إسلام ويب

تفسير سورة البينةللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدين الحق والملة القيمة والبينة هي ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما قام على أساس عبادة الله وحده؛ والميل عن كل دين إلى هذا الدين الإسلامي، وقد كان اليهود والنصارى يترقبون بعث محمد وأنهم سيؤمنون بما جاء به، ولكن لما جاءهم كفروا به وتفرقوا، ولم يبق إلا المؤمنون الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأخلصوا العبودية لله وحده.

    1.   

    بين يدي سورة البينة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة البينة أو القيمة، وآيات هذه السورة ثمان آيات، وهي مدنية كسابقتها ولاحقتها.

    وتلاوة آياتها -التي نسأل الله تعالى أن يعيننا على تفسيرها وفهم معانيها- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:1-8].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في هذه السورة أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرأها على أبي المنذر أبي بن كعب الأنصاري النجار رضي الله عنه وأرضاه.

    أبي بن كعب فاز بما لم يفز به غيره؛ إذ أمر الله تعالى رسوله ومصطفاه أن يقرأ عليه هذه السورة، فدعاه وأخبره فقال: ( أو ذكرني باسمي يا رسول الله؟ قال: نعم. فأجهش بالبكاء ). أي: قال: سماني؟ قال: نعم. فأخذ يبكي.

    هذا أبو المنذر امتحنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: ( أي آية أعظم في كتاب الله يا أبا المنذر ؟ فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] -آية الكرسي- فضرب الرسول في صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ). هذه شهادة دكتوراه أو ماجستير؟ إنها أعظم شهادة، ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ). امتحنه فنجح.

    ومن هنا أضفى عليه ابن الخطاب لقباً، فقال: أبي بن كعب سيد المسلمين، وكان يناديه بيا سيد المسلمين! ونحن قلنا: سيد المهاجرين المعاصرين أبو جميل ، ففرحت بهذا العلم الليلة والله أحب إلي من كذا.. دينار ودرهم؛ لأني أضفيت هذا اللقب على أبي جميل ، وقلت: هذا سيد المهاجرين المعاصرين؛ وهذا احتراز، وخفت من بعض النقاد من الطلاب -وما أكثرهم- أن يقولوا: كيف يقول فيه سيد المهاجرين، فالحمد لله فقد سبقني عمر فقال في أبي : سيد المسلمين. فهذه فتوحات إلهية، ومن قرع الباب ولج، ومن طلب وجد.

    إذاً: هذه السورة تسمى سورة البينة والقيمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)

    بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى في هذا الخبر: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ [البينة:1] عما هم فيه من الباطل والدين الباطل والعبث و.. و.. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] وحينئذٍ ينقسمون إلى مؤمن وكافر.. موحد ومشرك.

    وهذه البينة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبدل من البينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بينة وأعظم بينة، فهو بينة على أنه لا إله إلا الله، وعلى أن الإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل دين سواه، وسماه بينة كالآية البينة، وهو أعظم من الآية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة)

    قال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2].

    (يَتْلُوا): يقرأ.

    (صُحُفًا): جمع صحيفة.

    (مطهرة): لا كذب.. لا خيانة.. لا زيادة.. لا نقصان.. لا عبث.. ليس فيها شيء لم يرتضه الله عز وجل.

    ما هذه الصحف المطهرة؟ هذا الكتاب.. القرآن الكريم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيها كتب قيمة)

    ثم قال تعالى: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]، مجموعة الصحف تصبح كتاباً، صحيفة مع صحيفة تجمع فتصبح كتباً.

    (قَيِّمَةٌ): عادلة.. مستقيمة.. لا انحراف.. لا اعوجاج.. لا ميل إلى سوء أو باطل.. قائمة على الحق، ألا وهي هذا الكتاب.

    إذاً: قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1] وهم اليهود والنصارى، وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:1] من غير أهل الكتاب، لم يكونوا: مُنفَكِّينَ [البينة:1]أي: منحلين أو متفرقين أو متباعدين عن دينهم الذي هم عليه من باطل حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] لما جاء رسول الله انقسموا، فمنهم الكافر ومنهم المؤمن، منهم الموحد ومنهم المشرك.

    حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] وقد جاءتهم ووصلتهم.

    ما هذه البينة؟ قال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ [البينة:2]، فالله هو الذي أرسله وبعث به، منه عز وجل وليس رسولاً من الملك الفلاني أو من القبيلة الفلانية، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ [البينة:2] وحسب رسول الله أن يكون آية الله وبينة الله.

    يَتْلُوا [البينة:2]. أي: يقرأ صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2] فليس شرطاً أن يكون يقرأ، هو يقرأ بلسانه، والقراءة ليست بالنظر، القراءة باللسان.

    قوله تعالى: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]، أي: ذات قيمة لا يعادلها شيء ولا يساويها شيء، كيف لا وشرع الله قد احتوى عليه هذا الكتاب؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)

    ثم قال تعالى بعد هذا الخبر العظيم: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البينة:4] أي: اليهود والنصارى، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]، وهذا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ومع الأنبياء السابقين، التفرق يأتي لما يظهر الحق، فمن قبله واعتقده واعتنقه نجا، ومن حمله الكبر أو المصالح المادية ورفضه خسر، فتحصل الانقسامات ويحصل التفرق.

    إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4] وهذا اللفظ صالح لأن يكون الانقسامات والتفرق القديم، فقد اختلف اليهود على أنفسهم والنصارى كذلك، وهو حاصل بوجود نبينا صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...)

    ثم قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] ما حملهم على الانقسام والتفرق ورفض هذه الدعوة؟

    لم يؤمروا بأن يخرجوا من أموالهم، ولا بأن يقتلوا نساءهم وذراريهم، ولا أن يقفوا في الشمس دهراً، ولا ولا.. بم أمروا؟ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة:5] وهم يؤمنون بالله ويطلبون عبادته وطاعته ليكملوا عليها ويسعدوا بها، فأي داع للتفرق لو كانوا يعقلون؟!

    وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة:5] وحده مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] لا يشركون به سواه.

    هذه الآية عند أهل العلم.. عند فقهاء الإسلام: هي دليل شرطية النية في كل عبادة، في الوضوء.. في الغسل.. في الصيام.. في الزكاة.. في أية عبادة، لا بد من النية كما في هذه الآية: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

    كيف تخلص له الدين إذا لم تنو ذلك وتريده وتتكلف له؟!

    وليس شرطاً أن تقول: إني نويت أن أصلي.. نويت أن أصوم.. نويت أن أغتسل.. بهذا اللفظ، فقط إرادتك.. عزمك.

    لم تريد أن تدخل الحمام؟ لتغتسل من الجنابة.

    وَمَا أُمِرُوا [البينة:5] من الآمر؟ الله عز وجل. أمر رسله.. أنبياءه نيابة عن ربهم، ما أمرهم ملوك ولا جبابرة ولا سلاطين ولا قادة جيوش ولا يقولوا: أذلونا.. أهانونا.. تكبروا علينا.. لا. من أمرهم؟ الله.

    لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] أصل الحنف كالجنف أي: الميل، والحنيف الذي يميل عن أديان الباطل إلى دين الحق. وجمع الحنيف: حنفاء، وإبراهيم كان حنيفاً. أي: مائلاً إلى جهة الله.. إلى توحيد الله، وترك الباطل والشرك وأصنافه وضروبه.

    وليس في هذا ما يمس كرامتهم وشرفهم فلم إذاً يكفرون؟

    لم يؤمروا بأشياء لا تطاق، بل قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ [البينة:5]، مضمون ما سمعتم دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، أي: الملة المستقيمة.

    قيمة: صفة لمخلوق، الملة القيمة.. الديانة القيمة، والقيمة ضد المعوجة، أي: مستقيمة.

    إذاً: هذا إنكار عليهم.. تأنيب.. عتاب؛ لأنهم لو كلفوا بما لا يطيقون.. لو طلب منهم شيئاً يتنافى مع الفطرة.. لو.. لو. لكانوا يكفرون.. ينحرفون، لكن ما أمروا إلا بما هو خير لهم، فما المانع من قبول هذه الدعوة؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم...)

    ومن هنا جاء الجزاء، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] وهم اليهود والنصارى، وألحقوا بهم المجوس، سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

    ما لهم؟ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [البينة:6].

    قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:6]، أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه، بالقرآن وما فيه، بالله ولقائه، بالتوحيد، هؤلاء من أهل الكتاب والمشركين حكم الله أنهم في نار جهنم خالدين فيها.

    متى يدخلونها؟ عند موتهم، فمن مات دخلها، الجسم يبقى والروح تدخل.

    ثم زاد على هذا الإعلان الخطير إعلاناً آخر، وهذا يتناول الأحياء لينتبهوا ويستفيقوا: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أولئك البعداء الأشقياء الخاسرون (هم شر البريئة)، قراءة نافع . وهذه ظاهرة من برأ إذا خلق، من البارئ؟ الله الخالق. برأ النسمة. أي: خلقها، وإنما قرئ: (البرية) في قراءة حفص وغيره؛ للتسهيل والتيسير، قلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء فشددت فقرأ: (البرية) أي: الخليقة.

    إذاً: لو سئلتم: من شر الخليقة؟ تقولون: الخنازير.. القردة.. القمل؟ حاشاهم، ما هم شر البرية. الكلاب؟ لا والله.

    فمن هم؟ الكافرون والمشركون. ما وجه هذه السقطة التي سقطوها فكانوا شر البرية؟

    الجواب: لأنهم كفروا خالقهم، جحدوا سيدهم، أنكروا إنعامه وإفضاله وإحسانه، تنكروا لشرعه، تنكروا لإفضاله وإنعامه، تنكروا لقائه من أجل أن يعيشوا كالبهائم لا دين ولا أدب ولا خلق.

    إذاً: هؤلاء والله شر البرية. ومن تململ منهم يتفضل يغتسل ويصلي، ما نشترط أن يكون شريفاً ولا تميمياً ولا تركياً، فقط يدخل الحمام يغتسل ويصلي، وهو من خير البرية، وإلا لا لوم ولا عتب، ولسنا نحن الذين أصدرنا هذا الحكم تعييراً لهم وتقبيحاً لحالهم وبغضاً فيهم، لا.. لا. ليس نحن الذين قلنا هذا، بل هو خالقهم.. مولاهم.. سيدهم.. من إليه مصيرهم، هو الذي قضى بهذا.

    أُوْلَئِكَ هُمْ [البينة:6] لا سواهم شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]. ليس هناك في الخليقة من هو شر منهم، ويدخل في هذا: الشياطين، وكفار الجن من أهل الكتاب ومن المشركين.

    إذاً: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)

    ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البينة:7] مالهم؟ أولئك السامون، الأعلون في كمالاتهم، في علو مقاماتهم.

    أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] أنتم خير البرية، طيروا بالفرح. الحمد لله!

    فقط إيمان وعمل صالح، لا زيادة على ذلك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7].

    الآن فريق في الجنة وفريق في السعير، الناس قسمان: أولياء للرحمن وأولياء للشيطان، عباد الله وعباد الدنيا، ومن كل شيء خلق الله زوجين، فأهل الإيمان والعمل الصالح هم خير البرية، وأهل الكفر والشرك هم شر البرية، لا نسب ولا حسب، ولا بياض في الوجه، ولا ذكاء في العقل ولا.. كل تلك الاعتبارات ألقوها جانباً، ليس هناك إلا إيمان وعمل صالح، وكفر وشرك، وأهل الكفر والشرك هم شر البرية، وأهل الإيمان والعمل الصالح هم خير البرية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً)

    الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر الله لهم جزاء، فقال تعالى: جَزَاؤُهُمْ [البينة:8] يا من يطلب البيان جَزَاؤُهُمْ [البينة:8] عند من؟ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البينة:8] قد يكون عند الآخرين يعذبونهم.. يجوعونهم.. ينتفون لحاهم، لكن جزاؤهم عند ربهم، ماذا؟ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [البينة:8]. اضحكوا.. افرحوا، الحمد لله.. الحمد لله!

    هل تشكون أنكم لستم من أولياء الله؟ لا.

    هل على رءوسكم برانيط؟ هل في أعناقكم صلبان؟ هل فيكم تارك صلاة؟ هل فيكم مستبيح لما حرم الله؟ الجواب: لا. إذاً: أنتم أولياء الله، فالحمد لله أنتم خير الخليقة.

    وهنا هل أنتم خير من الملائكة؟

    الخلاف بين أهل العلم في هذه القضية معلوم عندنا، وخلاصته: أن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعامة الملائكة أفضل من عامة البشر.

    ومن هل الأفضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل؟

    الجواب: خواص الرسل أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر. لم؟ لأنهم أطهر منا، لم يعرفوا معصية الله.

    إذاً: قوله تعالى: خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، أي: خير الخليقة من غير الملائكة، إلا خواصنا نعم، أنبياؤنا ورسلنا.

    إذاً: نحن خير من أهل الشرك والكفر والحيوانات على اختلافها وتنوعها، ومن الجن و.. و.. والحمد لله.

    قال تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البينة:8]. عند ربهم.. يستحقونه في الملكوت الأعلى.

    كيف الطريق إلى الملكوت الأعلى؟

    لا بد من الاستعداد، بالطاقة فقط، بالنور، تصلي ركعتين ليحصل لك كذا ألف كيلو وات، فقط تتوضأ وتحسن الوضوء وترفع رأسك إلى السماء وتشهد شهادة الحق: ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ). على الفور تقول له أبواب الجنة أوتوماتيكياً: ادخل يا ناصر ! آه! منعك الموت يا بني، هو السبب وإلا دخلت.

    كنا في الزمن الماضي نقرأ فنقول: كيف تفتح أبواب الجنة؟!

    الآن في المطار عرفنا، أنت بعيد من الباب وينفتح! عجائب تنكشف، وما كان غيباً أصبح شهادة.

    تذكرون أن زكريا أبا يحيى عليه السلام لما كفل تلك الطاهرة مريم ، لما كفلها لأن والدتها نذرتها لله، - حمنة - كان يدخل عليها وهي في محرابها.. في مقصورتها تتعبد؛ لأنها نذيرة، لا تعمل شيئاً إلا لله، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فيعجب! فيقول: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله.

    الآن تعالوا إلى بيت أبي جميل تجدون فاكهة الشتاء في الصيف في ثلاجته، وفاكهة الصيف في الشتاء.

    الرطب في الصيف وإلا في الشتاء؟ في الصيف. وفي رمضان أكلتم رطباً، وهذا ليس وقت رطب، فهذه كرامة أعظم من كرامة مريم ، ولكننا غافلون، وقل من يقول: الحمد لله! نأكل الرطب في الشتاء؟ كيف هذا؟ نعوذ بالله من الغفلة.

    سوف تنكشف الستائر وتتجلى حقائق ذكرها القرآن، ومن ثم يسدل الستار فالمؤمن مؤمن والكافر كافر؛ لأن الغيب ما بقي غيب.

    إذاً: فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ولو أنه مات لدخل، لكن ما مات فكيف يدخل؟ فلهذا الموت هو الذي يمنعنا من دخول الجنة.

    هل تصح هذه العبارة يا راضي ؟

    نعم. فقد قال أبو القاسم فداه أبي ونفسي والعالم أجمع: ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ).

    ما من مؤمن يحافظ على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة فريضة لا يمنعه من دخول الجنة إلا شيء واحد وهو الموت، الأجل لم يأت بعد.

    إذاً: الليلة تفرحون بالموت، أحسن من الحزن والكرب والهم، لو فرحنا بالموت لخفت أحمالنا وأثقالنا، والموت خير، وقد سمعتم قول الله: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17] فهل تقول أنت: لا.. لا؟!

    الآخرة خير وأبقى إلا أننا نشح بالعمر أو بالأيام لنعبد الله أكثر، فلهذا جاء في الحديث: ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به )، فنحن نحب الحياة.

    أنا أتكلم على لسانكم! نحب الحياة من أجل أن نكثر من العمل الصالح، فكل يوم عندنا طن حسنات، فلو متنا الليلة انتهى إلا ما كان من المصادر التي لا تنضب وهي ثلاثة كما في الحديث: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له )، ادعوا لآبائكم وأمهاتكم، لا تنسوهم في كل صلاة، وقد قال لكم الله: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

    قال: ( ولد صالح يدعو له ) ولد صالح وليس بطالح، فلو كان طالحاً يسبه ويشتمه.

    قال: ( أو علم ينتفع به ) لا تقولوا: نحن ما عندنا علم وكذا.. لا أبداً، تنقل الليلة مسألة مما سمعت وتضعها في مكان لائق.. في عجوز.. في أخ.. في مؤمن ويفهمها ويعمل بها فأنت مأجور ما دام يعمل بها، وليس شرطاً أن تكتب فتقول: أنا ما ألفت ولا طبعت ولا كتبت، فقط تعرف الهدى فتنقله إلى غيرك فيعمل به، فلا تزال تؤجر ما دام يعمل به.

    ثالثاً: ( أو صدقة جارية ) لا تنقطع كالماء الجاري.

    ما الصدقة الجارية؟ البئر.. فالبئر يخرج الماء والناس يستقون فهو صدقة جارية حتى ينقطع البئر!

    رباط يبنيه.. مسجد.. مدرسة.. جسر يعبر عليه أهل البلد من قرية إلى قرية.. صدقة تستمر.. علم.. كتاب يطبعه ويوزعه صدقة جارية محدودة ما يبقى إلا الله، لكن المسجد نفسه قد يمضي عليه مائتين سنة وينتهي، لكن صدقة جارية لما تشاهد من جريانها.

    يقول أبو سامر: نحن نكره الموت من أجل الدنيا. يعني: من أجل الأكل والشرب والنكاح.

    وأقول له: أكلنا.. شربنا.. نكحنا! ما يكفي؟ لا.. لا. ليس من أجل الدنيا، ابحث عن السر.

    سئل أحد الخلفاء الأمويين.. أحد الصالحين: يا فلان! لماذا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ ما السر يا أبا فلان؟ فقال: نعم. لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم.

    فهل هناك عاقل يرغب في الخراب ويكره العمران؟ لا أحد.

    أليس كذلك؟ بلى. لما خربتم الآخرة وما بنيتم فيها شيئاً وهدمتموها وعمرتم الدنيا وزينتموها بالطبع كل عاقل يحب العمران ولا يحب الخراب، وهذا هو الجواب.

    ولهذا أبو هريرة كان يقول: اجعلوا كنزكم في السماء؛ لأن القلوب متعلقة بكنوزها. ولو قدمنا من الصالحات الكثير سنرغب في الآخرة، وعلى كل حال! اسألوا الله تعالى العافية.

    وقوله تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا [البينة:8] كلمة عدن تعرفون معناها، وعدن اليمنية تعرفونها، ومن أين اشتق عدن؟ من الإقامة. جنات عدن.. إقامة دائمة، عدن بالمكان يعدن إذا أقام به وما تركه، جنات إقامة دائمة. هذا معنى جنات عدن.

    والجنات: جمع جنة. والجنة: البستان الذي إذا دخلته غطتك أشجاره بأغصانها.

    كم جنة؟ لكل واحد منا جنتان، والجنة عرضها وطولها مسيرة ألفي عام.. مسيرة ألفي سنة، ومع هذا تنظر إليها إلى أقصاها، فلا إله إلا الله! كيف نؤمن بهذا؟ آمنا.

    اليوم في التلفاز -والأحمق الذي يقول هذا ليس بصحيح- تشاهد أمريكا في بيتك وهي أقصى الدنيا، ولهذا يعطى هذا المكان الفسيح وينظر إليه إلى طرفه.. ألفي سنة.

    وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [الرحمن:46] ماذا؟ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].

    وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62] هنا كما علمتم، نحن طبقتان: مقربون وأصحاب يمين، ولا أحسب أن بيننا مقربين، لكن عبد الله خاف، طماع، قال: نحن راضون بأن نكون من أصحاب اليمين. فاللهم اجعلنا من أصحاب اليمين، فسلام لكم من أصحاب اليمين.

    إذاً: المقربون لهم جنتان، ولأصحاب اليمين جنتان، وقد قدمنا أن الرحيق المختوم يشربه المقربون خالصاً، ويشربه أصحاب اليمين ممزوجاً.

    إذاً: ولست أنا بعليم ولا بحكيم، أنا فقط أطايبكم، وقد يكون بينكم المقربون، وعبد الله راغب فيها.

    إليكم اللوحة الآتية! شاهدوا أنفسكم! المقرب يعرف وصاحب اليمين يعرف، والثالث يعرف، قال تعالى من سورة فاطر: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، من هو؟ الله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [فاطر:32] ورثناه لمن؟ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32].

    اصطفاكم لأي شيء؟ للإيمان به وعبادته، لطاعته والتقرب إليه فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]، الظالم لنفسه يكتوي بحرها ويصطلي بلظاها ويخرج، ويكون في درجة ثالثة.

    والمقتصد: هم أصحاب اليمين، المقتصد فقط يؤدي الفرائض كاملة سليمة، ويتجنب المنهيات المحرمة الكبيرة وما عنده مسابقة ولا منافسة، فلا يصوم ستة أيام من شوال ولا ثلاثة أيام من كل شهر، حسبه رمضان.

    وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] سابق.. سبق من يريد أن يسابقه في الصالحات.. الفرائض.. النوافل.. ترك المكروهات وحتى بعض المباحات؛ لأن همه في السماء.

    هؤلاء المقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون بالخيرات هم المقربون، والظالم لنفسه من مثلنا أمره إلى الله، لكن في النهاية ماذا قال تعالى؟ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:32-34].

    إذاً: الظالمون من هذه الأمة.. أمة التوحيد وإن دخلوا النار وامتحشوا فيها وصاروا فحماً لذنوبهم وكبائرهم فمآلهم إلى دار السلام؛ لأن الله ورثهم هذا الكتاب، كتابهم.. وهذا نبيهم.. وتلك قبلتهم، ولكن زلت أقدامهم واستطاع العدو أن يغمسهم في بحور الإثم والذنوب فخبثت أرواحهم، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التطييب والتطهير والتصفية، أما غير المسلمين من هذه الأمم فلا كلام عليهم، فهم في نار جهنم خالدين فيها، آيسين تمام اليأس.

    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] جائزة أخرى: رضي الله عنهم ورضوا عنه!

    أرأيتك لو يهتف بك هاتف ويقول لك: عبدي رضيت عنك! كيف تعمل؟!

    لو يأتيك ملك وأنت نائم: عبد الله! أبشر، إن ربك راض عنك! كيف تكون؟ تتيه في الصحراء.

    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] ولهذا أسكنهم بجواره، لو سخط عليهم لرمى بهم في أتون الجحيم.

    وهم يرضون عن الله لما آتاهم وأعطاهم، راضين.. مقتنعين.. مستبشرين.. فرحين.

    وأخيراً الختم! اسمع يا طماع: ذَلِكَ [البينة:8] الذي سمعت وعرفت لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8] للذي خشي ربه وللتي خشيت ربها. أتدرون كيف؟ لأنه ذكر الإيمان والعمل الصالح، وإذا لم يخش الله تعالى يشرب الحشيش.. ويضرب أمه.. ويتفل على أبيه.. ويخون جاره.. ويشرب الكوكائين ويشارك في الدماء، وينغمس في الآثام. ما خاف ربه.

    ذَلِكَ : النعيم المذكور نصيب من لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8] أي: خاف الله فلم يعصه، ولم يخرج عن طاعته، نهض بالتكاليف فعلها كتركها لم يفرط فيها، فما حصل مرة أن زلت القدم فترك واجباً أو غشي حراماً عقب عليه بتوبة نصوح فزال الأثر وانمحت تلك الظلمة وعاد النور كما كان وإلى الملكوت الأعلى. والعبرة بالختم الأخير، الختم الأخير: ( إنما الأعمال بالخواتيم )، انظر بم ختم لأخيك، وكيف كانت الأيام الأخيرة والساعة الأخيرة؟

    معاشر المستمعين! هذه سورة البينة، وعما قريب إن شاء الله نبتدئ دراسة كتاب: (المسجد وبيت المسلم)، يوماً آية ويوماً حديثاً، وتنشرح صدوركم، وتنطلق ألسنتكم؛ لأنكم تحفظون وتعلمون، وما بقي إلا نصف شهر إن شاء الله، فإذا فرغنا من هذه الختمة نبتدئ في كتاب: (المسجد وبيت المسلم)، إن شاء الله.

    وصلى الله على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793255