدد الله عليهم.
لقد سمعت من يقول: إن النظر إلى وجه العاصي حرام، انظروا -أيها الإخوة- إلى من شددوا في الدين بأمر لم يأذن به الله، هل قال لنا ربنا ذلك؟ أم قال لنا الصادق المصدوق ذلك؟ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148] إنه والله مما يدمي القلب، ويجرح الفؤاد، ويحزن النفس أن يوجد من الغيورين على الدين، الذين دفعتهم الغيرة إلى أن يتعدوا حدود الله، ثم لا يسمعون لقائل مقالاً، ولا يستطيعون أن يسمعوا الحق أو أن يقبلوه، لما وقر في نفوسهم وتشبعت به قلوبهم من أن ما هم عليه هو الحق، وصدق الله العظيم: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8].
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
هذه صور من صور التشدد في العقائد أو العبادات أو المعاملات، ولو ذهبت أسترسل في الأمثلة والنماذج والصور لطال المقام، ولم نصل إلى ما نريد، ولكن حسبي أن أعطي مثالاً لكل نوع من هذه الأنواع، بإمكان الإنسان أن يقيس عليه مئات الصور التي يراها أو يسمع بها.
إنَّ هناك أسباباً كثيرة لا أستطيع أن أنفرد بها لكنني رصدت أربعة أسباب، أرى أنها أسباب رئيسة في هذا الموضوع:
إن الذي يريد الخير ويريد الطريق المستقيم، يجب أن يعلم أنه ليس هناك طريق مستقيم إلا واحدٌ فقط، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع الطرق والأبواب غيره هي أبواب تأخذ لسالكها ذات اليمين، وذات الشمال عن الطريق المستقيم، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
إذاً السبب الأول هو الجهل بالدين، إذ أن العالم يعلم أنَّ النص الوارد عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المقياس في الحلال والحرام، ولذلك لما أمرنا الله عز وجل بالجهاد، قال لنا: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] هذه قاعدة مهمة: كل أمر جاء به الدين فهو يسر وسهولة، لا حرج فيه مهما ظن الظانون أنه حرج، وعكس ذلك: كل أمر لم يأت به الدين ولم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أمر عفو ومباح في الأصل، مهما ظن الظانون أن الدين غيره، وأن في إتيانه حرجاً.
إذاً الحرج في مخالفة النص، واليسر في اتباع النص، فما جاء به الله ورسوله، فهو اليسر الذي لا يسر في غيره، وما نهى الله عنه، فإتيانه هو الحرج الذي فيه الحرج كل الحرج، وهذه قاعدة مهمة، تشتط أهواؤنا أو عواطفنا ومألوفاتنا، فما ألفنا فهو من الدين، وما جاء غريباً علينا استنكرناه، ثم نفيناه عن الدين، والمثل القديم يقول: "الناس أعداء ما جهلوا" فليس كل ما جهله الناس حراماً، ولا كل ما عرفه الناس وأقروه مباحاً، بل الحرام ما حرمه الله أو رسوله بالنص الصحيح، والحلال ما أباحه الله ورسوله بالنص الصحيح الصريح، أو سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك قواعد كثيرة تضبط هذا الأمر، ليس هذا مجال سردها.
أيها الإخوة: إن المسلم الذي جرد الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الانقياد والتسليم لكل أمر ورد من الله ورسوله، ولكن لا يحرم من تلقاء نفسه، ولا يعمل شيئاً على سبيل العبادة لله سبحانه وتعالى إلا بتوقيف، وليعلم الجميع أن محرم الحلال كمحلل الحرام سواءً بسواء، فإنك لو عبدت الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج من هذه العبادة سالماً، فضلاً عن أن تتقرب إلى الله بها، بل إن هذه العبادة وبالٌ عليك، أنت تتعب فيها، وتجهد فيها، وتضني نفسك، وتسهر ليلك، أو تتعب نهارك في عبادة لم يشرعها الله، ومع هذا كله تأثم بهذا العمل، كما أن الإنسان الذي يقول: إن الخبز أو التمر حرام، هو بالضبط مثل الإنسان الذي يقول: إن الخمر حلال، فكلاهما سواء.
لا يكن هوانا أيها الإخوة مع من يميل إلى التحريم، فإذا كان الإنسان يقول: هذا الشيء حرام، ملنا معه لأنه يعظم حرمات الله، ويمنع الناس من أمور ما جاء بها الدين، كلا! يجب أن نعلم أنه من قال عن شيء مباح: إنه حرام، فهو كمن قال عن شيء محرم: إنه حلال، وهما بمنزلة واحدة.
ومن الناس من هو غليظ، جلف جافٍ، لا تراه إلا مكفهراً، مقطب الجبين، منقبضاً، معرضاً عن الناس.
ومنهم من هو بين ذلك، وهذه الطبائع من غير الممكن أن يتجرد عنها الإنسان، فإذا غفل المرء عن هذه الطبيعة الخاصة به، وصار يتكلم باسم الدين والفتيا، ويلتمس دون أن يشعر من الأدلة والأحكام، والفتاوى ما يناسب هذه الأدلة، ويتمسك به ويبتعد عن غيره ويتركه، فحينئذ يكون في ذلك الخطر الشديد.
إنَّ صاحب الحق لا يخاف على الحق الذي معه، فالذي يخاف هو صاحب الباطل، الذي يخشى أن ينكشف باطلة وينفضح، أما صاحب الحق فيقول: الحق يملء فيه، ومستعد أن يقف أمام أي إنسان، ويأخذ معه ويعطي، ويرد عليه بالبينات والحجج.
ولذلك فإن ما يفعله كثير من الناس من الانطواء على أنفسهم، ونظرتهم إلى الآخرين على أنهم لا شيء عندهم، وأن الخير محصور فيهم هم فحسب، إنه خطر عظيم، وقد يودي بالإنسان والعياذ بالله إلى شيء من العجب والغرور، وهذا لا شك محبط للإعمال.
ولو نظرنا إلى نشأة الصوفية في الأسلام، لوجدناها كانت نتيجة انفتاح المسلمين على الدنيا، ولو نظرنا إلى نشأه الخوارج، لوجدناها أنها نشأت في ظروف مشابهة، وهكذا تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً، واختلفوا في التيسير والتشديد، وليس يشفع للمشدد أنه إنما شدد غضباً لحرمات الله.
كما أنه لم يشفع للـخوارج أنهم تشددوا حمية للدين، فلقد قال الصادق المصدوق -في أحاديث صحاح متواترة عن الخوارج : {أنهم شر الخلق والخليقة، يمرقون من الدين كما يمرق السهم عن الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ووصفهم بقوله: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، ومع ذلك يقرءون القرآن رطباً لا يجاوز حناجرهم} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم عند الله من الأجر لنكلوا عن العمل} وسماهم كلاب النار، كل ذلك وهم يقولون: إن العاصي كافر، لو سألناكم وسألنا غيركم، ما هو الذي جعل الخوارج يحكمون على العصاة بأنهم كفار؟ هل هو التساهل في الدين؟ هل هو انتهاك لحرمات الله التشدد في الدين وتعظيم حرمات الله؟ لا، إنما هو بصورة تعدت ما شرع الله؛ حتى صاروا يبحثون عن النصوص التي توافق أهواءهم، ويعملون بها، ويأتون إلى النصوص التي لا توافقهم فيدفعونها عنهم بالأيدي، ويدعونها، ويتخلصون منها بالتأويل أو التضعيف أو غير ذلك.
فلينظر كل امرئ لنفسه أنه لا يشفع له أن يكون غيوراً، إنما يشفع له أن يكون وقافاً عند حدود الله، وإن اتباع الهوى كما يكون في التساهل، يكون في التشدد، فأهواء الناس تختلف.
وباختصار أقول: لو رأينا هذه القصص والأخبار، ثم قسنا عليها واقع كثير من المنسوبين إلى العلم لاستغرابنا.
إن كثيراً من الناس يوقرون أنفسهم عن أشياء، ويرفعون أنفسهم عن أشياء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها بكل بساطة وتواضع، كان الكافر يأتي ويدخل المسجد، فيمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخاطبه ويكلمه، ويقول له: ماذا تريد؟ وهذا في الصحيحين.
وكان الرجل الأعرابي يأتي في الخطبة، فيقول: يا رسول الله! جاهل يسأل عن أمر دينه، فلا ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينـزل عن منبره كما في الصحيح، فيوضع له كرسي قوائمه من حديد، فيجلس، فيعلمه دينه، ثم ينصرف إلى خطبته.
وكان الرجل يأتي مكتئباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قد فعل موبقة من الموبقات، إما جامع أهله في نهار رمضان، أو زنى والعياذ بالله أو فعل شيئاً من ذلك، فيقابله الرسول صلى الله عليه وسلم برحابة صدر وهدوء بال، وإذا أقام عليه الحد لم يسمح أن يساء إليه، ولا أن يشتم، بل قال: لا تفعلوا، لا تسبوه إنه يحب الله ورسوله، وهذا في الصحيحين تطلب منه عائشة رضي الله عنها أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فيضع كتفه لها، وتضع هي خدها على خده تنظر حتى ملّت، فيلتفت إليها، ويقول: حسبك يكفيك، فتقول: نعم، فينصرف لا ينصرف حتى تنصرف هي، وأخبار من ذلك كثيرة معلومة، لو اتسع الوقت لسردنا شيئاً منها طيباً ممتعاً انتقيته مما في صحيحي البخاري ومسلمرحمهما الله.
ونحمد الله أن جعلنا من أتباع هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وجعلنا من المؤمنين بهذا الدين، ونسأله أن يثبتنا عليه حتى الممات، وأن يبعثنا عليه، وأن يحشرنا في زمرة أوليائه وحزبه المفلحين.
أيها الإخوة.. إنه كلما ازداد بُعد المسلمين عن دينهم، وازداد جهلهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وازداد تعلقهم بالدنيا وركضهم وراء متاعها الرخيص الفاني كانوا معرّضين لدائين من أخطر الأدواء وأشدها فتكاً بالأمم والأفراد:
الداء الأول: هو داء ضعف اليقين، وضعف الإيمان، وضعف الاتباع الذي يترتب عليه التقصير في أداء الواجبات؛ فضلاً عن السنن والمستحبات، والتساهل في فعل المحرمات؛ فضلاً عن فعل المكروهات، فهذا هو الداء الأول.
أما الداء الثاني: فهو داء عكسي، وهو التشدد في الجانب الآخر؛ حيث يوجد من المسلمين إزاء هذه الهجمات المادية وإزاء طغيان المادة وغلبتها على المسلمين من يقف في الطرف الآخر؛ فيتشدد ويغلو كرد فعل لهذه الموجة الطاغية، ولو قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي لوجدنا هذا الأمر واضحاً جلياً، فحينما فُتحت الدنيا على المسلمين وتمتعوا بالثراء والنعم الكثيرة ترتب على ذلك ضعف تمسكهم بالإسلام أولاً، وترتب عليه ظهور بعض الفرق والطوائف المغالية في الدين والمتشددة فيه.
وفي مثل هذه الأيام التي نعيشها نجد هذا الأمر -أيضاً- واضحاً؛ حيث فُتحت الدنيا على المسلمين في الثراء والمال والنعم، وحيث أثّرت فيهم الحضارة الغربية بما فيها من مفاتن ومفاسد، فضعف تمسك كثير منهم بالإسلام، وترتب على هذا أمر آخر، حيث وجد من المسلمين من يتشدد ويغلو في الدين كردة فعل لهذا الانحراف وضعف اليقين عند الناس.
وأمام هذا الأمر يكون من الواجب على طلاب العلم أن يهتموا بالحديث عن يسر الإسلام وسماحته لسببين:
الأول: حتى يردوا على من غلا في الدين وتشدد بما لم يأذن به الله، ويبينوا أن هذا ليس هو منهج الأنبياء والمصلحين.
السبب الثاني: حتى يردوا المبتعدين عن الدين إلى الدين؛ لأن أولئك المبتعدين في حاجة إلى من يبصرهم بسماحة الإسلام ويسره ومراعاته لفطرة البشرية، حتى يتألف قلوبهم على هذا الدين ويردهم إليه بالتي هي أحسن؛ ولذلك عندما أتيحت لي فرصة أن أتحدث عن موضوع فاخترت الحديث عن يسر الإسلام وسماحته -أو الحديث عن المسلمين بين التيسير والتشديد- وأصل هذه الكلمة هي أن نعيش معكم لحظات نتحدث فيها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن طرف من أخباره وأسلوبه في مواجهة الأمور، وهديه صلى الله عليه وسلم في التيسير، وتحذيره من التنطع والتشديد.
ولكنني قبل ذلك أستغرق من الوقت دقائق معدودة؛ حتى أمرّ فيها مروراً سريعاً على الموضوع لأبين أسباب هذا التشدد، وصوره ونتائجه وعلاجه.
فالجهل بالدين هو السبب الأول من أسباب التشدد فيه.
إذاً طبيعة الناس تختلف، فمنهم من يميل بطبعه إلى التيسير، ومنهم من يميل إلى ضد ذلك.
فهذه أهم الأسباب التي حصرتها بذهني، والتي تؤدي بالإنسان إلى نوع من التشدد في الدين.
الأمر الأول: أن يقيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب الشرعية ما يجعله يواجه شدة أكثر مما كان من قبل، مثال ذلك: لو أن إنساناً نذر لله إن عافاه الله أو نجحه في امتحانه , أو شفى مريضه أو رد غائبه أو غير ذلك أن يصوم كذا أو أن يتصدق بكذا، أو أن يفعل كذا من العبادات، فهذا لون من التشديد على النفس بما لم يشدد الله به؛ إذ أن أصل هذا العمل الذي نذره الإنسان ليس واجباً عليه، ولكنه حين نذره صار واجباً عليه، وقد يعجز عن القيام به، فهذه أسباب شرعية -هذا النوع الأول- التي يشدد الله بها على من شدد على نفسه.
النوع الثاني: هي الأسباب القدرية، فيقيض الله له من الأسباب والأقدار ما يجعله يواجه ألواناً من الشدة، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه رأى أنواعاً كثيرة من هؤلاء القوم، وفي الحديث الذي رواه أبو داود وسكت عنه لما ذكر الرهبان قال: {شددوا فشُدِّد عليهم} وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: [[شددت فشُدِّد عليّ]] فهذه نتيجة من نتائج التشديد.
فالجدير بالمسلم ألا يأخذ الأمر من الطرف، لا هذا ولا هذا. فالدين ليس بالأهواء ولا بالشهوات، ولا بالميول ولا بالرغبات؛ بل الدين هو النص فإذا قال الله أمراً أو أمر به فيجب علينا ألا نظن أن في هذا لوناً من التشديد، وانظروا إلى قول الله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78] فقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نجاهد فيه حق الجهاد، وهذا أمر شديد على بعض النفوس؛ ولذلك عقب الله عز وجل عليه بقوله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وهذا التعقيب له معنيان:
المعنى الأول: أن الجهاد في الله حق جهاده لا يعني أن يبذل الإنسان شيئاً فوق وسعه وطوقه؛ بل لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
الأمر الثاني: أن كل ما كلفك الله به من الدين فليس فيه حرج ولا تشديد، بل هو التيسير بعينه.
إذاً كل ما إذن كلما كلفنا به من الدين فهو يسر لا تشديد فيه، وكل ما سكت عنه فهو عفوٌ وإتيانه مباح وفق القواعد والضوابط الفقهية المعروفة لدى علماء أصول الفقه.
فالمسلم ليس له أن يزيد ولا أن ينقص.
وقد يقول قائل: فما الضابط في ذلك؟ وما الذي يحكمنا؟
فأقول: الذي يحكمنا هو النص إذا قال الله وقال رسوله بطل قول فلان وفلان من الناس، وليس لأحد قول مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الضابط وهذا هو الميزان.
انظروا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل أهله؟ وكيف كان يعامل أصحابه حتى المنحرفين أو المخطئين؟ بل وكيف كان يعامل الكفار؟
أولاً: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته تحذيراً شديداً من الغلو والتنطع في الدين، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يحرم الرفق يحرم الخير كله} وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا
في موقف مع أشر خلق الله وأكثرهم عداوة للرسول صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا، تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة رضي الله عنها بالرفق، وينهاها عن العنف، ويبين لها أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، فإذا كان هذا الأمر مع هؤلاء القوم، فما بالكم بأسلوبه صلى الله عليه وسلم مع المقربين منه من المؤمنين؟!
{قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحد والجوانية- موضع قرب المدينة فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها قال: وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، قال: فلطمتها أو صككتها صكة -وكأنه يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ما كفارة ما فعلت- فعظم ذلك عليه، قلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة}.
الشاهد من هذا الحديث أن هذا الرجل تكلم في الصلاة بكلام لا يجوز فيها، فشمت من عطس، ثم قال: واثكل أماه! لما صمته الناس، ومع ذلك كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم هو ما رأيتم، فأعجب بأسلوبه صلى الله عليه وسلم، وانفتحت نفسه ليسأل عن دينه.
أما لو ووجه مثل هذا الرجل الجاهل بأمر دينه بأسلوب الغلظة والقسوة لربما دعاه ذلك إلى أن يخرج من دينه، أو على الأقل أن يترك ما يجهل من أمر دينه فلا يسأل عنه.
إذن هكذا كان أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة مثل هؤلاء الناس.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم شأنهم في ذلك شأن غيرهم من البشر، فيهم وفيهم، فيهم من يميل إلى التيسير، وفيهم من يميل إلى التشديد، لكن فرقهم رضي الله عنهم عن غيرهم من الناس أنهم يقفون عند النص لا يتعدونه، فإذا ثبت لديهم النص عن الله أو عن رسوله، خالفوا كل ما يهوون أو يشتهون أو يريدون، واتبعوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ من الحديث أنه يجوز للإنسان ويقول له: أن يبول وهو قائم، إذا كان في ذلك استتار عن الناس، وإذا لم يكن في أرض صلبة يتراشق منها البول على ثيابه أو على جسده، وهذا الحديث كما ذكرت لكم في صحيح مسلم.
انظروا إلى امرأة من أصحابه صلى الله عليه وسلم تسمى الحولاء بنت تويت { وكانت عند
يقول: {كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت: قلت بلى يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير -كأنه يعتذر بهذه الكلمة، لأنه علم من ملابسات الحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحضره، أو أراد أن يناقشه فيما فعل على سبيل تعديل هذا الأسلوب في العبادة- فقال له صلى الله عليه وسلم: فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً -فلا يجوز للإنسان أن يفرط في حق من هذه الحقوق، بل يجب أن يؤدي حق الجسد وحق الزوج وحق الناس، إضافة إلى ما يقوم به من العبادة بصورة ميسرة- ثم قال له صلى الله عليه وسلم: صم يوماً، وأفطر يوماً، وهو صيام داود عليه الصلاة والسلام فإنه كان أعبد الناس، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، قال: واقرأ القرآن في كل شهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشر، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فأقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك -ثم كرر عليه صلى الله عليه وسلم الملاحظة التربوية بقوله- فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، يقول
صلى الله عليه وسلم مشغول بأمور الجهاد، ومشغول بأمور تعليم الناس الدين، ينـزل عليه الوحي بكرة وعشياً، ومع هذا كله يتبسط صلى الله عليه وسلم في طريقته مع أهله، إلى حد أن يقف مع عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم وهم يلعبون، فلا ينصرف حتى تمل هي رضي الله عنها، فتنصرف فيتركها صلى الله عليه وسلم.
هذا الأسلوب الذي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه بصورة نظرية دربهم عليه عملياً، فها نحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى برجل يشرب الخمر فيجلده، ثم يؤتى به أخرى فيجلده، ثم يؤتى به مرة ثالثة فيجلده، فيقول رجل من الصحابة: أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به- أي ما أكثر ما يؤتى بهذا الرجل شارباً للخمر -فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فيما أعلم أن هذا الرجل يحب الله ورسوله، وهذا لا يعني التقليل من خطر الخمر، بل من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، وفي الحديث الآخر: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه}.. لكن في أسلوب معاملة العاصي بعد أن يقع في المعصية، يجب أن نحاول أن نساعده على أن يخرج مما هو فيه، نساعده على أن ننتشله من الوحل ومن الوهدة التي وقع فيها، ولا نعين الشيطان عليه، ولذلك في اللفظ الآخر الذي عند البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان} وجيء صلى الله عليه وسلم برجل قد زنى، ولكنه قد تاب توبة نصوحاً، وأحرق الندم قلبه، فكان يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، فينصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى، فيقوم يجلس قبالته، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، ويأتي ثالثة، ورابعة، فلما ثبت أنه وقع في الزنا، يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم به فيرجم، فلما رجم سبه بعض الصحابة، فاستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه بعد ثلاثة أيام من رجمه: {استغفروا لـ
انظروا إلى حرارة الإيمان في القلب، نعم وقعت في فاحشة، ولكن الله عز وجل وصف المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136].. لقد تابت إلى حد أنها جادت بنفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم، ولقد جاءت وهي تعلم أنها سترجم، فتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: الطريق مغلق أمام الالتفات كما التفت عن ماعز، لأنها حبلى من الزنا، ثم يرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إذا وضعت فأتيني، فلما وضعت جاءت بالغلام، كان بإمكانها ألا تأتي، ولكنها جاءت لأنها قد تابت توبة نصوحاً، فلم ترض إلا أن تُطَهَّر في الدنيا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تفطمه، فبعد فترة جاءت بالغلام وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تعطي دليلاً عملياً على أنها فطمت الغلام، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها فرجمت، فرشق شيء من دمها على أحد الصحابة فسبها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} أو: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من وقعوا في المعاصي، بل هكذا يتعامل معهم حتى بعد أن أقيمت عليهم الحدود، وغادروا الدنيا، كان يصون أعراضهم صلى الله عليه وسلم من أن يسبهم أحد أو يتناول منهم أحد؛ لأنهم مؤمنين ينغمسون في أنهار الجنة، فلا يحق لمؤمن أن يتعرض لهم بسوء، بل يجب عليه أن يستغفر لهم كما أمر صلى الله عليه وسلم.
وأمام هذه الآلام كلها، واجه ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: {بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكانت نتيجة هذا الأسلوب الحكيم منه صلى الله عليه وسلم: أن كثيراً من هؤلاء القوم كان مصيرهم أن يدخلوا في دين الله، فإن لم يدخلوا في الدين، فعلى أقل الأحوال كانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون إليه الأسرار والأخبار ولا يمالئون عليه الأعداء.
انظروا! هذا الرجل الذي كان بالأمس خصماً للرسول صلى الله عليه وسلم يسلم بأسلوب المعاملة، ويصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، وبلده أحب البلاد، ودينه أحب الأديان، ويصبح خصماً لقريش، يخبرهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد علا واستوسق، فلا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعلني أطلت عليكم بسياق هذه القصص، ولكن الأمر كما يقول الشاعر:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع |
إن أفضل ما بذلت فيه الأوقات هو معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى نعرف أسلوباً عملياً ندرك من خلاله كيف نعامل الناس، كيف نعامل أهلنا في بيوتهم؟ وكيف نعامل أولادنا؟ وكيف نعامل الآخرين؟ وكيف نعامل الفساق، بل وكيف نعامل الكفار؟ لكن لا من منطلق التساهل والتفريط؛ بل من منطلق الدعوة إلى الله، نفعل ذلك كله بروح الداعية الذي يريد أن يؤلف قلوب الناس على الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: الإجابة على هذا السؤال سبقت، فقد ذكرت لكم أن الله عز وجل لما أمرنا أن نجاهد فيه حق جهاده، عقب على ذلك وقال: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] إذاً فالجهاد حق الجهاد ليس فيه حرج، لأنه من أمر الله، والله يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى في الشريعة وفي العقيدة وغيرها، فصلاة الجماعة يسر لا حرج فيها ولا مشقة، وكل ما في الأمر أن المسلم الذي فهم معنى الإسلام حقيقة عليه أن يعرف هل هذا الأمر من الدين أم لا؛ فإذا كان من الدين لا يدخل أهواءه في ذلك، وإذا لم يكن من الدين فالمجال أمامه مفتوح أن يفعل أو لا يفعل، فعلى سبيل المثال: صلاة الجماعة في القرآن والسنة لها أدلة كثيرة جداً تدل على وجوبها، وليس هذا مجال بسطها، ويكفي منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى: {أجب} وقوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.. إنَّ المشفق على هذه الأمة والحريص عليها والرحيم بها يحرق أو يهم بتحريق قومه بالنار، وما هم بتحريقهم إلا لفعلهم جرماً عظيماً، وصلاة الجماعة تفعل حتى حال القتال والمسابقة، كما في صفة صلاة الخوف الكثيرة، ولذا صلاة الجماعة واجبة، على القول الصحيح عند جمهور العلماء والصحابة والتابعين، وإذا علم المسلم أنها واجبة، فليس عنده خيار أن يقول: إن الله كلفنا المشقة، اللهم لو كان هذا الإنسان كبير السن؛ لا يستطيع أن يسير إلى المسجد إلا بكل كلفة وصعوبة، أو يشق عليه هذا الأمر من مرض أو من غيره من الأسباب الطارئة، أما المسلم المعافى القادر، فليس له عذر بحال من الأحوال، وصور نفسك مكان عبد الله بن أم مكتوم، أعمى، بعيد الدار، ليس له قائد يلازمه، وبينه وبين المسجد وادٍ كثير السباع والهوام، يجيبه الحريص على الأمة والمشفق عليها بقوله: {أجب}.
