أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات الخمس أو الست فيها عرض كامل لعقيدة البعث والجزاء. ففي هذه الآيات تستعرض أحداث يوم القيامة وما يتم فيها. وهذا الركن قلت غير ما مرة: إنه من أعظم الأركان في العقيدة، وفاقده حجر أصم، لا يسمع ولا يتكلم، والمؤمن بالبعث والجزاء حي، يمكنه أن يستجيب للدعاء والنداء ويفعل ويترك، وأما فاقده فهو شر الخلق، والعياذ بالله.
فهذه الآيات ست آيات، وكلها في عرض القيامة.
قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت:19]. وأعداء الله ضد أوليائه، وهم الذين يكرهون ما يحب الله، ويحبون ما يكره الله. وهؤلاء هم الكافرون والمشركون، والفاسقون والفاجرون. فهؤلاء أعداء الله، وليسوا بأوليائه ولا بأحبائه.
فأعداء الله ليسوا بنو فلان وفلان، وإنما هم الذين يكرهون ما يحب الله، ويحبون ما يكره الله، وهم الذين كذبوا بما جاء به رسول الله، وكذبوا بلقاء الله، وكذبوا بألوهية الله، سواء كانوا بيضاً أو كانوا صفراً، أو سوداً أو حمراً.
ومعنى حشرهم: جمعهم في ساحة واحدة. فهم يخرجون من الأرض كما يخرج النبات، ولما يخرجون وأجسادهم كاملة يحشرون ويجمعون إلى ساحة فصل القضاء. وقد قال تعالى: اذكر يا رسولنا! لهم وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت:19]. والنار عالم كله جحيم، وليس هو شعلة من نار، بل هو عالم أكبر من عالمنا هذا ببليون مرة، وكله جحيم. وهم يقادون إليه ويرمون فيه.
فقال تعالى لرسوله: اذكر وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19]. الوزع هو: أنهم إذا مشى الصف الأول يوقفونه حتى يلحق الثاني، حتى يتجمعوا اجتماعاً واحداً. فيوزعون بمعنى: يجمع أولهم مع آخرهم؛ لأن الأولين ماشون بسرعة، فيوقفون حتى يلحق الآخرون بهم، ويكونون كتلة واحدة.
ولفظ الجلود يشمل الأيدي والأرجل والفروج، فكلها تشهد، فتنطق اليد وتقول: نعم، أنت ضربت بي فلاناً، وقتلت فلاناً، وتقول رجله: أنت الذي مشيت إلى المخمرة أو إلى الزن، أو الذي فعلت كذا، ويقول الفرج: أنت فجرت وزنيت أو لطت.
وقوله: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ [فصلت:22]، أي: تختفون لما كنتم تجرمون الجرائم، وترتكبون كبائر الذنوب، فما كنتم تحاولون أن تستتروا وتختفوا، بل كنتم تجاهرون بذلك. وأنتم مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ [فصلت:22]. ولا يمكن أن يستتر الإنسان عن سمعه وبصره وجلده.
ومعنى هذا يا معشر المستمعين والمستمعات!: ألا نغشى ذنباً، ولا نرتكب معصية، وإن كنا في خلوة لا يعلمنا أحد إلا الله فإن أعضاءنا وجلودنا تنطق وتشهد علينا. فلهذا لا نعصي ربنا، ولا نخرج عن طاعته، لا بربا ولا بزنا، ولا بغيبة ولا بنميمة، ولا بكفر ولا بشرك، ولا بفسق ولا بفجور أبداً، ولنجاهد أنفسنا، ولنجاهد الشيطان، ونغلبه ونقهره، ولا نسمح له أن يضلنا أو يغوينا، أو يوقعنا في هذه المفاسد والشرور، والعياذ بالله. وذلك حتى لا يقال لنا يوم القيامة: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22]. وهذا حالهم، فقد كانوا يظنون هكذا، وما كانوا تحت الستار يتكلمون: أن الله يعلم كلامنا هذا إذا جهرنا أو إذا أسررنا. ولهذا يجب أن نخشى الله، وألا نقوى على معصيته، وألا نقدر على فسق ولا على فجور أبداً، ولنجاهد أنفسنا.
وقوله تعالى: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22]، فهذا ظن الجهلة والفسقة والفاجرون.
قال تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ [فصلت:23] الآن مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]، وهم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء أمام جهنم.
والخاسرون ليسوا هم الذين فقدوا إبلاً وغنماً، أو مالاً وديناراً، أو رجالاً ونساء، أو أطفالاً وآباءً، وقد بين تعالى لنا الخاسرين بحق من هم، فقال في كتابه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق وصدق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]. فيخسر نفسه وأهله كما بينت غير ما مرة للصالحين والصالحات، فيلقى أحدهم في صندوق من حديد، ويلقى في جهنم، وهو يسمع ويبصر، ولكن لا يرى أحداً، ولا يأكل ولا يشرب، ولا ينام ولا يموت أبداً، ويبقى هكذا ملايين السنين. فيلقى في جهنم، فلا يجد أباً له ولا أخاً، ولا عماً ولا صديقاً، بل يعيش في غربة أبدية. هذا هو الذي خسر نفسه وأهله، فنبرأ إلى الله من هذا العذاب، ونجأر بأصواتنا: ربنا اغفر لنا وقنا عذاب النار.
وهكذا يقول تعالى عنهم هنا: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:23]. فهيا نظن بربنا الخير، ولا نظن به الشر، ولا نظن بأنه لا يعلمنا ولا يرانا، ولا نظن بأنه لا يغضب علينا، ولا نظن بأنه لا يؤاخذنا ولا يعاقبنا. وهذا الظن والعياذ بالله هو الذي يردي ويهلك، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23].
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها ] ففيها كما قدمنا عرض مفصل كامل لساحة القيامة، وما يجري وما يتم فيها.
[ ثانياً: التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب ] وارتكابها وغشيانها [ فإن جوارح المرء تشهد عليه ] يوم القيامة، فالعين تقول: نظرت، والأصبع يقول: أشرت، واليد تقول: ضربت، والرجل تقول: مشيت. ومن ثم يدخل جهنم. ولهذا يجب ألا نعصي ربنا، ولا نخرج عن طاعته، لا بزنا ولا بربا، ولا بغش ولا بخداع ولا بكذب، ولا بترك فريضة ولا إهمال سنة أبداً، حتى يتوفانا الله صالحين.
[ ثالثاً: التحذير من سوء الظن بالله تعالى، ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه ] في ذنبه هذا [ أو لا يعلم ما يرتكبه، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه ] أو لا يؤاخذه عليه، أو أنه لا يطالبه بترك هذه العبادة، أو غير ذلك من الظنون الفاسدة، كما قال عمر رضي الله عنه.
[ رابعاً ] وأخيراً: من هداية هذه الآيات أيضاً: [ وجوب حسن الظن بالله تعالى، وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات، ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف، كالكبر ونحوه، فيغلّب جانب الرجاء على جانب الخوف ] فيجب حسن الظن في الله تعالى، فإذا أذنبت فأحسن الظن بربي أن يقبل توبتي، فأتوب إليه وأستغفره، أحسن الظن بأن يغفر لي، وكذلك أن أدعوه وأسأله، أحسن الظن بالله أن يستجيب لي. هذا حسن الظن بالله، وهو ضروري للمؤمن.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر