إسلام ويب

المدخل لدراسة الفقه [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من الأهمية بمكان معرفة المدخل العام للعلوم الشرعية، والقراءة في نشأة العلوم، فهي رفيقة طالب العلم في حياته العلمية. ومن هذه الأمور دراسة المدخل لعلم الفقه المبني على مقدمات من أهمها: معرفة المعنى الشرعي والاصطلاحي لكلمة الفقه، والاهتمام بالمقاصد الشرعية ومعرفة دلالات النصوص، وكذا الاهتمام بدراسة المدارس الفقهية، ومعرفة أسباب اختلاف الفتوى، وما امتازت به كل مدرسة عن غيرها.

    1.   

    مدخل عام في علم الفقه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فالمدخل لدراسة الفقه هو شيء مهم جداً لطالب العلم؛ فإذا أراد طالب العلم دراسة علم الفقه مثلاً، أو علم الحديث فلا يصح تحت هذا القصد أن يكون علمه في التفسير لا حقيقة له، أو لا وجود له بوجه متحصل، بل حتى إذا أقبل على علم الفقه أو الحديث أو غيره من أصناف العلوم فإن المدخل العام يقتضي أن يكون ناظراً في قدر مناسب لمراده ولقدرته ولإمكانه من كتب الفقه، وكتب أصول الفقه، وكتب التفسير، وكتب اللغة، وكتب الحديث وعلومه وهلم جرا.

    وإذا ما ابتغى طالب العلم في كل علم من هذه العلوم جملة من الكتب، ولو ثلاثة أو أربعة من الكتب التي هي أمهات في هذه العلوم، فإن هذا في الجملة يحصل عنه نتيجة مفادها، أن طالب العلم بهذا الاعتبار قد أخذ مدخلاً في العلوم التي سميت بهذه الأسماء.

    ولعل المقصود من المدخل على هذا المعنى صار بيناً من حيث العناية بنشأة هذه العلوم، كعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم الحديث، وعلوم اللغة، وخاصة ما يتعلق منها بعلوم الشريعة، ويتفرع عن ذلك النظر في مسائل الدلالات كدلالات النصوص فيما يتعلق بعلم أصول الدين، ومسائل الاعتقاد.

    المعنى المقصود من المدخل

    والعناية كمدخل عام بنشأة هذا العلم كاسم مختص، وبمسائله على وجه التفصيل الذي يناسب المقام، بحيث لا يكون تفصيلاً كحال المختصين في هذا العلم.

    فمثلاً: إذا جئنا إلى التفسير فإنه يقرأ في نشأة هذه الكتب ومناهجها، وقد كان السابقون من الصحابة والتابعين كما هو معروف على عناية بما سمي بالتفسير المأثور، والذي يتضمن بيان مراد الكلمات من حيث هي أفراد، وبيان مراد السياق من حيث دلالات السياق على معانيها.

    ثم اختص بعد ذلك كما هو معروف في نوع من هذه الدلالات بنيت على الأثر من جهة, وبنيت على نظام الأدلة الفقهية من جهة أخرى، وظهر ما يعرف بكتب التفسير التي عنيت بالأحكام، كأحكام القرآن للقرطبي و لـابن العربي وأمثالها من الكتب التي عنيت ببيان أحكام القرآن, فإن هذا نوع، والسابق له كما في تفسير ابن جرير وأمثاله من كتب التفسير بالمأثور نوع وهلم جر.

    أهمية القراءة في نشأة العلوم

    والقراءة في النشأة أهميتها تأتي من جهة أن طالب العلم يكون على حسن إدراك لمقتضى هذه النتائج التي وصلت إليه في هذا العلم المعين، فمثلاً: إذا كان يقرأ في المدخل العام في كتب الفقه، فأولى له أن يكون على نوع من الإدراك لنشأة المدارس الفقهية، ونشأة المناهج الفقهية كذلك، فإن ثمة مناهج فقهية، وثمة مدارس فقهية، وهذا ليس مقصوداً أن نستفصل فيه الآن, لكنه تمثيل للنشأة.

    يعني: لو أن طالب علم، أو ناظراً في العلم إقباله ومراده ونفسه مقبلة إلى أن يكون مختصاً بعلم الحديث مثلاً, فأراد أن يأخذ مدخلاً في الفقه، وإلا فإقباله من حيث الاختصاص على علم الحديث، فإذا ما أرد أن يأخذ في الفقه فلا بد له أن يعرف المناهج الفقهية التي استقرت، فإنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان خلاف الصحابة كما هو معروف خلافاً مشهوراً في كثير من المسائل، وقد أجمعوا على كثير من المسائل، ولكن تكّون من الفقه الذي أثر عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعض المدارس الفقهية، وتكونت بعض المناهج الفقهية التي يكون الخلاف بينها كمناهج أو كمدارس هو في الجملة من خلاف التنوع المقبول، وعلى كل حال فهذا سيأتي.

    لكن المقصود: أن من يقصد إلى علم من العلوم كعلم الفقه وهو مختص بعلم الحديث، أو بعلم الاعتقاد، أو بآخر، أو بالتفسير مثلاً وأصوله، فإنه يأتي إلى النشأة؛ لأن النشأة تفيد طالب العلم، حتى يعرف منازع المدارس الفقهية، وإذا ما قرأ بعد ذلك في كتاب من كتب فقه الحنفية، أو كتب المالكية فإنه يدرك النشأة التاريخية التي تولد عنها الفقه المالكي، فإنه ربما يقرأ في كتاب لفقيه من فقهاء المالكية من أهل المغرب وقد كثر علماء المالكية في المغرب، فإذا قرأ كتاباً لأحدهم ولم يكن قد قرأ في النشأة ومتصوراً للنشأة فلا يستصحب الأصل الذي تفرع عنه هذا المذهب، من حيث أن مدرسة الإمام مالك التي كانت في المدينة النبوية كنتيجة لجملة من فقه التابعين المأخوذ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو ما يسميه بعض الناظرين في هذا الباب بأنه هو مدرسة أهل الحديث الأولى التي تولدت عنها مدرسة بغداد.

    وعلى كل حال: فإن العناية بنشأة العلم مهمة من هذا الاعتبار كمثال، باعتبار أن يدرك معنى المدرسة كالتمذهب مثلاً، وهذا سيأتي له حديث فيما بعد.

    المقصود من دراسة نشأة العلوم

    لكن العناية بالنشأة ليس كتسلسل تاريخي يقصد للرسم التاريخي المعين فقط، بتسمية رجال بأسمائهم وأنسابهم، وأخذوا عن فلان وهذا في تاريخ كذا، وولد في تاريخ كذا، ويقال: إنه في سنة سبع وتسعين، وقيل: في سنة ست وتسعين، ثم البحث في هذه الجزئيات، كتقدمه في سنة الوفاة أو الولادة أو محل الوفاة ومحل الولادة، فهذا ليس هو المقصود في النشأة التاريخية.

    إنما المقصود البحث في النشأة التاريخية العلمية، التي يكتسب بها الناظر تصوراً مفيداً لنظره في العلم، يوم ينظر في العلم بعد ذلك كنتائج، وكأحكام فقهية في علم الفقه، وكتفسير في علم التفسير، وكنتائج للمحدثين في طريقة حكمهم على الحديث من حيث الصحة والضعف، والتفاوت بين مدارس المحدثين، أو بين طرائق كثير من المحدثين في الحكم على الحديث، وأثر التأخر التاريخي في تساهل أو إسقاط بعض علماء الحديث لكثير من الشروط التي كان يشترطها بعض المتقدمين من المحدثين من الحكم على الحديث بالصحة.

    فإنك إذا اعتبرت حال بعض الأئمة كـابن خزيمة في صحيحه، وقارنت بينه وبين صحيح البخاري ، فإن هذا سمى كتابه صحيحاً، وهذا سمى كتابه صحيحاً، ولكن بين شرط البخاري وطريقته، وبين طريقة ابن خزيمة تفاوت كبير، فالفقه يكون بمثل هذه الأمور.

    أما من حيث التسميات، وأين ولد البخاري ؟ وهل ولد في بلدة كذا؟ أو في بلدة كذا، وهذه البلدة انتقل منها، فهذه الجزئيات التي هي من التاريخ المجرد الذي ليس متصلاً اتصالاً علمياً مباشراً بالعلم، هذا ليس هو المقصود، وإن كان شريفاً في بابه، وإنما المقصود العناية بالنشأة من هذه الجهة.

    ومثله إذا جئت إلى علم أصول الفقه، فإن الناظر في المدخل العلمي العام بعلم الشريعة يأخذ بعض الكتب التي كتبت في علم أصول الفقه، ويأخذ من هذا ما كان من الكتب عمدة في بابه، ولماذا يقال: إنه يكون عمدة في بابه؟

    لأنه لم يختص بعد ذلك، ويتتبع كتب أصول الفقه إذا ما كان مقبلاً على علم آخر كالتفسير مثلاً، فينبغي له أن يأخذ ثلاثة من الكتب، كتاب يؤسس له في علم أصول الفقه، ويتدرج به إلى كتاب متوسط، وكتاب ثالث يكون عمدة في علم أصول الفقه، حتى يكون متصوراً لجملة هذا العلم.

    مثلاً: لو أخذ بعض المقدمات المختصرة وبعضها معاصر في علم أصول الفقه، ثم ارتقى إلى كتاب متوسط، ثم انتهى مثلاً بكتاب جامع من كتب الأصول كالمستصفى لـأبي حامد الغزالي، فقرأه وحاول أن يصل إلى فقه جملته، ثم تجده بعد ذلك من المقبلين على علم آخر على التفسير، أو على علم الحديث، إما رواية وإما دراية, فيكون علمه بأصول الفقه في الجملة إلى قدر كبير مناسباً ومتحصناً.

    ومثله: إذا كان مقبلاً على علم الفقه، فإنه يقبل على الحديث، سواء من جهة علوم الحديث أو من جهة الرواية، فليس صحيحاً أن الفقيه لا يعرف من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما تعلق بجملة من الأحكام، وهي المختصرات التي كتبها الحفاظ المتأخرون، كبلوغ المرام والمحرر وأمثالها، فهذه باعتبار نظر الفقهاء تكون متصلة بنتائجهم الفقهية أكثر من غيرها.

    ولكن من القصد في علم الشريعة أن يقصد إلى كتب السنة الأمهات، فيجعلها مدخلاً له في العلم، ولو بنوع من القراءة المتأملة مرة أو مرتين أو ثلاثاً، أو يتعاهد ذلك فيما يتردد فيه من العلم، كقراءة الكتب الستة أو الكتب التسعة وهي معروفة عند طلبة العلم، البخاري و مسلم والسنن الأربع ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي.

    فهذه الكتب التسعة لا ينبغي لطالب العلم أن يقصر عن النظر فيها إذا ما كان من أهل الحديث، أي: أنه من المختصين بعلم الحديث فإن انشغاله بهذه الكتب سيكون من جهة النظر في أسانيدها وطرقها، ومن جهة درايتها، وغير ذلك من الأمور التي يختص بها الناظرون في الحديث.

    لكن إذا ما كان مقبلاً على علم آخر، فإن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهي أصل العلم مع كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي أن يكون النظر فيها مختصاً لأهل الحديث، ولربما أن بعض الناظرين في الحديث حتى إنما ينظر في مسائل الطرق والأسانيد ولا ينظر في المتون، وكأن المتون إنما هي من اختصاص الفقهاء وهذا ليس كذلك؛ لأن العارفين بعلم الحديث يدركون أن المتن له أثر حتى من جهة صحة الحديث وضعفه، والحكم عليه بكونه محفوظاً أو بكونه شاذاً أو ما إلى ذلك، والعلة كما تكون في السند فإنها تكون في المتن.

    مصاحبة المدخل العام للرحلة العلمية

    وعلى كل حال هذا فيما أرى أنه من المدخل لطالب العلم، ولعل بعض طلبة العلم أو السامعين لهذا الكلام قد يقول: إن الكتب التسعة مطولة، فإن المقصود من المدخل ليس أنه يكون هو الأول في العلم، وينتهي بسنة أو سنتين، إنما المدخل العام يكون مصاحباً لطالب العلم في رحلته العلمية، حتى لو كان يشتغل بعلم خاص، بمعنى: أنه لا يتبادر حينما نقول: المدخل العام أنه ينتهى منه, ثم يبدأ بالمدخل الخاص, فليس الأمر كذلك، وهذا ترتيب فيما أرى فيه وهم كثير.

    إنما المقصود: أن طالب العلم يكون لديه منهج يسميه لنفسه مدخلاً عاماً يتصل بكل علوم الشريعة، أما هذا المدخل فليس المقصود: أنه ينتهي قبل أن يدخل في التخصص كما يقال.

    إنما المقصود: أن هذا المدخل يصاحبه، فلربما تأتي إلى رجل قد عرف بعلم الحديث أو عرف بعلم التفسير، وربما كان أستاذاً فيه بحسب التراتيب الأكاديمية اليوم، أو كان مشهوراً فيه ببحوث أو عرض أو تدريس أو نحو ذلك، فإذا ما كان معروفاً بعلم التفسير فلا يعني أنه في هذه المرحلة من الاختصاص بهذا العلم أنه معزول عن علم أصول الفقه، بل يجب أن يكون جزءاً من المدخل الذي ينتظم معه إلى مراحل متقدمة من العلم.

    وبقدر ما نقول: إنه في الأخذ بعلم شيء من علم أصول الفقه فإنك تأخذ منه مقدمات، ثم تأخذ كتاباً منتهياً في هذا العلم كالمستصفى، فإن الكتاب المنتهي لن يدرس كمدخل أو كجزء من المدخل العام للعلم إلا في مراحل متأخرة لطالب العلم بعض الشيء عن أوائل الطلبة التي هي السنة الأولى والثانية بل وربما الثالثة ونحو ذلك.

    فإذاً: لا يتبادر أن المدخل يقصد أن يفرغ منه ضرورة من جميع جهاته في سنة أو سنتين، فهذا ليس متيسراً، ولا مقصوداً أيضاً؛ لأنه لا يعطي نتيجة مناسبة.

    إنما المقصود: أن طالب العلم لا يمنعه الاختصاص، بل لا ينبغي أن يكون الاختصاص يقصره عن النظر في علوم الشريعة؛ لأنه كما قلنا ابتداءً: هذا التخصص فيه نوع من المبالغة في هذا الزمان أو في هذا العصر، فصار يغلب مسألة الاختصاص إلى درجة ربما لا يكون عارفاً بشيء من المسائل في الباب الآخر من العلم.

    صحيح أن السابقين كان عندهم نوع من الاختصاص من جهة كثرة الاشتغال، فإن العارف بـأبي حنيفة مثلاً يعرف أنه اشتغل بالفقه والرأي والمسائل من هذا النوع أكثر من اشتغاله بعلم الحديث، أي: أكثر من اشتغاله بعلم الحديث كأسانيد وطرق ونحو ذلك وهذا من البدهيات.

    وأن ابن معين على خلاف ذلك، فقد كان اشتغاله بطرق الحديث وأسانيده والرواية وجمعها ونحو ذلك، ما ليس له في الرأي والفقه والقياس ونحو ذلك، ولكن مع هذا فإن لـأبي حنيفة قدراً من المعرفة، ولـابن معين معرفة مشهورة في الفقه، وله فقه ولكنه لم يحفظ بقدر ما حفظ عنه فيما كثر اشتغاله به.

    فعلى كل حال أصل علم الشريعة واحد، والاختصاص وإن كان مناسباً أو سائغاً من بعض الجهات إلا أنه لا يمنع ثبوت المدخل العام بين هذه العلوم.

    فعلى كل حال هذا هو الجملة العامة التي يبتدئ بها، وهي المدخل العام ويتواصل فيها بعد ذلك.

    1.   

    المدخل الخاص لعلم الفقه

    ثم بعد ذلك الدرجة الثانية: وهي المدخل الخاص بكل علم، والعلم المقصود به هنا هو: ما يتعلق بعلم الفقه، فلا بد لطالب العلم من مدخل يكون له محصلاً لحسن النظر في مسائل الفقه التي كتبها الفقهاء في كتب الفقه، إما الكتب التي نظمت على مذهب واحد، وإما الكتب التي قصدها أصحابها أن يجمعوا فيها جملة من المذاهب.

    والمدخل المتعلق بعلم الفقه يعتبر القول فيه -كما يعرف ذلك الناظر في هذا العلم- كثير من التسلسل والتطويل، ومجلس أو ثلاثة مجالس لا يمكن أن تكون معرفة أو حاصرة لما ينبغي أن يسمى مدخلاً في الفقه.

    ولعل من أهم النتائج التي نصل إليها في هذا المجلس، ويتداول القول فيها: أن طالب العلم يدرك أنه لا بد من مدخل في هذا العلم، كما أنه لا بد من مدخل في غيره من العلوم، وهذا المدخل كما عرف سابقاً يعرف بنشأة العلم وبجملته، وهو معناه العام.

    وأما معناه الخاص في علم الفقه، فإن ثمة جملة من المقدمات، وبعد ذلك جملة من المراتب في معرفة المسائل الفقهية.

    أما المقدمات وهي المتعلقة بالمدخل الخاص في دراسة علم الفقه، نقول: ثمة أمران:

    الأمر الأول: وفيه جملة من المقدمات في هذا العلم، أي: في علم الفقه.

    والأمر الثاني: وفيه جملة من الدرجات، ويقصد بها درجات النظر في المسائل الفقهية.

    أما المقدمات المقصودة، ولربما أنها هي التي يتسع لها هذا المجلس، والكلام في الدرجات نأتي إليه بعد ذلك.

    أما من جهة المقدمات: فإن ثمة جملة من المقدمات العلمية التي يحسن بطالب العلم الناظر في علم الفقه أن يقصد إليها، وإلى حسن إدراكها وتصورها:

    معنى كلمة الفقه في الشرع والاصطلاح

    المقدمة الأولى: من حيث معنى الفقه بخطاب الشارع، وفي اصطلاح المصطلحين على هذا العلم، فإنك تعرف أن كلمة الفقه جاءت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وأصل هذه الكلمة مذكور في القرآن, فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها[الأعراف:179]، فجاء هذا في سياق الذم، أي: أن قلوبهم لا تفقه ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم, فعلم أن الفقه هو من صفات أهل العلم بهذا الاعتبار.

    وأما في خطاب الشارع، أي: في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء في الصحيح وغيره في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وكذلك ما جاء في الصحيح وغيره من حديث ابن عباس في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له لما قال: ( اللهم فقهه في الدين, وعلمه التأويل )، فجاء مدح هذه الكلمة من هذه الجهة.

    وجاء في القرآن وحتى في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذم لمن تركه كما في القرآن، أو ذماً لحال من فاته هذا الأمر وهو الفقه.

    واستبان بكلام النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الفقه في الدين هو على المعنى العام في الشريعة، وليس يقصد به الفقه على معناه الاصطلاحي الذي يختص بنوع من علم الشريعة؛ وهي مسائل الفروع ومسائل الاجتهاد المتعلقة بالعبادات والعقود والمعاملات, فإن هذا هو الفقه في المسائل، أو في مقصود أهل الاصطلاح.

    وأما في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن الفقه في الدين يراد به المعنى العام للفقه، وهو: حسن المعرفة بأدلة الشريعة وبمراداتها، سواء كان ذلك في مسائل أصول الدين والعقائد أو في تفسير القرآن، أو في مرادات الأدلة التي يحصل بها المعرفة بأصول التشريع، وأحكام أصول التشريع التي سميت بعد ذلك بعلم أصول الفقه. والمقصود بدلالات النصوص، أو المعرفة بمسائل الفروع على التفصيل الذي سمي بالفقه؛ لأن حقيقته من حيث الاجتهاد والنظر فيه يناسبه هذا الاسم، ومن هنا سموه فقهاً باعتبار ما فيه من مادة الفهم والاجتهاد وما إلى ذلك.

    وإن كنت تعلم أن بعض أهل العلم قد سموا حتى ما يعرف بمسائل الاعتقاد، وهي مسائل أصول الدين، منهم من سمى ذلك بالفقه الأكبر.

    فعلى كل حال ففي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يراد بالفقه: الاسم العام في سائر علوم الشريعة ومعانيها ومراداتها، ويراد بالفقه الخاص: الفقه الاصطلاحي الذي يتضمن مسائل الفروع المقولة بنوع من الاجتهاد في الأدلة ودلالاتها.

    وقد ظهر بعد شيوع الاصطلاح والتراتيب العلمية تقسيم اشتهر في كتب المتكلمين وفي كتب النظار وفي كتب أصول الفقه أيضاً، وتكلم فيه خلق كثير من الفقهاء وغيرهم، وهو التقسيم للدين إلى أصول وفروع، وهذه مسألة من المقدمات التي سنأتي عليها بعد ذلك.

    وعلى كل حال فإن هذه المقدمة تعنى بمعرفة الفقه كاسم لخطاب الشارع أو كاسم في الاصطلاح, وتبين الاختلاف بينهما من هذه الجهة، وإنما يقال ذلك -أي: الاختلاف بينهما من هذه الجهة- وهذا هو مقصود ذكر هذه المقدمة، أنه وإن قيل: إن الفقه بالاصطلاح له معنى يختص به ليس مطابقاً تماماً من حيث الخصوص والعموم مع المعنى المقصود في خطاب الشارع، فإن امتداح النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى في مثل قوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، دليل على أن الفقه في الدين فيه قدر كثير من الاختصاص والتوفيق الإلهي.

    شمولية معنى الفقه

    الفقه في كتب الفقهاء ومدارسهم، أو في مذهب واحد أو في أكثر من مذهب ليس معناه فحسب: الجمع للفروع وتسميتها وتسمية من قال بها، أو حتى تسمية بعض أدلتها، فهذا لا شك أنه نوع وقدر من الفقه، ولكن الفقه حتى في الفروع هو أوسع من ذلك بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).

    ولهذا إذا قرأت في بعض سير المتقدمين وجدتهم يذكرون أن الفقهاء قليلون, حتى كان الحسن لما قال له رجل: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا, قال الحسن البصري لهذا السائل: وهل رأيت فقيهاً؟! وليس المقصود أنه لم يكن يوجد فقهاء، ولكن كأن الحسن رحمه الله ما أراد أن يتوسع الناس في تسمية آحاد القائلين في العلم بالفقهاء, فإن المراتب تقصد في الشريعة على اعتبار تسميتها وإضافتها إلى من كانت حاله مناسبة لها، وإلا فلا شك أن عصور المسلمين وتاريخ المسلمين أجمع لم يخل ولله الحمد من فقهاء، وما زال فقهاء المسلمين موجودين في هذا الزمان، فمن باب أولى في صدر الإسلام.

    فعلى كل حال المقصود هنا: أن الفقه حتى في المعنى الخاص الذي هو المعنى الاصطلاحي لا ينبغي قصره على تسمية المسائل، وتسمية من قال بها وتسمية بعض أدلتها، فهذا لا شك أنه مقام من هذا الفقه، ولكن الفقه بحسب دلالة هذه الكلمة أنه حسن إدراك لمراد الشارع، بمعنى: أن يكون الناظر فيه قد جمع فقهاً في بيان النصوص ودلالتها، وجمع فقهاً في مقاصد النصوص.

    ولهذا بالنظر إلى الترتيب التاريخي لما كتبت العلوم كتبت جملة من الأسماء التي انتظمت علم أصول الفقه، وصار كأنه علم له كتبه وله مناهجه، وكتبوا كتب الفقه على اعتبار أنها الكتب التي تتضمن نتائج الأدلة، أي: فيها الأحكام التفصيلية في العبادات والعقود والمعاملات.

    هذا معناه أن علم أصول الفقه حقيقته أنه مقدمة لعلم الفقه، وأن علم الفقه هو نتيجة لضبط هذه المقدمة التي هي من حيث أنها مقدمة، وإن كانت ليست دليلاً في ذاتها، لكنها مقدمة منظمة لفقه الدليل الموجود في الكتاب أو في كتب السنة، وهي: رواية الأئمة من المحدثين عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    بيان ما انتظمت فيه كتب أصول الفقه

    ومن هنا تجدون أن كتب أصول الفقه في الجملة انتظمت في ركنين:

    دلالة النص وأنواعها

    الركن الأول: يتعلق بدلالة النص، ودرجات الدلالة وأنواع الدلالة، وهذا في الجملة محصل من اللغة، كالعموم، والخصوص والإطلاق والتقييد، والمنطوق والمفهوم ودلالة الأمر، من حيث دلالته على الوجوب لزوماً، وهل الأصل فيه الوجوب؟ أم أنه يقتضي الوجوب أو يستلزم الوجوب إلا بصارف النهي؟ ودلالته على التحريم؟ وهل يقال: إنه من حيث الأصل أو من حيث اللزوم والإيجاب؟ أي: أنه موجب للتحريم إلا بنص أو استثناء بين؟ وما الموجب لخروج النص من كونه دالاً على التحريم إذا كان نهياً إلى ما دونه؟ وهل يلزم أن يكون بنص آخر, أم تكون القواعد الكلية مؤثرة في هذا إلى آخره؟

    فهذا في الجملة يعود إلى بيان اللغة، وهو أحد ركني علم أصول الفقه.

    ولهذا قد مر أثناء الكلام في المدخل العام لما ذكرت العلوم التي يعتنى بها، ذكر علم اللغة وخاصة ما يتصل منها بعلم الشريعة؛ لأن بعض الأبواب في علم اللغة، وأسماء في اللغة أصبحت من الأمور المتسعة أكثر من هذا كما هو معروف.

    وعلى كل حال ما يتعلق بعلم أصول الفقه هو من هذه الجهة، هذا أحد ركنيه أنه يتعلق بمعرفة بيان اللغة، وتطبيق هذا البيان على خطاب الشارع؛ ولهذا تجد أن الأصوليين عنوا بجمع صيغ العموم، أي: الصيغ الدالة في اللغة على العموم، وإذا جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى مثل هذه الصيغ فإنما يجعلون هذا النص عاماً، فمن أين تولد لهم هذا؟ إنه في الأصل من دلالة اللغة، وإن كانت دلالة اللغة هنا على العموم والخصوص ونحو ذلك ليست دلالة مختصة، بمعنى: لا يقصر الأمر على اللغة وحدها، وإنما ثمة جملة من الموجبات لضبط الدلالات عند الأصوليين من حيث العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، لكن اللغة هي أحد المكونات الأولى في ترتيب هذا البيان من حيث دلالة خطاب الشارع على الأحكام.

    مقاصد أدلة الشارع

    الركن الثاني في علم أصول الفقه: وهو المتعلق بالمقاصد، أي: مقاصد أدلة الشارع، ومقاصد خطاب الشارع، وإن كان من الوهم الذي وقع في بعض الكتب أو في بعض البحوث هو التفريق بين الأمرين، بين دليل الشارع وبين المقاصد؛ ولهذا ربما صار اتجاهاً أن البعض يأخذ بالأدلة، وآخرين صاروا يقدمون المقاصد.

    وهذا ليس من حيث الأصل شأنه منتظم؛ لأن الحق أن المقاصد هي مقامة في الأدلة، وليست مختصة عن الأدلة، وإنما ثمة بيان الدليل من حيث الجملة من المكونات وخاصة اللغة، وما يتعلق بالمقصد الذي هو: التشريع من حيث الأسباب، ومن حيث العلل، وأمثال هذه المعاني عند علماء الأصول والقواعد.

    مناسبة ذكر المقاصد ودلالة النص للمدخل الخاص لعلم الفقه

    ومناسبة ذكر هذا المنهج -وهو أنه ينبغي لطلبة العلم أن يكونوا على بصيرة فيه- وهو أن المعاني التي هي صحيحة بذاتها من حيث الشريعة لا يصح بحال أنه يفتات في شأنها إما إفراطاً وإما تفريطاً كنتيجة أو كردة فعل، كما يقال لطروء نقص في استعمالها، أو تطبيقها من جهة أو منهج أو غير ذلك.

    بمعنى: أن علوم الشريعة ومقاصد الأدلة لا يصح أن تكون تحت وطأة وطائلة ردود الأفعال بين المناهج المختلفة، فمثلاً: لما تكلم من تكلم من الذين غلوا بتطبيق نصوص الوعيد على غير مرادها في زمن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فصاروا على عناية بذكر نصوص الوعيد وخاصة في القرآن، وتأويلها على غير وجهها.

    وجاء بعد ذلك من أهل الإرجاء وغيرهم من تكلم في نصوص الوعد، ولما جاء من يثبت الصفات ويبالغ في إثباتها إلى حد التشبيه، وجاء من ينفي ذلك بأنواع من الطرق، ومن حيث المنطق ومن حيث الشرع، فلا يصح حينما يوجد من ينفي الصفات مثلاً في مسائل العقائد أن يبالغ البعض في الإثبات، وهذا وجد.

    ولما وجد من ينفي الصفات من كثير من المدارس التي اتخذت منهجاً في نفي الصفات أو في تأويل الصفات، لما جاءت هذه المدارس، وجد عند بعض المنتسبين للسنة مبالغة في الإثبات، ولما أراد بعضهم أن يرد على أهل التشبيه مال إلى بعض طرق التأويل.

    وهذا المعنى قد ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله بقوله: إن الحنابلة لما اشتهروا في كثير من مراحل التاريخ بأنهم من المثبتة، ومن المعنيين بالإثبات، صار بعضهم يثبت أو يبالغ في الإثبات حذراً أو مجانبة للتأويل.

    فكذلك إذا دخلنا إلى باب آخر فيما يتعلق بمسائل الفقه، وأصول الفقه، إذا وجد من يعنى بالمقاصد أي: لربما درج من ترك النص كما وجد أحياناً، مع أن هذا يحتاج إلى بحث من حيث الإضافات والتطبيقات، فلا ينبغي التوسع في نسبة الناس إليه على أدنى رأي أو على أدنى نظر؛ لأن هذا قد يكون فيه تكلف أولاً، وفيه ظلم ثانياً.

    فإذا وجد هذا الأمر وله بعض الوجود في بعض الصور، وهذا معروف وموجود كمناهج لها تاريخ معين أو تمتد إلى تاريخ معين.

    فاعتبار المقاصد بذاتها قدر ضروري، فلا ينبغي لطالب علم ولا لباحث أن يتحاشى القول في المقاصد، أو النظر في المقاصد باعتبار أن البعض ممن تكلم في المقاصد قدمها على النص؛ فتصير الأمور كما يقال: ردود أفعال، فالعلم ينبغي أن يسوق الناس إلى الصواب.

    بمعنى: أن هذه الاجتهادات التي تطرأ، حينما يغلو قوم في باب المقاصد ويتركون باب الدلالات وما إلى ذلك، أو بعكس ذلك, فإن هذا الخطأ إذا عرض في التاريخ أو وجد في هذا العصر، أو كثر أو قل لا ينبغي أن يكون مؤثراً في الضبط الشرعي للأمور، فإن دلالة النص دلالة مقصودة عند الصحابة رضي الله عنهم بل مقصودة في التكليف الشرعي، كما أن مقصود النص جزء من النص لا ينبغي أن تسقط رتبته، وأرى أنه لا يناسب أصلاً أن يقال: النصوص والمقاصد، وإنما يقال: دلالة النصوص من حيث البيان، الذي سبق له مثالات العموم والخصوص والإطلاق والتقييد إلى آخره، بيان النصوص ومقاصد النصوص، وإلا فحكم المقاصد هي قدر من مقام النص وإفادته والعمل به وتطبيقه وغير ذلك من المعاني.

    وعلى كل حال فإن المقصود هنا: أن نشير إلى أنه كما يعبر في التعبير الشائع: ردود الأفعال مع الأسف ممتد في كثير من مراحل التاريخ خاصة عندما يوجد بعض الغلو في باب آخر، فربما وجد غلو في نفس هذا الباب، ويكون الحق في الوسط بين هذا وهذا.

    صحيح أن هذا الوسط -ولله الحمد- لا يزال موجوداً، لكن على طلبة العلم أن يكونوا معنيين بأنه إذا حصل خطأ، وقد يكون هذا الخطأ ظنياً أيضاً وربما كان وهمياً، لكن حتى ولو حصل خطأ بالحقيقة، وحتى لو تولد عن هذا الخطأ منهج ما، فإن المعالجة أو الدرء لهذا الخطأ أو تجاوزه لا يكون بنوع من الغلو المسقط لرتبة هذا المعنى الذي أحاط به صاحب هذا المنهج، أو صاحب هذا القول أو ما إلى ذلك.

    الاهتمام بالمقاصد مع التمسك بدلالة النص

    ولهذا ينبغي أن يدرك أنه في دراسة علم الفقه فإن الدلالات مقصودة النص، والأصل دلالة النص، وبيان فالمقاصد مهم أيضاً، المقاصد مهمة في الشريعة، وما امتاز الفقهاء وأئمتهم إلا بمعرفة مقاصد الشارع مع معرفتهم بدلالة النص؛ ولهذا أثنى الإمام أحمد رحمه الله على الإمام الشافعي في بعض الأمور من مثل هذه الجهات، ولكن أن تكون مقاصد الشريعة يقصد بها معنى من النظر غير المركب على قواعد الأدلة، أو على أصول الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله، ويقال: المقصد يقدم على النص؛ فلا شك أن هذا منهج ليس مقبولاً، لكن تجاوز مثل هذا عند وجوده سواء وجد كقول أو كمنهج أو نحو ذلك، يكون باعتبار المقاصد وألا تسقط أيضاً.

    والذي أخشاه بهذا التعليق أن ينساق فيما بعد مجموعة من طلبة العلم إلى التخفيف من شأن فقه الأدلة -الفقه المتين الذي يعتبر الدلالة ويعتبر المقاصد- بحجة أن المقاصد صار يستدل بها، أو صارت تستعمل استعمالاً غير مناسب، مثلاً: لما استعملت بعض المدارس العقدية دليل العقل استعمالاً غالياً حتى قدمته على النقل، جاء من يقول بأن دليل العقل ليس دليلاً صحيحاً أصلاً.

    منهج السلف في استعمال دليل العقل

    بعض المخالفين لطريقة الأئمة من سلف هذه الأمة رضي الله تعالى عنهم والصحابة وما إلى ذلك قالوا: إنهم لم يستعملوا أصلاً دليل العقل، وجعلوا دليل الشارع حتى دليل القرآن ليس فيه دلالة عقلية، وهذا إنما هو دلالة خبرية محضة، فهذا هو المشكل، فالقرآن فيه دلالة خبرية، وأخبار كثيرة معروفة وبينة، ولكن فيه خطاب للعقل، فلما يقول الله سبحانه وتعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا[الزمر:29]، أليس هذا خطاباً للعقول؟ وأي دليل عقلي أقوى من هذا الدليل؟ وهو دليل شرعي باعتباره قرآناً من عند الله، وكلاماً من عند الله، ولكنه دليل عقلي من حيث المقدمات.

    ولما جاء ذلك الرجل من الكفار، وقال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، وهو ينكر البعث, زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، فهذا خبر، لكن لما جاء واحد منهم يجادل، وقال كما ذكر الله سبحانه وتعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا [يس:78]، وأتى هذا الكافر، بحجة عقلية في ظنه، والمثل يعني: الدليل من حيث موازنة التصور الذي يفرض, فقال جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ [يس:78]، أي: هذا المنكر للبعث, فقوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، هذه مقدمة، والأخرى نتيجتها إنكار البعث. فكان الجواب في القرآن: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]، إذا كنت تمنع إحيائها بعد أن كانت رميماً في عقلك، فكيف صدق العقل أنها وجدت من العدم؟ وأيهما أولى بالوجود؟ التي هي رميم إلى حال أخرى، أو التي من العدم؟ الجواب هو الثاني، فمن باب أولى يثبت ذلك.

    والقصد: أنه لما استعمل بعض المتكلمين في أوائل ظهور علم الكلام دليل العقل استعمالاً طاغياً، واستعمالاً غالياً حتى قدموه على النقل، جاء بعض المفسرين للسنة وأسقطوا رخصة دليل العقل, وجاء من هو مخالف لهم وهذا أكثر, ونص على أنهم لا يقولون بدليل العقل من كل جهة.

    نفي التعارض بين النقل والعقل

    الإمام ابن تيمية وأمثاله من المحققين لا يرون ثمة تعارضاً بين العقل والنقل، وهذا هو المعنى الصحيح عند كبار علماء الإسلام في التاريخ كله، وهو المعنى البسيط حتى في العقل والفطرة، أنه لا تعارض بين العقل والنقل، يعني: إذا كان أولئك قدموا دليل العقل على دليل النقل، فإن الصواب هنا أن يقال: إنه لا تعارض.

    ولهذا لما أراد ابن تيمية أن يرد على ذلك القانون ما سمى كتابه تقديم النقل على العقل، مع أنه لو سماه كذلك لكان مألوفاً، لكنه سمى الكتاب كما هو مشهور باسمه الآن (درء تعارض العقل والنقل) وهذا هو الصحيح أن العقل إذا تبين أنه دليل عقلي يعرفه العقلاء ويصدقه العقلاء، فهذا لا يتعارض مع النقل أبداً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يوم يوافي المخالفون للرسل ربهم ويردون عذابه في نهاية المطاف يذكرون دلالة العقل ودلالة النقل, وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ [الملك:10]، أي: للرسل, أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

    وقد جاء في التاريخ بعض الأحوال والتقلبات التي أشكلت على بعض البدهيات، وإلا الآن في التشريع إذا كان الإنسان ليس عاقلاً فهل يكون مكلفاً أو ليس مكلفاً؟ باتفاق الفقهاء أن المجنون ليس عليه تكليف باعتبار القيام بالعبادات, أما في أحكام أخرى يترتب عليها باب آخر، كالزكاة في ماله ونحو ذلك، لكن إذا كان العقل ساقطاً فإن التكليف يكون مرتفعاً.

    نفي التعارض بين المقاصد والنصوص

    فإذاً: الذي نقصده هنا حتى لا تسقط رتبة المقاصد، ولا شك أن من يقول: إن المقاصد تقدم على النص فهذا قول غلط، ومنهج فيه سقط كثير ولا يصح ولا يعتبر، لكن لا يعني هذا أن الجواب الصحيح أن تقول: نأخذ بالدلالة ونترك المقاصد، أو كما يقال: نأخذ بالنص ونترك المقصد، فهذا غلط من حيث التفكير والتركيب؛ لأنه لا يصح فصل المقاصد عن النصوص، فهي مقام لمعنى النص الأصلي، والمقاصد معناها أيضاً ليس فقط العلل التي يسميها الفقهاء بالعلة في الحكم، والعلل المنصوصة والمستنبطة، لا, إنما مقصود المقاصد في الشرع أوسع من ذلك، حتى من حسن تدين الناس لربهم بالإيمان، يعني: انظروا إلى فريضة الصيام، فإنه يأتي الخطاب الفقهي فيها إجازة العبارة بالكتابة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] لكن انظروا إلى المقدمات في السياق في أول الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183]، إذاً: ها هنا خطاب لأهل الإيمان، ثم ختام هذه الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فهذه مقاصد كلية في الشريعة، فالمقاصد العامة التي سموها بالضروريات أو بالكليات الخمس، هذه لا يصح إسقاطها وإبعادها عن النص أبداً، وهي جزء من النص الأصلي ومن دلالة النصوص التي قد تكون نصوصاً عامة في الباب، أو خاصة في مثل هذه الأمور.

    فعلى كل تقدير المقصود هنا: أن المبادئ أو المعاني الشرعية التي هي حق وصادقة بذاتها، لا يجوز أن ينقص قدرها لطروء اشتغال بها على غير وجهها، إنما توزن الأمور بالحقائق الشرعية والمقاييس الشرعية العلمية.

    منهج الأئمة في التعامل مع المناهج الخاطئة في علم الكلام

    ولهذا لا تجدون أن الكبار من علماء الإسلام كأئمة الفقهاء وأئمة المحدثين مع كثرة ما حصل في التاريخ، وفي تلك القرون الأولى من التاريخ من تقلبات وافتراقات وتطورات منهجية وفرق وما إلى ذلك، لا تجدون أن أولئك الكبار صار عندهم سقط في مثل هذه الدروب، ولا أنهم نقصوا مبدأ أو معنى كلياً من المعاني الشرعية؛ لأن طائفة غلت في مقامه؛ ولهذا لا تجد عن المتقدمين أنهم ذموا دليل العقل أو سموه بغير اسمه.

    انظر مثلاً في الآثار التي رويت عن أئمة السنة والحديث في نقدهم وكلامهم في علم الكلام، فستجد آثاراً كثيرة، منها عن الأئمة الأربعة وعن غيرهم, والهروي في كتابه آثار كثيرة بالمئات في هذا الباب، فكانوا يقصدون معنى سمي دليل العقل، لكن هل تكلموا بإسقاط دليل العقل، أو بذم دليل العقل أو بذم العقل ذماً مطلقاً؟

    لا، قد يوجد ذم، لكنه يكون من باب الذم الإيضاحي، والعقل الذي يقدم على النقل هو العقل الفاسد إلى آخره، يكون مقيداً بوصف أو نحو ذلك، يفيد معنى يتناسب مع حكم الشريعة أنه يكون مذموماً، لكن ما قصد الأئمة رحمهم الله إلى إسقاط مثل هذا.

    فعلى كل حال المعاني الصحيحة بنفسها لا ينبغي أن تدخلها أحوال الإفراط والتفريط؛ لطروء بعض الأخطاء، أو لعروض أخطاء فيها حتى ولو كبر هذا الخطأ، فإن المعنى يجب أن يبقى على قوامه وعلى حده وعلى ميزانه الشرعي؛ وإلا فعلم الشريعة لا تدخله ردود الأفعال، هو أسس ثابتة عن الله سبحانه وتعالى حكماً، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, أي: أحكام ثابتة وتدرس من حيث هي أحكام ثابتة، وليس من جهة هذه المحتملات التي تختلف باختلاف التاريخ وتزيد وتنقص.

    وعلى كل حال فهذه هي المقدمة الأولى.

    1.   

    القراءة في تاريخ المدارس الفقهية

    المقدمة الثانية: وهي القراءة في تاريخ المدارس الفقهية.

    وكما هو معروف أنه ظهر في التاريخ جملة من المدارس، وإذا ما رجعنا للبداية فإنه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام كان أئمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفتون ويتكلمون في مسائل الفقه، إما بما يحفظونه من نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذون منها حكماً، وإما بالاجتهاد فيما لم يبلغهم فيه نص عن الباب، وربما بلغ البعض الآخر، وهذا له مثالات كما هو معروف.

    لكن لم تكن توجد مدارس بالمعنى المعين بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن كان بيناً أن بعض طرق الفتوى عند بعض الصحابة تختلف عن البعض الآخر، وهو من باب اختلاف التنوع المحمود، فمثلاً: فيما يتعلق بالعناية بمقام الاحتياط في الفتوى، والاحتياط في الحكم.

    معنى الاحتياط في الفتوى والاحتياط في الحكم

    أما الاحتياط في الفتوى فإن الصحابة جميعهم عندهم احتياط في هذا؛ لأن هذا من الورع في الديانة أصلاً، وفرق بين الاحتياط في الفتوى والاحتياط في الحكم؛ فإن الاحتياط في الفتوى هذا عام عن الصحابة، وحتى الأئمة من بعدهم يحتاطون في الفتوى، لكن الاحتياط في الحكم بمعنى القصد إلى ما قد يعبر عنه بعض الفقهاء المتأخرين بإبراء الذمة، مع أن هذا التعبير فيما أرى ليس هو المناسب للمعنى الذي هو الاحتياط؛ لأن الذمة تبرأ بإذن الله سبحانه وتعالى بالقول المعتبر، وبالاجتهاد المصحح أو المقبول شرعاً، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمرو بن العاص المتفق عليه: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر )؟ فإذا كان قد أجره الله سبحانه وتعالى، وآتاه أجراً فإن ذمته قد برئت وقد كان مخطئاً.

    فعلى كل حال هنا بعض الفروقات التي لم تصل إلى درجة التنوع كمدارس أو كمناهج، لكن يبقى أن علم الشريعة كما قلت سابقاً له أثر يختلف باختلاف المحل الذي هو المكلف، وطبائع المكلفين كما هو معروف، فليست وجهاً واحداً بل هي متنوعة، وهذا التنوع قد يكون محموداً أحياناً، وقد يكون مذموماً أحياناً, أعني: تنوع الطبائع.

    تنوع الفقه عند الصحابة

    الجامع لفقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه تنوع محمود، لكن لم يصل هذا التنوع في الفتوى، والتعدد في الفتوى بين الصحابة إلى حد أن يتميز أحد منهم بمدرسة أو بمنهج يشار إليه، ولكن كان هناك بعض الالتماس في هذا التنوع.

    ولهذا تجد أن بعضهم كان يجري النظر، يعني: عنده مقدمات في القياس أوسع من غيره، يعني: إذا نظرت إلى ابن مسعود و ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فإن الأخذ بالأثر من حيث البيان كان عند عبد الله بن عمر ولا يحب أن يتجاوز بنوع من النظر، لكن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيما لا يكون الأثر فيه ظاهراً من حيث الدلالة ربما أفتى بشيء من النظر في أدلة أو في جملة من الأدلة بحيث يكون اجتهاداً مقبولاً، هذا كنوع من الأمثلة في الفتوى.

    وأنت ترى أن هذا صحيح؛ وهذا صحيح، ولهذا الكوفيون فيما بعد رتبوا على فقه عبد الله بن مسعود , صحيح أن ما كتبه الكوفيون بعد عبد الله بن مسعود في زمن أبي حنيفة، وما إلى ذلك لا تستطيع أن تقول: إن هذا كله مضاف إلى ابن مسعود أو إلى مدرسة ابن مسعود كشخص وكإمام، لكن هناك بعض المقدمات في طريقة فتوى عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أخذها كبار أصحابه.

    وكما هو معروف أن عبد الله بن مسعود كان له أصحاب كبار، أخذوا فتواه وحملوها عنه وخاصة في الكوفة، فكانت هذه المقدمة لتأسيس مدرسة الكوفة، ومدرسة ابن مسعود كما يقال عنها، إلا أنه قد لا يكون على إطلاقه، لكن الكوفة لم تكن فيها الكثير من الرواية، وكانت الرواية من حيث الأصل موجودة في المدينة النبوية، يعني: الأصل في مدرسة المحدثين أنها في المدينة؛ لأنها هي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحابة متوافرون فيها من حيث الأصل، وهلم جرا.

    المقصود: أن فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان فقهاً منتظماً على ما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما تلقوه من القرآن، وإن كان ثمة وجه من التنوع في فقه الصحابة كما سبق المثال بذلك بين عبد الله بن مسعود ، و عبد الله بن عمر ، فإن ابن مسعود كما سبق الإشارة إليه، يتوسع في الاجتهاد على القواعد الشرعية الصحيحة أكثر من حال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه، وهذا يختلف بحسب جملة من الأسباب، منها الأسباب العلمية، ولكن الاجتهاد في كلام عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان أكثر منه في كلام ابن عمر؛ ولهذا يقال: إنه على أصل وعلى سنة، وهذا على أصل وعلى سنة.

    وانظروا إلى الصحابة حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل التي يحصل فيها شيء من التردد يتنوع فيها الاجتهاد، كما في حديث ابن عمر لما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما انطلقوا إلى بني قريظة منهم من صلى العصر في الطريق في وقتها، ومنهم من لم يصلها إلا في بني قريظة وإن فاته الوقت، قال ابن عمر : ( فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين ) .

    فإذاً: هذا مثال للتنوع الموجود في فقه الصحابة.

    الإحكام في فقه الصحابة

    الذي امتازت به مدرسة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن جميع أنواع الفقه فيها كان فقهاً محكماً، سواء الفقه الذي أثر عن ابن عمر وأخذه كثير من أئمة المدينة وأهل الحديث، أو الفقه الذي أثر عن ابن مسعود وبنى عليه كثير من الكوفيين وأمثال ذلك، فإن جميع أئمة الصحابة رضي الله عنهم كان فقههم محكماً، ولم يكونوا بحاجة إلى كثير من المسائل التي حصل التردد فيها فيما بعد؛ لقربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذهم عنه، وكان لسانهم فصيحاً، إلى غير ذلك من الأسباب العلمية والشرعية الموجبة لاستقامة فقههم.

    ولهذا إن قيل: إن التنوع له وجود من حيث الأقوال لكنه لا يوجد فيما أرى في المناهج، لا يوجد بينهم تنوع لا في مناهج ولا في مدارس، وإنما كانت تختلف الفتوى بينهم، فكان أحدهم لربما نظر هذه المسألة من هذه الجهة، وآخر نظرها من جهة أخرى، وهذا موجود، فمناطات النظر تختلف باختلاف الاجتهاد، وهذا وجد من الصحابة بل من أفضل الصحابة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في حديث ابن عباس في الصحيح في أسرى بدر, فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزل عليه القرآن في ذلك، (فلما أسروا من أسروا استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر و عمر , فكان أبو بكر يقول: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام)، كان هذا اجتهاد أبي بكر .

    وأنتم ترون أنه اجتهاد معلق النتيجة بأن يطلقهم ويأخذ منهم فدية، لكن أليس هذا الاجتهاد معلقاً بجملة من المناطات والمقاصد؟ يعني قوله: هم بنو العم والعشيرة، وأن لهم جملة من اعتبار الشريعة لهذا المعنى، مثل لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قصة ذي الخويصرة التميمي لما قال عمر : ( دعني أضرب عنقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )، وإن كان قالها في عبد الله بن أبي أيضاً في حديث آخر.

    فعلى كل هذه كانت بعض المقاصد المرادة في جملة الشريعة، وأما تطبيقه على المثال المعين فهذا هو الذي يسمى اجتهاداً، فـأبو بكر رضي الله عنه هكذا كان مناطه، قال: (لعل الله أن يهديهم للإسلام)، وهذا أيضاً وارد، وصار له حقيقة فيما بعد.

    وعمر لما أرجع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليه، وقال: ( ما ترى يـا ابن الخطاب؟! قال: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رآه أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكني من فلان -نسيباً لـعمر- وأضرب عنقه، وتمكن علياً من العباس فيضرب عنقه, فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها )، أليس كان هذا اجتهاداً مختلفاً كنتيجة وكمناطات؟

    فإذاً: الصحابة وجد بينهم اختلاف في الاجتهاد، لكن ما كان هذا على نظام مدارس منتظمة؛ لأن هذا الانتظام لم يكن له سبب أصلاً، وجامعهم أكثر، يعني: موارد الاتفاق المشتركة بينهم غالبة، يعني: أن اختلافهم في بعض المسائل من الاجتهاد لم يكن مؤهلاً أن توجد مدارس تختص بالأتباع وما إلى ذلك، لكن فيما بعد لجملة من الأسباب من الكثرة ومن تعلق الأمور، فيما يتعلق بعلم الرواية وضبط الأحاديث وتمييز الصحيح من الضعيف، ومن فقه الدلالات واللغة وأثر العجمة لما دخلت على المسلمين، يعني: ذهبت الفصاحة إلى غير ذلك من الأسباب التي تكونت المدارس الفقهية، وصار فيها بعض الامتيازات في أمور بينة.

    وجه الخلاف بين المدارس الفقهية

    وإن كانت هذه المدارس مع قولنا بأنها امتازت باعتبار حال الصحابة وفيها امتياز، ولكنها باعتبار المفهوم الشرعي العام فإن هذه المدارس، كمدرسة أبي حنيفة و مالك و أحمد و الشافعي و الليث بن سعد و الأوزاعي وأمثاله من المدارس، والتي شاع منها وبقي له شيوع أكثر هي المدارس الأربع المشهورة: المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية, هذه المدارس الخلاف بينها كما هو معروف خلاف تنوع، بمعنى: أنها من حيث الجملة مدارس محمودة، واجتهادها في الجملة اجتهاد مناسب من حيث أنه مبني على القواعد الشرعية الصحيحة، وأما من حيث الصحة وعدم ذلك، فهذه مسألة أخرى.

    وإنما المقصود هنا: القراءة في تاريخ المدارس الفقهية وتكوينها، فهذا مهم لطالب العلم حتى يعرف هذه المقدمات؛ ولهذا لو نظرت مثلاً في كلام ابن تيمية في القواعد النورانية تجد أنه يذكر أن طريقة الإمام أحمد في بعض الكتب من العلم كالبيوع مثلاً، أو طريقة بعض الأئمة في كتاب الحج مثلاً، أو ما إلى ذلك ترجع بالتسلسل إلى فقه فلان من الصحابة، وطريقة الإمام الآخر ترجع بالتسلسل إلى فقه فلان من الصحابة، وهذا يعود إلى ضبط مثل هذه النشأة المقصودة على هذا الوجه.

    1.   

    القراءة في الجانب العلمي للمدارس الفقهية

    المقدمة الثالثة: القراءة في المدارس الفقهية كمدارس علمية وليس من الجانب التاريخي، فكما هو معروف أنها ظهرت في التاريخ جملة من المدارس الفقهية، وقام على رأسها أئمة كبار من أهل الاجتهاد والعلم المستفيض عند المسلمين، واستقر منها جملة من المدارس، والمشهور من هذه المدارس إلى يوم الناس هذا هي المدارس الأربع.

    وهنا يتردد بعض التعليقات على هذا المعنى، من حيث تصحيح أو صحة الاجتهاد باعتبار القواعد، فإنه يقال: إن جميع هذه المدارس باعتبار القواعد، فإن قواعدها قواعد مناسبة للاجتهاد، ومن هنا كانت مدارس فقهية مقبولة كالنظر في هذه المسائل، فليس شيء من هذه المدارس قد بني على أصل أو دليل لا يكون مناسباً, هذا باعتبار أصول هذه المدارس وقواعدها، ومثلما كانت مصححة من هذا الوجه، كاجتهاد مناسب في الشريعة. وأما من حيث النتائج في الفروع فهذا باب يدخل فيه الاختلاف والترجيح وما إلى ذلك.

    الترجيح بين المذاهب الأربعة

    ومن هنا لو قيل: أي هذه المدارس الأربعة يقدم؟ وأيها هو الراجح؟ وهذا سؤال ربما يطرأ على طالب العلم؛ بل يطرأ على طالب العلم خاصة في ابتداء طلبه للعلم، فتجد أن البعض يقول: إن مدرسة الحنفية هي الأفضل أو المقدمة، أو أصح من مدرسة الحنبلية والمالكية، وربما قال بعضهم: إن الحنبلية أصح وهلم جرا.

    وفي الغالب أن هذه التصحيحات المطلقة، أو التقديم المطلق لمدرسة من هذه الأربعة على غيرها لا يبنى على قواعد علمية مطردة تناسب الحكم، وإنما الذي يناسب هو التقوية أو الترجيح الذي يكون إضافياً وليس مطلقاً.

    إذاً: إذا كان التصحيح أو التقديم لمدرسة من هذه المدارس على غيرها، وإن كانت كلها صحيحة كما سبق، لكن التقديم المطلق لا أراه مناسباً وصحيحاً، وإنما الذي يمكن للمحقق أن يقول فيه باعتبار كونه محققاً ومجتهداً هو: التقديم الإضافي، كما لو قدم محقق قول المالكية في مسائل البيوع مثلاً، وقدم قول الحنفية في مسائل أخرى كمسائل الطهارة مثلاً، وقدم ثالث أو هو نفسه قول الشافعية في باب آخر.

    فمثل هذه التقديمات الإضافية هي التي يشير إليها بعض المحققين، كما تراه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد النورانية يقدم فيقول: إن أصول الإمام أحمد وطريقته في هذا الباب أجود, وإن طريقة مالك في هذا الباب أجود وهلم جرا، فهذا التقديم الإضافي، وهو على كل حال لا يعني قطعاً، وإنما يعني اختياراً وترجيحاً.

    فالمقصود هنا: هو العناية في دراسة المناهج والمدارس الفقهية باعتبار المعاني العلمية، وليس باعتبار الجهة التاريخية التي سبق الإشارة إليها.

    ومما يعنى به هنا: العناية بالمدارس الأربع باعتبار أئمتها الأربعة، وهم: مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد وما امتاز به كل إمام، فإنك تعرف أن أحمد صار له امتياز مشهور في الحديث لا يقع لـأبي حنيفة، وصار لـأبي حنيفة رحمه الله من العناية بالرأي والقياس والترتيب على ذلك اشتهار معروف، حتى قيل: إنه كان يقع له في مجلسه الخاص أكثر من أربعين من كبار الصحابة يتداولون معه المسألة من حيث القياس والنظر وما إلى ذلك، وكانوا معنيين كثيراً بمسائل القياس، والنظر والرأي إلى آخره.

    والإمام الشافعي صار له امتياز من بعض الوجوه، لا توجد عند بعض الأئمة من الفقهاء، أو حتى من أهل الحديث كسعة علمه باللغة والناسخ والمنسوخ، حتى قال الإمام أحمد : ما عرفنا الناسخ والمنسوخ إلا لما جالسنا الشافعي.

    وهذا ليس المقصود منه: هذا العلم ينفى في حق إمام آخر من كل جهة، ولكنهم يتفاضلون، وكما أن أحمد أفضل من الشافعي في الحديث, فإن الشافعي له من العلم بلسان العرب ما لا يقع لكثير من الأئمة، وهذا أمر معروف، وهذا من حسن الضبط والمعرفة حتى يكون الترجيح مناسباً.

    1.   

    التعريف بالمدرسة الظاهرية

    وآخر مسألة نعلق عليها قبل أن ننتهي من هذا المجلس، هي: أن طالب العلم في دراسته المدخل للفقه يعرف مقدمة تتعلق بجمهور الفقهاء والظاهرية، فإنكم تعرفون أن داود بن علي رحمه الله كان من كبار الأئمة في عصره، وكان له بعض الأصول التي بنى عليها رأياً انتظم في كلام أبي محمد ابن حزم فيما بعد، وأفرد له الإمام ابن حزم تراتيب كان بعضها مجملاً في كلام داود بن علي عليهما رحمة الله، ثم نظمها أبو محمد في كتب كتبها في الحكم، وأخص ما في هذه الكتب الذي وصل إلى الناس اليوم هو: كتاب المحلى.

    وهذا الكتاب له أثر، وحتى في هذا العصر له أثر على طلبة العلم، ولربما أنه مر بصاحب هذا الكتاب تقلبات حيث بالغ ناس في الطعن بعلمه، وبالغ ناس في كثرة الإقبال عليه والاختصاص بهذا الكتاب أو نحو ذلك.

    وهذا جزء مما سبقت الإشارة إليه إلى أن الطالب ينبغي له أن يكون معتدلاً, وأن يكون قارئاً لحقائق العلوم بعيداً عن أثر الإفراط أو التفريط الذي يصاحبها في مرحلة أو ظرف من ظروف التاريخ.

    فـأبو محمد بن حزم رحمه الله عالم من كبار علماء المسلمين في القرون المتأخرة، والعارف بكتبه يدرك أنه كان إماماً جامعاً عالماً فقيهاً مستفيض العلم، وعلى ديانة متينة تراها في كلامه وإيراداته رحمه الله، وعنايته بتعظيم السنة والانتصار لمذهب الصحابة وما إلى ذلك. ولشيخ الإسلام ابن تيمية ثناء مشهور على أبي محمد ابن حزم إلا أنه مع ذلك له طريقة مختصة نتج عنها كثير من القول الفقهي المتأخر عن الترجيح، بل نتج عنها كثير أو بعض الأقوال التي هي من الغرائب في مسائل الفقه.

    فالقصد هنا: أن يكون طالب العلم -وهذا هو مقصود المقدمة- معتدلاً في النظر لمدرسة الظاهرية، وخاصة لكتب أبي محمد ابن حزم , فإن فيها علماً، لكن أرى في الجملة أن كتب أبي محمد وخاصة كتابه في الفقه وكتابه في أصول الفقه، هذان الكتابان لا يبتدئ الطالب بهما، بل هي تناسب طالب العلم حينما يقوى عوده ويحسن نظره، وتنضبط مداركه في العلم فهنا تكون استفادته من هذه الكتب مفيدة؛ لأن فيها تحقيقاً وإن كان فيها بعض الغرائب أو بعض ما يكون مخالفاً للمشهور عند عامة أئمة الفقه والأصول.

    وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768369159