الجواب: إن بعض الناس يأخذون من الأحكام والفتاوى ما يناسبهم ويسهل عليهم، ويرون أن هذا من يسر الدين، وهؤلاء الناس هم أحد صنفين:
إما أنهم طلاب علم، ويملكون معرفة الأدلة والبحث في كل مسألة، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يأخذوا بالأسهل، بل عليهم أن يبحثوا؛ حتى يترجح عندهم بالدليل الصحيح قول من الأقوال، فيعملوا به، بغض النظر عما إذا كان أسهل، أو أشد.
الصنف الثاني: أن يكونوا من العوام ممن لا يملكون البحث ولا طلب العلم، فهؤلاء حكم العلماء وأهل الأصول بأن شأنهم التقليد، فينظر إلى عالم من العلماء الذين يثق بعلمهم ودينهم، وعفافهم وصيانتهم، ويتابعه فيما يشكل عليه من أمور دينه، ويأخذ فتواه ما يرى منها صعباً وما يرى منها سهلاً، أما أن تسأل هذا الشيخ عن مسألة، فإذا أفتاك بما تحب أخذت به، وإذا أفتاك بما تكره ذهبت إلى غيره، فهذا يخشى أن يكون فيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إن أفتاكم بما تحبون فأقبلوا، وإن أفتاكم بغير ذلك، فاحذروا، فالمسلم قد عقد العزم على المتابعة لله، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وكلمة الإسلام غالية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان.
الجواب: هذا أيضاً سبق الإجابة عليه أثناء هذه الكلمة، فالمسلم لا يعبأ لا بالمعروف ولا بالعرف، ولا بما درج عليه الآباء والأجداد، وإنما شأنه وديدنه اتباع النص، وكما يقولون: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ويقول الآخر:
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر |
فالمتبع للسنة آمن في الدين، أما الذي يتبع الأهواء والمألوف فهو مخاطر، ولذلك أقول ليس عرف الآباء والأجداد من مصادر هو التشريع، مصادر التشريع هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وما تبع ذلك من المصادر التي عدها الأصوليون وأقروها، أما الرؤى والأحلام والقياس الفاسد، والرغبة والهوى، والأشياء التي أخذناها عن الآباء والأجداد، فهذه كلها ليست من مصادر التشريع، ولا تحل حراماً، ولا تحرم حلالاً، ولذلك أحذر إخواني من التأثر بذلك، وقبل أن أترك الجواب عن هذا السؤال أحب -أيضاً- أن أشير إلى ناحية أخرى؛ قد يكون هناك أمور كثيرة درج الناس على خلافها، فاعتادوا غيرها، فيأتي طالب علم يعلم أن هذه الأشياء لا بأس فيها، فقد يصادم الناس بأمور لم يتعودوها، فيترتب على ذلك مفاسد، وتثور فتن في أمور بسيطة، ولذلك تجد -مع الأسف- المسلمين مشغولين بقضايا تافهة؛ لأنها ليست من الدين أصلاً، إنما هي من عقولهم حاولوا أن يبحثوا لها عن أدلة، فهم مشغولون في أمور فلكية، أو في صناعات، أو في أمور طبية، أو اجتماعية أو غيرها ليس لها حكم في الإسلام، بل هي من الأمور المسكوت عنها، المتروكة لاجتهاد البشر، ومع ذلك تثور المعارك بينهم من أجل ذلك، فالأولى بطالب العلم أن يكون حكيماً في إيصال ما لديه من العلم إلى الناس، وألا يصادم العامة بما يكرهون، حتى لا يصيبه ما يكره، وحتى يقبلوا منه ما عنده من الحق، والإنسان يجب أن يأتي الأمور من أبوابها.
الجواب: الحقيقة أنا فهمت من أول السؤال فهماً، وفهمت من آخره فهماً آخر؛ لأنه في أوله يقول: يتندر بفتاوى غريبة، ومعنى يتندر: يجعلها من النوادر، أي من الحكايات التي يضحك منها -هكذا افهم- وفي آخر السؤال يقول: ويرون اتباعها من التيسير في الإسلام، فإن كان المقصود من المعنى الأول أنهم يتناقلون فتاوى غريبة لبعض العلماء ويضحكون منها، فأقول: كتب الفقهاء رحمهم الله كثيرة جداً، وقد أستفرغوا وسعهم في خدمة هذا الدين، وكتابة المسائل وإيجاد الحلول لها على وفق اجتهادهم وما يبلغ إليه علمهم، وهم ليسوا معصومين من الخطأ بحالٍ من الأحوال، ولكن لا يجب أن تتخذ أخطاء العلماء فكاهات يتندر بها في المجالس، ويضحك منها، فإن كان في بيانها مصلحة للآخرين كالتحذير منها، فهذا قد يكون لا بأس به والله أعلم، خاصة لو كانت هذه من الأخطاء والشذوذات المشهورة، أما إن كان مقصود السائل المعنى الثاني وهو أنهم يأخذون ما يعجبهم من فتاوى العلماء، ويرون أنه من التيسير، فقد سبقت الإجابة على هذا السؤال قبل السابق.
الجواب: أقول: هذا الكلام لا يضر، لأن الإنسان إذا كان واثقاً من طريقه، لا يلتفت إلى المشككين، إنما الذي يلتفت إلى المشككين هو المتشكك من طريقه، إذا كان هناك طريق تسلكه -مثلاً- من البيت إلى المسجد في اليوم خمس مرات، ثم جاءك إنسان، وقال: ليس هذا طريق المسجد، أو ضحك بك، وقال: أنت تريد المسجد: طريق المسجد هذا، وليس الذي تسلكه، لا تلتفت إلى هذا الإنسان؛ لأنك تعلم أنك على الحق، وأنه مشكك، فالواثق من طريقه لا يلتفت إلى تشكيك المشككين..
وأقول: إن بعض الطلاب قد يكون سبب ما يقوله هو الغيرة، وهذا أمر عرفناه، فقد يكون أحد زملائك يرى أنك تحرص على العلم والقراءة وسماع الخير، وحضور مجالس الذكر، فيحسدك لذلك، ويشهر بك ويصفك بالنفاق أو الرياء كنتيجة للغيرة التي تأكل قلبه، فعليك ألا تلتفت إليه، بل تعامله بالحسنى، وتعفو عنه، وتصفح وتستمر في طريقك.
الجواب: صحبة الأخيار هي من أهم المعينات على ثبات الإيمان، انظروا إلى وصية الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].. قد يكون الذي يصدك عن هؤلاء الأخيار صديق سوء، يحاول أن يوسوس لك بتركهم، فهذا نقول له: لا تطعه، كما قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28] وقد يكون الذي يصدك عنهم: نقص في نفسك، فعليك أن تعلم أنه لن يسد هذا النقص إلا طول صحبتهم ومجالستهم، وقد يكون الذي يصدك خطأ موجود عندهم، فيجب أن تعلم أن الأخ لا يسلم من خطأ لا بد أن تحتمل خطأه، ويحتمل خطأك، وإلا فلن تستطيعوا أن تعيشوا جميعاً، وعليك أن تثبت نفسك معهم، وتكون عضواً فعالاً نشيطاً، حتى يوفقك الله، ويستمر هذا الإيمان، وتثبت عليه حتى الموت إن شاء الله تعالى.
الجواب: أما قضية أنه من التيسير، فنحن اتفقنا أن التيسير ليس بالشهوة، إذا اشتهينا شيئاً قلنا هذا من التيسير، وإذا كرهناه تركناه، التيسير دين، ما جاء في النص فهو تيسير، وما منع منه ففعله حرج وإثم ولا يجوز، هذه هي القاعدة التي ننتهي إليها عليها، ففعل المعاصي هو الحرج بعينه، أرأيتم هل هناك حرج أعظم من أن يوجع الإنسان نفسه في سخط الله؟! أو يعرض نفسه لعذاب الله؟! إذا كنت يا أخي مؤمناً بالبعث وبالجنة والنار وعارفاً؛ أنك ستقف بين يدي الله تعالى، فأنت حينئذ مدرك أن الحرج كل الحرج في فعل المعصية، وأما من يحتج بأن الله غفور رحيم فهذا مثل من يقرأ قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ويسكت، ويأتي من الآية بنقيض ما تري؛ في حين أن الآية يقول الله تعالى فيها: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] فيعد من سهى عن الصلاة وتخلف عنها هو عكس المعنى ووقف عند قوله فويل للمصلين.
نقول إن الله غفور رحيم وهو شديد العقاب، يقول تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأن وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] وقال: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] لو علم الإنسان سعة رحمة الله لطمع في جنته كل أحد، ولو علم الإنسان شدة عذاب الله لما طمع في النجاة أحد، فالله شديد العقاب، وهو غفور رحيم، ورحمة الله لا تنال إلا بالعمل الصالح وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا [الأعراف:156] يكتبها لمن؟! للنائمين!! الناعسين!! الكسالى!! الذين تمنوا على الله الأماني!! كلا... قال تعالى: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
الجواب: السائل يعرض أسلوب بعض الناس في مصاحبة بعض الأشرار، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: الدين يسر وسهوله، ويجب أن ندخل مع هؤلاء الناس، وألا نغلق على أنفسنا عنهم، فأقول:
أولاً: إن كل معصية يعلم الإنسان أنها معصية -قد سبق الحديث خلال هذه الكلمة- ففعلها ليس هو اليسر؛ بل فعلها هو الحرج والعسر، وتركها هو اليسر، فهذه هي القاعدة، فكل معصية إتيانها ليس هو اليسر، فلا تأت المعصية وتقول الدين يسر، ولو كان الدين حرج لكان من المعقول أن تأتي هذه المعصية، لكن ما دام أن الدين يسر والحمد لله، فيجب أن تعلم أن من يسر الدين أن تترك المعاصي كلها؛ لأن التشديد والتيسير أولاً ليس بالهوى والمزاج والرغبة والتشهي؛ بل هو بالنص.
وثانياً: لأن المسلم يعلم أن الدنيا بعدها آخرة، وأن من العسر كل العسر أن يعرض الإنسان نفسه لعقوبة الله تعالى وغضبه؛ فكل معصية يعلم الإنسان أن فعلها حرج وتركها هو اليسر.
وقد يقول قائل: إن هدفي من هؤلاء القوم هو دعوتهم إلى الله عز وجل، فأقول: إن كان الأمر حقيقة في قرارة في نفسك كما تقول فنعم، ولا بأس أن تخالطهم بالأسلوب الحكيم مخالطة جزئية لتدعوهم إلى الله، شريطة أن يكون رفقاؤك الدائمون من أهل الخير والطاعة والصلاح، وجلوسك مع هؤلاء القوم بشكل استثنائي لتدعوهم إلى الله، وشريطة أن تكون تمارس ذلك فعلاً، فلا تتمنى الأماني وتجلس معهم بهذه الحجة وأنت لا تغير شيئاً، وشريطة أن تكون قادراً على التغيير والدعوة، وتلحظ فيهم شيئاً من الاستجابة، ويجب أن تعلم أن الله مطلع على حقيقة نيتك وقصدك وما تكنه في قلبك.
الجواب: النوافل -أيها الإخوة- على أنواع، فهناك السنن الرواتب وهي معروفة، وهناك نوافل حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {بين كل أذانين صلاة} أي: بين كل أذان وإقامة سنة، وقال في الثالثة: لمن شاء، وكقيام الليل وما أشبه ذلك، فإذا فعل الإنسان نافلة من النوافل المطلقة التي لم يرد فيها نص خاص، فإن كان هذا الأمر منسجماً مع ما ذكرنا معطياً كل ذي حق حقه، ولم يبالغ في الزيادة في التعبد، فهذا الأمر لا يعتبر تشدداً. ولكن لو أن إنساناً زاد في ذلك كما يفعله -أحياناً- بعض الصوفية -أو كثير من الصوفية - فتجد أنهم يقومون الليل كله، فلا شك أن هذا الأمر غير مشروع أن يستمر عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم وينام، وقد أرشده الله تعالى إلى ذلك بقوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً[المزمل:2-4].
إذن فالمبالغة في الإكثار من التعبد بدعة، والمبالغة في ذلك تكون بتعدي المشروع.
وهناك صورة أخرى تعتبر بدعة وهي أن يشرِّع الإنسان نوعاً من العبادة غير مشروعة؛ لأن العبادات توقيفية فلا يخترع الإنسان من عند نفسه عبادة ويداوم عليها، فلو أن إنساناً داوم على لون من الصلوات -غير المشروعة- في يوم محدد وفي وقت محدد كما يفعله كثير من الناس فيما يسمى بنوع من أنوع الصلاة، وقع فيه كلام بين العز بن عبد السلام وغيره من العلماء، وقد تكلم فيه الإمام النووي وابن الصلاح وغيرهم، ويسمون هذه الصلاة: صلاة الرغائب. فمثل هذه الصلاة وغيرها من الصلوات التي يخترعها الإنسان نقول: لا يجوز أن يبتكر الإنسان من عند نفسه طريقة معينه في التعبد، أما الصلوات المشروعة أو السنن المطلقة، فهذه كلها لا شيء فيها؛ بل يثاب الإنسان على فعلها.
الجواب: نعم، أما أن الإمام لا بد أن يكون متماً لجميع الشروط والأركان فهذا لا شك فيه، فالأركان والشروط والواجبات لا بد من الإتيان بها جميعاً، ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يترك الإمامة؛ لأنه حتى وإن كان مأموماً يجب عليه أن يأتي بالأركان والشروط والواجبات، ويستحب له أن يأتي بالسنن والمستحبات، فلا أرى أن يترك هذا الإنسان الإمامة اللهم إلا إن كان يوجد في المسجد من هو أجدر منه بالإمامة فهذا أمر آخر.
الجواب: أقول: أولاً: يجب أن نفرق بين الدعوة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعل مفهوم الدعوة أوسع من مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تدعو إنساناً وإن لم تر عليه خطأً، وقد تدعوه ابتداءً إلى أمر من أمور الدين، وقد تدعو الناس عموماً وتشرع لهم ما يهمهم من دينهم، وإن كنت لا تعلم منهم تقصيراً في ذلك أو إخلالاً به، فهذه دعوة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون لمن قصّر بالإتيان بالمعروف، أو فعل أمراً منكراً، فيجب على من رآه الإنكار عليه، فينكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.
وهنا أحب أن أنبهكم -أيها الإخوة- إلى أنه لا يمكن أن يوجد مؤمن على ظهر الأرض يرى المنكر -ويعلم أنه منكر- فلا يتحرك قلبه البتة، فإذا كانت رؤيته للمعروف ورؤيته للمنكر سواء، فهذا ليس بمؤمن- والعياذ بالله، فأقل مراحل الإنكار هو أن يكره قلبك هذا المنكر، ويعلم الله أنك كاره له.
أما هل يجب على الإنسان أن يغير: فليس بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم مقال لأحد، فيغير بحسب ما يستطيع، وبحسب الظروف التي تحيط به، ولكن قد يكتنف المنكر ظروف تجعل الإنسان يفكر قبل أن يغير، فإن كان يترتب على التغيير منكر أكبر فلا يجب التغيير، كما مر معنا في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فهو فعل منكراً ومع ذلك لم يغيره الرسول صلى الله عليه وسلم في البداية؛ لأن التغيير المباشر كان يترتب عليه أن يلوث المسجد كله، وكان يترتب عليه أن يحبس هذا الرجل بوله وهذا يضر به؛ إضافة إلى أنه يترتب عليه كراهية هذا الرجل للدين وأهله، فإذا ترتب على النهي عن المنكر منكر أكبر منه حرم التغيير، وإذا ترتب عليه منكر مثله فهذا مجال اجتهاد، وإذا ترتب عليه منكر أصغر منه، أو لم يترتب عليه منكر وجب التغيير، ولشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله كلام في ذلك يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه.
الجواب: الذي أراه أن من واجب الشاب المسلم أن يكون أنموذجاً في كل مكان، وأن يعطي لأهله القدوة الحسنة؛ لأن هذا الشاب مطلوب منه أن يؤدي دوره داخل البيت في إزالة المنكرات، وفي تعليم أهل البيت ما يجهلونه من أمور دينهم، فإذا كان لا يجلس في البيت إلا قليلاً انشغالاً مع أصحابه أو كراهية للجلوس في البيت؛ لأنه قد يوجد فيه بعض الأشياء التي تضايقه، فإن هذا يترتب عليه ضعف تأثيره في البيت، فيزداد ما في البيت من المنكرات والمعاصي، ويصبح في البيت شخصاً عادياً لا تأثير له.
والذي انصحهم به أن يدخلوا مع أهلهم ويشتغلوا بقضاء حوائجهم ويشاركوهم في مناسباتهم، ومع ذلك يحرصون على أن يكونوا مؤثرين بالأسلوب اللين الحسن، فإن العادة أن الكبير قلّ أن يقبل من الصغير، إلا إن كان ممن وفقه الله بقبول الحق ممن جاء به، كبيراً كان أم صغيراً؛ ولذلك عليك ألا تكون قاسياً؛ بل اطرح ما لديك بأسلوب جيد.
ومن الأساليب الجيدة إذا أردت أن تعطي أهلك أو تبلغهم بأمر من الأمور ألا تأتي به من نفسك؛ لأنهم سيقولون حينئذ: أنت لا تفهم شيئاً من أمور الدين، فالحل أن تختار كتاباً لأحد العلماء المشهورين، فيه نفس المسألة التي تريد أن تقولها، فتأتي لأهلك فتقرأ عليهم هذه المسألة من هذا الكتاب، وتقول لهم هذا كلام الشيخ فلان بن فلان؛ لأنهم حينئذ سيقبلون الكلام لا لأنه منك، ولكن لأنه من كلام الشيخ فلان بن فلان، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة.
الجواب: لا ليس متشدداً، بل القائم بعمل سنة من السنن مثاب مأجور على عمله، وهو أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المفرطين والكسالى والقاعدين.
وأقول بهذه المناسبة: أيها الإخوة، إن استطعنا أن نقوم بالسنن التي يستحب لنا فعلها فبها ونعمت، وينبغي لنا ألا نحرم أنفسنا هذا الخير، فإن لم نستطع فعلى أقل الأحوال علينا أن نكون معينين لمن يقوم بهذه السنة، وعلينا أن نفرح إذا سمعنا من يؤديها ونشجعه على ذلك، ونثني عليه خيراً ليكتب لنا بعض الأجر مقابل تشجيعنا لعمل الخير، فقد قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وهذا من التعاون على البر والتقوى.
الجواب: أما قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} فهو حديث صحيح، لكن المقصود هنا بالرخص هي الرخص التي تنسب إلى الله، فرخصه، أي: رخص الله تعالى التي رخصها لنا، مثل القصر في السفر فهو مستحب، وقال بعضهم هو واجب، ومثل الجمع في السفر لمن احتاج إلى ذلك، ومثل الفطر في السفر لمن احتاج إلى ذلك، فهذه كلها من الرخص الشرعية، وهناك رخص للمحتاجين والمضطرين معروفة في كتب الفقه.
أما قول بعضهم: من تتبع الرخص فقد تزندق، فلعلهم يقصدون بها من تتبع الرخص الفقهية، بمعنى: أن أبحث في المذاهب الفقهية فإذا وجدت مذهباً يرخص في أمر من الأمور اتبعت هذه الرخصة لا لأنها رخصة شرعية، ولا لأن الدليل معها، ولكن لأن فيها تيسير وأنا أحب الرخص، فآخذ من كل مذهب ما يناسبني من الرخص، وهذا قد يكون فيه نوع من الانحراف بلا شك؛ لأن كل مذهب فيه رخص، فإن شئت أن تأخذ بالمذهب كله بشدائده ورخصه فنعم، وإن شئت أن تبحث في الأدلة الشرعية وتعرف الحلال من الحرام بالأدلة إن كنت أهلاً لذلك، فهذا هو المتعين عليك، أما أن تأخذ بالتشهي ما يروق لك ويعجبك فهذا لا ينبغي ولا يصلح.
الجواب: أوجه هؤلاء بالكلام الذي سقته في الكلمة السابقة.
فإذا كنت تخاف من عذاب الله فاعلم أن الذين يعذبون بعذاب الله نوعان:
النوع الأول: هم المفرطون في حدود الله من الكفار والفساق وغيرهم.
النوع الثاني: هم المتعدون لحدود الله، وانظر إلى الخوارج مثلاً حيث كانت جباههم دائماً في سجود على الأرض حتى أثر فيها ذلك، فصارت كأخفاف الإبل، وكانوا أمضاغ عبادة وأطلاح السمر، صفر من كثرة الصيام والقيام وقراءة القرآن، فيقرءونه رطباً ولكن لا يجاوز حناجرهم، وقال عنهم صلى الله عليه وسلم: {كلاب النار} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم مالهم عند الله من الأجر لاتكلوا أو نكلوا عن العمل} وقال: {شر الخلق والخليقة} وقال: {شر قتلى تحت أديم السماء} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد -أو قتل ثمود- }.
إذن فالمعذبون قسمان: المفرطون في حدود الله، والمتعدون لحدود الله، والمطلوب من المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله لا يتعداها ولا يقصر دونها.
الجواب: لعلي أشرت إلى نوع من ذلك، وأذكر أنني أعلم بعض الأشخاص -والعياذ بالله- أتاهم الشيطان من جهة الوضوء، فصاروا يكررون الوضوء ويشكون فيه حتى يتعبون فيه أشد التعب، فإذا انتهى أحدهم من الوضوء بدأ بالصلاة بحجة صلاته غير صحيحة وتعب فيها أشد التعب إلى أن وصل بهم الحال إلى ترك الوضوء وترك الصلاة -والعياذ بالله- وهذا غاية ما يريد الشيطان. فالأمر خطير، ولذلك أقول: على الإنسان أن يعرف أن هذا نوع من الوسواس الذي لا يجوز، والذي قد يودي بالإنسان إلى المهالك، فعليه أن يتوضأ كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً طبيعياً يمر الماء على جسده، إن توضأ مرة أجزأه وكفى، وإن توضأ مرتين أو ثلاث فهي السنة ما خلا الرأس فأنه لا يشرع إلا مسحه مرة واحدة، يبدأ بمقدمة رأسه فيقبل ويدبر -يردهما إلى قفاه ثم يدبر بهما- فهذا هو المشروع في الوضوء.
أما المبالغة في التطهر فلقد علمتم فيها ما علمتم، ورأيتم فيها ما رأيتم، ولعلكم تسمعون بأشياء كثيرة غير ما أشرت إليها.
فعلى الإنسان أن ييسر في أمور دينه، وإذا كان مبتلى بالوسواس فالذي أنصحه به نصيحة أخوية ألا يلتفت لهذا الوسواس لفترة معينة، شهراً أو أكثر من ذلك، وسيجد بعد ذلك أن الشيطان قد خنس وتركه ويئس منه؛ لأن من شأن الشيطان كما وصف الله: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4] فأنت إذا تعرفت بالشيطان طمع بك، وإذا أعرضت عنه تركك وذهب يبحث عن آخر، فأنصح من ابتلي بشيء من ذلك ألا يلتفت إلى شيء من هذه الوسوسة، بل يتوضأ كما يتوضأ غيره، ويصلي كما يصلي غيره لفترة، وسيجد بعد ذلك أن الأمر صار بالنسبة له طبيعياً.
الجواب: أما قضية إنكار المنكر فأقول: إن هذا واجب، لكن كيف تنكر المنكر؟ قد تنكر المنكر بأسلوب يترتب عليه ما هو أشد مما أنكرت، وقد تنكر المنكر بأسلوب يحببك إلى من أنكرت عليه، ودعونا نقف عند الأمثلة التي ذكرتها في المحاضرة، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، هل كان يسكت عن المنكر؟ كلا، بل كان ينكر على كل من فعل خطأ لكن ينكر بالأسلوب المناسب، وبالأسلوب الحكيم، فقد أنكر على من تكلم في الصلاة، وأنكر على من بال في المسجد، ولكن كانت طريقته في الإنكار طريقة محببة تدعو إلى القبول والاستجابة، وليست طريقة شديدة تدعو إلى النفور من هذا الأمر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ولكن بالحكمة والأسلوب المناسب.
أما النقطة الثانية: وهي قضية الهجر، فأقول: الهجر أنواع: فإن علمت أن هذا العاصي قد يرتدع بالهجر كان هجره مطلوباً حينئذٍ، كما لو كان شخصاً يجلك ويحترمك ويقدرك فإذا هجرته تضايق من ذلك وأقلع عما هو فيه، أما إذا علمت أن هجرانك لهذا العاصي قد يزيده معصية، ويجعلك لا تنكر عليه شيئاً، ويجعله إن كان يجاملك في الماضي بأشياء ربما لا يبالي بك بعد هجره، فحينئذٍ يكون عدم الهجر أولى من الهجر، فالهجر أمر مصلحي يخضع لنوعية الشخص المراد هجره، وطبيعة الظروف المحيطة به.
الجواب: هذا لا شك يتعلق بموضوع كراهية أهل المعاصي.
وأقول: كراهية ما عليه أهل المعاصي أمر مطلوب حتى قبل أن تقدم لهم شيئاً، فيجب أن تكره ما هم عليه من المعصية، فتحبهم بقدر ما عندهم من الطاعة وتكرههم بقدر معصيتهم، وقد يجتمع للإنسان أحياناً حبٌ وكرهٌ في نفس الوقت، فتحب منه أشياء وتكره منه أشياء، فإذا قدمت ما بوسعك وكرهتهم حينئذٍ فلا أرى في هذا شيئاً، ولكني لا أرى أن ييأس الإنسان ويلقي بالسلاح؛ بل أرى أن يبذل كل ما يستطيع، وإذا عجز هو فليوصي غيره من زملائهم أو مدرسيهم، أو جيرانهم، أو أصدقائهم، ويكثر من الدعاء لهم ويتألف قلوبهم بالأسلوب المناسب، ولعل الله أن يهديهم ويقر بهم عينه في الدنيا والآخرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر