بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن عمر الإنسان قصير، وإن في العمل تقصيراً، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإنكم وافدون إلى ربكم جل وعلا، وإن فرصتكم للنجاة بين يدي الله هي أعماركم التي هي رأس مالكم.
فما لم يقدمه الإنسان في هذا العمر المحدود فلن يجده، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].
إنها فرصة عظيمة امتن الله تعالى بها على عباده، وهي كذلك إقامة للحجة عليهم؛ ولهذا يخاطب الله يوم القيامة أهل النار فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].
إن الناس مفطورون على حب طول العمر، وما من أحدٍ في هذه الدنيا إلا يحب أن يُزاد في عمره، لكنهم يتفاوتون في إدراك فائدة هذا العمر، فاليهود الذين هم شر الخلق وأبغضهم إلى الله يحبون طول العمر في هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم يعلمون أن مصيرهم إلى النار، ولذلك قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[البقرة:96].
وأهل الإيمان يعلمون أن فائدة العمر التقوى؛ لأنهم يعلمون أن معيار الفضل بين يدي الله يوم القيامة هو تقوى الإنسان، فهذه الدنيا منقطعة وهي سويعات، فإذا وقفت على المقبرة فرأيت قبور الناس متجاورة لم تفرق في القبور بين غنيٍ وفقيرٍ، ولا بين من طال عمره وعاش مائة سنة، وبين رضيع تُوفي في سن الرضاعة. فتنقطع أخبارهم وينتقلون إلى تلك المجاورة، وأهل قرب لا يتزاورون وأسارى ذنوب لا ينفكون. وتنقطع الاتصالات بمجرد هذه النقلة التي هي القيامة الصغرى، ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، والقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
فهنالك تنقطع الأخبار والصلات، ولا يمكن أن نجد خبراً عن من انتقل إلى الدار الآخرة، إلا أننا نعلم أن القبر له حالان: إما أن يكون روضةً من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرة من حفر النار.
ونحن لا ندري متى ننتقل؛ فلذلك أحب أهل الإيمان أن تطول أعمارهم ليتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى زلفى، وليزيدوا من الخيرات قبل أن ينقطع هذا العمر وتضيع هذه الفرصة.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أن كثيراً من الناس يغبنون في الفرص، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وإذا كان الأمر كذلك فلنعلم أن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بمواسم للخيرات يزيد بها الأعمار؛ لأن فائدة زيادة العمر لدى أهل الإيمان هي التقرب إلى الله، والعمل الصالح يُضاعف في مواسم الخير، يُضاعف الله تعالى الحسنات لعباده المؤمنين إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة.
فهذا من جلائل النعم التي أنعم الله بها على عباده، وزاد بها أعمارهم، وجعلهم بذلك يتنافسون في الخير.
وإن من أعظم فرص الخير التي يُتقرب فيها إلى الله تعالى وتنتهز فيها الأعمار بالطاعات هذا الشهر الكريم، الذي شرفه الله تعالى بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة:185].
وإن أشرف أوقات هذا الشهر هذه العشر التي نحن فيها، العشر الأواخر من رمضان، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأوائل فأتاه جبريل فقال: ( إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ).
وكذلك فإننا نجزم بنص القرآن أن ليلة القدر في رمضان؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1]، ويقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185]، فبالجمع بين هاتين الآيتين يتعين أن ليلة القدر في رمضان، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذه الليلة وحدها يزداد فيها عمرك بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر على أقل تقدير؛ لأن الله تعالى يقول: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3]، و(خير) أفعل تفضيل معناه: أخير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محدودة؛ لأن الله يضاعف لمن يشاء، فبعض الناس على أقل تقدير تزيد عمره هذه الليلة بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وبعضهم يمكن أن يضاعف الله له عمره إلى عمر الدنيا بكاملها، فإذا وفق لقيام ليلة القدر وحدها عُد كأنه عاش آلاف السنين؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.
ومع ذلك ( فإن لله تعالى عتقاء من النار في كل ليلةٍ من ليالي رمضان )، يعتق الله تعالى رقاباً من النار يحرم عليهم النار، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في كل ليلةٍ من ليالي رمضان، فمن مستعجلٍ ومن متأخر، فمنهم من يُعتق في أول الشهر، ومنهم من يتكرر له العتق، فيُعتق في ليالي متعددة من ليالي رمضان، جعلني الله وإياكم من عتقاء الله من النار.
وكذلك فإن من فضل هذه العشر أن آخر ليلةٍ منها يغفر الله فيها لعباده الصائمين، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يغفر لعباده الصائمين في آخر ليلةٍ من ليالي رمضان، قالوا: يا رسول الله! أو ليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُعطى أجرته عند نهاية عمله)؛ فلذلك ينبغي أن نتعرض في هذه الليالي للنفحات الربانية.
فهذا الشهر ثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه).
وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل رمضان صُفدت الشياطين)، وفي رواية: (صُفدت مردة الشياطين، وفُتحت أبواب الجنة)، وفي رواية: (فُتحت أبواب السماء)، وفي رواية أخرى: (فُتحت أبواب الرحمة وأغلقت أبواب النار، وقيل: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر)؛ فلذلك ينبغي أن نعلم أن فتح الله سبحانه وتعالى لأبواب الجنة ولأبواب السماء ولأبواب الرحمة يقتضي أن العمل في هذا الشهر يُتقبل منه ما لا يتقبل في غيره، فأهل الإيمان يحرصون على أن يوفقوا للطاعات في كل وقت، ويحرصون كذلك على قبول الطاعات بعد صدورها، فكثير من الأعمال تُرد على أصحابها ولا يتقبلها الله منهم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
لكن أكثر فرصة لقبول العمل هي هذه الفرصة؛ لأنه ذكر أن أبواب النار تُغلق، وأن مردة الشياطين تُصفد، وأن أبواب الجنة تُفتح، وأن أبواب الرحمة تُفتح، وأن أبوب السماء تُفتح، فهذا دليل على أن هذا أرجى وقتٍ لقبول الأعمال، فقلما يُرد عمل عبدٍ مؤمن في هذه الأيام، أما في غير ذلك فلا يكون الحال كهذا الحال الذي شرف الله به هذه الفترة.
وكذلك فإن من مزيتها أن الإنسان معان على نفسه، فهو في غير رمضان بين خمس جبهات:
بين جبهة الشيطان الذي قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6].
وجبهة النفس التي قال الله فيها: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي[يوسف:53].
وجبهة الأهل والأولاد الذين قال الله فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن:14].
وجبهة إخوان السوء الذين قال الله فيهم: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، وقال فيهم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29].
وجبهة حظوظ النفس التي تدعو الإنسان للانتصار لنفسه والتطفيف في حقوق الآخرين، وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: "ويُقال لكل شيءٍ وفاء وتطفيف".
وكذلك مفاتن هذه الدنيا وشهواتها، وقد حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت ثم رتعت).
وإن الإنسان الآن في هذا الشهر لا يُفتح عليه من هذه الجبهات إلا ثلاث فقط، تُفتح عليه جبهة النفس، ولكنه يُعان عليها بالصبر الذي هو مفتاح الفرج، بالصيام الذي هو مفتاح الصبر، والصبر كما تعلمون ثلاث شعب:
الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره.
فمن صبر عن معصية الله فإن ذلك مفتاح الفرج فالصبر مفتاح الفرج، والصيام مفتاح الصبر؛ لأن الإنسان به يتعود على الصبر عن ما تشتهيه نفسه من المباحات فيعينه ذلك على الصبر عن المحرمات.
وكذلك فإن الجبهة الثانية هي جبهة الأهل والأولاد، ولكن الله أعان على هذه الجبهة بالصيام أيضاً، فإن الصيام يقتضي من الإنسان نقص مخالطة الأهل؛ ولذلك كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لا يجلسون في بيوتهم في نهار رمضان، ويتركون أهاليهم ويستقرون في مساجد الله، أو في الثغور في الجهاد في سبيل الله؛ لأن ذلك معين لهم أيضاً بإغلاق هذه الجبهة.
الجبهة الثالثة: إخوان السوء، وهؤلاء هم الذين يأمرون الإنسان بالمنكر وينهونه عن المعروف، وهم كُثر، لكن الله يعين عليهم في رمضان بأن شياطينهم مصفدة، فيبقى عمل شياطين الإنس فقط وهو أهون في كثيرٍ من الأحيان من عمل شياطين الجن، إلا أن بعض شياطين الإنس -نسأل الله السلامة والعافية- يتبحر في الشيطنة حتى يفوق بعض شياطين الجن، لكن مردة الشياطين من الجن مصفدون، وكذلك فإن مفاتن هذه الدنيا قد أغلقت عليه الأبواب بالصيام؛ ولهذا بين الله حكمة الصيام بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]، (لعلكم تتقون) هذه هي الحكمة التي من أجلها شرع الله الصيام، أن نتقي الله، فهو مدرسة للتقوى، يتعود الإنسان على ترك شرب الماء وهو بحاجة إليه، وعلى ترك كل ما تشتهيه النفوس من ما يخالف الصيام، فيتعود بذلك على اجتناب ما حرم الله عليه في غير الصيام، ويكون قادراً على الانتصار على نفسه في كل الأوقات.
إن هذه العشر التي نحن فيها هي بقية العمر والفرصة النادرة، فمن يضمن أن يعود إلى رمضان القادم؟
فيا رُب صائمه لن يصومه ويا رُب قائمه لن يقومه
ولتعلموا أن كثيراً من الصالحين قالوا: إن اشتراط الخواتيم في الأعمال الصالحة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأعمار بالخواتيم)، وقال: (اللهم اجعل خير عمري آخره)، إن كون الخاتمة هي المهمة في عمر الإنسان كله يقتضي المحافظة على كل وقتٍ يخلف وقتاً آخر؛ لأن كل وقتٍ مررت به في حياتك كان خاتمةً في الاحتمال؛ لأنك يمكن أن تموت فيه، فإذا جاء وقت بعده ينبغي أن تحافظ عليه أكثر من السابق؛ ولذلك جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله: "إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره". وما منا أحد إلا وهو يعلم ما فرط فيه في جنب الله، وما مضى من عمره لا يحب أن تعرض عليه الصحائف وهو فيه، ويتأذى بها، فإذا أتيحت له هذه الفرصة، وعلم أنه الآن ما زال أمامه وقت للتوبة، ووقت للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وإحسان العلاقة به، فليحافظ على هذا قبل فوات الأوان.
يقول أحد الحكماء:
بقية العمر عندي ما لها ثمنٌ ولو غدا غير محبوب من الزمنِ
يستدرك المرء فيه كل فائتةٍ من الزمان ويمحو السوء بالحسنِ
إن هذه العشر نعمة تفضل الله بها علينا، ولم يروَ أنها كانت للأمم السابقة، مثل ليلة القدر فهي نعمة خص الله بها هذه الأمة لزيادة أعمارهم بها.
وكذلك فإن هذه العشر لياليها هي أفضل ليالي السنة بالإجماع، ولله تعالى عشران: العشر الأواخر من رمضان، وعشر ذو الحجة عشر مفضلات، لكن عشر ذي الحجة أيامها أفضل من لياليها، وعشر رمضان الأواخر لياليها أفضل من أيامها، وذلك أن عشر ذي الحجة أيامها فيها يوم عرفة، وعشر رمضان لياليها فيها ليلة القدر؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواترت أنها في العشر الأواخر من رمضان، فالتمسوها لسبعٍ تبقى أو لخمسٍ)، فدل هذا على أن التماس ليلة القدر أرجاه ما كان في هذه العشر الأواخر من رمضان، وقد أوريها رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ( فرأى أنه أصبح يسجد بين ماءٍ وطين، فكان ذلك ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فنزل المطر حتى استنقع الماء في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال ابن عمر : فنظرت إليه فإذا الطين على جبهته بعد صلاة الفجر ).
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها، كما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها )، وصح عنها رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر دخل معتكفه وشد مئزره وأيقظ أهله وأحيا ليله ).
وهذه أربعة أمور كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميز بها هذه العشر، فالاعتكاف في المسجد والانشغال بالعبادة عن الناس، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلف له حصير في طرف المسجد فيعتكف فيه، وكان الناس يرونه إذا قام في الصلاة؛ لأنه أطول من الحصير، فإذا ركع أو جلس أو سجد احتجب عنهم ولم يروه في حال صلاته، وكان صلى الله عليه وسلم في هذه العشر لا يخرج من المسجد إلا لحاجته كأن يقبل أهله كما كان في بعض الأحيان تزوره بعض أمهات المؤمنين فيقلبها، أي: يوصلها إلى حجرتها.
وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في حديث عائشة هذا يشد مئزره، أي: ينقطع عن مخالطة النساء بالكلية، وذلك للاعتكاف لقول الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ[البقرة:187].
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فيها يوقظ أهله، أي: يأمر أهله بالقيام في هذه العشر فيمنعهم من النوم فيها، وقد كان صلى الله عليه وسلم في غير العشر إذا قام الليل ربما نام بعض أزواجه عنده، كما صح في الصحيحين من حديث عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فتنام عائشة في عرض الفراش، فإذا سجد غمزها، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما )، فتطيل النوم في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يطيل القيام، ثم إذا أهوى غمزها فتقبض رجليها، لكنه في العشر يوقظ أهله ويأمرهم بما أمر الله به في كتابه في قوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:132].
وقد صح في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأً قام من الليل فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل لتصلي فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء)؛ فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في إيقاظ أهله في هذه العشر، وقد صح في الصحيحين من حديث أم سلمة ( أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً فقال: من يوقظ ذوات الحجر؟ )، وفي رواية: ( أيقظوا ذوات الحجر، فيا رُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة! )، وكذلك كان في هذه العشر يحيي ليله، والمقصود بذلك: أنه يقوم الليل كله، أما في رمضان في غير العشر فلم يكن يحيي كل الليل إلا نادراً، لكنه في العشر كان يحيي الليل كله؛ ولذلك قالت: وأحيا ليله.
وقد قام معه أصحابه ثلاث ليالٍ من رمضان ( فقام في الليلة الأولى فصلى لهم ثلث الليل، ثم في الليلة الثانية صلى لهم ثلثيه، ثم في الليلة الثالثة أطال حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قيل: وما الفلاح يا أبا ذر ؟! قال: السحور ).
أطال بهم القيام حتى خشوا أن يطلع الفجر ولم يتسحروا، وقال له بعض أصحابه: ( لوددنا أنك نفلتنا ليلتنا هذه )، معناه وددنا أنك تقوم بنا الليلة كلها، وذلك لمحبتهم للخير ومحبتهم للمنافسة فيه والمسارعة إلى رضوان الله عز وجل.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم في رمضان كان أجود منه في غيره مع أنه لم يكن يرد سائلاً في أي وقت، فقد صح في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، وفي رواية: وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )، وكان جبريل يدارسه القرآن في كل ليلةٍ من ليالي رمضان.
لكنه دارسه في السنة التي توفي فيها القرآن كله مرتين، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه دارسه في العشرين الأولى ختمة وفي العشر الأواخر ختمة، وأخذ ذلك من هدي أصحابه فقد كانوا رضي الله عنهم يختمون في قيام الليل في العشرين الأولى ويختمون في العشر الأواخر وحدها، فقد رتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب و تميم الداري للناس يصليان بهم، فكان أبي يصلي بهم عشر ركعات ثم ينصرف فيقول الناس: أبق أبي أبق أبي ، أي: انصرف إلى بيته ليصلي ويحتجب عن الناس ببقية قيامه، ثم يصلي بهم تميم ثلاث عشرة ركعة.
وكانوا إذا انتصف رمضان قنتوا ولعنوا اليهود والنصارى، وقد أخرج مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قنوته في العشر الأواخر من رمضان: اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، اللهم أنزل بأسك ولعنتك وغضبك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك.
وهذه سنة مهجورة، كانت في سنة الخلفاء الراشدين وهي لعن اليهود والنصارى في النصف الأخير من رمضان وبالأخص في العشر في القنوت وفي غيره، ففي القنوت دليله فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ذكرناه، وفي غيره دليله قول عروة : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، و عروة قد أدرك ألفاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن من خصائص هذه العشر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يجتهدون فيها في المنافسة في إحياء المساجد، وكانوا كذلك يتنافسون في الغزو فيها؛ ولهذا فإن كثيراً من المعارك الإسلامية الفاصلة كانت في هذه العشر، كفتح مكة وكالزلاقة وكحطين وغيرها، فهذه كانت في هذه العشر؛ لأن الأرواح قد نظفها الصيام؛ ولأن القلوب قد أنارت بالصيام والقيام والدعاء والبكاء، فأقبلت على الله سبحانه وتعالى وزهدت في الدنيا، واقتضى منها ذلك الشجاعة والمنافسة في الخير، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فقدمت التضحيات الجسيمة.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحض الناس على الزكاة، على زكاة الفطر وغيرها في هذه العشر، فكان إذا لم يبقَ من رمضان إلا ثلاث ليالٍ بسط البسط في آخر المسجد، فيأتي الناس بصدقاتهم فيرتب رسول الله صلى الله عليه وسلم حارساً من أصحابه لحراستها.
فرتب أبا هريرة رضي الله عنه لحراسة صدقات فطر الناس وكانت على البسط، فكان أبو هريرة يرعاها ويصلي بين كومتين من القمح والتمر، ( فبينما هو كذلك ذات ليلة من هذه الليالي الثلاث إذ سمع وهو في أثناء الصلاة آكلاً يأكل، فخفف أبو هريرة صلاته وهجم عليه فأمسك به، فقال: إني شيخ كبير ذو عيال ولي بنات وما جاء هذا الطعام إلا لفقراء المسلمين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريده لنفسه، وإنما يريد أن يوزعه على فقراء المسلمين، فسامحني سامحك الله، فأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يعود، فانصرف فلما أصبح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ فقال: عاهدني ألا يعود، فقال: أما إنه لكاذب، فلما كانت الليلة الأخرى سمع ذلك الصوت فهجم عليه فأمسك به، فإذا هو الرجل الذي كان أسيره البارحة، فاعتذر منه أيضاً وأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يعود ثم عاد في الليلة الأخيرة فأمسك به وقال: لا أفكك حتى أقدمك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرجل وقد علم حرص أبا هريرة على العلم قال: إني لأعلم آية من كتاب الله إذا قرأتها لن يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، قال له أبو هريرة : وما هي؟ قال: لا أعلمك إياها حتى ترسلني، فأرسله فقال: هي آية الكرسي، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقك وهو كذوب، أما إن أسيرك منذ ثلاثٍ الشيطان)، والمقصود بالشيطان: أنه من المسلمين من الجن، وليس من المردة الكفرة لأنهم يصفدون في رمضان؛ ولهذا عرف ليلة القدر وذكر أنه مستحق للصدقة وأنه مصرف من مصارفها.
وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة كانت لهم أحزاب، فكثير منهم كان يختم في كل سبعة أيام، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يختم في كل أربعة أيام، وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنهما يختم في كل شهرٍ، فإذا جاء رمضان ختم في كل جمعة، أي في كل أسبوع، وكذلك من كان بعدهم من التابعين فقد كان الأعمش سليمان بن مهران رحمه الله إذا دخل رمضان ختم في كل يومٍ وليلةٍ مرة، فإذا دخلت العشر ختم في كل يومٍ مرة وفي كل ليلةٍ مرة، وكذلك كان مسروق رحمه الله تعالى يختم في كل ثلاثٍ مرة، فإذا كان رمضان ختم في كل يومٍ مرة، فإذا دخلت العشر ختم في الصلاة وختم في المصحف.
وكذلك كان عدد من التابعين رحمهم الله تعالى يجتهدون في هذا، حتى إن مالكاً رحمه الله كان وهو من هو يأتيه الناس من أطراف الأرض من مشارقها ومغاربها، وكان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك ، فإذا دخل رمضان كف عن مجالس التحديث والفتيا، وقال: "إنما هو شهر القرآن"، فينفرد بمصحفه، فإذا دخل العشر اعتكف وانقطع عن أهله ولم يجبهم في أسئلتهم؛ ولذلك كان من مذهبه أن المعتكف ينبغي ألا يجيب إلا إذا تعينت عليه الفتيا، وقد خالفه بعض فقهاء الأمصار في هذا، ولكنه هو رأى أن الانقطاع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله عندما يدار له الحصير يقتضي ألا يجيب، ولكن الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب في اعتكافه يخطب على المنبر، وخطبته تعليم للناس، فلعل الراجح هنا أن المعتكف يجوز له أن يفتي الناس وأن يعلمهم الخير، لكن ينبغي أن يجعل جُل وقته للصلاة وقراءة القرآن، وألا ينشغل بغير ذلك من الطاعات التي لها فرص أخرى كالتعليم والدروس المرتبة في أغلب الأوقات الأخرى.
وكذلك فإن عدداً من السلف رحمهم الله كانوا يصومون رمضان في الثغور للحراسة في سبيل الله، فيجمعون بين الحراسة في الثغور التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تدخلان النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، ويجمعون مع ذلك قيام الليل، فيقومون وهم ينوون الحراسة في الثغور والحفاظ على ثغور المسلمين والوقوف في وجه العدو، فكان عبد الله بن المبارك لا يعتكف في الحرمين في العشر الأواخر من رمضان، بل يذهب إلى الثغور فيعتكف فيها ويجاهد في سبيل الله، ولقد كتب أبياته المشهورة إلى صديقه الفضيل بن عياض الذي كان يعتكف الخمس عشرة الأولى في مسجد المدينة والخمس عشرة الأخيرة في مسجد مكة إذا استطاع أن يصل ويجعل الفرق هو فرق المسافة فقط، فكتب إليه عبد الله من الثغر:
يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم النُخيلة تتعبُ
ولذلك فإن هارون الرشيد وهو أمير المؤمنين حين سأل أيوب بن أبي تميمة السختياني رحمه الله تعالى وهو أحد أعلام التابعين عن أفضل ما ينبغي أن يقدمه في العشر الأواخر من رمضان، قال: اغز يا أمير المؤمنين! فكان يغزو في العشر الأواخر من رمضان حتى مات غازياً.
وكذلك فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعلم الناس في رمضان القرآن، فكان كما في الموطأ يذهب في الثلث الأخير من الليل إلى مؤخرة المسجد، فيجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل، لكنه كان في العشر الأواخر من رمضان يعتزل تعليم الناس ويقول: "هن لي"، أي: هذه العشر لي، ويقصد بذلك أنه يريد أن يطهر نفسه وأن يزيد قربه إلى الله سبحانه وتعالى ومنافسته في الخير، فلا يريد أن يشركه أحد في هذا العمل، وهي إجازته، فهو الخليفة ليس له إجازة في السنة، بل كل وقته مشحون بخدمة المسلمين والجهاد في سبيل الله والعدل بين الناس، لكنه في العشر الأواخر من رمضان يأخذ إجازته، فهذه هي إجازته السنوية.
ولذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي كان في طرف ردائه مفتاح بيت المال، وكان بيت المال في قبلة المسجد فكان يوزع كل ما فيه على المسلمين، ويشهد بعضهم على بعضٍ ثم يقمه بردائه وينضح فيه من الماء ويصلي فيه ركعتين، وكان رضي الله عنه إذا طلع الفجر الكاذب يأتي فيوقظ الناس في المسجد ليتطهروا قبل الصلاة؛ ولذلك فإن الخوارج حين بحثوا عنه ليقتلوه وقد قتلوه في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في هذه العشر الأواخر، قالوا: إنه سيبحث في أطراف المسجد ليوقظ النائم فاطلبوه في ذلك المكان، فاضطجع مضطجعهم يريد أن يظهر نفسه أنه نائم ليأتيه الخليفة ليوقظه للصلاة، ووقف الآخر بجنبه حتى ضرب الخليفة بالسيف فكان أشقاها وهو الذي خضب هذه من هذه.
وكذلك فإن هذه العشر تهيئة لأن يكثر الإنسان من ذكر الله سبحانه وتعالى وشكره وبالأخص في ليلة العيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيها: وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة:185]، وقد نص أهل التفسير على أن المقصود بذلك شكر نعمة التوفيق في العشر الأواخر من رمضان وفي كل رمضان، وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة:185]، فلتكثروا من التكبير والذكر والشكر في بقية العشر وفي ليلة العيد شكراً لله تعالى على ما ألهمكم من الطاعات في هذا الشهر كله، وفي العشر الأواخر بخصوصها.
وكذلك ينبغي أن تعلموا أن المغبون المحروم من حُرم المغفرة في هذه الفرصة المتبقية من هذا الشهر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( وقف على المنبر فقال: آمين ثلاثاً، فسأله ابن مسعود فقال: يا رسول الله! سمعناك قلت آمين على المنبر ثلاثاً، فعلامَ تؤمن يا رسول الله؟! قال: إن جبريل أتاني فقال: من أدرك رمضان فلم يُغفر له فلا غُفر له، قل آمين، فقلت: آمين).
رمضان فرصة نادرة إخواني لمحاولة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحة، والتعرض لنفحاته غير المنقطعة، فإن الله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين، وقد شرع لعباده الجود والكرم في شهر رمضان وفي غيره، وسن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة ذلك في شهر رمضان، فإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن نفحات الله في رمضان تتضاعف؛ لأنه هو أكرم الأكرمين، ومن المعلوم أن صفات الله منها ما هو للتعلق والتخلق، ومنها ما هو للتعلق دون التخلق، فما هو للتعلق والتخلق منه الرحمة، فهي صفة اتصف الله بها وكتبها على نفسه ومع ذلك شرعها لعباده، فالتعلق بها أن نقول: يا أرحم الراحمين! والتخلق بها أن نتصف بهذا الخلق بالرحمة، وكذلك الجود والكرم فهما من صفات الله سبحانه وتعالى التي هي للتخلق والتعلق، يا كريم يا وهاب هذا التعلق، والاتصاف بذلك ومحاولة أن نتصف به بأن نكون كرماء أسخياء هو من التخلق بصفات الله سبحانه وتعالى التي شرع التخلق بها.
إننا نرى أن كثيراً من الناس يعرضون عن مائدة الله تعالى هذه، ويضيعون هذه الفرصة التي هي فرصة نادرة، وكم ممن ضيعها فندم على ذلك، كم ممن عاش هذه الأيام وهو يستطيع أن يعيش في ظلال القرآن يستطيع أن يعيش يتفيئ ظلال هذا القرآن، يقرأه ويرتله ويتذكر: ( أنه يُقال يوم القيامة لقارئ القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها ).
كثير من الناس يضيع هذه الفرصة، فينشغلون بالمنافسة في أمور الدنيا بالصفق في الأسواق وغير ذلك، وينسون قول الله تعالى: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ[النور:37-38]، يا ليت عمل هؤلاء كان مقصوراً على الصفقات المباحة، لكن المشكلة أن كثيراً من الناس يستغلون الفرصة وينتهزونها لابتزاز الناس وللمراباة وللغش والخداع والأعمال السيئة التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى.
وقد نبهنا أحد الإخوة الآن إلى أن كثيراً من الناس يحيون هذه الليالي الفاضلة بما يخالف ما جاء عن ما أمر به ربنا سبحانه وتعالى وما عمله رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل ما يؤذي ملائكة الله سبحانه وتعالى السيارين في الأرض، إن هؤلاء يؤذون ملائكة الله ويؤذون عباد الله المؤمنين بما يعملونه، ويحطمون بذلك مشاعر أهل الإيمان، ويخرقون روحانية رمضان التي يعيشها عباد الله المؤمنين، فإن عباد الله يحبون هذه الروحانية ويتمنون أن يعيشوا حتى يصلوا إلى رمضان، فكانوا يقولون قبل بلوغهم: اللهم بلغنا رمضان، وعندما بلغوه، يسألون الله أن يتم لهم رمضان، وأن يسلمه لهم وأن يسملهم منه، اللهم سلم لنا رمضان وسلمنا من رمضان وسلم منا رمضان.
أما هؤلاء السفهاء فإنهم يستغلون هذه الفرص - نسأل الله السلامة والعافية - لإيذاء الناس بهذه الأعمال المفسدة التي حرمها الله سبحانه وتعالى، ورغب عنها في غير رمضان، فكيف يكون ذلك في رمضان في هذا الشهر المبارك وفي هذه العشر بخصوصها؟! والتي يتنافس الناس فيها في الاعتكاف وفي قراءة القرآن، وقيام الليل، والصدقات، والتقرب إلى الله بإسالة العبرات بين يديه، وهؤلاء منشغلون غارقون سامدون في ما هم فيه. إن هؤلاء هم موتى القلوب الذين ماتت قلوبهم ولكنها لم يصلَّ عليها، إنهم يعيشون فوق هذه الأرض حياة البهائم، يأكلون ويشربون ويتمتعون، ولكنهم عدموا بذلك نصيبهم الأخروي، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:18-19]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].
إن من أراد الربح الدنيوي من الأعمال السيئة التي هي من الحرث السيئ من حرث الدنيا، يوشك أن يُقال له يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20]، يأخذ نصيبه في هذه الدنيا بدريهمات منقطعة ربما تركها لمن يأتي بعده وخرج هو وتركها وراء ظهره، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:94]، وربما عاش وهي تحت يده لكنه لا يُبارك له فيها، ولا يمكن أن يستفيد منها أية فائدة.
وكذلك فإن كثيراً من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- لا يفرقون بين رمضان وغيره، ولا يفرقون بين هذه العشر وغيرها، فتجد حياتهم حياة المتبلدين السادرين، لا ينبههم شيء من هذه الآيات التي يمرون عليها: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:105-106]، يضيعون هذه الفرص ولكنهم سيندمون على ذلك يوم القيامة؛ ولذلك يقول الشاعر:
أجدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا
إن فائدة هذه المواسم العظمى هي المنافسة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالذكرى، وتذكر الناس بالانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، فأنتم قبل أيام معدودة بل قد يتوهمها بعضكم ساعات كنتم تتمنون أن تصلوا إلى رمضان وأن تبلغوه، وها أنتم قد مضى عليكم واحد وعشرون يوماً من شهر رمضان، وها هو تنقضي أيامه ولياليه بسرعة هائلة، يذهب كما تذهب الأعمار كلها، فهو سفر إلى الدار الآخرة، سفر في رحلةٍ زادها وراحلتها تقوى الله عز وجل، فمن سار مع الناس وبقي على الأثر وتجاوزه الركب يوشك ألا يثبت على الصراط يوم القيامة، حين تنطلق الوفود تتسابق، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم.
إن الثبات على هذا الصراط الدنيوي معين على الثبات على الصراط الأخروي، وهو أمارته وعلامته، فاجتهدوا لتستفيدوا من مدرسة رمضان ولتحافظوا على هذا بعد رمضان، فبئس العبد العبد الذي لا يعرف الله إلا في رمضان، فكثير من الناس لا نراه في المسجد إلا في شهر رمضان، لا يحضر العصر في المسجد إلا في شهر رمضان، وأنتم تعلمون ما أخرج مالك في الموطأ: أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)، ولا حظوا معي أن عدد الصفوف في المساجد كلها في هذه الأيام يتضاعف، فأين هؤلاء الذين يشهدون المساجد الآن في الأيام الأخرى؟! هل لا يعرفون الله إلا في رمضان؟! لا يرغبون في الخير إلا في رمضان؟! لا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى سائلهم عن أوقاتهم، وأنه كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء:103]، قد كتب عليهم هذه الصلاة، أين هؤلاء الذين يتنافسون على الخير في شهر رمضان؟! وعندما ينتهي الشهر يخرجون إلى الدنيا، فيقطعون أشواطاً كبيرة إلى الوراء، فلا يزالون مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينطلقون بدفعة إيمانية في رمضان تقطع بهم المراحل، ولكنهم لا يبلغون العيد إلا قطعوا هذه المراحل وأضعافها إلى الخلف، نسأل الله السلامة والعافية.
إن شهر رمضان مدرسة، ينبغي أن نتعود منها على طاعة الله والمنافسة في الخير والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يرضيه، وأن نحاول إذا وصلنا إلى هذا المستوى الإيماني المطلوب أن نحافظ عليه بعد رمضان، وأن نتذكر أننا تُسلمنا فرصة لفرصة بعدها، فإذا انتهى شهر رمضان جاء بعده أشهر الحج، وإذا انتهى شهر شوال جاءت الأشهر الحرم، وهكذا فينبغي أن ننتهز هذه الفرص، وألا نأخذ هذه الجرعة في شهر رمضان ثم تذوب وتنمحي وتطفئ جذوتها، ويزول قبسها بمجرد نهاية شهر رمضان.
إن الله سبحانه وتعالى هو ربنا وهو الذي بالمرصاد لعباده في كل الأوقات، وهو الذي يرسل عباده الحفظة الكرام البررة، وهو أعلم، وهو الذي تُرفع إليه الأعمال يرفعها الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل ويتعاقبون فيكم في النهار، وهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فاعرفوا ربكم في كل الأوقات، وتقربوا إليه بأنواع الطاعات، واجتنبوا ما حرم عليكم من أنواع المحرمات، فإن ذلك هو سبيل رضوانه سبحانه وتعالى وهو طريق جنته، واعلموا أن هذه الفرصة التي أتيحت لكم لو أطلعكم الله على كثيرٍ ممن هم تحت الأرض من إخوانكم الذي ماتوا في الأيام السالفة ولم يدركوها لعلمتم أنهم يتمنون الرجوع إلى مثل حياتكم هذه لحظة واحدة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:10-11].
إن من عاش حتى قامت عليه الحجة وحتى أدرك رمضان وأدرك العشر الأواخر منه، ينبغي أن يبقى في قلبه بصمة، أن يبقى لهذا الإيمان لهذا الصيام والقيام والصدقات والدموع، ينبغي أن يبقى لهذه أثر في النفوس، هذا القرآن الذي لا يقرؤه كثير من الناس إلا في شهر رمضان، وتمضي عليه السنة ولم يختم فيها ختمة واحدة إلا في شهر رمضان فقط، ينبغي أن نعلم أنه سيرفع وأننا مسئولون عنه، والله تعالى يقول في كتابه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان:30].
إن علينا أن نعلم أن هذه الفرصة التي أتاحها الله لنا ليست من تلقاء أنفسنا ولا شيئاً ورثناه ولا هي بأعمالنا، وإنما هي نعمة وفضل تفضل الله بها علينا، وقد حرمها كثيراً من عباده، فعلينا أن نستغلها في ما يقرب من الله سبحانه وتعالى، وأن نعلم أن الله شرع لنا فيها أعمالاً هي مجاميع الخير فأهمها الصيام، وهذا الصيام ينبغي أن يكون صياماً واقعياً حسياً غير صيام روتينيٍ رياضي، فكثير من الناس صيامهم رياضة وحمية فقط، أما الصيام المطلوب فهو الصيام عن معصية الله؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وقول الزور هو الكذب والنميمة والكلام المحرم كله، والعمل به هو الفعل الذي لا يرضي الله أياً كان، فمن فعل هذه فليس بصائمٍ في الواقع.
إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحسبي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلت إني صمتُ يوماً فما صمتُ
إن هذا الصيام ينبغي أن يعلم الإنسان أن حكمته هي تقوى الله، وعليه أن يتعود على ذلك وأن يطلب هذه الحكمة حتى تتحقق فيه؛ ولذلك عليه أن يجتهد في حال صيامه ألا يخرق هذا الصيام، وأن يعلم أن الله شرفه بأنواع التشريف، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ما يرويه عن ربه عز وجل: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ومعنى استثناء الصوم وأنه لله عز وجل أن الأعمال يجازى عليها الحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، لكن الصيام ثوابه غير محدود، وإنما هو نفحات رب العالمين سبحانه وتعالى.
النفحات الإلهية هي جزاء الصيام، فليس مثل غيره، وكذلك فإن هذا الصيام مطهرة، يرمض الذنوب ويكفرها، فعلينا أن نجتهد في ألا نخرق هذا الصيام، فهو جنتنا، أرأيتم من وقف في وجه السلاح وبدأ يخرق جُنته لتدخل إليه السهام والرصاص من فرزها هل هو عاقل؟! إن الصيام هو جُنتكم، هو الذي يحول بينكم وبين معصية الله، ( الصوم جُنة )، فمن خرقه بالفعل المحرم فقد خرق جُنته وجلس عرياناً - نسأل الله السلامة والعافية-، فاجتهدوا ألا تخرقوا صيامكم يا عباد الله!
ثم اعلموا أن بعد الصيام القيام الذي شرعه الله، وهذا القيام فيه فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، فلم يوجبه الله تعالى على عباده ليبقى مجالاً للتنافس، ومع ذلك فقد تفضل عليكم ربكم سبحانه وتعالى بأن يكتب لكم قيام ليلة طويلة من ليالي الشتاء لم تقوموا منها إلا لحظات قليلة أو سويعات، فقد أخرج أصحاب السنن و أحمد في المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)، فلو لم يصلِّ الإمام إلا تسع ركعات أو سبعاً أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة فصليت معه خلال ستين دقيقة فقط أو أقل أو أكثر كُتب لك قيام ليلة الشتاء الطويلة، إن هذا من فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته، وإننا محتاجون إلى إليه، وإن كثيراً من الناس تفوتهم هذه الفرصة فلا يشهدون الصلاة مع الإمام إلا قليلاً.
وكثير من الناس كذلك إذا شهد هذه الصلاة كانت تعباً شديداً عليه وثقلاً على قلبه، ولا يريد أن يعطيها من الوقت إلا أقل القليل فلذلك يبحث عن أخف المساجد صلاةً وأقصرها قياماً، فيحاول أن يلتحق به ويطلب في ذلك فسحته وراحته، فأين هؤلاء من التنافس في الخير؟! أين هؤلاء من الذين قال الله فيهم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]؟! إن كثيراً من المساجد مع الأسف لا يشعر من قام فيها أنه قام الليل، ويشعر أنه سمع همهمة أو غمغمة ولا يدري ما هي؟ وأنه أتى بهذه الأركان وهو يختطفها اختطافاً ولم تلامس شغاف قلبه ولم تصل إلى روحه، فليس هذا بالقيام المطلوب.
إن عليكم أن تجتهدوا في أن تبحثوا عن المساجد التي تقتضي بمن صلى فيها مع الإمام الخشوع، أن يسمع القرآن رطباً كما أنزل غضاً، وأن يتدبره كما أمره الله بذلك: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29]، إنها فرصة للذين لا يحفظون القرآن لسماعه وتدبره، وإن هذه الفرصة لا يعدمها أحد، فمن كان من أهل العربية والفهم فتدبره بالغوص عن المعاني والتفهم فيها والبحث عن مشكلاتها ومراجعة أهل العلم والكتب، ومن لم يكن من أهل العربية والفهم فإن تدبره للقرآن محبته له وإيمانه به وعلمه أنه من عند الله، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7]، عليه أن يحب هذا القرآن حباً شديداً، وأن يتعلق به فهذا حظه من التدبر.
كذلك فإن هذا القيام مدرسة للإنسان للتعرض لنفحات الله، فكم ممن دعا فاستجيب له، وكم ممن حضر ولم يدع فبادأه الله بالعطاء قبل أن يسأل، وكم ممن شهد هذه المجالس النورانية فغُفر له وهو لا يشعر ( أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! ففيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم أو هم الرهط لا يشقى بهم جليسهم ).
ثم بعد هذا بعد الصيام والقيام عليكم أن تعلموا أن العمل الثالث في الدرجة: هو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإيمان، وهو الذي يحض عليه القرآن ويحض عليه رمضان، والجهاد كما تعلمون أربع عشرة مرتبة، أربع منها لجهاد النفس وهي جهادها على تعلم ما أمر الله به، ثم جهادها على العمل بما تعلمته، ثم جهادها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت له، ثم جهادها على الصبر على الأذى.
وجهاد الشيطان وهو مرتبتان:
جهاده في ما يلقيه من الشهوات، وجهاده في ما يلقيه من الشبهات.
وجهاد المنافقين وهو بالقلب وباللسان وباليد وبالمال.
وجهاد الكفار وهو بالقلب وباللسان وباليد وبالمال، فهذه أربع عشرة منزلة وهي مراتب الجهاد في سبيل الله، قد شرعها الله تعالى لكم، وأمركم بها، فاجتهدوا في أن تكونوا في زمرة المجاهدين في شهر رمضان، إنكم تحبون أن تسلكوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظرنا عمله نجد أنه في كل سنة من السنوات كان يجاهد في رمضان، فمتى كانت معركة بدر الكبرى؟ ومتى كان فتح مكة؟ ومتى كان غير ذلك من الغزوات والسرايا؟ متى كان المال الذي يتجهز به؟ متى كان يُجمع؟ إن كل ذلك كان من الجهاد في سبيل الله الذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان.
ثم بعد هذا عليكم أن تعلموا أن بذل المال الذي قد أخذ من حله ووضع في محله في شهر رمضان من أفضل القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك أن من حكم الصيام أن الإنسان به يذوق مرارة الحرمان.
لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
يتذكر الإنسان حال إخوانه المسلمين المستضعفين المستذلين في كل مكان، وأنهم عيال الله، وأنهم يؤملون إخوانهم المسلمين ويعلقون عليهم الآمال، وينتظرون شهر رمضان منذ أشهر، بل ربما كان كثير منهم يتحمل الديون في انتظار شهر رمضان، فأين المحسنون الذين يفكون الرهان، الذين يؤدون ويسددون عن هؤلاء المعوزين؟ أين أولئك الذين يريدون أن يُكتبوا في زمرة المنفسين للكربات عن عباد الله؟ الذين يريدون أن يلتحقوا بالصفوة الأولى من رعيل هذه الأمة، الذين يريدون أن يأتسوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال جابر بن عبد الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فما سُئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول )، وهذا تعليم الله تعالى له، فالله تعالى يقول له في محكم كتابه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:28-29].
فهذا تعليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، مع هذا فقد كان في رمضان أجود منه في غيره، كما بينا ذلك في حديث ابن عباس .
وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أن من مظاهر الجود فيه والإحسان تفطير الصائمين؛ فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من فطر صائماً، ولو على مذقة لبن؛ كان له مثل أجره ).
فيكتب له أجر ذلك الصائم، فيضاعف به عمله كأنه قد صام يومين أو ثلاثة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فمن فطر ألفاً فقد صام ألف يوم في يوم واحد، ومن فطر خمسين ألفاً فقد صام قدر أيام يوم القيامة، فعلى الإنسان حينئذٍ أن يجتهد في المضاعفة؛ لأن هذه خمسون يوماً يصومها الإنسان تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى أن تصل إلى خمسين ألف سنة للمضاعفة؛ ولذلك قال العلماء: إن صيام الدهر الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( من صام رمضان وردفه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر كله )، يؤمن الإنسان من عطش يوم القيامة؛ لأنه بمقابل هذه الأيام نظيرها من وحدات يوم القيامة: كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
وفي الآية الأخرى فيمن حوسب، ونوقش الحساب، خمسون ألف سنة؛ فهذا يقتضي منا أن نحرص على تفطير الصائمين، وأن يكون ذلك إيماناً واحتساباً، وهذا الذي يغفل عنه كثير من الناس، فكثير من المتنافسين يفعلون هذا رياءً وسمعة، وكثير منهم يفعله تعوداً، وكثير منهم يفعله هوىً، فهو من الذين يحبون البذل والجود وهواه كذلك، فهذا لم يفعل ذلك إيماناً واحتساباً، وإنما فعله بهواه، نسال الله ألا يجعل هوانا إلهاً لنا ولا مسيطراً علينا، فعليكم أن تعلموا أن هذه الأعمال إنما يتقبلها الله إذا كانت إيماناً واحتساباً، وأن تخلصوا النية لله تعالى في كل عمل تعملونه.
وأن تتذكروا حال إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ممن لا تتلقون أخبارهم إلا من تلقاء أعدائهم وأعدائكم، فكثير من المسلمين إنما هم تحت رحمة أعداء الله، لا يرحمهم إلا أعداؤهم الذين شردوهم وآذوهم.
ولقد رأينا كثيراً من المخيمات التي تضربها الكنائس لتربية أولاد المسلمين الذين قتل أتباع تلك الكنائس آباءهم وأمهاتهم، وإنما يربونهم على النصرانية، لقد شاهدنا كثيراً من المشردين الذين لا يعرفون لهم مأوىً في مشارق الأرض ومغاربها، وهم ينتظرن دعوات إخوانهم المسلمين ومساهمتهم ومساعدتهم، إن أقل ما يمكن أن تقدموه لإخوانكم المسلمين هو الدعاء المتقبل، فإن للصائم دعوة لا ترد، وأنتم تعلمون أن الفرحة التي وعدكم الله في صيامكم لا تتم لكم إلا إذا كان حال المسلمين مرضياً؛ لأن الله تعالى عندما وعد المسلمين بالفتح يوم بدر، قال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ[الروم:4-5].
فهذا الفرح الكامل، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فرحتين في قوله: ( للصائم فرحتان: فرحة حين فطره، وفرحة عند لقاء ربه )، وهذه الفرحة حين فطره يغلط كثير من الناس في فهمها، فمعنى فرحته حين فطره أنه يفرح بأنه قد فات الشيطان بيوم كاملٍ من الصيام، قد فوت الفرصة على الشيطان؛ ولهذا فإن كثيراً من السلف يحاول أن يفرح بعمره كامله، كما كان أحمد بن حنبل رحمة الله في آخر عمره، كان الشيطان يعرض له فيقول: يا أبا عبد الله ! فتني، فيقول: لا بعد حتى أموت، فلم يأمن مكر الله، ولم يأمن سوء الخاتمة، بل لم يزل يخاف من ذلك حتى لقي الله، لكن الفرحة الحقيقية هي أن تفوت على الشيطان فرصة لإضلاله، أن تفوت عليه فرصة لأن يجعل في عملك شائبة، ليست لله ليست خالصة لوجه الله، فإذا فُت الشيطان بيوم كامل فلك أن تفرح بذلك؛ لأنه قد فات الشيطان، وهذا الفرح أيضاً لا ينبغي أن يكون مقتضياً لأمن مكر الله، بل ينبغي أن يكون حافزاً لمحاولة فوت الشيطان بما بقي من العمر، وأن يكون مدرسة لزيادة الخير وأوجهه في ما بقي من وقتك، وما وأتيح لك من الفرص اللاحقة.
إن إخوانكم المسلمين في بعض بلاد الله سبحانه وتعالى يعرف من تأمل أوضاعهم، أنهم يذوقون من طعم هذا الشهر ما لا تذوقونه وما لا يذوقه كثير من الناس، فتجد كثيراً من الناس فيه قد تأثرت حياتهم فعلاً؛ وتغيرت أخلاقهم، ولانت قلوبهم، وظهرت البشاشة في وجوههم، وكثرة الذكر وقراءة القرآن على ألسنتهم، وجادوا بالمال في كل أوجه الخير التي ينبغي أن يصرف فيها، وإن عليكم أن تكونوا من هؤلاء الذين يستفيدون من رمضان ويتضح واضحاً في حياتهم.
إن بعض البلدان التي نزورها، إذا دخلناها في شهر رمضان لا نرى فرقاً بين شهر رمضان وغيره، فترى التدخين في الشوارع، والاختلاط، وترى.. وتسمع الكلام السيئ، والهجر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، وإن أحد سابه، أو شاتمه، فليقل: إني صائم )، وفي رواية: ( إني امرؤ صائم ).
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض كثيراً على أن يحاول الإنسان سلامة رمضان له، أي: أن يسلم له رمضان من قول الزور والعمل به، إن كثيراً من الناس تراه في أيام الصيام يزداد توتراً، ويزداد حرصاً على الدنيا، وترى وجهه متقطباً، فلا تشعر بأنه قد باشر الإيمان بشاشة قلبه، ولا ترى نور الصيام واضحاً في وجهه، ولا تستفيد جوارحه من هذا الصيام شيئاً، فحظه من صيامه الجوع والعطش، وحظه من قيامه السهر والتعب، نسال الله السلامة والعافية. فاجتهدوا ألا تكونوا من هؤلاء، واجتهدوا في أن يكون صيامكم معوداً لجوارحكم على طاعة لله، مرققاً لقلوبكم، وأن يكون قيامكم كذلك مقرباً لكم من الله سبحانه وتعالى؛ مقرباً لكم إلى أبواب رحمته وأبواب جناته وأبواب سماواته: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر:10].
حاولوا انتهاز فرصة فتح أبواب السموات، فهي مفتحة الآن، ولا يصعد منها إلا الكلم الطيب والعمل الصالح، وأنتم ترسلون رسائل إلى ربكم سبحانه وتعالى، فأحسنوها واجتهدوا فيها. إن الملائكة أمناء، وهم ينقلون أعمالكم إلى ربكم سبحانه وتعالى، فاجتهدوا في أن تكون رسائلكم إلى ديان السموات والأرض، رسائل حسنة، اجتهدوا في أن تكون الأعمال التي ترفع من أبواب السموات في هذه الأيام والليالي المباركات أعمالاً صالحة، أعمالاً تجدونها في موازين حسناتكم يوم القيامة، واعلموا أنكم بحاجة ماسة إلى أن تثقل موازينكم يوم القيامة، أسأل الله أن يثقل موازيننا وإياكم، فإن ثقل هذه الموازين يوم القيامة به النجاة، وإن من خفت موازينه نسأل الله السلامة والعافية، فإنه سيندم ندماً بالغاً حيث لا ينفع الندم.
وإن فرصكم الآن المتاحة ينبغي أن تستغل وألا تفوت هكذا، وينبغي أن تتعاونوا على استغلالها في أوجه الخير، فمن كان لديه فضل من علمٍ فليبذله، ومن كان لديه فضل من عقلٍ فليسدد به، ومن كان لديه فضل من مال فليساهم به، ومن كان لديه فضل من وقتٍ فليصرفه في إحياء المساجد والتقرب إلى الله، ومن كان لديه فضل من نفوذٍ أو وظيفةٍ فليستغل ذلك كذلك في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإعلاء كلمته ونصرة دينه.
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعل صيامنا وقيامنا، وجميع أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يجعلنا من الذين يصومون رمضان ويقومونه إيماناً واحتساباً، وأن يوفقنا لقيام ليلة القدر في هذه السنة وفي غيرها أعواماً عديدة وسنوات مديدة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر