بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وألفه من ثلاثة عناصر هي: البدن الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله، والعقل الذي هو نور رباني فضل الله به هذا الإنس البشري على سائر الحيوانات، وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة قابل للتطوير والنماء والزيادة من الخير، وقابل للتردي والرجوع إلى أسفل سافلين؛ فلذلك احتاج الإنسان إلى التربية وزيادة أدائه في مجالاته الثلاثة، فتربية البدن تكون بالحفاظ على الصحة والتغذية والنظافة، وتربية العقل تكون بالتفكير السليم في المواطن المأذون للعقل في التدبر فيها، وبزيادة العلم، وتربية الروح إنما تكون بترقيقها، وإزالة ما فيها من العيوب والأدران والأوساخ، وتحليها بصفات المؤمنين وتخليها عن صفات المنافقين، وهذه الأمور كلها ممكنة، فالإنسان يمكن أن يعالج نفسه حتى يتعود على المهارات التي لم يكن يكتسبها فيعود بدنه على حمل الأثقال، وعلى تلقي الصعوبات، كما أنه يمكن أن يروض نفسه على فهم العويص، واستيعابه بزيادة معلوماته حتى يتسنى له فهم ما غلب غيره، ويمكن أن يحسن أخلاقه، وأن يزيد تقواه وقربه من الله سبحانه وتعالى بتربيته لنفسه، وإذا أهمل الإنسان نفسه ودساها فإنها لا تزال تزداد درناً وبعداً عن الله سبحانه وتعالى، وانغماساً في الملذات والشهوات، واقتراباً من الحيوانات والبهائم، حتى يسخط عليه الله جل جلاله، وحتى يطرده عن رحمته؛ ولذلك أقسم الله جل جلاله أحدى عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من دساها أي: دسسها وأهملها، فقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].
وهذه التربية تمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الإنسان فيها متلق غير مشارك في التنفيذ ولا في التخطيط، كالولد الصغير، فإن أبويه يعلمانه أو من يقوم مقامهما ويكسبانه ما أرادا من الأخلاق فهو صفحة بيضاء قابلة للخير والشر كما قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فبحسب الصحبة والعناية ينشأ الإنسان، فإما أن ينشأ على طاعة الله والقرب منه، والتوجه إليه، فيكون شاباً نشأ في عبادة الله، ويكون موعوداً بظل الله الأكبر يوم لا ظل إلا ظله كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).
وإذا كانت الأخرى فإنه سينشأ بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد في العمر كلما ازداد اتباعاً للشهوة، ورغبةً في أمور الدنيا، فيدبر عن باب الله جل جلاله، ويقبل على متاهات الدنيا الفانية، وبذلك يزداد بعداً ويقطع أشواطاً طويلةً فينقطع عن طريق الحق، ويتردى في الوحل، وإذا حاول الاستقامة والرجوع فإن الأمر سيكون شاقاً بالنسبة إليه، فيشق عليه أن يترك ما تعوده لسنوات طويلة، ويشق عليه أن يترك ما كان محباً له لسنوات طويلة، لكن الأمر يبقى قابلاً للرجوع، ويبقى الباب مفتوحاً للتوبة والندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله إلى أن يحصل أحد أمرين:
الأمر الأول: خاص بالإنسان وهو الغرغرة، أي: أن تصل نفسه إلى السياق فتتجاوز صدره، إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]، فحينئذ لا يؤذن له بالرجوع، ولا ينفعه إلا ما كان قد عمل.
والأمر الثاني: عام وهو طلوع الشمس من مغربها، فإن قبل المغرب باباً اسمه باب التوبة، وهو مشرع مفتوح الآن على مصراعيه، والله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، حتى إذا أمسك الله الشمس وأمرت أن تطلع من مغربها فإن ذلك الباب يغلق، فلا تقبل التوبة إلا ممن كان قدم خيراً في هذه الحياة كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158].
فلذلك يحتاج الإنسان بعد تلك التربية في المرحلة الأولى التي كان أبواه يقومان بها بالإضافة إلى عوامل التلقي الأخرى كالمدرسة والصحبة والشارع ووسيلة الإعلام إلى مرتبة ثانية يكون الإنسان فيها مشاركاً في التخطيط والتنفيذ، أو مستنداً بالتنفيذ، وهي مرحلة البلوغ التي يكون الإنسان فيها مسئولاً عن نفسه، وقد بدأ الملائكة يكتبون عليه أعماله، وهو مسئول حينئذ عن تصرفاته، وأغلب الناس لا يدركون هذا التحول والانتقال، فتكون المرحلة الثانية استمراراً للمرحلة الأولى، فإذا كان قد نشأ في المرحلة الأولى صالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها، وإذا كان قد نشأ طالحاً كانت المرحلة الثانية امتداداً لها.
ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوعي والإدراك عندما يبلغ الإنسان أشده، ويعلم أنه قد قطع شوطاً إلى الدار الآخرة واقترب من الموت: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، فيأتي التذكير بالله سبحانه وتعالى، ويأتي الواعظون، وأبلغ الواعظين وعظاً الموت، والشيء مذكر قبل الموت بالانتقال من هذه الدار كذلك، وحينئذ سيحاول الإنسان أن يراجع مسيرة حياته إذا هدي، وسيحاول الازدياد من الخير وهو يعلم أنه في سباق مع الزمن؛ لأنه ما يدري متى يفجؤه الموت، وسيقيس ما فرط فيه في السنوات الماضية والساعات والأيام وهو كثير على ما يحاول الإتيان به مما هو صالح في المستقبل، فقد لا تتاح له فرصة على قدر ما مضى، فإذا بلغ مثلاً ثلاثين سنة وتذكر أن هذه الثلاثين بكاملها لم تكن فيما هو مرضي عند الله سبحانه وتعالى، وكان الذي يقرب من الله فيها أعمال قليلة وهي مدخولة، فهو يتذكر صلاته وما فيها من النقص، ويتذكر طهارته، ويتذكر ما فيه من الإخلال بحقوق إلهية، وما لديه من النقص في الإخلاص لله جل جلاله، ومع ذلك ما معه من المخالفات سواءً كانت من الكبائر والفواحش، أو من الصغائر واللمم، فإذا تذكر ذلك علم أنه قد لا يتاح له أن يعيش ثلاثين سنةً أخرى حتى يمحو بها ما عمل خلال الثلاثين السابقة، وأيضاً لو قدر أن عاشها فلم تخل كلها لكفة الحسنات، بل سيكون فيها دخل كثير ونقص؛ فلذلك يحتاج إلى الرشد في هذه المرحلة والتنبه لنفسه.
وليعلم أن لله سبحانه وتعالى نفحات، وله مواسم خيرات، من شارك فيها فإنه رابح ربحاً عظيماً يمكن أن يجد في الليلة الواحدة ما هو خير من أربع وثمانين سنة إذا وفق مثلاً لقيام ليلة القدر فليلة واحدة خير من ألف شهر، خير من أربع وثمانين سنة، وقد يجد الإنسان ليالي قدر أخرى ليست كليلة القدر العامة التي ينالها الناس، بل ليلة توبة الإنسان التي يتوب الله عليه فيها، وليلة إقباله على الله بقلب صادق فيوفقه فيما بقي من عمره، والليلة التي يكتب فيها ممن حسنت خاتمته، هذه الليالي هي مضاعفات للإنسان، وفيها تثقيل لكفة حسناته، وفيها خير عظيم له؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـكعب بن مالك رضي الله عنه لما نزلت توبته: ( ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )، فما مر عليه يوم منذ ولدته أمه خير له من هذا اليوم الذي تاب الله فيه عليه وغفر له جميع ذنوبه وسيئاته.
ولذلك يحتاج العاقل إذا بلغ المرحلة الثالثة من مراحل التربية -وهي مرحلة الرشد- أن يحرص على ما يقربه من الله، وما يثقل موازين حسناته؛ ولذلك فإن لله ملائكةً سيارين في الأرض، يبحثون عن المجالس المرضية عند الله جل جلاله، فيحاولون تكثير سوادهم وتثبيتهم؛ لأن الملائكة يتنزلون بالثبات على المؤمنين كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
فتتنزل الملائكة لتثبيتهم؛ ولذلك يبحثون عن هذه المجالس فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، ويبقون معهم على ما هم فيه فيعدون ممن شاركوا في هذا المجلس، ولا شك أن الإنسان الآن لو ذكر له ولي من أولياء الله، وصالح من الصالحين في مكان يمكنه أن يصل إليه وأن يحضر مجلسه، وأن يسمع منه، وأن يحضر في دعائه لحرص على ذلك إذا كان عاقلاً، ولو ذكر له نبي من أنبياء الله، أو صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس لحرص على أن يذهب إليه ولو على شق الأنفس ليلقى ذلك الصحابي الجليل، لو ذكر لكم مثلاً أن عمر بن الخطاب في مسجد هنا الليلة في هذه العاصمة، أو أن أبا بكر أو أن بلالاً أو أن أبا هريرة أو أي واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الليلة في مسجد من هذه المساجد لحرصتم على الذهاب إليه حرصاً شديداً، لكن هذه المجالس الآن بالتحقيق تحضرها ملائكة كرام، وهي تملأ الأفق إلى سماء الدنيا، فهذا المجلس يشهده أعداد هائلة من الملائكة الكرام، كل واحد منهم وحده يستحق أن يسافر إلى مجلس هو فيه، وأن يلتمس دعاءه، وأن تلتمس بركته، وأن يتقرب من المجلس الذي يدعو فيه لعل الله يستجيب دعاءه فينا جميعاً، فهم عباد مكرمون: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
فلذلك كان من فضل الله علينا أن نجد أمثال هذه المجالس التي تجتمعون فيها الليلة لا تريدون عرضاً من الدنيا، وإنما ترغبون في المجالس التي ينظر إليها الله بعين رحمته ويلتمسها ملائكته الكرام، ويحفونها بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، وإلى الجائزة التي تنال في أعقابها وهي المغفرة للجميع، فإن الحديث الصحيح فيه: ( إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فإذا انفضوا أو قاموا رجعوا إلى ربهم، فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيسألهم وهو أعلم فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: وكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: وكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً وعليها أشد حرصاً، فيقول: ومن ماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ).
إنهم يربحون ربحاً طائلاً بحلول مغفرة الله جل جلاله عليهم أجمعين، لكن ربحهم متفاوت تفاوتاً عظيماً يخفى علينا نحن، ولكن إذا فكر كل واحد منا عسى أن يكون ذلك العبد الذي فيهم وليس منهم، فيكون متروكاً لأجل غيره، ومغفوراً له لحساب غيره.
أما الذين يحسبهم الله سبحانه وتعالى عنده من الوجهاء، ويغفر لغيرهم بسبب وجودهم معهم، ولو لم يكونوا يعرفونهم، ولو لم يكن بينهم أي علاقة؛ لأنهم شهدوا معهم هذا المجلس: ( وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم )، مجرد جليس لا يشقى وهو معهم أبداً، انظروا إلى الفرق الشاسع بين المشفعين عند الجبار جل جلاله، وبين المشفوع فيهم، فرق عظيم جداً، فالذي يأتي إلى مثل هذه المجالس وقد أخلص النية لله سبحانه وتعالى متطهراً مستغفراً متعوذاً، وهو يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، ويريد الإقبال عليه بوجهه، ويعلم أنه كلما تقرب إلى الله تقرب الله منه، فالله جل جلاله يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً )، فيأتي متقرباً إلى الله صادقاً تائباً خارجاً من ذنوبه آسفاً على ما فرط في جنب الله، لا شك أنه سيكون أعلى حظاً وأوفر نصيباً من مثل هذه المجالس، وأنه سيكون من المشفعين عند الله جل جلاله.
والذي تفوته النية في بداية الأمر ويفوته الاستغفار والتعوذ والذكر، ويأتي إما لمعرفة ماذا يقوله هؤلاء القوم المجتمعون؟ وإما لهوىً في نفسه ورغبة في مثل هذه المجالس، وإما لحال آخر من العوارض التي تعرض للإنسان فإنه لا يمكن أن يكون من المشفعين الذين هم المقصودون بأصل المجالس، وهم الذين يترك لهم غيرهم.
والمجلس الواحد من هذه المجالس إذا صدق صاحبه وجاءه مخلصاً لله فإنه سيكون محلاً لعناية الله جل جلاله ونظره الكريم، ومن أحبه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخذله ولا أن يرده إلى النار، وقد قرأ عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى قول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، فضحك وقال: والله ما أنقذنا منها ليعيدنا فيها، فهو منزه عن العبث، وإذا أنقذنا من النار فما ذلك إلا بعنايته بنا، وهدايته لنا.
فإذا علم الإنسان أنه إذا كان محل نظر الرب جل جلاله فإنه سيوفق للخيرات، وسيعان على حسن الخاتمة، ويعان على نفسه وعلى شيطانه، وعلى ما بقي من عمره، فعليه أن يهتم بنفسه فيما بقي من عمره، وأن يحرص على الازدياد من الخير قبل فوات الأوان.
ولنعلم جميعاً أن قابلية كل إنسان منا للخير لا نهاية لها، فما من مكان من الخير إذا وصل إليه الإنسان لم يحتج إلى الزيادة، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف خلق الله قبل أن يولد وقبل أن يوجد شرفه الله واختاره اختياراً كبيراً كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر )، مع ذلك يقول الله له بعد أن أرسله وفضله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، فمعناه أننا نحن لا نستغني عن الازدياد من الخير أبداً، ولا يمكن أن يجد إنسان منا نفسه وقد وصل إلى مقام لا يحتاج فيه إلا من يذكره بالله جل جلاله والإقبال عليه.
ولا بد أن ندرك أن في هذه الأرض مجالس كثيرة لا ينظر إليها الله بعين رحمته ولا عنايته، يشتغل أهلها بما لا يرضي الله جل جلاله فيعرض عنهم إما أن يعاملهم بحلمه فلا يعاجلهم بالعقوبة، وإما أن يسخط عليهم فيمقتهم الجبار جل جلاله، ويسلطهم على أنفسهم بالمعاصي، أو يحل بهم قارعةً من القوارع، فإنه لا يعجزه شيء من خلقه جل شأنه.
ومجالس أخرى تكون دون ذلك ليست محل الكراهة والمقت الإلهي ولكنها أيضاً ليست محل التشريف والمحبة، فإذا وصل الإنسان إلى مقام التشريف والمحبة ووجد مجلساً من هذه المجالس فلا بد أن يشد عليه يديه، وأن يعظ عليه بالنواجذ، وأن يعلم أنها فرصة قد لا تتكرر.
ثم بعد ذلك لا بد أن ندرك أن كثيراً منا قد يصادف دعوةً مستجابةً فتفتح له كثيراً مما كان موصداً أمامه، قد يكون محجوباً عن قيام الله، أو عن صيام النفل، أو عن السعة في الرزق، أو عن الفتح في العلم، أو عن الفتح في الدعوة، والجهاد في سبيل الله، أو غير ذلك من الأبواب من أبواب الخيرات، فتفتح له هذه الأبواب التي كانت موصدةً أمامه بدعوة صالحة أو باستجابة دعاء ملأ حضره، والصحبة الصالحة تسمو بالإنسان وتعلو به، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
فالله جل جلاله يغفل من شاء، فيغفل قلبه عن الله جل جلاله، فلا يدور أمر الآخرة في خلده، ولا يفكر في الانتقال من هذه الحياة، ولا يفكر لماذا جاء إلى هذه الدار؟ وكيف كلف فيها؟ وماذا هو مقدم عليه؟ وبماذا قام بما كلف به؟ فيعيش غافلاً كالبهائم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، ويذكرها قليلاً، فيحيي ضمائرهم، ويحيي اليقظة في قلوبهم، فينتبهون إلى أن أمامهم عقبةً لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، وأنهم مكلفون والملائكة يكتبون أعمالهم وأنهم قادمون إلى الله جل جلاله، وسائلهم عما ائتمنهم عليه، وما كلفهم به؛ فلذلك لا يفوتون شيئاً منه، ويحاسبون أنفسهم على كل أعمالهم وكل نعم الله عليهم، وكل تكاليفه التي كلفهم بها قبل أن يحاسبوا؛ لعلمهم أنهم محاسبون مجزيون على حسب ما قدموا، وأولئك هم الذين لا يكتبون من الغافلين.
أما من سواهم فلا يشعرون بالحجب أصلاً قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد أهل الدنيا بلاءً المحجوبون عن الله، وأشد المحجوبون بلاءً من لا يعلمه أنه محجوب، فلا يشعرون أنه لديهم نقص ولا تقصير، ولا يستشعرون أنهم يفقدون شيئاً مهماً، ولا يجدون السعادة التي يجدها الإنسان عند الضراعة إلى الله، وعند الأنس به جل جلاله، وعند الإقبال عليه، فتلك السعادة العظيمة التي يجدها الإنسان وهو يحس بالقرب من الله جل جلاله، وأن الله ينظر إليه بعين رحمته، وأنه يخاطب الله جل جلاله كفاحاً دون ترجمان، ويكلمه وقد فتح له الأبواب أمامه كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.
فإنهم ينالون لذةً لا حدود لها ولا نهاية، كما قال الفضيل بن عياض : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، فـالفضيل بن عياض كان شاباً من بني تميم من بني نجد، وكان قوي البنية شجاعاً فكان يتلصص ويسرق، وكان يقطع الطريق، وعرفت أماكن ما بات فيها قوم إلا اعتدى عليهم الفضيل في ليلتهم، فخرج ليلةً يريد أن ينفذ شيئاً من خططه الإجرامية فقفز في بيت فسمع قارئاً يقرأ سورة الحديد، فوصل إلى قول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]، فبكى الفضيل وقال: بلى، قد آن لنا ذلك، فقفز راجعاً وأقبل على الله جل جلاله، وبينما هو في آخر الليل وهو يمر بقوم قد نزلوا بمفازة إذا أحد أولئك القوم يقول: احذروا، لا يباغتنكم الفضيل ، فقال له الفضيل : قد أمنتموه، وأقبل على الله سبحانه وتعالى تائباً، وكان يلقب بعابد الحرمين، وكان من تمام لذته بالعبادة أنه يفرح إذا وفق لسجدة فرحاً شديداً، وعندما يقرأ سورةً فيها سجدة من سجدات القرآن فيأتي موضع السجود وهو متطهر متوضئ فينكب على وجهه لله جل جلاله يفرح بذلك فرحاً عظيماً، ويتذكر ما ذكر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الإسراء حين قال سبحانه وتعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:106-109].
وكان يفرح بكل طاعة فرح الناس بما ينالون من أمور الدنيا وشهواتها، فكان إذا وفق لطاعة من طاعات الله سبحانه وتعالى نظر إليها على أنها نعمة وافدة من عند الله سبحانه وتعالى قد خصه بها من بين الناس.
وليتذكر أحدكم إذا استيقظ والناس نيام وهو يتذكر أن من عن يمينه ومن عن شماله ومن بينه وبين القبلة ومن وراء ظهره يغطون في نومهم، وأن الله قد أذن له الآن فذكر الله وتوضأ وصلى في الوقت الذي غفل الناس فيه عن الله وانشغلوا، فإنه لا شك سينال هذه السعادة التي نالها الفضيل ، وسيدرك هذا التقرير، وإذا كان ذلك مزيةً لديه وطبعاً عنده فسيأنس بالله جل جلاله، ويكون مع الله جل جلاله على كل أحيانه، ولا يمكن أن ينال ذلك إلا بمجاهدة للنفوس، وهذه المجاهدة لا شك تأخذ وقتاً وتأخذ جهداً، ولا بد فيها من حصار النفس، فالنفس يعتريها كثير من العوارض، فالإنسان يعتريه الضعف، ويعتريه المرض، وتعتريه الشهوة، ويعتريه قرناء السوء، وتعتريه وسائل الإعلام والأحداث الملهية ومفاتن الحياة الدنيا وشهواتها، وما يعرض فيها من الأوهام التي بعضها مخوف، وبعضها مطمع، فإنه يفكر في مطامع لا يصل إليها وسيأتي الموت دونها، ويفكر في مخاوف لن تصل إليه أيضاً وسيحال بينه وبينها، فيأخذ ذلك حيزاً من تفكيره وحيزاً من سعادته، وحيزاً من رخائه، فإذا كان من المقبلين على الله جل جلاله ومن المستعينين به، واستعاد ذلك وتعود عليه فسيأنس بالله جل جلاله.
وهذا الأنس يقتضي زوال الوحشة، تعلمون أن كثيراً من الناس إذا جاءوا إلى المساجد شق عليهم طول صلاة الإمام ولو كانت قصيرة، وشق عليهم أداء هذه الصلاة التي هي مقصورة يسيرة، ويريدون أن تنقر نقراً كما قال محمد مولود : منقورةً حين دروب وقتها أو خارجة.
وكثير منهم كذلك إذا أدوها من تكبيرة الإحرام إلى السلام وهم مشغولون في تدبير معاشهم وأمور دنياهم، لم تترك لحظةً واحدةً من الدنيا، ولم تتقرب من الله جل جلاله والإقبال عليه ولو لحظةً واحدة.
وكثير من الذين يشهدون الصلاة ويؤدونها لا يذوقون طعمها، فلا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، مع أن طبعها ذلك؛ لأن الله قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؛ فلذلك وحشتهم جعلت في الجانب الإيجابي في الخير؛ لأنهم يأنسون بالشر، إذا وجدوا مجالس اللهو وأكل الغيبة وأكل الحرام، والتعرض لأعراض المسلمين فرحوا بها وأقبلوا عليها وارتاحوا لها، وينتهي الوقت وهم لا يشعرون، إذا وجدوا مجالس الملذات والشهوات انتهت أوقاتهم ومرت دون أن يشعروا بذلك، لكن أوقات القرب والتقرب إلى الله جل جلاله طويلة عندهم جداً، ويأسفون لها، ويحبون قصرها.
أما أهل الأنس بالله فوحشتهم في الدنيا، إذا فتحت لهم الخزائن وامتلأت جيوبهم وأيديهم حزنوا؛ لعلمهم أن ذلك ربما شغلهم، وربما كان فتنةً عليهم، وإذا ذكروا في المجالس ونوه الناس بهم حزنوا وخافوا؛ لأنهم يخافون أن تعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، يريدون الذكر في الملأ الأعلى ولا يريدون الذكر في الملأ الأسفل.
إذا أنس الإنسان بالله جل جلاله كانت راحته في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أرحنا بها يا بلال ! )، وكان محباً لها حباً شديداً يلجأ إليها في كل أموره، ( فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة )، ( وجعلت قرت عيني في الصلاة ).
والأنس بالله جل جلاله يقتضي أن لا يحزن الإنسان إذا حزن الناس، فالمصائب لا تزيده إلا إقبالاً على الله كما قال الله تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:22-24].
والأنس بالله جل جلاله يقتضي أن يحب الإنسان الخلوة؛ لأنه يخلو بالله جلاله فيذكره ويتذكر نعمته عليه، ويتذكر ما خصه به، فيقبل عليه جل جلاله، ويجد به في الله تعالى عوض عن كل هالك، وبه تعزية عن كل مفقود، وإذا أقبل الإنسان على الله جل جلاله بهذا الإقبال وأحس بالتقريب فإنه سيهرب من الدنيا وأهلها، ويعاملهم بالشرع بما أمر به، ولا يتعدى معهم ذلك؛ لأنه يعلم أنها ليست دار قرار، وأن الأنس المطلوب ليس فيها، وأن الراحة والسعادة إنما هي فيما هنالك فيما ينتظره عند الله، وإذا رأى شيئاً من محاسن الدنيا تذكر قول الله تعالى في الحديث القدسي: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، يتذكر أن عند الله سبحانه وتعالى ما لا يمكن أن يكون أعلى شيء في الدنيا مساوياً لأدناه، ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، مجرد موضع السوط خير من الدنيا وما فيها، القارات كلها وبحارها ومحيطاتها مجرد موضع سوط في الجنة خير منها جميعاً.
كذلك فإن الأنس بالله سبحانه وتعالى يهتدي به الإنسان لفهم كلام الله؛ وبذلك يجد من الفتوح والخيرات الشيء الكثير الذي يفرح به الصالحون، فقد قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، (قل بفضل الله) أي: بالقرآن، (وبرحمته) أي: بالسنة، (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، وتعرفون ما قال سليمان بن داود عليهما السلام لملكة سبأ لما أرسلت إليه بهدية جزيلة من الذهب والفضة، فلما وصلت إليه الهدية قال: فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36].
فصاحب الأنس بالله سبحانه وتعالى هو راض بما آتاه الله، ويأنس به، وأعرف شيخاً كبيراً من أهل هذه البلاد أصابه الله في أذنيه بالصمم فكان لا يسمع، وأتيته على كبر سنه وحاجة الناس إلى علمه فعرضت عليه أن آتيه بجهاز تكبير الصوت الذي يوضع في الأذن ليسمع به الكلام ويسمع به الأذان وكلام الناس، فابتسم في وجهي وقال: ما أحب أن أسمع شيئاً كتمنيه ربي، فعرفت أن الشيخ قد وصل إلى الأنس بالله جل جلاله، وأنه راض بما قدر الله عليه بمقام الرضا.
فهذا المستوى من مستويات الأنس بالله سبحانه وتعالى يترك صاحبه بعض الأسباب المسموح بها والمأذون فيها شرعاً، فالإنسان يجوز له أن يتخذ السماعة، كما يجوز له أن يتخذ النظارة، لكنه إذا أنس بالله أحب ما جاء من عنده، وهذا مقام من مقامات أهل الإيمان يحصل بالأنس، كما قال الشاعر:
العيد قالوا غد ما أنت لابسه فقلت خلعة كاس ثوبه خلع
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع
ما آتاه الله فهو راض به ويأنس به.
والأنس بالله سبحانه وتعالى يقتضي كذلك فتوحات في العمل، فيوفق الإنسان للطاعات ويعان عليها، فنحن نعرف شيوخاً كباراً في السن، وهم غير معتنين بالتغذية ولا بالعلاج، ومع ذلك يقويهم الله سبحانه وتعالى على صوم الهواجر، وعلى قيام الليل في الشتاء، وعلى الوضوء دائماً واستعمال الماء، وهم في طاعة أبداً، فيعجب الإنسان لذلك، يعجب الإنسان لقلة نومهم، وقلة أكلهم، وقلة شربهم، وقلة راحتهم، مع ضعف أجسامهم وتحملهم وصبرهم لذلك، وما ذلك إلا أنهم أنسوا بالله فأصبحت العبادة عندهم كالتنفس عندنا، لا يجدون فيها عناءً ولا مشقة، ولو منعوها لماتوا كما يموت أحدنا لو حيل بينه وبين التنفس.
ومن آثار الأنس به جل جلاله كذلك: استجابة الدعاء، فالذين يأنسون بالله ويكونون معه في كل أحيانهم لا ترد دعواتهم بأنهم محبوبون لدى الله قد عرفهم في الرخاء فإنه يعرفهم في الشدة، فإذا دعوه استجاب دعاءهم؛ ولذلك ثبت في الحديث القدسي الصحيح: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي أسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ).
وكثير منكم الآن يقول: إذا استجيب دعاؤنا فسنصرف الدعوات لأمور الحياة الدنيا، ويفكر أنه لو أتيحت له دعوة صالحة فسيدعو بقضايا الدنيا التي تشغل باله، ولكن من وصل إلى ذلك المقام كانت له مشاغل أخرى، فلا يمكن أن يصرف دعواته إلى أمور الدنيا الفانية، بل سيوجه دعاؤه إلى ما هو أهم وأعظم؛ لأنه هدي واختير له الخير، فما هو خير عند الله سبحانه وتعالى هو الذي يتعلق به قلبه، وما هو محمود محبوب لدى الله جل جلاله هو الذي يحبه هو ويأنس به، فمن أنس بالله لا يمكن أن يأنس إلا بما يرضي الله وما يحبه الله جل جلاله.
وكذلك من آثار الأنس بالله جل جلاله: أنه أيضاً سبب لأن يهدى الإنسان للطاعات الكبرى فيوفق لما لا يستطيع كثير من الناس القيام به.
فهذا عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما كان من أهل الأنس بالله جل جلاله، فجاء سيل جارف فأحاط بالحرم، فتوقف الطواف، فكان عبد الله وحده يطوف سباحة، عندما حيل بين الناس وبين طواف الكعبة كان عبد الله يطوف في السيل سباحةً؛ لأنه فتح له في أبواب من الخيرات لم يفتح لغيره فيها، وكان كثير من السلف الصالح يحبون الأماكن الخالية ويقولون: لم يصلها أصحاب الذنوب، وهي جديرة أن تستغل في مرضات الله وطاعته، فيباشرون الطاعة فيها والعبادة، وقد سئل عدد من الأئمة عن أحب شيء إليه فقال: إسناد عالي وبيت خالي، إسناد عالي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجاله محصورون؛ لأنه يسهل عليه الحكم على الحديث هل هو صحيح أم ضعيف؟ لعلمه أن رجال السند إذا قصروا سهل البحث فيهم، وبيت خالي يخلو فيه بربه جل جلاله.
وهذا الأنس بالله سبحانه وتعالى يشمل كذلك التدبر في عجائب مخلوقاته.
وقد ذكر أن الشيخ أحمد دبنيو وهو رجل من العباد الذين اشتهروا بالزهد والعبادة في السنغال خرج من السنغال إلى أبي تلميت، وقد خرج به رجال، فكان كلما رأى رقعةً خضراء في وقت الخريف قال: سبحان الله! ما أحسن هذا المكان جدير بربنا أن يسجد له في هذا المكان، فيصلي في ذلك المكان وكانت صلاته طويلةً جداً، وقد مات ساجداً ولم يعرف موته لطول سجوده عادةً، فلما طال الزمن بالسفر وكانوا يروحون وهم ينظرون إلى المكان الذي أصبحوا فيه، وطال عليهم هذا الأمر، اقترح عليهم بعض الناس أن يسيروا به في الليل وهو لا يرى الأرض، وأن يكونوا به في النهار، فكانوا لا يتحركون في النهار، وإذا جاء الليل شدوا رحالهم وخرجوا به في الظلماء، فكان لا يرى بقعةً جميلةً إلا أحب أن يسجد لله فيها وهو يعلم أن الله يستحق أن يعبد فيها، ويقول: ما أجمل هذا المكان، جدير بربنا أن يسجد له ها هنا.
وكذلك من آثار الأنس بالله جل جلاله: محبة أهله سبحانه وتعالى، فهذا الأذان الذي تسمعون الآن كثير من الناس يعجبه صوت المؤذن إذا كان صوته ندياً جميلاً، بل ربما أخذه مسجلاً وجعله في هاتفه أو نحو ذلك لا إعجاباً بمعنى الكلمات ومضمونها وألفاظها بل أعجاباً بصوت المؤذن، لكن الواقع أن من أنس بالله أحب هذا الأذان لذاته؛ لأنه نداء إلى مائدة الله، ونداء إلى لقائه، وتذكير بموعد اللقاء العظيم الذي تشرئب إليه نفوس الصالحين وتشتاق إليه، فلا يسمع نداءً على شيء أحب إليه من هذا النداء، إذا نودي بأنه قد ولد له مولود، أو أنه قد نجح في امتحان، أو أنه عين في وظيفة، لم يصل ذلك إلى مستوى فرحه بالنداء عندما ينادى به للقاء الملك الديان حي على الصلاة، حي على الفلاح، فيحب هذا النداء؛ لأنه مؤذن بموعد مع الملك الديان ولقاء كريم شريف مع الله جل جلاله، وبذلك أهل الأنس يتأملون في حركاتهم وسكناتهم، فكل قول من أقوال الشارع لهم معه وقفة، وكل فعل من أفعال الشريعة لهم عنده تأمل.
أذكر أن شخصاً من العقلاء من أهل هذه البلاد، وقد يعرفه بعضكم، وهو عمر بن عبد الله ، خرج معي للحج، فكنا نطوف في المطاف وهو مليء بالناس يتحركون حركةً واحدة، فالتفت إلي يضحك، فقلت: وما يضحكك؟ فقال: هذه الرحاء تطحن الذنوب، فهو يتأمل هذه الأفعال، فيرى أن الطواف والمطاف مليء بالناس ويتحركون حركةً واحدةً يذكره بالرحاء التي تطحن الذنوب، وهذا التأمل يذكرني بكثير من السلف الصالح الذين كانوا يقفون عند كل فعل من أفعال الشريعة، أو عند كل قول من أقوال الشارع، فيتدبرون فيه ويتفهمون، فـأبو الحسن الشاذلي لما جاء إلى أهل الإسكندرية استقبله علماؤهم وعبادهم، فقال: أتصلون؟ قالوا: سبحان الله أنتركها؟! قال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، فهو يقف عند كل كلمة من هذه الكلمات.
ونظير هذا أيضاً مرةً دعاني الشيخ البحر ولد العدود رحمة الله عليهما، فسألني: فقال: من أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكرت له الخلاف المعروف لدى أهل السير، قيل: أبو بكر وقيل: خديجة ، وقيل: علي ، وقيل: زيد بن حارثة ، فقال: كل هذا غير صحيح، كل هذه الأقوال باطلة، فقلت: سبحان الله! هي التي ذكرها أهل العلم، قال: لكن كلها باطلة لا أساس لها، فقلت: ما ذلك؟ قال: قال: يقول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو أول من آمن به عليه الصلاة والسلام بنص القرآن.
فهم يقفون عند كل كلمة ويتدبرون فيها ويتفهمون وعند كل فعل، إذا وقفوا في الصلاة فيدركون معنى رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ويعرفون أنه نبذ للحياة الدنيا وراء ظهورهم وخروج منها إلى الله جل جلاله، وإذا قبضوا أيديهم على صدورهم في الصلاة عرفوا معنى ذلك أنه انقياد تام لأمر الله، ومنع اليدين من التصرف والحركة والحك وغير ذلك، فاليدان إذا أرسلتا سهل عليهما الحك والحركة وحمل الملابس وتحريكها، لكن إذا قبضهما الإنسان صعب عليه التحرك، وهكذا في كل حركة من حركات الصلاة، فكل قول من أقوالها يقفون عنده ويتفهمونه؛ لأنهم قد أنسوا بالله جل جلاله فأقبلوا عليه، وعاملوه على هذا الأساس.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشياء عديدةً فقال: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله )، فهذه الأمور التي لا ندرك نحن فائدتها في أمور الدنيا، ولا يدرك العقل ما يترتب عليها الطواف ببيت، والسعي بين حجرين، ورمي الجمار رمي حجارة، لا يدرك العقل فائدتها، ولكنها عظيمة عند الله؛ لأنها إنما هي لإقامة ذكر الله، وهذا أمر باطني لا تهتدي إليه العقول، كما أن العقول لا تهتدي إلى حكمة عدد ركعات الصلاة، فلا يمكن أن تدرك بعقلك لماذا كان غروب الشمس سبباً لوجوب ثلاث ركعات في الحضر والسفر؟ ولماذا كان غروب الشفق سبباً لوجوب ركعتين في السفر وأربع في الحضر؟ ولماذا كان طلوع الفجر سبباً لوجوب ركعتين في السفر والحضر؟ ولماذا كان زوال الشمس سبباً لوجوب أربع في الحضر وركعتين في السفر؟ ولماذا كان دلوك الشمس سبباً لوجوب أربع في الحضر واثنتين في السفر؟ هذه أمور لا يمكن أن يدركها العقل، لكن مصلحتها أخروية تنكشف عندما ترى الحقائق، وتصل إلى عين اليقين يوم القيامة، فحينئذ ترى هذه الحقائق وتعرف لماذا رتب الشارع هذه الأمور؟ وتعرف مصلحتها.
ولذلك فالأصوليون يقسمون القرب إلى قسمين: إلى تعللي وتعبدي، فالتعللي ما عرفت مصلحته الدنيوية، والتعبدي ما كانت مصلحته أخروية، فالذي مصلحته إنما هي في الآخرة فقط هذا الذي يسمونه التعبدي، والذي مصلحته معروفة سواءً كانت دنيويةً وأخروية أو دنيويةً فقط هو الذي يسمونه بالتعللي من الأحكام.
والذي يأنس بالله جل جلاله لا يخاف عند خوف الناس، إذا نزلت الصواعق، أو جاء الغلاء، أو جاء البأس، أو حصلت الحروب، هو في أنس مع الله سبحانه وتعالى لعلمه أن نتيجة ذلك ونهايته وما تصل إليه الأحداث كل ذلك قد رفعت عنه الأقلام وجفت منه الصحف، وهو مكتوب عند الله لا يغير فيه شيء، وعندما يستحضر الإنسان ذلك سيتسلى عما يصيبه من المصائب ولم يفرح فرحاً متعدياً للحد بما يناله من السراء أيضاً؛ ولهذا ذكر الله حكمة القدر، فقال في سورة الحديد: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23]، ومعنى حكمة القدر، حكمة الله بالقدر وتحديده، وكتابة كل ما هو كائن (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) معناه لا تحزنوا على ما فاتكم من أمر الدنيا، (ولا تفرحوا بما آتاكم) منها؛ لعلمكم أن ذلك قد كتب، وأنه رفعت عنه الأقلام وجفت عنه الصحف، وأن الله كان عالماً بمآلات الأمور، وما هي عائدة إليه من قبل أن تكون، والذي يأنس بالله سبحانه وتعالى هو الذي يستطيع التوكل عليه حق التوكل، يمكن أن يقول صادقاً ما قال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71].
ويمكن أن يقول صادقاً ما قال هود عليه السلام: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
ولذلك يستعد لجواب الملكين، ولا يزعجه الموت لعلمه أنه مكتوب، وأنه لا بد أن يموت، فهو مستعد له في أية لحظة، إذا مات ماذا حصل؟ كان ميتاً في هذه الساعة، وهو مستعد لذلك ويعلم نتيجته ومآله، ولا ينزعج لأي أمر يخافه الناس؛ لأنه بأنسه بالله سبحانه وتعالى زال عنه الحزن، وزال عنه الخوف من المخلوقات بالكلية، فكان إقباله على الله سبحانه وتعالى معوضاً له عن كل ذلك.
هذا الأنس يمكن أن نحصله في مثل هذه الجلسات التي ذكرنا، وفي خلواتنا وإقبالنا على الله سبحانه وتعالى، لكن لا بد أن ندرك حكمة اجتماعاتنا، ولا بد أن ندرك حكمة تصرفاتنا، ولا بد أن نفكر في مآلنا ومصيرنا، ومن أراد التقدم في طريق الحق والقرب من الله جل جلاله، وزيادة الدرجات في الصالحين، لا بد أن يحرص على أن يكون يومه خيراً من أمسه، وأن يكون غده خيراً من يومه، وأن يكون كل يوم في قرب من الله سبحانه وتعالى وإقبال عليه وتضحية، ويقارن نفسه هذا العام بنفسه في العام الماضي، العام الماضي وفق لكذا وكذا من الطاعات لا بد أن يحرص على الزيادة في هذا العام، كان في العام الماضي قد تصدق بكذا وقد ساهم في كذا لا بد أن يحرص على الزيادة في هذا العام، وهكذا في كل شئونه ليكون فعلاً يترقى، فالقرب من الله سبحانه وتعالى يقتضي رقياً وارتفاعاً في الدرجات، والذي يريد الرقي والتقدم لا يمكن أن يرضى أن يبقى في مكانه يراوح، لا بد أن يحرص على قطع المفاوز.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يقربنا إليه قرباً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيماناً وإخلاصاً وصدقاً ويقيناً، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل بشيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تملأ قلوبنا أجمين من الإيمان، وأجسادنا من الصحة، وجوارحنا من الطاعة، وأيدينا من الخير، وأن تغنينا عمن أغنيته من خلقك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا من كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك الفرح عند لقائك، ونسألك الثبات عند النزع والأمن تحت اللحد، والتوفيق عند السؤال، اللهم اجعل قبورنا رياضاً من رياض الجنة، ولا تجعلها حفراً من حفر النار، اللهم اجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل الموت خير غائب ننتظره، اللهم إنا نسألك أن تظلنا أجمعين في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، وأن تثقل موازين حسناتنا، وأن تبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن تجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناظرة الناضرة إلى وجهك الكريم.
اللهم آتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وابسط علينا كنفك وأدم علينا سترك يا أرحم الراحمين.
اللهم أمرنا على الصراط كالبرق الخاطف، واسقنا من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم إنا نسألك مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم إنا نسألك من كل خير سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من كل شر استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، وأنت المستعان، وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم إنك قلت وقولك الحق: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقلت وقولك الحق: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وقلت وقولك الحق: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62].
وصح عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله ستير كريم يستحيي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً ).
اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك يرفعون إليك أيدي الضراعة في هذه الساعة، وأنت ترى مكانهم وتسمع أقوالهم، وتعلم ما توسوس به نفوسهم، وأنت أعلم بحوائجهم منهم، اللهم فاقض ما في علمك من حوائجهم أجمعين يا أرحم الراحمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر