أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
فبالإشارة إلى ما تقدم في المقطوعة التي درسناها يوم الجمعة الماضي فإن خلاصتها ما يلي:
أولاً: تقرير بناء إبراهيم للبيت العتيق، شرفه الله وكرمه.
إن إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، أبا الأنبياء، وأبا الضيفان، هو الذي بنى البيت العتيق، وليست هذه أول مرة يبنى فيها البيت، ولكنها بعد حادثة الطوفان، فالبيت بناه الله تعالى لآدم وحواء، وقد حجه هود عليه السلام، وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: بيان تعاون إبراهيم مع ولده إسماعيل.
من المعلوم عندنا نحن المسلمين أهل القرآن والسنة: أن إبراهيم بنى البيت مع ولده إسماعيل، إذ إسماعيل بن إبراهيم ابن هاجر المصرية عليهما السلام لما أنزلهما إبراهيم بمكة، وتركهما بأمر الله، كبر إسماعيل وكان إبراهيم يزورهما من وقت إلى وقت، وتمت تلك الحادثة العظيمة التي لا تنسى، وهي: أن الله أمر إبراهيم بأن يضحي بولده إسماعيل، ابتلاء من الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، وامتثل أمر الله وخرج بإسماعيل إلى منى، وشاء الله أن يفديه بذبح عظيم، وبذلك نجح إبراهيم في ذلك الامتحان العظيم، وفي هذا يقول تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ أي: أوامر فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، وتهيأ بذلك للإمامة العظمى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].
ولما كبر إسماعيل وأصبح رجلاً، جاء إبراهيم يبني البيت بأمر من الله، فكان إسماعيل يعاونه على البناء؛ يناوله الحجارة وإبراهيم يضعها على الجدار حتى اكتمل بناء البيت.
رابعاً: ارتسام قدمي إبراهيم على صخرة المقام آية خالدة إلى يوم القيامة.
لما كانا يبنيان البيت كان إبراهيم عليه السلام يعلو فوق صخرة؛ إذ ما هناك أخشاب ولا حبال ولا أدوات كما يعمل الناس الآن، ولكن صخرة يعلو فوقها ويضع الحجارة على البناء، فإذا فرغ منها دفعها إلى مكان آخر، فلما انتهى البناء كان الحجر ما بين الباب والركن الشمالي فتركها هناك، ثم جاءت السيول فدفعتها إلى المكان الذي به هو الآن.
فقدما إبراهيم عليه السلام راسختا في الصخرة، وهذه آية من آيات الله؛ أن لانت الصخرة وذابت حتى دخلت قدما إبراهيم فيها لتبقى آية إلى يوم القيامة، وإلى هذا إشارة في قوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
خامساً: تقرير القول: بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجسام.
سبق أن ذكرنا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله تعالى مسح ظهر آدم وهو بأرض عرفات واستخرج ذريته من صلبه واستنطقها فنطقت، واستشهدها فشهدت)، وجاء هذا في سورة الأعراف، إذ قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ أي: واذكر إذا أخذ ربك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173] والله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أبداً، علمه أحاط بكل شيء، وقدرته لا يعجزها شيء.
من أين فهمنا هذا؟
لما بنى إبراهيم البيت وفرغ من بنائه، بِمَ أُمر؟ قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، كيف يؤذن في الناس بالحج، أين هم الناس؟! ليس في مكة إلا إسماعيل وأمه قبل أن تأتي قبيلة جرهم.
صعد إبراهيم جبل أبي قُبيس -الموجود الآن- ونادى البشرية: (أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتاً فحجوا) فما من نفس لبت النداء، وقالت: لبيك اللهم لبيك، إلا وتحج، ولو بعد عشرة آلاف سنة من هذا النداء، وأيما نفس تململت وتضجرت وما عبأت بأن تجيب، وخافت من الإعياء والتعب، وما قالت: لبيك، إلا وهي محرومة من الحج، فوالله لا تحج أبداً.
إذاً: هذه الحقيقة تقررت؛ لأنه نادى فسمع نداءه من في الأرحام، من في الأصلاب، ومن هنا علمنا: أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، وأن الملك الموكل بالأرحام يأتي بالروح فينفخها في قطعة اللحم التي تكونت وأصبحت مضغة، فتسري سريان التيار الكهربائي في أسلاكه، ومن ثم يصبح الجنين قد تهيأ للوجود، بل وُجد، ولهذا قال تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5]، فالنطفة إذا لم يرد الله تخليقها وكينونتها تسقطها صاحبتها قطعة دم، أما إذا أراد لها أن تتخلق فإنها تتماسك وينفخ فيها الملك الروح، فتسري الروح فيها وتصبح جسماً حياً وهو الجنين.
هذه تقدم لنا موضوعها.
أولاً: النسب الشريف. من السيرة العطرة عرفنا النسب الشريف بين إسماعيل وعدنان وهو المقطوع به، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، وأما من عدنان إلى نابت .. إلى إبراهيم فهذا تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: ( كذب النسابون ).
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم .. إلى عدنان ، تحلف بالله على ذلك ولا تحنث، وما كان فوق عدنان إلى إسماعيل مما ذكره النسابون والمؤرخون ولم يجزم الرسول صلى الله عليه وسلم به فعلينا أن نسكت حيث سكت، وإن أوردنا ذلك على سبيل المثال -أو هكذا يقولون-، فلا يصح لنا أن نجزم أن أولئك الآباء هم آباء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حقاً، مع أن النسابيون رفعوا النسب إلى آدم، ولكن ما بين عدنان ونابت هذا فيه ما فيه، وأشد غموضا وخفاء من إبراهيم إلى نوح، وأعظم منه من نوح إلى إدريس ومن إدريس إلى آدم، وإن كانوا يذكرون هذا، وابن كثير في البداية والنهاية ذكره كما رواه عن المؤرخين، لكنه ليس يقيناً بحيث نحلف أو نعتقد ذلك إلا ما كان ما بين عدنان إلى عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله حفظ تلك النطف من رحم إلى رحم ومن صلب إلى صلب، فلم تختلط حتى كان عبد الله ثم محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً: صحة النسب الزكي الطاهر النقي: من عدنان إلى عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم بالصحة التي لا يخالطها شك أبداً.
ثالثاً: توهين أقوال النسابين وعدم الجزم بما يقولون كما علمتم.
وخلاصة القول: أن نبينا مجزوم بنسبه من أبيه عبد الله إلى عدنان ، وهذا الكمال والشرف لا يوجد في نبي ولا رسول، ، لكن ما كان فوق عدنان نقف عنده كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: الله أعلم.
قال: [بين يدي الحديث عن سلسلة الطهر الذهبية أُقدم كلمة عن العرب موجزة] من هم العرب؟ أين كانوا، ومن أين كانوا؟ وكيف انقسموا؟ هناك كلمات موجزة لا بأس بفهمها وعلمها.
قال: [وذلك لما لهم من شرف الأصل، وطيب المحتد] العرب لهم شرف وأصل لا ينكره ذو عقل ودين، ليس في ذلك شك، فالعرب لهم ميزتهم ومقامهم، ولهم مكانة بين الناس، وحسبهم أن يكون خاتم الأنبياء وإمام المرسلين منهم، والذي يكره العرب يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يفلح؟!
قال: [فأقول: إن العرب بأقسامهم الثلاثة: العرب البائدة، والعاربة، والمستعربة] ينقسم العرب إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: العرب البائدة الهالكة التي انتهى وجودها بالمرة.
ثانياً: العرب العاربة، وهي الأصيلة العروبة.
ثالثاً: العرب المستعربة: وهم الذين غير عرب، ثم تعلموا اللغة العربية ونافسوا غيرهم وفاقوهم وفازوا بها، فأصبحوا العرب المستعربة، ومنهم: عدنان وإسماعيل.
قال: [يعودون -أي: العرب- إلى أصل واحد] هذه الأقسام الثلاثة تعود إلى أصل واحد [هو سام بن نوح عليه السلام] ونحن ساميون، والأوربيون كلهم ساميون؛ لأن سام بن نوح هو أبو العرب، وأبو غير العرب.
و يافث : هو أبو يأجوج ومأجوج، وحام هو أبو الأحباش والسود، فالجنس السامي هو هذا الأبيض والأسمر.
قال: [أما الذي ينسب إليهم العرب ويعرفون به فهو يعرب بن يشجب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الرسول عليه السلام].
إذاً: العرب ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة، وأصلهم كلهم واحد، فهم يعودون إلى سام بن نوح .
أما الذي ينسب إليه العرب أصلاً ويعرفون به فهو يعرب بن يشجب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الرسول عليه السلام.
أولاً العرب البائدة: بمعنى الذاهبة. باد الشيء يبيد؛ إذا فني وذهب.
قال: [إن العرب الذين بادوا -أي: هلكوا- هم طسم وجديس، وعاد وثمود] هؤلاء بادوا، هلكوا وفنوا [هكذا يقول النسابون والمؤرخون] وعرفتم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كذب النسابون ). وليس معناه أن نرفض منهم كل شيء، ولكن إذا حصل احتمال فلا نجزم.
إذاً: العرب البائدة: هم الذين بادوا وهلكوا، وهم هؤلاء طسم وجديس وعاد وثمود، هكذا يقول النسابون والمؤرخون.
قال: [فأما طسم وجديس فقد اقتتلوا. أي: قاتل بعضهم بعضاً حتى هلكوا جميعاً] تحاربوا وتضاربوا وتقاتلوا فأفنى بعضهم بعضاً، ولم يبقَ منهم أحد [وأما عاد وثمود فقد أصروا على الشرك والتكذيب لرسوليهم -هود وصالح عليهما السلام- حتى أهلكهم الله تعالى، وقد جاءت أخبارهم في القرآن الكريم. قال تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3]]. والحاقة أي: القيامة، وهي الساعة، يوم الهول والفناء.
[ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4]] والقارعة كالحاقة: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4].
إذا أتيت عندنا في الخريف -أظن- أو في الربيع وجلست تحت المصابيح التي في الشارع ترى الفراش يتجمع عليها. من أين يأتي هذا وهو يحترق؟ هكذا تكون البشرية في تلك الساعة: كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4].
وقد قصصنا غير ما مرة حادثة في الحرب العالمية الأخيرة في الديار الجزائرية: كان الناس إذا صفرت صافرات الإنذار ودوت طائرات ألمانيا وإيطاليا يفقدون شعورهم، -والله- ترى هذا يقفز على هذا ليهرب، وهذا من يقفز من فوق البناء فوق وهذا يهبط من البناء، حتى الأنفاق والسراديب هذا داخل وهذا خارج! فذكرنا قول الله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4].
ونذكر حادثة مضحكة لطيفة! وهي أن المؤمنين كانوا يساكنون الطليان والأسبان مع تابعي الحكومة الفرنسية، فالمؤمنون عندما يدوي المدفع يقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، حتى إذا ماتوا يموتون على كلمة التوحيد، والطليان والأسبان لا يعرفون هذا، فتجدهم يقولون: (moi aussi، moi aussi) يعني: وأنا كذلك! وأنا كذلك! والمعنى: أنا كما يقول العرب حتى إذا هلكت أكون منهم.
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:4-5]، القارعة، والحاقة، والواقعة، والطامة، والصاخة، كلها ألفاظ مختلفة وهي تفسر معانٍ عظيمة. ما بالك بالجبال تصبح هباءً منثوراً، وتلقي ذات الحمل حملها؟!
وهنا نذكر أيضاً حادثة نسلي بها عليكم: كنا في دمشق وإذا بثورة قد قامت على الحكومة، وصفرت صافرات الإنذار، وكنا وقتها نصلي؟ فجاء من يقول: أي صلاة هذه اهربوا، فخرج الناس من المسجد وتركوا الصلاة، فكان هناك امرأة حاملة لابنتها، فعندما صفرت صافرات الإنذار تركت الطفلة وهربت! تريد أن تنجو، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، ففسرت الأحداث القرآن. إنه الهول! إنها القارعة، والصاخة، والحاقة، والطامة .. وعنها الناس غافلون.
والشاهد عندنا في قوله تعالى: [ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4]] أي: بالقيامة، وهل الذي كذب القيامة يصوم ويصلي؟! لا. لا يصوم ولا يصلي، ولا يتقي الله إلا عبد آمن بلقاء الله وبالجزاء في الدار الآخرة، ومن كذب بالبعث والجزاء ما عبد الله.
والذي لا تثبت هذه العقيدة في نفسه وتستقر ويكون بها جازماً لا يستطيع أن يترك كلمة قبيحة يريد أن يقولها، لكن إذا كان يراقب الله والوقوف بين يديه فإنه يستطيع ذلك.
قال تعالى: [ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5]] ما هي الطاغية؟ الطاغية: تلك الصيحة التي طغت ثلاثة أيام، قال تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، في اليوم الأول اصفرت وجوههم، وفي اليوم الثاني اسودت، وفي اليوم الثالث ازرقت فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83]، صيحة مزقت قلوبهم، فخروا جاثمين، هذه هي الصيحة، أي: الصيحة الطاغية، التي طغت عن مدى أية صيحة من الصيحات وعلتها.
[ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:6]] وصرصر أي: ذات صوت سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:7]؛ لأنهم كانوا طوال الأجسام عمالقة، فلما هلكوا وهم سود، كانوا عندما تمر بهم كأنهم جذوع النخل.
هذه هي العرب البائدة، سبب إبادتهم أنهم قتلوا بعضهم بعضاً، وأفنوا بعضهم بعضاً، أما عاد وثمود فكذبوا بآيات الله ورسله ولقائه فأهلكهم الله.
بم أهلك الله عاداً؟ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:6]. وبم أهلك ثموداً؟ بالصيحة الطاغية.
هؤلاء هم العرب البائدة.
قال: [ثم تفرقت قبائلهم في الجزيرة والشام. ومن قبائلهم -الذين سكنوا الحجاز- قبيلة جرهم التي سكنت مكة بإذن هاجر أم إسماعيل عليه السلام] وقد تقدم أن هاجر لما كانت أعلى الماء الذي أنبعه الله بواسطة جبريل كان هناك قبيلة مسافرة مرت من طريق مكة، فبعثوا رائداً يبحث لهم عن الماء، فإذا به يشاهد طائراً يحوّم أو يدوّم -كما يقولون- فلما أتى المكان وجد المرأة والماء بين يديها، فجاءت الجماعة، وطلبوا الإذن منها في النزول هناك، فأذنت على شرط أن لا حق لهم في الماء، ومن ثم نزلوا مكة وعمروها.
قال: [كما تكلم بلغة الكنعانيين أيضاً] إبراهيم بعدما هاجر من العراق كان يتكلم بالسريانية، ثم نزل بالشام وتكلم بلغة الكنعانيين، فأصبح له لغتان [ولم يتكلم بالعربية] إبراهيم عليه السلام ما تكلم العربية.
قال: [وأما إسماعيل عليه السلام فإنه بحكم نشأته بين أفراد قبيلة جرهم اليمانية القحطانية] تنشأ بينهم منذ إن كان طفلاً رضيعاً [التي سكنت مكة بإذن والدته هاجر] امرأة تأذن لقبيلة وكأنها ملكة! لا إله إلا الله! فلهذا كان للعرب مواقف ما وقفها غيرهم من أجناس البشر، ولهذا يقول أحد الصالحين: إن كفار العرب أشرف كفار في الدنيا!
وبيان وجه ذلك هو: كيف أن قبيلة برجالها وكلابها وخدمها وأموالها تستأذن امرأة بأن تسمح لهم في المقام إلى جنبها، وعندما تأذن لهم تشترط عليهم أن لا حق لهم في الماء. كيف يتم هذا؟! وأي مروءة هذه؟! إنه كرم وشرف، وقد أعطوها عهداً وميثاقاً بأن الماء ماؤها والأرض أرضها، فهل يحدث هذا عند كفار اليوم؟!
قال: [تعلم العربية ونفس أهلها فيها، أي: تفوق عليهم فيها بياناً وأدباً وبلاغة] نشأ إسماعيل في أرض الطيب والطهر بين العرب وأصبح أفصح من أبناء القبيلة -ولا حرج- [كما تعلمها أولاده] ومن باب أولى أن يتعلمها أولاده؛ لأن أمهم جرهمية [ومن أمهم السيدة بنت مضاض الجرهمية ومن أخوالهم المجاورين لهم بمكة أيضاً] نتيجة لوجود أخوالهم معهم وأمهم تفوقوا في اللغة العربية [فلهذا قيل لهم: العرب المستعربة] واستعرب: تكلف اللغة شيئاً فشيئاً فحذقها ونطق بها وأصبح من رجالاتها، فيقال فيه: استعرب، وقد يستعجم أيضاً العرب.
فلو نزلت مع زوجتك في بريطانيا وولد لك ولد، فإنه يتعلم البريطانية من جيرانه والطلاب والمدرسة فيقال له: استعجم وقد يكون شريفاً من آل البيت، ولكن استعجم، فلا يقال له: أعجمي الأصل ولكن استعجم، كما يقال استعرب.
لم قالت العرب العجم؟ لأن غير العربي لا يفصح، وإن أردتم من ذلك شيئاً ائتوني ببريطاني أو أمريكي فهل يستطيع أن يفرق بين الضاد والظاء أو ينطق بهما؟ لا يستطيع، وحروف كثيرة أيضاً.
إذاً فيه عُجمة أو لُكنة لا يستطيع معها أن يفصح بخلاف العربي الأصل. وأفصح من نطق بالضاد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الفقهاء: هل تصح إمامة من لا يفرق بين الضاد والظاء؟
بعضهم يقول: لا تصح. وبعضهم يقول: هذا أمر صعب يعفى عنه. فتجد في القرية من يقرأ ويقول: (غير المغضوب عليهم ولا الظالين) فالذي لا يقول بالجواز تجده يأخذ نعله ويخرج؛ لأن الإمام لم يفرق يبن الضاد والظاء.
فالظاء أخت الطاء والضاد دونها وهي أخت الصاد.
قال: [نظراً إلى أن جدهم غير عربي وهو إبراهيم عليه السلام، وأن ولده إسماعيل استعرب هو وبنوه، حيث تعلموا لغة العرب وتكلموا بها وفازوا فيها، ومن هنا قيل في القبائل العدنانية عامة: العرب المستعربة] القبائل العدنانية على اختلافها وكثرتها يقال فيهم كلهم: العرب المستعربة؛ لأن أصلهم عدنان ثم انحدروا وتفرقوا قبائل شتى.
هذا كله تمهيد للسيرة النبوية، فقد عرفنا أول شيء مكة، وأنه كان يقال لها جبال فاران، وأنه لم يكن فيها بيت واحد، ثم عرفنا كيف عمرت بما شاء الله أن تُعمر، وعرفنا كيف بني البيت فيها، وسبب هجرة إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة، ثم عرفنا كيف عمرت مكة بالجرهميين وأولاد إسماعيل.
هذا علم خير من الحلاوة البقلاوة، وهو -عند العارفين- أفضل من الأكل والشرب، أما عند الغافلين -مثلي- فأعطه حبة حلوى ويكفي، وبعدها لا يسمع ولا يريد أن يفهم.
وهل الكذب على الرسول جائز؟ لا، يقول صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم )، (من كذب علي متعمداً فليلج النار ) ما سر هذا؟ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم تشريع، فهو الذي يضع القوانين والشرائع، فإذا جاز الكذب عليه فنحن نشرّع، ولهذا لا يصح لمؤمن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا قال: قال الرسول أو فعل الرسول شرّع، فأقوال الرسول وأعماله كلها شرائع، وإذا سُمح بالكذب عليه أصبحت شريعة الله جزءاً من ألف جزء، فكيف يعبد الناس الله؟! وكيف يستقيم أمرهم؟!
فلهذا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على الآخرين، فلو كذبت على علي أو عمر أو خديجة أو غيرهم فلا يتأثر الناس بك كما لو كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا قلت: قال رسول الله! أو حكم رسول الله! أو شرّع رسول الله، فقد شرّعت للناس. هذا هو السر.
إذاً: يحرم الكذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القول عليه تشريع يؤدي إلى زيادة في الدين تضل بها الأمة؛ إذ تعبد ربها بغير ما شرع.
قال: [ولذا فكل ما يحسن أن يقال هو أن أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وهم اثنا عشر ولداً عاشوا مع أخوالهم من جرهم، ونبيهم ورسول الله إليهم أجمعين هو إسماعيل عليه السلام].
إسماعيل ولد له اثنا عشر ولداً، ما هي أسماؤهم؟ الله أعلم. هؤلاء الأولاد عاشوا مع أخوالهم من جرهم في مكة، وكان نبيهم ورسول الله إليهم أجمعين هو إسماعيل، نبأه الله وأرسله إلى جرهم وإلى أولاده في تلك الديار، قال الله عز وجل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا [مريم:54].
قال: [وكان من بين أولئك الإخوة نابت وقيذار] من بين الإخوة الإثني عشر أولاد إسماعيل كان من بينهم نابت معروف وقيذار أيضاً [والإجماع على أن عدنان هو ابن أحدهما لا محالة] عدنان أحد أبناء نابت أو قيذار والراجح أنه ابن نابت [ثم إن عدنان أنجب من البنين عكاً ومعداً أما عك فقد نزح إلى اليمن وعاش بها مع أصهاره الأشعريين، وأما معد فقد بقي بمكة وأنجب من البنين نزاراً وقضاعة وقنصاً وإياداً ، أما قنص فقد هلك بنوه إلا قليلاً منهم، وكان منهم النعمان بن المنذر وأما إياد فقد أنجب قبيلة والنسبة إليها إيادي، ومنهم قس بن ساعدة الإيادي . وأما قضاعة فقد نزحت إلى حمير باليمن] وأقامت بها [وأما نزار فقد عاش بالحرم كأخيه إياد وأنجب مضراً وربيعة وأنماراً وأنجب مضر إلياس وعيلان ، وأنجب إلياس مدركة وطابخة وقمعة وأنجب مدركة خزيمة وهذيلاً وأنجب خزيمة كنانة وأسداً ، وأسدة والهون . وأنجب كنانة ملكان والنضر ومالكاً وعبد مناة وأنجب النضر -وهو أبو قيس حيث كافة قبائلها تعود إليه- أنجب مالكاً ومخلداً وأنجب مالك بن النضر فهراً ، وأنجب فهر غالباً ومحارباً والحارث وأسداً ، وأنجب غالب بن فهر لؤياً وتميماً وقيساً ، وأنجب لؤي بن غالب كعباً وعامر وسامة وعوفاً . وأنجب كعب بن لؤي مرة وعدياً وهصيصاً ، وأنجب مرة بن كعب كلاباً وتيماً ويقظة ، وأنجب كلاب بن مرة قصياً وزهرة ، وأنجب قصي بن كلاب عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد قصي ، وأنجب عبد مناف بن قصي هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفل ، وأنجب هاشم بن عبد مناف عبد المطلب ، وأسداً وأبا صيفي ونضلة وأنجب عبد المطلب العباس وحمزة وعبد الله -والد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأبا طالب والزبير والحارث وحجلاً والمقوم وضرار وأبا لهب ].
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر