أما بعد:
قد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تباشير الصباح، وكان منها:
أولاً: دعوة إبراهيم عليه السلام في قول الله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].
ثم بشارة عيسى -روح الله- عليه السلام؛ إذ قال تعالى عنه في سورة الصف: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ).
كما جاءت بشارات الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والزبور. وقد مر بنا هذا ووقفنا عليه.
ثم شهادات أهل الكتاب، وآخر تلك الشهادات شهادة صاحب عمّورية، وإليكم شهادته:
قال صاحب عمورية -وكان على دين المسيح- لـسلمان الفارسي الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سلمان
قال له هذا المسيحي وهو يموت -ولا يعرف إلا الصدق في هذه الحالة-: والله! ما أعلم أنه أصبح اليوم أحد من الناس على مثل ما كان عليه هؤلاء -أي: الرهبان الذين تنقل بينهم سلمان يروي عنهم ويتعلم- آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل -والله إنها للمدينة- به علامات -أي: بهذا النبي إذا ظهر علامات تدل على نبوته- لا تخفى: فهو يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.
وقد امتحنه سلمان بهذا، فجاءه اليوم الأول بصدقة فردها عليه وقال: أعطها لمستحقها، ثم جاء في اليوم الثاني بهدية فقبلها منه وأثنى عليه خيراً صلى الله عليه وسلم.
قال: وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت -يا سلمان - أن تلحق به بتلك البلاد فافعل.
وقد مشى سلمان يتنقل وبيع -فيما أُذكر- مرتين عبداً، حتى أتى المدينة وهو عبد يشتغل في البساتين.
إذاً: هذه شهادات أهل الكتاب.
[إن من جملة تباشير الصباح -التي سبقت طلوع الفجر المحمدي-: أن كثرت الشهب في السماء، ورجمت الشياطين، الأمر الذي اندهش له الناس وفزعت له الكهان من نساء ورجال، وهذا سواد بن قارب رضي الله عنه يمر بين يدي عمر بن الخطاب ، فيقول له رجل: يا أمير المؤمنين! هل تعرف من المار؟ فيقول عمر : لا، ومن هو؟ فيقول له: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيّه] والرئي هو الجن الذي يلازم الشخص ويصاحبه ويتراءى له في خلاه [بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وعندها أرسل إليه عمر فجاء، فقال له: أنت سواد بن قارب ؟ قال: نعم. قال: أفأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ فغضب سواد وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين] أي: كيف تقول لي هذا يا عمر ؟ لأن عمر قال له: أفأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ وكان كاهناً، ولهذا يرى الجن [فقال عمر : سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك] أي: وما تألمنا ولا غضبنا. فالكهانة أخف من الشرك قطعاً، وبهذا خفف عنه ما عاناه.
[فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئيي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها] والعيس هي الإبل البيض.
[تهوي إلى مكة تبغي الهـدى ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ليس المقاديم كأذنابها] وقطعاً ليس المتأخر كالمتقدم. أي: فعجل بالدخول في الإسلام.
[ثم ذكر أنه أتاه ليلتين بعد الأولى] أي: الرئي من الجن أتاه ليلتين بعد الأولى [وهو في كلها بين النائم واليقظان وقال له: قم يا سواد بن قارب ، واعقل إن كنت تعقل: إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، وأنشده في كل ليلة أبياتاً منها قوله:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ولم يك فيما قد تلوت بكاذب] هذا قول الجان، والرقدة من الرقاد.
[ثلاث ليالٍ قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسلم سواد بن قارب ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه قصة رئيه -الجني- وأنشد الأبيات التالية] أمام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
[فأشهد أن الله لا رب غيـره وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا وإن كان فيما قلت شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب]
أما كثرة الشهب ورمي الشياطين بها ومنعهم من استراق السمع فقد جاء ذكره في القرآن الكريم، وهو قول الله تعالى من سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]] وهؤلاء الجن الذين حضروا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة بين مكة والطائف ونقلوا رسالتهم إلى أقوامهم، هذا من جملة كلامهم، وقد جاء في سورة الجن من قول الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن:1].
فكثرتُ الشهب وهولت العالم وخاصة الكهان، وكانت كل ذلك تباشير طلوع الشمس المحمدية.
والآن مع حادثة أصحاب الفيل، التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة؛ إذ ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وحادثة الفيل هذه نزل فيها سورة بكاملها تسمى سورة الفيل.
[فسمع بذلك رجل كناني] ويا ليتني كنت هو! هذا بطل من كنانة سمع بهذه المؤامرة [فأتى القليس] أي: الكعبة المصطنعة [وأحدث فيه وذهب] تغوط وأفرز العذرة ولطخ الجدران بها؛ إهانة لهذا البيت الذي يتحدى به بيت الله [فبلغ ذلك أبرهة ، فحلف أن يغزو مكة ويهدم الكعبة] وكاد يصل -كما عزم وعرفتم- ولكن الله صفعهم وردهم.
[وجهز جيشاً قوياً، وأخرج معه الفيل المسمى محموداً] هذا الفيل يسمى محمود [وسار في طريقه -إلى مكة- وكلما اعترضته قبيلة من القبائل العربية لتصده قاتلها وهزمها، حتى انتهى إلى مشارف الحرم] وأنتم تعرفون المكان الذي حطم الله فيه جيشه، ما بين مزدلفة ومنى، يقال له: وادي محسر. وهذا يستحب الإسراع فيه للمشاة حتى يتجاوزوه؛ لأنه مكان أهلك الله فيه أبرهة وجيشه.
[فبعث رجاله، فساقوا ماشية أهل مكة، ومن بينها مائتا بعير لـعبد المطلب بن هاشم شيخ مكة ورئيس قريش بها] بعث رجاله ليأخذوا مواشي مكة فأخذوها ومن بينها مائتا بعير لشيخ مكة ورجلها الأوحد [ثم جرت سفارة] بين قريش وبين الجيش الغازي وعلى رأسه أبرهة عليه لعائن الله [انتهت بمفاوضات طالب فيها عبد المطلب بإبله] طالب فيها عبد المطلب أبرهة بأن يرد عليه إبله [وأما البيت فقد قال قولاً سار مثلاً] إلى اليوم [إن للبيت رباً يحميه] وهذا مثل عند العوام والعجائز، قاله عبد المطلب شيخ قريش.
[ولما علم عبد المطلب عجز قومه عن مقاومة هذا العدو الظالم ذي الجيش العرمرم الجرار، أمر أهل مكة أن يلتحقوا بشعاف الجبال وقممها حتى لا تلحقهم معرة الجيش الغازي، ففعل ذلك أهل مكة] والتحقوا بالجبال والأماكن البعيدة، حتى إذا دخل الجيش الظالم الغازي لا يفتك بالناس وينتهك حرمات النساء.
[ووقف عبد المطلب بباب الكعبة آخذاً بحلقته، وهو يقول:
لاهُمَّ] أي: اللهم [إن العبد يمـ ـنع رحله؛ فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدواً محالك] غدواً بمعنى: غداً.
[إن كنت تاركهم وملـ ـتنا فأمر ما بدا لك
وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك] أهل الله، آله أي: أهله.
واستجاب الله ..
[فلما أصبح أبرهة وتهيأ لدخول مكة، ووجه الفيل إلى مكة، أبى الفيل أن يمشي، فإذا وجهه إلى غيرها مشى] وإذا وجهه إلى مكة برك [وما زال يحاوله حتى أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل من البحر، يحمل كل طير ثلاثة أحجار، واحدة بمنقاره واثنتين برجليه، فما أصابت رجلاً إلا أخذ لحمه يتساقط] قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5].
لا إله إلا الله .. هذا قبل أن تعرف البشرية القنابل المدمرة.
[وطلبوا من يدلهم على الطريق ليعودوا هاربين إلى اليمن، فقال دليلهم] طلبوا من يدلهم على الطريق ليعودوا إلى بلادهم باليمن، فقال دليلهم:
[أين المفر والإله الطالب ................] أي: إذا كان الله هو الذي يطلبكم فأين المفر؟ فالله فوقكم وأمامكم ..
[.................. والأشرم المغلوب ليس الغالب
وانتهت الحال بهزيمة جيش أبرهة وهلاكه] والله الذي لا إله غيره، لو أن المسلمين في أي ديارهم قاموا على منهج ربهم واستقاموا لأصبحوا كوكباً ينير في دنيا الناس، ولو أطبق عليهم من على الأرض كلهم ما استطاعوا أن يمسوهم بسوء، ولكن لما تخلينا عن ولاية الله وتخلى الله عنا فلا نلوم إلا أنفسنا، ستقولون: يا شيخ كيف تقول هذا؟! ألم تستعمركم بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وهولندا؟ أما كنتم مسلمين يومئذٍ؟ كان أجدادنا مسلمين من نوع الإسلام الذي عليه نحن الآن، ولولا لطف الله ووجود صالحين وصالحات في كل بلد لكانت الفرصة متاحة لأن يسلط الله علينا من يؤدبنا.
[وأما أبرهة فقد نقل مثخناً بجراحاته إلى صنعاء فمات بها] والعياذ بالله إلى جهنم [وقد أنزل الله تعالى سورة الفيل متضمنة هذه الحادثة إجمالاً، وهي آية صدق النبوة المحمدية] ومن يشك في أن محمداً رسول الله؟!
والآن نتائج وعبر لهذه المقطوعة التي هي تباشير الصبح المحمدي، ملخصة عندنا في هذه الأرقام الثمانية، وقد درسناها ولكن هذا من باب الاستذكار، علنا نذكر ما سبق لنا أن درسناه.
[لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبر نُجملها فيما يأتي]
[ثانياً: بيان استجابة الله تعالى دعوة خليله إبراهيم عليه السلام] وما زال الله يستجيب لأوليائه، فما دعاه وليه وألح عليه ولازم بابه يقرعه ويبكي إلا حقق الله له مراده، ومن هم أولياء الله؟ الحاضرون كلهم إن شاء الله.
من منكم يبين لنا من هم أولياء الله؟ قم. وإن كنت تُتهم بأنك تأكل الربا، قالوا: هذا يبيع الريالات الحديد بالورق!! رغم أنك تعتمد على فتيا من جليلين عظيمين من علماء المملكة.
مداخلة: أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون.
الشيخ: حسبك! كل مؤمن تقي هو لله ولي، سواء كان أبيض أو أسود، شريف أو وضيع، عجمي أو عربي، فقير أو غني، مريض أو صحيح.. فكل هذه الاعتبارات لا محل لها، ومعنى تقي أنه يفعل أوامر الله بصدق، ويتجنب مناهي الله بصدق، ليس أكثر من هذا، أذن لك في اللبن فاشرب، وحرم الخمر فلا تشرب.
هل عرفتم أولياء الله؟
إنهم المؤمنون المتقون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، من قال هذا؟ الله وليهم.
ومن الخير أن نعيد الآية الكريمة لعلها تحفظ: يقول الله عز وجل في سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وكأن سائلاً قال: يا رب من هم أولياؤك الذين قلت فيهم: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فأجابه بهذه الجملة البيانية الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].
فكل من يسمع هذا القول يتساءل: لعلي أنا أو أبي منهم، من هؤلاء؟ أو ما تسألون؟ والذين لهم عقول -والله- لا يسكتون، من هم الذين قال الله فيهم: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، بيض كانوا أو سود، في الأولين أو في الآخرين، فلا التفات إلى صفة من صفاتهم، وإنما فقط إيمان وتقوى.
وبعد يا رب ما لهم؟ نفيت عنهم الخوف والحزن، وماذا بعد؟ قال: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وحتى لا يُظن أنه يطرأ على هذا نسخ، أو شيء من ذلك، قال الله: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64].
أرونا قرية من القرى في العالم الإسلامي أهلها كلهم أولياء، دلونا عليها نُحجها، يوجد أو لا يوجد؟ الله أعلم. وإن كنا -معاشر الأبناء- نقرر حقيقة: وهي أن مراتب الولاية كمراتب الجيش النظامي، فالجيش النظامي يُبتدئ فيه برتبة عسكري ثم ملازم، وملازم أول، وملازم ثاني، ونقيب وعريف، وقائد، ورائد .. ثم مقدم وعقيد.
على كلٍ رُتبٌ نهايتها القائد العام، وكلهم في سلك الجيش، فكذلك كل المؤمنين والمؤمنات أولياء ويتفاوتون في الرتب بقدر اليقين وقوة الإيمان، وبقدر امتثال الأوامر واجتناب النواهي تكون الولاية رفيعة، وإذا ضعف الإنسان في أداء الواجبات أو قصّر تنقص درجته، فإذا كفر أو أشرك انمحى اسمه من ديوان الولاية.
إذاً: كلكم أولياء إن شاء الله.
قال -أي: دانيال عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل- (فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال لي: السلام عليكم يا دانيال، إن الله يقول: إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب، فسلطت عليهم بختنصر فقتل رجالهم وسبى ذرياتهم، وهدم بيت مقدسهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم ولا مقيلهم عثراتهم، فلا يزالون مغلوبين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث فيهم نبياً من بني إسماعيل، الذي بشرت به هاجر وأرسلت إليها ملاكي فبشرها، وأُوحي إلى ذلك النبي .. إلى آخر ما جاء). هذه بشارة دانيال أحد أنبياء بني إسرائيل.
فالعبرة من هذا الذي تقدم في هذه المقطوعة من السيرة هو وجوب الإيمان اليقيني، ليس مجرد إيمان فقط، بل إيمان ينتهى بك إلى اليقين، فكأنك ترى محمداً صلى الله عليه وسلم وتسمع كلامه [ووجوب اتباعه وتعظيمه ومحبته فوق محبة النفس والمال والأهل والولد].
كيف نتبعه؟
الجواب: ما مات صلى الله عليه وسلم وترك خيراً إلا دل الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، وورث أصحابه من الرجال والنساء عنه صفاته، إذا تكلم، أو إذا خطب، أو إذا جلس، أو إذا قام، حتى الأكل تعلموا كيف يجلسون للأكل.
في مرة من المرات في يوم من الأيام رأيتني في رؤيا منامية في بستان، والرسول صلى الله عليه وسلم جالساً ونحن حوله وهو يأكل، وجلس والله كتلك الجلسة -عملياً- ثنى اليمنى هكذا، وجلس على اليسرى وهو يأكل، ولو اجتمع الأطباء ودرسوا حقيقة هذه الجلسة لوجدا العجب فيها؛ لأن أعمال الرسول كلها ممنوحة من الملكوت الأعلى، لا يخرج عمل عن غير فائدة، فلابد من حصول خير أو دفع شر.
إذاً: وجوب اتباعه في ماذا؟ حتى في نعلك، كيف تلبس نعلك؟ تبدأ باليمين ثم اليسار، لِم؟ لأن الرسول بدأ باليمين. وكيف تخلعه، بم تبدأ؟ تبدأ باليسار، وكيف تنام على جنبك الأيسر أو الأيمن؟ الأيمن. وعندما تقوم من فراشك ماذا تقول؟ تحمد الله وتثني عليه وتهلل وتكبر، وإذا أردت أن تركب السيارة ماذا تقول؟ هل تقول: يا ليلى! أو تقول: بسم الله، والحمد لله، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]؟ فمتابعته صلى الله عليه وسلم هي المشي وراءه، بحيث نتقيد بكل صفاته التي ليست خاصة به، وإنما هي مشروعة لأمته.
وبهذا تتحقق الولاية وحب الله عز وجل، وعندنا في هذه القضية آية من كتاب الله، وهي قوله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فالذين يدّعون حب الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يتابعونه لا في القليل ولا الكثير دعواهم باطلة، فالدعوة إذا لم يؤيدها الدليل فهي فرية وكذبة.
عندما جاء وفد نجران من النصارى إلى المدينة والرسول فيها صلى الله عليه وسلم كانوا ستين راكباً، استضافهم الرسول عند المؤمنين؛ لأنه ليس هناك فنادق ولا مطاعم.. والشاهد عندنا في هذا: أنه لما سألهم عن عبادة عيسى، قالوا: ما عبدناه لذاته، بل عبدناه من أجل أن يحبنا الله، أي: عبدنا عيسى وألهناه من أجل أن نتوسل بذلك إلى الله ربنا ورب العالمين، فنزلت هذه الآية ومعها ثمانون آية في هذا الشأن: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، أي: إذا كنتم تريدون أن يحبكم الله فاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم يحببكم الله، هذا وعد الله، وما من عبد يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيمانه وعبادته وشرعه وآدابه وأخلاقه إلا أحبه الله عز وجل.
وهنا لطيفة ينساها الطلاب وهي: ليس الشأن أن تُحِب، وإنما الشأن أن تُحَب، فإذا كان شخص يحب ليلى، وتائه كمجنونها في الصحارى وهي تكرهه، ماذا استفاد إلا البلاء والشقاء، فكونك تدعي حب الله وهو يكرهك ماذا استفدت؟ فليس الشأن أن تُحِب أنت، إنما الشأن كل الشأن أن تُحَب.
فلهذا يا معشر المستمعين والمستمعات! أحبوا الله واطلبوا حبه حتى يحبكم، وأنتم تستطيعون أن تحبوه بقلوبكم وأنتم نائمون على فرشكم، لكن هل هو يحبكم وأنتم كذلك؟ لابد من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسر معروف عند أهل العلم، وهو أن الذي يتابع رسول الله فيما جاء به لا يزال يصفو ويطيب ويطهر حتى يصبح كالملك في صفاء روحه، ومن ثم يحب الله التوابين ويحب المتطهرين. هذا هو سر القضية.
فصاحب النفس الخبيثة والروح المنتنة من أوضار الذنوب والآثام لا يحبه الله، ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، فمتابعة الرسول تنتج لك صفاء روحك وزكاة نفسك وطهارتها، فإذا طابت الروح وزكت قبلها الله في جواره وأحبها؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر