أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: فمازلنا ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب: (هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب)، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه المقطوعة الكريمة، وهي: [قبل الفجر المحمدي]. أي: قبل أن يطلع النور المحمدي في ديار الله، وقبل ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي: كيف كانت حالة العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية؟
وهي مكونة من أربعة دروس.
الأول: حالة العرب السياسية. وسوف نمر بها إن شاء الله ونقف على مواطن ينبغي أن نقف عندها ونعتبر بها.
ثانياً: الحالة الاقتصادية (المالية).
ثالثاً: الحالة الاجتماعية.
رابعاً: الدينية.
لنعرف كيف كانوا متهيئين لطلوع هذا الفجر وظهور هذا النور المحمدي؛ لأنهم كانوا هابطين إلى أقصى معاني الهبوط سياسياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً، فكانوا في حاجة إلى فجر ينبثق أنواره فيكملون به ويسعدون.
وما أحوج المسلمين اليوم بل ما أحوج البشرية جمعاء إلى هذا النور المحمدي.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [قد اجتمعت كلمة المؤرخين عامة] الذين أرخوا تاريخ البشرية القديم والحديث [على أن العالم الإنساني قاطبة -والعالم العربي بصورة خاصة- كان يعيش في دياجير ظلام الظلم والجهل، وظلمات الطغيان والاستبداد] هذا حق -والله- والواقع يشهد، والقرآن يقرر، والنبي يخبر بذلك صلى الله عليه وسلم.
قال: [تتنازعه] أي العالم العام والخاص [الامبراطوريتان الفارسية شرقاً والرومانية غرباً] هذا هو العالم الإنساني والعربي في ذلك الوقت تتنازعه الإمبراطوريتان الفارسية -نسبة إلى فارس- شرقاً، والرومانية -نسبة إلى الرومان- غرباً.
قال: [ويؤكد هذه الحقيقة] التي قدمناها [قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: ( إن الله نظر إلى سكان العالم فمقتهم عربهم وعجمهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب )]. أي: مجموعات قليلة هنا وهناك، كانوا متمسكين بدين الله عز وجل، بعضهم يهود وبعضهم نصارى، وأما من عداهم فكانوا عامة مشركين.
فقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إن الله نظر إلى سكان العالم فمقتهم ). المقت معروف ( عربهم وعجمهم إلا بقايا قليلة من أهل الكتاب ). يدل على أنه كان هناك يهود ما زالوا على العهد الصحيح، وبقايا من النصارى كذلك.
قال: [فالأحوال متردية ساقطة هابطة في العالم الإنساني بأسره] أي: قبل البعثة المحمدية [ لاسيما في العالم العربي حيث الفساد في كل جوانب الحياة، السياسية منها كالاقتصادية، والاجتماعية كالدينية، الكل سواء] في السقوط والهبوط.
ولا تغضب يا عربي! فأنت الآن مسلم.
احذر! أن يخدعك الشيطان فتغضب للعرب ولو كنت عدنانياً فإنك الآن مسلم والحمد لله!
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [وهذه نظرة خاطفة نلقيها جميعاً على ديار العرب] لنشاهد الواقع كما هو [وكلمة عابرة نقولها على تلك الأوضاع المتدهورة المتهالكة؛ ليُعرف مدى الحاجة إلى فجر النبوة المحمدية].
إذا رأينا الظلام الدامس الحالك عم الأرض نتطلع إلى فجر يطلع؛ لأن الظرف يتطلب ذلك، ووالله لولا البعثة المحمدية والفجر النبوي الذي طلع ما تمتعتم بهذه الكهرباء ولا عرفها غيركم.
هذه كلمات يقولها بعض العقلاء في أوروبا، يقولون: لولا الإسلام ما عرفنا الكهرباء ولا طرنا في السماء ولا عرفنا الحياة. فقد كانوا كالبهائم يأكلون الضفادع، أتدرون من رفع رءوسهم؟ إنها الأنوار المحمدية! لكن مع الأسف قضاء الله أن ينتفعوا منا ثم يذبحونا. لِمَ هذا؟ ليبقوا في شقاء وبلاء إلى يوم القيامة، لقد انتحروا بأيديهم.
لقد أخذوا هذه الأنوار منا ثم رفسونا، ولو أنهم لم يرفسونا لدخلوا في الإسلام وسعدوا في الدنيا والآخرة، لكن انتقم الله منهم فحرمهم، فهذه نظرة خاطفة لنعرف مدى الحاجة إلى فجر النبوة المحمدية و[لتبديد تلك الظلم المتراكمة وإبعاد تلك الويلات الملازمة للحياة الخاصة والعامة في ربوع ديار العروبة قاطبة؛ إذ لا فرق بين يمنها وشامها ولا بين حجازها ونجدها. ولتعظم عند ذي الوعي العاقل منة أنوار الفجر المحمدي التي ستغمر الجزيرة والكون من ورائها هدايةً ونوراً].
من كان لا يعرف حالة الفساد لا يحمد الله على حالة الصلاح، لكن من عرف الواقع بادر بالحمد لله وعرف قيمة البعثة المحمدية التي غمرت الجزيرة والكون من ورائها هدايةً ونوراً.
قال: [ ولنبدأ بالحالة السياسية في بلاد العرب] ألا تحبون السياسة؟!
مداخلة: بلى.
إذاً: تعلموا! وأنا آسف -والله العظيم- لرجال تخرجوا من كليات السياسة لا يعرفون رأسها من رجليها، ابتلي بهم العالم الإسلامي فنزلوا على مناصب ليسوا لها بأهل، يتخبطون تخبط العجائز. ستقولون: لِمَ هذا يا شيخ؟
فأقول: لأنهم درسوا وكتبوا وتخرجوا وهم في ظلام دامس لا نور فيه لله، ولا نور فيه لرسوله عليه الصلاة والسلام.
كيف يتخرجون عمياً؟
السياسة تحتاج إلى بصيرة وإلى نور كالذي كان يتمتع به عمر ، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (والله ما قال أبي في شيء: أظنه كذا. إلا كان كما ظن).
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو كان في أمتي محدثون ) أي: من تحدثهم الملائكة ( لكان منهم
ما سبب هذا؟ هل لأن عمر يغني؟! هل لأنه يشرب الشيشة؟! هل لأنه يظل يضحك؟! هل لأنه يأكل البقلاوة والمشوي؟!
استدعى مرة عمر أحد ولاته على عشاء أو غداء، فنوع له السفرة -علماً أن هذه السفرة لن تصل إلى سفركم أنتم، بل حتى الفقراء منكم- فنظر عمر إلى الطعام وقد تنوع فاضطرب وانتفض انتفاضة الأسد وقام! فارتبك الوالي وقال: ما لك يا أمير المؤمنين! قال: خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
فالسياسي الذي لا يصوم ولا يقوم ولا يردد كتاب الله ويتغنى به أنى له أن يبصر ظلام الحياة؟!
ستقولون: يا شيخ دلل على هذه الأقاويل؟
أقول: الدليل هو هبوط العالم الإسلامي اليوم. هل هناك هبوط أعظم منه؟ أين أنوار السياسة؟!
ومعنى هذا: أنه يتحتم علينا أن نعود إلى بيوت الله، ونجتمع على الكتاب والحكمة، هذا هو الطريق!
قال: [إن مجمل القول في الحالة السياسية في بلاد العرب هو أن بلاد العرب -وهي شبه جزيرة] يطلق عليها لفظ: (جزيرة العرب) تساهلاً أو تسامحاً، بينما هي شبه جزيرة؛ إذ البحار لا تحوطها من كل جهاتها [لوقوعها بين ثلاثة أبحر: الأحمر غرباً، والهندي جنوباً، والخليج شرقاً- من المناطق السياسية ذات الأثر على الحياة الاجتماعية.
ففي اليمن حيث ملوك حمير من التبابعة وغيرهم، والحيرة شرقاً إلى العراق حيث المناذرة، والشمال حيث الغساسنة، أما الوسط وهو نجد والحجاز وتهامة فإنه دائرة المجد، وموضع طلوع الفجر، فأرض حماها مولاها من سطوة الجبابرة، وسياسة المتاجرة، فلم تصل إليها يد الأحباش الأوباش] والحبشي لا يلومنا -إذا كان بيننا أحد من الأحباش- لأن هذا عهد قد مضى، فهم كانوا كفاراً وأنت اليوم مسلم فلم تغضب؟! وأنا أعرف أن هناك من يغضب -كما قدمنا في العرب-!!
وتهامة هي الساحل، ونجد هي الجبال -الأرض المرتفعة- من الحناكية إلى الرياض، والحجاز هذا الخط بجباله.
قال: [أما الوسط وهو نجد والحجاز وتهامة فإنه دائرة المجد] أو لا تحبون الحجاز؟! إنها دائرة المجد [وموضع طلوع الفجر فأرض حماها مولاها من سطوة الجبابرة وسياسة المتاجرة فلم تصل إليها يد الأحباش الأوباش ولا يد الفوارس الأنجاس ولا يد الرومان الأنكاس] ستقولون: آه الشيخ هول الدنيا؟!
مساكين!! الذي يتأثر بهذا الكلام حيوان ميت! هذا عصر مضى عليه ألف وأربعمائة سنة، فلِمَ تغضب؟
ولعل سياسي يقول: كيف يسب هذا الشيخ فارس والروم؟! لأنه لا يفهم.
قال: [لأنها مشرق الأنوار ومكمن الأسرار، وعما قريب يطلع نجمها ويعلو كعبها، وتسود الدنيا وما فيها] إي والله، هل عرفتم قطعة من الأرض سادت الدنيا سوى هذه؟!! هذه أم العواصم، فلما أصبحت الخلافة في هذا البلد دان العالم بكامله لها وذل وهان.
قال: [فالبلاد اليمانية] هذا شيء من التفصيل [تداولتها ملوك حمير من التبابعة وغيرهم، كما حكمها في فترات ملوك الأحباش مباشرة أحياناً، وبواسطة أبنائها أحياناً أخرى، وقد عظم ملك اليمانيين أحياناً حتى غزوا الشرق، ووصلت طلائع جنودهم إلى بلاد فارس متجاوزة أرض العراق إلى أعماق الشرق، وآخر ملوكهم ذو نواس -وهو صاحب الأخدود وكان يهودي العقيدة- فكان آخر ملوك حمير ببلاد اليمن. كما أن آخر ملوك التبابعة باليمن كان أبا كرب تبان بن أسعد الذي غزا المدينة هذه ودخل مكة، وكسا الكعبة المشرفة وعاد إلى اليمن وهلك بها.
وأما المناذرة بالحيرة فإن ملوكهم -وآخرهم النعمان بن المنذر - كانوا تابعين في الغالب لملوك إيران، وكذلك الحال بالنسبة إلى الغساسنة بأرض الشام فإنهم تابعون في الغالب لملوك الروم، مع العلم بأن ملوك الحيرة كملوك الشام، أصلهم يمنيون نزحوا من اليمن بعد خراب سد مأرب بواسطة سيل العرم] لأن اليمن هي دار العرب ومنبتهم [والأوس والخزرج بالمدينة النبوية، وطيء بجبل طي شمالاً، والكل من مهاجري اليمن بعد خراب سدهم الذي كان مصدر غناهم وثروتهم، إذ أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم عقوبة لهم بعدما ظلموا] كان الرجل يخرج من صنعاء إلى الشام لا يحتاج في رحلته إلى زاد؛ فأشجار العنب والخوخ والرمان والنخيل من اليمن إلى الشام، فلما ظلموا، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهو آية الدمار والخراب والفساد، أرأيتم لو قمنا نغني ونرقص في المسجد، فهل وضعنا الشيء في غير موضعه؟! وهكذا يفسد المجتمع، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه إما لجهله أو لعناده ومكابرته لابد وأن يتمزق وتمضي سنة الله فيه، كما هو واقع البشرية كاملة.
قال: [قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ:15] إلى قوله: فَأَعْرَضُوا [سبأ:16] أي عن طاعة الله وطاعة رسوله] كيف يكون الإعراض؟ إذا المؤذن يؤذن وأخونا يضحك هذا هو الإعراض [ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]]. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17].
لو أن المسلمين قرءوا هذه الآية واجتمعوا عليها لذابوا من خوف الله تعالى، ولكانوا في أربع وعشرين ساعة ربانيون، أولياء لله عز وجل، وارتفعت رءوسهم وسادوا العالم، لكن لا يقرءون القرآن إلا على الموتى فقط؛ وبالأجرة!!
قال: [وأما العدنانيون -وهم سكان مكة وما حولها من ديار تهامة والحجاز فمجمل القول في الحالة السياسية عندهم أن قبيلة جرهم- التي استوطنت مكة مع هاجر أم إسماعيل وعاشت زمناً في ظل حكم إسماعيل وأحفاده إلى أن استولت على الحكم بمكة وانتزعته من يد أبناء إسماعيل عليه السلام، وبقي الحكم في جرهم إلى أن جارت وظلمت واستحلت المحرّم في مكة فسلط الله تعالى عليها -كما هي سنته تعالى في الظالمين المعرضين عن طاعة الله وطاعة رسوله- بني بكر من كنانة، وغبشان خزاعة فأجلوهم عن مكة وهم يبكون] أي: أخرجوهم بالقوة وهم يبكون، فما أبقوا واحداً [فالتحقوا باليمن -ديارهم الأولى- والأبياتُ التالية ترسم صورة صادقة لجرهم بمكة وحزنها عند جلائها عنها].
لنسمع ما قال الجرهمي وهو يبكي:
قال: [وقائلة والدمـع سكب مبادر وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجـون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر]
أجلوهم بالقوة لظلمهم ..
[فقلت لهـا والقلب مني كأنما يلجلجه بين الجناحين طائر]
أي: يخفق.
[بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر]
لأن هذا كافر ليس بموحد، فلم تكن طلعت الشمس المحمدية بعد، ولهذا قال:
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ...........
أي: أبعدنا. من الذي أبعدهم؟ قال:
............... صروف الليالي والجدود العواثر
أي: الحظ الهابط.
[وكنا ولاة البيت من بعد نابت ..................]
و نابت هو أحد أحفاد إسماعيل عليه السلام.
[.................... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر]
وهذا حق!
[ونحن ولينا البيت من بعد نابت بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا فليس لحي غيرنا ثم فاخر
إلى أن قال:
وصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة بذلك عفتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامـه يظل به أمناً وفيه العصافر]
أي: لا يؤذى فيه الحمام والعصافر
[وفيه وحوش لا تـرام أنيسة إذا خرجت منه فليست تغادر]
من هو هذا الباكي؟ إنه جرهمي.
أجلاهم الله عن الحرم بعدما عاشوا فيه سعداء آمنين قروناً بسبب أنهم فسقوا. فهل تتبدل سنن الله؟ لا تتبدل؛ وإنما قد تطول.
لقد فسق العرب والمسلمون، وهم الآن آنسون مطمئنون، ووالله ما هو إلا إمهال منه، وسوف ينتقم! ستقولون: يا شيخ أتحلف هذا الحلف وتكذب علينا؟!
أسألكم بالله! أما وضعت بريطانيا رجلها على الشرق بكامله؟!
أما وضعت فرنسا قدمها المنتنة على الشام وشمال إفريقيا بكامله؟! أين ملوك الإسلام في الهند وأين وأين ..؟ صح هذا وإلا لا؟ صح ولكن قد نسينا.
إن لم يتوبوا التوبة الصادقة فسوف تنزل بهم النقم؛ فسنة الله لا تتبدل!!
ستقولون: لم لا تنزل بفرنسا وبريطانيا وغيرها؟ سوف تنزل، والبلاء سوف ينزل ولكن لا تستعجل: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
[وبعد مرور زمن طويل ومكة يحكمها بنو بكر وغُبشان خزاعة، أي: من يوم انتزعوا الحكم من يد جرهم، تغلبت غبشان خزاعة على بني بكر واستقلوا بالولاية وتداولوها زمناً، وكان آخر من وليها منهم حليل بن حبيشة بن سلول الخزاعي فخطب ابنته حبي قصي بن كلاب فزوجه إياها فولدت له عبد الدار ، وعبد مناف وعبد العزى وعبداً ، وكبروا وكثر مالهم وعظم شرفهم، ومات حليل فرأى قصي أنه وبنيه أولى بولاية الكعبة، فكلم رجالاً من قريش وبني كنانة طالباً نصرتهم فأعانوه على إخراج خزاعة وبني بكر فأخرجوهم، واستتب الأمر لـقصي وبنيه بعد قتال شديد بينهم وبين خزاعة وبني بكر انتهى بصلح وتحكيم عمرو بن عوف الكناني ، كانت نهايته ولاية قصي على مكة والكعبة، فجمع قصي قومه من قريش من منازلهم إلى مكة وملكوه فكان أول أمير من قريش في مكة المكرمة، وكانت له الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وبهذا حاز شرف مكة كله].
كانت حجابة البيت والسقاية كلها مجاناً -ليس بالمال- وإنما يُسقون مجاناً، وأحياناً كانوا يجعلون لهم العصير، فيأتون بالزبيب من الطائف ويخلطونه بالماء ويسقون الحجيج الماء الحلو.
والرفادة: هي رفد العاجز المريض الفقير، والندوة هي مجلس الشورى؛ يجتمعون فيه ليتبادلون الرأي في قضاياهم الدنيوية. واللواء يعين له رجالات خاصة لحمله؛ وبهذا حاز قصي شرف مكة كله.
[وجمع قصي قبائل قريش في مكة والحرم، وبذلك سمي مُجمعاً وفيه يقول الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر]
أولاً: إن البلاد اليمانية اعتورتها حكومات متعددة أعظمها حكومات التبابعة من قبيلة حمير.
ثانياً: إن كلاً من الأحباش والفوارس قد استعمروا اليمن بواسطة اليمنيين الذين يستنجدونهم في ظروف معينة.
ثالثاً: شرق الجزيرة من الحيرة إلى العراق لم يكن في الحقيقة إلا ولايات تابعة للحكم الفارسي طيلة الدهر حتى جاء الإسلام، وأن ملوك المناذرة لم يكونوا مستقلين في الغالب وإنما هم تابعون سياسياً للحكم الفارسي المجوسي] وشمال الجزيرة كشرقها لم يكن فيه في الغالب حكم عربي خالص، وإنما كان تابعاً لحكم الروم، والغساسنة فيه كالمناذرة في الشرق سواء بسواء.
[رابعاً: وسط الجزيرة -حيث الحرم وما جاوره من ديار العرب العدنانيين- كان مستقلاً، لم يحكمه الروم ولا فارس ولا الأحباش، لم؛ كرامة الله تعالى لحرمه وسكانه وجيرانه، وهي عبرة لمن اعتبر] حتى اليهود عندما يتبجحون أو يذكرون آمالهم فإنهم يذكرونها من النيل إلى الفرات، ولا يذكرون الحجاز؛ لأنهم يعرفون أنه لا يمكنهم أن يدخلوها ولا أن يحكموها، وإن شئتم فقولوا احتراماً للعالم الإسلامي، أو قولوا كرامة الله! وبالفعل عندما استعمر النصارى العالم الإسلامي لم يستعمر الحجاز. وعلى كل حال آمنا بالله!
قال: وهي عبرة لمن اعتبر. والعبرة هي: عبّارة؛ حادثة تفهمها وتفهم أسبابها وعواملها ونتائجها بحيث تستطيع أن تتقي مهالك من هذا النوع، فتكون هذه الحادثة كالعبّارة التي تعبر بها النيل من شاطئ إلى شاطئ.
[وحتى عهد الاستعمار الغربي الذي حكم العالم الإسلامي فإنه لم يحكم هذه الديار الطاهرة؛ كرامة الله لحرمه وحرم حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وسكانهما وجيرانهما] وهذا واقع.
قال: [وفي هذه المقطوعة من العبر ما يلي:
أولاً: أن الظلم لا يدوم وإن طال زمانه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً
ثانياً: حماية الله لبلده وحرمه بإهلاك وإبعاد كل من يظلم فيهما، ويستبيح المحرم فيهما] أول ما أجلى الله وأخرج منه قبيلة جرهم، ثم بني بكر، ثم قريشاً وجاء بالإسلام.
[ثالثاً: من فضائل قريش الرفادة والسقاية؛ إذ الرفادة هي جمع المال من أفراد القبائل القرشية سنوياً وإنفاقه في إطعام الحجاج كل عام. والسقاية كذلك، وهي إحضار الماء محلى أحياناً بالزبيب، وسقي الحجاج أيام حجهم من كل عام].
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر