أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:33-36].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، فلا أحسن منه أبداً، وأول من يدخل في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة الرسل والأنبياء، ثم بعد ذلك العلماء الصالحون، ثم المجاهدون، ثم المؤذنون، ثم الدعاة الهداة المهديون.
وقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] بأن يعبد الله وحده، ويطاع في أمره ونهيه، وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33]، أي: أدى ما أوجب الله عليه، فأدى الفرائض واجتنب المنهيات والمحرمات، ونافس في الخيرات وسابق في الصالحات، وَقَالَ [فصلت:33] مفتخراً مباهياً معتزاً: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فقلوبهم لا تتقلب إلا طلباً لمرضاة الله، ووجوهم لن يقبلوا بها إلا على الله خائفين طامعين. هؤلاء هم المسلمون، فلا أحد أحسن قولاً منهم. ومهما قلت يا عبد الله! وقيل لك أو رفع قولك أو قدم للأبيض والأسود فلا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين.
وقد علمتم أن أول من يدخل في هذا الخطاب: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة الرسل والأنبياء، ثم العلماء العاملون بعلمهم؛ لأنهم دعاة إلى الله، ثم المجاهدون؛ لأنهم يجاهدون لإدخال الناس في الإسلام؛ ليعبدوا الله وحده؛ ثم المؤذنون؛ لأنهم في كل صلاة يقولون: حي على الصلاة حي على الفلاح، ويقولون: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله. فهم يدعون الناس إلى عبادة الله.
والمؤذنون إذا كانوا مستقيمين صالحين لا يتقاضون أجرة على الأذان يكونون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً، وإذا مات أحدهم لم تعدُ الأرض على جسمه، بل يبقى جسمه سليماً كجسم النبي صلى الله عليه وسلم. ولما عرف هذا عمر قال: لولا الخلافة لكنت مؤذناً، أي: لولا الخلافة ومهامها وأتعابها لكنت مؤذناً؛ لفضل الأذان، فقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [فصلت:33]، أي: لا أحد أحسن قولاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، ليؤمن به وليعبد وحده، وليطاع في أمره ونهيه. وهكذا يدعى إلى الله، وَعَمِلَ [فصلت:33] بعد ذلك صَالِحًا [فصلت:33]. ونهض بالواجبات وتخلى عن المنهيات، ونافس في الصالحات وسابق في الخيرات.
ثم قال: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. اللهم اجعلنا من هؤلاء بفضلك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
فليدع كل واحد ولو كان العوام إلى الله، ويدعون حتى بناتهم .. أولادهم .. نساءهم .. إخوانهم .. جيرانهم، فهي دعوة إلى الله، وكذلك يعملون الصالحات، ويعتزون بالإسلام، بحيث لو يعطى أحدهم الدنيا بما فيها على أن نخرج من الإسلام ما نقبل الإسلام. ووالله إن المسلم الحق لو يعطى الدنيا بما فيها ما يرضى بأن يستبدل الإسلام، ويقول: أنا يهودي أو نصراني أو مشرك.
ثم قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]. والخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أتباعه وأمته، فيتناولنا الخطاب أيضاً، فـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]. فإذا سبك رجل فقل له: يغفر الله لي ولك، أو إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. وكذلك إذا سبك .. شتمك .. آذاك .. اغتابك .. نم عليك، فادفع هذه السيئة بحسنة مثلها، وهذا الرسول الكريم بدأ الله به بقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [فصلت:34]. وأمته معه. ولو أخذ المسلمون بهذا لما كانت فتنة، ولما كانت حرب، ولا عداء ولا بغضاء، ولا كبر ولا غير هذا أبداً، وهذا هو الواجب والمطلوب.
ولو سرقك فسامحه لوجه الله، ولو شتمك .. سبك .. قال فيك كذا فقل: عفا الله عنك، وغفر لي ولك، و ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]، أي: بالخصلة التي هي أحسن، وهي حسن الخلق والكمال الروحي والطهارة النفسية، فادفع بها الخبث ولا تبالي، فـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]. والسيئة ما يسوءك ويؤلمك ويضرك، سواء كان غيبة أو سباً، أو شتماً أو ضرباً أو ما إلى ذلك، فادفع ذلك بالحسنة التي هي خير وأبقى.
والمجتمع القرآني والمجتمع الإسلامي هذا شأنه، وقد رأيت فيما مضى بعض الإخوان في المسجد هنا إذا قال له أحد كلمة يقول له: عفا الله عنك، وغفر الله لك، ويدفع تلك الكلمة السيئة بهذه الكلمة الحسنة، ولا يردون السيئة بالسيئة أبداً، بل يدفعونها بالحسنة؛ عملاً بهذا التوجيه الإلهي الرباني، فهو يقول: ادفع يا رسولنا! بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]. فيصبح كأنه صديقاً قريباً من أقربائك، فلا إله إلا الله! فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ [فصلت:34] يصبح كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] من أوليائك، وقريب من أقربائك، وصديق محب لك. وسبحان الله! فهذا خبر الله، فلا تشك فيه؛ فإنه يكفر من يشك فيه، فهو والله لا شك فيه، فادفع بالتي هي أحسن؛ ليصبح ذلك الذي سبك أو شتمك أو آذاك من أقرب الناس إليك، وأحبهم إليك، فقد قال تعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، أي: ولي من أوليائك، وحميم أي: قريب من أقربائك، وصديق من أصدقائك. وجرب وسترى هذا.
والصبر حبس النفس أولاً على طاعة الله بفعل الواجبات وترك المنهيات، ثم على هذه الفضائل والكمالات الخلقية. هؤلاء هم الذين صبروا. اللهم اجعلنا منهم.
وقوله: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، أي: عند الله، فالذي يتصف بهذه الصفات التي سمعتم إنه لذو حظ عظيم عند الله، ودرجة عالية مقامٍ سامٍ. والجنة هي دار النعيم، وفيها الدرجات العالية. وهذا إخبار الله، فقد قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35]. فهيا نصبر حتى نتلقى ذلك الكمال، ونصبح دائماً لا ندفع السيئة إلا بالحسنة التي هي أحسن. وَمَا يُلَقَّاهَا [فصلت:35]، أي: ما يلقى هذا ويأخذه إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، أي: صاحب حظ عظيم. وهذا الحظ العظيم يكون في الجنة دار النعيم، فهي الحظ المقيم العظيم.
أيها المستمعون والمستمعات! ولا يسلم منا أحد من نزغ الشيطان، وإذا كان رسول الله يناله هذا فنحن من باب أولى، فلنفزع إلى الله عز وجل بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونلتجئ إلى الله، فهو الذي يحفظنا. وهكذا كلما يخطر ببالك سوء ويقذفه الشيطان في نفسك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فوالله ليهربن ويبعدن، ولا يبقى معك.
وقوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ [فصلت:36] الأصل وإن ينزغنك يا عبد الله! ويا أمة الله! مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، أي: السميع لقولك: أعوذ بالله، العليم بحالك وما في قلبك، وما أراد الشيطان أن يبتليك به. وهذه الآية والله خير من مليار دولار، بل هي والله لخير من الدنيا وما فيها.
وأنت ما يمكنك أن تزني إلا بعد أن يزين لك الشيطان، ولا يمكنك أن تكذب إلا بعد أن يزين لك، ولا يمكنك أن تشرب حراماً وتأكل حراماً إلا بعد أن يزين لك. ومن هنا لا معصية إلا بالتزيين، فلنفزع إلى الله بهذه الكلمة الطيبة المباركة التي علمناها، وهي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتنتفض كالأسد، وما تبقى على معصية أبداً، لا بالقول ولا بالفعل ولا بالاعتقاد. فتطرد الشيطان بهذا، فيطرد من قلبك. وإذا كان رسول الله قد يقع هذا في قلبه فنحن من باب أولى. ولذلك لابد لنا من هذه الهداية الربانية.
وقوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ [فصلت:36]، أي: التجئ إلى الله بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيزول الغضب .. يزول السخط .. يزول العدو، وستتخلى عن الجريمة التي سولها الشيطان لك بترك واجب أو بفعل حرام. فالتجئ إلى الله، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنه يفارقك ويتركك. وجربوا هذا. ووالله إنا لا نعمل بهذا، فكلما يخطر بالبال سوء نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إلا إذا كنا في المرحاض.
والنزغ معروف. فإذا نزغك الشيطان فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:36]، أي: الجأ إلى الله، إِنَّهُ هُوَ [فصلت:36] تعالى السَّمِيعُ [فصلت:36] لقولك، الْعَلِيمُ [فصلت:36] بحالك، وأما غير الله فلا تفزع إليه؛ لأنه ما يسمعك ولا يراك، ولكن الله هو السميع العليم، فافزع إليه بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واستغفر الله عز وجل، وقد سمعتم قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ). فلا بد من هذا الورد: أستغفر الله مائة مرة، فهي ضرورية؛ ائتساء بأبي القاسم صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لهديه عليه الصلاة والسلام.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين ] اللهم اجعلنا منهم. فكونوا دعاة عباد الله! في بيوتكم .. مع جيرانكم .. في طرقكم؛ حتى تدخلون في هذا الكمال الإلهي.
[ ثانياً: فضل الإسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به ] فتقول: أنا مسلم، ولا أغشى هذا الباطل، ولا أقول هذا المنكر، ولا أفعل هذا المنكر؛ لأني مسلم معتز بإسلامي، فلا تخفي إسلامك، بل أظهره وجاهر به.
[ ثالثاً: تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة ] أبداً [ كما أن الحسنات ] فيما بينها [ تتفاوت ] فصلاة الفريضة أعظم من ركعتي نافلة [ والسيئات تتفاوت ] فسبك لمؤمن أو شتمك ليس كضربه أو قتله.
[ رابعاً: وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل ] وبالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة، لا بالسب والشتم.
قال الشيخ في النهر: [ قال ابن عباس في هذه الآية: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] إلى قوله: وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، أمره الله تعالى بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، وهو كما قال رضي الله عنه ].
[ خامساً: فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه، فيصبح يدفع السيئة بالحسنة ] اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
[ سادساً ] وأخيراً: [ وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس وألقى بخاطر سوء؛ إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم ].
فهيا نعزم من الليلة إن شاء الله أن نحقق هذه المبادئ، وهي سهلة مبسطة. فقولوا: الحمد لله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر