الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغصب].
الغصب: هو أخذ الشيء بالقهر والقوة.
وليس هناك اختلاف كبير بين حقيقة الغصب في اللغة، وحقيقته في الاصطلاح، وقد عرفه المصنف رحمه الله بقوله: [هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق].
وهذا النوع من المعاملات يقع بين الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، فابتلى الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، وجعل هذا البلاء فتنة: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20].
فالله من حكمته أن ابتلى العباد بعضهم ببعض، ابتلى الضعيف بالقوي وابتلى القوي بالضعيف، اختباراً لعباده وابتلاء لهم فيما يعملون.
فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ابتلاهم بهذا لكي يعظم الأجر للمبتلى فيما غصب منه، وكذلك يؤاخذ الغاصب بجنايته وظلمه لأخيه وأخذه لماله بدون حق.
وباب الغصب باب مهم جداً، والعلماء رحمهم الله اعتنوا ببيان أحكامه في كتب الحديث وكتب الفقه، ولذلك أفردوه بباب مستقل تعظيماً لشأنه، وبياناً لمسائله وأحكامه.
يقول رحمه الله: (باب الغصب) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالاعتداء على أموال الناس، وأخذها بالقهر والقوة دون وجود مبررٍ شرعي لذلك الأخذ، وقد حرّم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام الغصب، وانعقد إجماع الأمة على تحريم هذا الفعل، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب التي توجب سخط الله وغضبه على العبد والعياذ بالله، وتوجب عقوبة الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرّم على المسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، والغصب أكل الأموال بالباطل؛ لأن الباطل هو الذي لا وجه للحق فيه، وكل من اعتدى على أرض أخيه أو ماله أياً كان ذلك المال بدون وجه حق فقد غصبه، وإذا أخذه على سبيل القهر والغلبة -كما سيأتي- فيدخل في عموم الآية أنه أكل المال بالباطل.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغصب، ومن أصدق الشواهد على ذلك أنه ثبت عنه حديثان يدلان على عظم الاعتداء على أموال الناس سواء ذلك بالغصب أو غيره، أحدهما: عام، والثاني: خاص.
أما الحديث العام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في حجة الوداع، وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام لأمته في ذلك الموقف وذلك اليوم، قال في أول الخطبة: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً ..) فتصوروا هذه الكلمة والجملة! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الناس ويريد أن يقول كلاماً ينبههم على أنه قد يكون آخر الكلام، وأنه وصية عظيمة، فمعناه: أنه قد بلغ من الأهمية الغاية، فكان أول ما استفتح خطبته عليه الصلاة والسلام -بعد أن قال هذه الكلمات العظيمة التي خشعت لها قلوب الصحابة وأحس الصحابة أنه يودعهم، وأنه آخر العهد به عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف الذي ما وقف بعده عليه الصلاة والسلام، وما عاش بعده إلا قليلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فعظم تحريم الدم والمال والعرض، فما أعظم حق المسلم عند الله عز وجل! حيث حرم ماله ودمه وعرضه.
فكل انتهاك لهذه المحارم الثلاث فإنه عصيان لله ولرسوله، ونسيان لهذه الوصية، فإذا سفك دم أخيه المسلم أو انتهك عرضه ولو بلمزة ولو بغيبة: فلان فيه..! فقد ضيع وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لما قالها عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف أشهد الله جل جلاله أنه بلغ رسالته وأدى أمانته.
فقوله: (إن دماءكم..) أتى بأسلوب التوكيد (إنَّ) ثم قال: (دماءكم) فجعل الدماء دماً واحداً، وقوله: (أموالكم) إذا اعتدي على مال أخيك المسلم فكأنه يعتدى على مالك، والذي يغصب من أخيك سيغصب منك، (وأعراضكم) وجعل الأعراض والأموال بمنزلة الدماء.
فكما أنه لا يجوز لك أن تسفك دم أخيك المسلم، فإنه لا يجوز أن تغتابه ولا يجوز أن تحتقره، ولا يجوز أن تمس هذا العرض لأخيك المسلم دون وجه حق، فالغصب اعتداء على الأموال.
ومن أسوأ أنواع الاعتداء: الغصب؛ لأن الغصب فيه نوع من القهر، والقهر فيه إذلال، والعبد قد يختار الموت على أن يعيش ذليلاً، ولذلك من الناس من إذا غصب حقه مات من الكمد والألم ولربما أصابه مرض نفسي فطاش عنه عقله، وعزب عنه رشده بسبب ما يجده من ظلم وقهر، ولذلك استعاذ صلوات الله وسلامه عليه بربه وقال: (أعوذ بك من قهر الرجال) فالقهر أمره عظيم.
فالسارق إذا سرق بالليل أو سرق خفية أخذ المال وذهب، ولكن الغاصب يأتي بقوته واستعلائه وجبروته ويفرض على الإنسان أخذ ماله فيأخذ ماله ويستمتع به، والمغصوب منه يرى ماله يؤكل بدون حق، فهذا من أبلغ ما يكون من الأذية والإضرار وانتهاك حق المسلم وضياع ما أوجب الله عز وجل له من حقوق!
كذلك أيضاً: صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بتعظيم أمر الغصب، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وهذا الحديث صحيح، يقول العلماء: فيه جملة من المسائل:
أولها: أنه يدل على تحريم الغصب؛ لأن القاعدة في الأصول: أن الفعل إذا ترتبت عليه عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، أو جاء فيه وصف مشعر بالذنب دلّ على حرمته، وعدم جوازه، فهذا الحديث يدل على حرمة الغصب، وهذا محل إجماع.
ثانياً: أنه يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن القاعدة في الكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة، أو توعّد عليه بعقوبة في الدنيا أو عقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، وهذا قد توعّد الله عز وجل عليه بأن يطوق صاحبه من سبع أرضين يوم القيامة، قال بعض العلماء: يطوق يوم القيامة من سبع أرضين على الحقيقة، والله على كل شيء قدير.
قالوا: يمد عنقه -والعياذ بالله- حتى يسع القدر الذي اغتصبه من مال أخيه ويطوق من سبع أرضين على حقيقة، والله لا يعجزه شيء.
فضرس الكافر الذي يعذب في نار جهنم يوم القيامة مثل أحد، وجبل أحد لا يقل عن أربعة كيلو مترات، وهذا الضرس فقط، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر -كما في الصحيح- مقعده في نار جهنم كما بين المدينة وبيت المقدس) فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
فيطوق على الحقيقة، وهذا الذي نؤمن به: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبنا بلسان عربي مبين، أنه إذا ظلم أخاه المسلم قدر شبر أنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين، أما كيف ذلك؟ فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.
وكذلك أيضاً أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز الغصب سواء كان ذلك في العقارات، أو كان في المنقولات، وأن الواجب على المسلم أن يحفظ لأخيه المسلم حقوقه، وألا يعتدي على تلك الحقوق، ولا يعين على الاعتداء عليها.
وتحريم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام للغصب لما فيه من الظلم، والظلم من أعظم الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فالأرض يعظم فيها الفساد ويكثر فيها الشر إذا انتشر فيها الظلم، والله يمسك قطره من السماء، ويمحق البركة في الأرض إذا كثرت مظالم العباد، وبالأخص كما ذكرنا في مسائل الغصب، فإن الغصب يقطع أواصر الأخوة، ويشتت الناس شيعاً وأحزاباً، ويجعل الناس لا تثق ببعضها، ويجعل حمية الدين تقتل في القلوب وتقطع، حينما يرى المسلم يؤكل ماله وينتهك عرضه ولا يغار عليه، ولا يحفظ له ذلك المال، ولا يحفظ له ذلك العرض.
ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن يبتعد عنه وألا يعين عليه، فقد يعين الإنسان على الغصب بكلمة تخرج من فمه، ولربما بإشارة، فالواجب على الإنسان أن يتقي هذه الكبيرة العظيمة وأن يخاف الله سبحانه وتعالى فيها.
والعلماء ذكروا مسائل الغصب من وجوه، فيعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان حقيقة الغصب وبم يكون الغصب؟!
كذلك أيضاً يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان مواضع الغصب، وفي أي شيء يكون؟!
وكذلك اعتنى العلماء ببيان الآثار المترتبة على الغصب.
فإن الله لما حرّم الغصب أوجب لهذا الذنب تكفيراً يكون برد العين المغصوبة، سواء كانت زائدة أو كانت ناقصة أو كانت كما هي، فإن كانت كما هي فلا إشكال، ويجب ضمان أجرتها إذا حبسها، وإذا كانت ناقصة فيجب عليه ضمان النقص، وإذا كانت زائدة ردها مع الزيادة، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، ثم يتكلم العلماء على مسألة التصرف في المغصوب، فلو أنه تصرف فيه حتى غير شكله وغير هيئته فأنقص منافعه، أو تصرف فيه فتغيرت بعض المنافع وعوض عنها بمنافع أخر، فكل هذه المسائل يعتني العلماء رحمهم الله ببيانها، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.
فالشريعة الإسلامية من سمو منهجها وكمال أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف عند تحريم الشيء، بل تبين حرمة الشيء والآثار المترتبة على تلك الحرمة، ولم يقف قضاء الإسلام يوماً من الأيام عاجزاً أمام مشكلة أو قضية سواء تعلقت بالغصوبات وآثارها أو بغيرها.
فالعلماء يتحدثون عن هذه المسائل لأنها تبعات وآثار مترتبة على الغصوبات، وهذا هو الذي سيعتني المصنف رحمه الله ببيانه، وتختلف المتون الفقهية ما بين مطول ومختصر؛ ولعل الإطالة والاختصار بسبب أن الفقيه قد يكون يرى حكماً تترتب عليه آثار، وقد لا يرى غيره ذلك الحكم فلا تترتب الآثار، فالذي يرى الحكم يفصل في آثاره.
فمثلاً: إذا قال: المغصوب تضمن زيادته، ولا يفصل سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، فحينئذٍ سيتكلم على جميع ما يكون من الزيادات، لكن إذا قال: لا يضمن الزيادة المنفصلة، ويفصل بين الزيادة المتصلة والزيادة المنفصلة، أو يفصل بين نماء الزيادة، أي: بين ضمان منافع المغصوب نفسه، ومنافع زيادته فحينئذٍ لا تكون هناك مسائل ولا أحكام تحتاج إلى تفصيل؛ لأن مذهبه يقف عند هذا الحد.
الموضع الأول: بين فيه المسائل التي تقدمت.
الموضع الثاني: بين فيه كيفية ضمان الغصب، وهو الفصل الثاني، وبين فيه حدود الضمان وصفة الضمان، واختلاط المغصوب بغيره، إلى غير ذلك من المسائل التي بينها رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه وإخوانه من العلماء والأئمة سلفاً وخلفاً خير ما جزى عالماً عن علمه وعن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق من عقار ومنقول].
الاستيلاء يكون على صورتين:
الاستيلاء الحقيقي: كأن يأتي ويدخل على داره ويخرجه من الدار، فيتمكن من نفس العين، فهذا استيلاء حقيقي، لا يستطيع صاحب الدار أن يدخلها، ولا يستطيع أن ينتفع بمنافعها.
أيضاً: جاء إلى سيارته فأخذ مفاتحها ثم حال بينه وبينها، فحينئذٍ يكون الاستيلاء حقيقياً، لأنه حال بينه وبين العين ومنافعها.
ويكون الاستيلاء حكمياً، مثلاً: يقول له: لا تدخل دارك، ولا تركب سيارتك، فإن دخلتها فعلت بك أو سأفعل بك، فهدده ومنعه، فحينئذٍ لم يستول عليها لكنه حال بينه وبين منافعها والانتفاع بها، فهذا أيضاً من الغصب ومن الأذية والإضرار، سواء كان الاستيلاء حقيقياً أو كان حكمياً بالحيلولة بين الإنسان وبين الشيء، مع أن العين في الصورة الثانية، -وهو الاستيلاء الحكمي- تكون تحت مالكها، لكن وجودها وعدمها على حد سواء، فحينما يقول له: إذا دخلت دارك أفعل وأفعل!! فوجود الدار وعدمه على حد سواء.
وإذا قال له: إذا ركبت سيارتك، أو ذهبت على سيارتك أو انتفعت بسيارتك فإني سأفعل بك وأفعل! فالسيارة وجودها وعدمها بالنسبة له على حد سواء، فهذا يعتبر غصباً.
وقوله: (الاستيلاء على حق الغير) خرج الاستيلاء على المباحات التي لا حق لأحد فيها، كأن يأتي شخص -مثلاً- إلى العشب والكلأ فيستولي عليه فإن هذا ليس بغصب.
وقوله: (على حق الغير قهراً)، أن يستولي على سبيل القهر والقوة والغلبة، وبناء على ذلك: خرج الاستيلاء خفية كالسرقة، فإن السارق والمختلس -والعياذ بالله- يستولي على مال غيره خفية، وهنا يفرق بين السارق وبين الغاصب، فالغصب يكون عياناً وجهاراً، ولكن السرقة تكون خفية، فلا يسمى الغصب سرقة، فلا يقال لشخص جاء إلى آخر وأخذ منه سيارته قهراً أمام عينيه وهو يعلم أن فلاناً الذي أخذها، ما يقال: سرق مني سيارتي! لأن السرقة تكون خفية، ولكن يقال: اغتصب وغصبه حقه؛ لأنه أخذه على سبيل القهر.
ويكون ذلك القهر إما بالتهديد وإما بالقوة والفعل والمس بالضرب، فجميع هذه الصور تعتبر من صور الغصب.
وقوله: (بغير حق) خرج الاستيلاء على مال الغير وحق الغير بحق، كما لو أن القاضي أمر ببيع مال المفلس بسداد الديون، فإنه حينما تؤخذ أموال المفلس -كما تقدم معنا في باب التفليس- تؤخذ بقوة منه شاء أم أبى، وتباع لسداد ديونه؛ لأن ذمته مشغولة لحق الغير، فحينما أخذنا مال المفلس أخذناه بحق ولم نأخذه ظلماً.
وبناء على ذلك: يكون هذا غير داخل في الغصب، وصحيح أنه أخذ بالقوة وأخذ بالقهر ولكن بوجه حق، وعلى هذا لا ينطبق عليه وصف الغصب.
وهذا التعريف في الحقيقة من أجمع التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله في تعريف الغصب.
وقوله: (من عقار ومنقول)، من: بيانية، وعقار: يعني: أن الغصب يدخل في العقارات وفي المنقولات، وقد بينا معنى العقار ومعنى المنقول.
فغصب العقار من أمثلته: أن يغصب بيته، أو يغصب أرضه، ولو كان قدر شبر، فلو أخذ قدر شبر من أرضه فقد غصبه.
ومثال الغصب في المنقولات: كأن يغصب سيارته، أو يغصب قلمه، أو يغصب ساعته أو ثوبه، وكل ذلك من غصب المنقولات.
هذه المسألة متعلقة بالتعريف، وهو يقول: الاستيلاء على حق الغير، فلابد أن يكون عندنا غاصب ومغصوب منه، وشيء مغصوب، وهذا الشيء المغصوب يشترط فيه أن تكون له حرمة، وأن تكون له قيمة، فإذا كانت له قيمة كالثوب والدابة والأرض، وله حرمة وقيمة شرعاً، حرم شرعاً، فإذا لم تكن له حرمة مثل أن يغصب خمراً، فالخمر لا حرمة له شرعاً ولا قيمة، فلا نقول: إنه غصب، لكن يفصل بين من يجوز له أن يشرب الخمر وبين من لا يجوز له أن يشرب الخمر، فالذميون وأهل الكتاب يجوز لهم شرب الخمر ومباح في دينهم، فهو محترم بالنسبة لهم ومال وله قيمة في دينهم، لكنه ليس له قيمة عندنا نحن وليس له حرمة.
ولو أنه غصبه ميتة، فالميتة لا قيمة لها ولا حرمة لها، فحينئذٍ لا نقول: هذا غصب، لكن في المسألة تفصيل.
فقوله: (وإن غصب كلباً يقتنى).
الكلب -أكرمكم الله- ينقسم إلى قسمين: ما أذن الشرع باقتنائه، وما لم يأذن الشرع باقتنائه؛ فقد أذن الشرع باقتناء كلب الصيد والحرث الذي يكون للحراسة، وكلب الماشية الذي يكون لحراستها أيضاً، وكلب الصيد لأن الله أحل لنا أكل صيد الكلاب: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، هذه الثلاثة الأنواع من الكلاب -أكرمكم الله- يباح اتخاذها، وأذن الشرع باقتنائها لمن يقتنيها لواحد من هذه الثلاثة: يقتنيها للصيد، أو لحراسة مزرعة، أو لحراسة ماشية، وما عدا ذلك فلا، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم ثمن الكلب، وقال كما في الحديث الصحيح في الصحيحين: (ثمن الكلب سحت)، ونهى عن ثمن الكلب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي حديث جابر لما سئل عن ثمن الكلب والسنور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، وفي حديث ابن عباس في السنن: (إن جاءك يريد أخذ ماله -يعني: أخذ مال الكلب- فاملأ كفه تراباً).
فإذاً: الكلب ليس له قيمة، فلو أنه غصب كلباً فإننا ننظر فيه: إن كان من غير الثلاثة فإن هذا الكلب يعتبر لا قيمة له، ولا يطلق على من أخذه أنه غاصب، لكن لو أنه أخذ كلباً يقتنى فإننا نقول: هناك مسألتان في الغصب:
إن قتل الكلب وقضى عليه وأهلكه فلا نوجب عليه الضمان؛ لأنه لا قيمة للكلب، وإن كان الكلب موجوداً فنقول: يجب عليك رد الكلب لمن أذن له شرعاً باقتنائه، فنرخص بقدر ما رخص الشرع.
فالذي يغصب الكلب له حالتان:
إما أن يكون الكلب مما أذن باقتنائه، فحينئذٍ يجب عليه رده إن كان موجوداً ولا ضمان عليه إن أتلفه، وإن كان الكلب غير مأذون باتخاذه كأن يأتي شخص فيجد شخصاً يلعب بالكلب فيأخذ الكلب ثم يتلفه -كما لو كان مأموراً بقتله- فقتل الكلب، فنقول له: لا يجب عليك الضمان ولو كان الكلب حياً لا يجب عليك الرد؛ لأننا لو قلنا: إنه يرده فإن هذا الشخص الذي يقتني الكلب على وجه غير مأذون به شرعاً يعتبر متعاطياً للحرام.
فالآخذ للكلب لو قلنا له: رده، أعان على الإثم والعدوان، فنقول: لا يجب الرد، إن كان الكلب غير مأذون باتخاذه، لكن إن كان مأذوناً باتخاده وجب الرد، فإن أتلفه فلا ضمان عليه.
لكن يبقى السؤال: إن كلب الصيد يعلّم، وربما كان أثناء تعليمه تحمّل مصاريف التعليم، ولربما استأجر شخصاً من أجل أن يعلّم الكلب، فهل يضمن ذلك أو لا يضمن؟
المنصوص عليه عند العلماء عدم الضمان، ويقوم القاضي بتأديب الشخص الذي أخذه، فيكون الضمان هنا للتأديب، ويكون دفع القيمة إجارة للمصلحة، فقالوا: هذا للمصلحة وقد علّم كلبه وحصلت له المصلحة، ثم بعد ذلك الضمان لا يضمن، لأن هذا من جنس ما يضمن.
وهناك قول يقول: يجب عليه ضمان أجرة التعليم، فيضمن له أجرة تعليم الكلب؛ لأنه فوت عليه مصلحة مأذون بها شرعاً.
إذاً: بالنسبة للكلب فيه تفصيل على الوجه الذي ذكرنا: إن كان مما أذن باقتنائه وجب رده إن كان حياً، ولا ضمان على من أتلفه، وإن كان غير مأذون باتخاذه نقول: لا يجب عليك رده ولا يجب عليك الضمان إن أتلفته.
وقوله: (أو خمر ذمي).
أي: إن أخذ خمر ذمي وجب عليه الرد إن كان الخمر موجوداً، ولا يجب عليه الضمان إن أتلفها؛ لأن الخمر لا قيمة لها، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه قام في الغد من فتح مكة وأخذ بحلق الباب -كما في الرواية في السير- وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته: إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقال: (حرما بيع الخمر) فأسقط قيمة الخمر، ودل على أن حكم الشرع على أن الخمر لا قيمة لها بحكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح عليه الصلاة والسلام الطائف، جاء له صديق في الجاهلية وأعطاه مزادتين من الخمر هدية له على الفتح، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: (أما علمت أن الله حرمها؟ -كان يظن أن الخمر مباح- فقال: ما علمت، فقام رجل فساره -أي: سار صاحب المزادتين- قال عليه الصلاة والسلام: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها) فأسقط المالية عن الخمر، ودل على أن الخمر لا قيمة لها، فلو أتلف الخمر نقول: لا يضمن قيمة الخمر، سواء كانت خمر ذمي أو غيره.
يقول قائل: الذمي مأذون له في الخمر وماله كمال المسلم بحكم عهد الذمة، قالوا: هذا شريطة ألا يظهر، فإن أظهر فقد أخرجها عن ضمان حقه.
الميتة من غير الجلد متفق على تحريمها وعدم الانتفاع بها، إلا الشعر ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله،
وأما بالنسبة للجلد فقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن جلد الميتة فيه مذهبان، وجمهور العلماء على أن جلد الميتة لو أخذته ودبغته فإنه طاهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ومر على ميتة فقال: (هلا انتفعتم بإهابها؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها) فدل على أن التحريم يختص بالأكل ولا يشمل الانتفاع بالجلد.
وعند الحنابلة -وهو القول الثاني في المسألة- لا يجوز الانتفاع به، وأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الجهني رحمه الله -وهو من التابعين- قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين وفيه: وألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) فقال: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب وهو الجلد، ولا عصب، فدل على أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، ولكن الحديث الأول أصح من هذا الحديث، والحديث الثاني مضطرب إسناده ومتنه، والعمل على عدم ثبوته.
وبناء على ذلك نقول: إن جلد الميتة يجب رده، إذا كان جلد الميتة مما يمكن دبغه ومما أذن بدبغه من بهيمة الأنعام وما في حكمها، على التفصيل الذي قدمناه في الطهارة، فيجب ضمانه ويكون طاهراً بالدباغ، ويضمن من أتلفه إذا أتلفه بالغصب.
(وإتلاف الثلاثة هدر) من أتلف الخمر، أو الميتة، أو الكلب، فإتلاف الثلاثة هدر، ففرق بين الرد وبين الإتلاف، فيرد الأولين وهما: الكلب لمن يقتنيه على الوجه المأمور به شرعاً، والخمر للذمي؛ لوجود الإذن الشرعي، وهذا في الرد.
وقلنا: هناك جانبان: الرد والضمان.
فبالنسبة للرد يجب إذا كان مأذوناً به، مثل: الكلب للصيد أو الحرث أو الماشية، والخمر للذمي؛ لأنه مأذون له به شرعاً.
وأما بالنسبة للإتلاف فلو أتلف فلا ضمان عليه، سواء أتلف خمراً أو أتلف كلباً -على التفصيل الذي قدمنا- أو أتلف جلد ميتة، لكن قلنا: جلد الميتة فيه تفصيل؛ لأن المصنف -رحمه الله- درج على مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
فالواجب علينا أن نتفكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرضها علينا إسلامنا، وأن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجور، الذي ضيعت فيه حقوقهم، وانتهكت فيه أعراضهم، وسفكت فيه دماؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع -بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ- لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر يوجبه علينا إسلامنا وديننا، أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام، والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل في تلك البقعة التي قلّ أن يوجد فيها مسلم، حرق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- حرقوا عندما رأوا الإسلام في عقر تلك الدار التي قلّ أن يوجد فيها مسلم، يبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن، وحينما رأوا أن هذه الأمة تفتخر بإسلامها، وأنها متمسكة بدينها تحس أنها مرتبطة بكم برابطة الدين، وهي اليوم تقف محتاجة في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولاً وقبل كل شيء ثم إلى رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله في إخوان الإيمان.
وعلى طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل على المسلمين إذا خذل بعضهم بعضاً، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض.
كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في أي بلاد، وكان البعض منهم ربما يمرض حتى يعاد من شدة الألم والحزن، ونحن لا نبدي الخوف والضعف، والله يعلم ما تستكن به قلوبنا من الثقة في الله جل جلاله.
وخير ما تنصرون به إخوانكم: أولاً وقبل كل شيء: ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهين إنسان بدعواه لعل الله أن يجعل لك دعوة تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها، فأنت إذا قلت: اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء في سجودك.. بين الأذان والإقامة.. في الأسحار، ادع لإخوانك.
تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أم للإنسان أو أنها أخت أو أنها بنت، ماذا يكون حال الإنسان؟ أليس بيننا وبينهم الإسلام؟! أليست هناك وثيقة أعز وأعظم من وثيقة النسب؟
لو أن إنساناً من قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك، وشعرت بالأسى والحزن والشجى، فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟!
فالله الله، على الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن يوجهوا الناس وأن يذكروهم وأن يعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر المسلمين نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقاً عظيماً، وأن ديننا حكم علينا الوقوف بجوارهم، وهذه هيئات الإغاثة والمؤسسات الخيرية -أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده وأن يلهمهم الصواب والرشد- قد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، فقد تزور إنساناً غنياً تقول عنده كلمة تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء يكتب الله لك بها رضاه في يوم تلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها الرضا إلى يوم يلقاه، فتأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، وقد تكون الكربات سبباً في دخول الجنة، فكم من متكلم في هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات، وكم من كلمات حركت القلوب فكفكفت دموع اليتامى وجبرت قلوب الثكالى كتب الله عز وجل بها عظيم الحسنات.
الله الله! واحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فتكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، فتجب علينا نصرتهم ومؤونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر.
والواجب علينا أن نستشعر هذا الأمر وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى -وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثاً مستنصراً- اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفو وفي كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم، يا حي يا قيوم!
اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تدمر الكافرين ومن أعانهم، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم احصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعل بأسهم بينهم وسلم المسلمين من شرورهم، يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه..
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، من صلّى على أرض أو دار مغصوبة فهل تصح صلاته أو لا؟ قولان مشهوران للعلماء.
جمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة وأنه آثم بالغصب، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة باطلة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إلا إذا رجع إلى ذاته، وذات الصلاة مأمور بها وليس بمنهي عنها شرعاً.
وبناء على ذلك فإننا نقول: تصح صلاته بنص السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه ذكر أركان الصلاة في حديث المسيء صلاته وقال: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) فنحن نحكم بصحة الصلاة وتمامها لتوفر أركانها وشرائط صحتها.
وأما بالنسبة للغصب فإننا نقول: هو آثم لغصبه، وصلاته صحيحة، وتبرأ ذمته.
وهكذا لو حج بالمال المغصوب فإن حجه صحيح ولكن يجب عليه بالنسبة للهدي الضمان؛ لأن الهدي يختلف عن مسألتنا فإن الهدي النهي فيه راجع لذاته، وهو يشترط في الحج إن كان متمتعاً أو قارناً فيضمن إن كان الهدي مغصوباً، أما أنه لو سافر وماله مغصوب وركب سيارة ونزل داره، فهناك فرق بين فعل العبادة وبين ذات الشيء المنهي عنه.
وبناء عليه فإن حجه صحيح، ولكن هل يتقبل الله عز وجل حجاً من مال حرام؟
إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور
لو حج الإنسان مائة عام ولم يتقبل الله عز وجل حجه فما هي الفائدة؟ يتعب راحلته ونفسه.
فالمال المغصوب يوجب عدم قبول الحج نسأل الله السلامة والعافية، والحج صحيح، ونقول: أجزأته عن حجة الإسلام، ولكن لا يقبل إلا إذا كان من مال حلال، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل الله إلا طيباً) والله تعالى أعلم.
الجواب: أخذ الوالد من مال ولده جائز، فظاهر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما
وفي الحقيقة إذا سأل الوالد ولده المال فعلى الولد أن يبادر وأن يعلم أن حق الوالد كبير، وأن الوالد أعز من المال، وعليه أن يضحي من أجل والديه، وعلى الوالد أيضاً أن يتقي الله في الطلب، فلا يطلب إلا في حدود الحاجة، ويطلب بالمعروف ولا يضيق على ابنه، وإنما يكون ذلك على الوجه الذي لا ضرر فيه ولا إضرار، والله تعالى أعلم.
الجواب: قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الخمر إذا استحالت خلاً وجب ردها، وهذا تفصيل عند الشافعي -رحمه الله- وطائفة من أهل العلم في الغصوبات؛ لأن هناك فرقاً بين أن تخلل بنفسها وبين أن يخللها، فإذا خللها فهذا حرام، ولكن إذا تخللت بنفسها فحينئذٍ تكون قد انتقلت إلى مباح، ومن هنا قال بعض العلماء: يجب عليه ردها؛ لأنها انتقلت إلى مباح، وهذا المذهب قوي، أن الخمر إذا تخللت بنفسها ثم أصبحت خلاً وجب ردها؛ لأنها انتقلت عن العين المحرمة إلى العين المباحة.
وبعض العلماء يقول: إن صاحب الخمر لا يدله، وإذا تخللت عند الغاصب فإنها تكون ملكاً للغاصب ولا تكون ملكاً للمغصوب منه.
والأول أوجه وخاصة في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله: من خمر الذمي؛ لوجود اليد وثبوتها من جهة الإذن الشرعي للذميين بشرب الخمر، والله تعالى أعلم.
الجواب: بالنسبة لتنفيذ الحد، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فحينئذٍ إذا زنى يقام عليه الحد كما يقام على المسلمين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهوديين الذين زنيا، فإنهما لما زنيا أقام عليهما النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله عز وجل.
وعلى هذا يفصل:
إذا ارتكب الذمي الحد فينقسم إلى أقسام: تارة يرتكبون الحد ولا نطلِّع على ذلك، وتارة يرتكبون الحد ونطلع.
فإذا ارتكبوا الحد ولم نطلع فلهم صورتان:
الصورة الأولى: أن يرتكبوا الحد ويقيموا حدودهم بشريعتهم، فهذا لا دخل لنا مادام أنهم لم يترافعوا إلينا.
الصورة الثانية: أن يقع الزنا بينهم ثم يرفعوه إلينا، فإن رفعوه إلينا هل نحكم بشريعتهم أم بشريعتنا؟ الراجح أن يحكم بشريعة الله، فقد أمر الله عز وجل بالحكم: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة:42] فأمر الله عز وجل أن نحكم بينهم بحكم الله عز وجل، والله جعل القرآن مهيمناً على الكتب والشرائع المتقدمة ناسخاً لها، فيجب إقامة حكم الله فيهم مادام أنهم ترافعوا إلينا.
أما لو أنه وقع الزنا منهم أمام المسلمين أو شهد الشهود من المسلمين عليهم فحينئذٍ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويعتبر انتهاكهم لحرمة الله جهاراً يوجب إقامة حكم الله عز وجل عليهم بحكم الإسلام، ولا خيار في هذه المسألة ولا خلاف.
لكن في المسألة السابقة إذا وقعت فيما بينهم وترافعوا إلينا هل يكون مخيراً أم لا؟ هذه المسألة الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم لآيات المائدة المشهورة: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] هذا فيه نوع من التخيير، وبعض العلماء يقول به، وبعض العلماء يقول: إن هذا التخيير نسخ.
والذين يقولون بالتخيير قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالتوراة، يعني: نفذ ما في التوراة، فكان منفذاً ولم يكن حاكماً، قالوا: والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشهود من أهل الكتاب، والشهود من أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم إلا فيما استثناه الله عز وجل من الوصية على آية شهادة الوصية في السفر، وهي آية المائدة المشهورة.
قالوا: ومما دل على ذلك كون النبي عليه الصلاة والسلام دعا الشهود ونفذ عليهم بحكم التوراة وليس بحكم الشرع، والصحيح: أنه كان منفذاً لحكم الله ولكن شهادتهم هنا في مسألة الإقامة تعتبر منسوخة بصريح القرآن أن الله سبحانه وتعالى أمر بالحكم بينهم، ونص على الحكم بشرع الله عز وجل فتكون آية المائدة ناسخة لآية التخيير؛ وعلى هذا فإنه يقام عليهم شرع الله عز وجل من هذا الوجه.
فإذا أثبت هذا التفصيل ما يقع فيه إشكال؛ لأن مسألة الخمر للذمي غير مسألة انتهاك الحد، مسألة انتهاك الحد أوجدت الموجب والسبب المقتضي لإقامة الحد، ولكن مسألة المالية مختلفة، فمسألة المالية راجعة إلى ثبوت اليد وعدم ثبوتها، والذمي قد جعل الله له يداً على الخمر بخلاف المسلمين، فأنت تتعامل مع من أذن له لا مع من لم يؤذن له، فهذا وجه الفرق بين المسألتين، هذه المسألة وهذه المسألة ولا تعارض في حكم الله بين المسألتين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر