إسلام ويب

تفسير سورة المجادلة (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان الصحابة يكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى شق ذلك عليه، فأمرهم الله عز وجل بتقديم صدقة بين يدي المناجاة لمن أراد ذلك منهم، فلما شق ذلك عليهم أنزل الله معذرته لهم وعفوه عنهم، وأمرهم بطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأداء الفرائض والطاعات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الأمسيات الربانية ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن اليوم مع سورة المجادلة المدنية، ومع هذه الآيات منها، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:11-13].

    الندب إلى التوسع في مجالس العلم والذكر وبيان فضلها

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:11]، هذا نداء الله موجه إلى المؤمنين بالله ورسوله، إلى المؤمنين بالله ولقائه، إلى المؤمنين بالله وكتابه، إلى المؤمنين بالله ووعده ووعيده، وهؤلاء المؤمنون أحياء فيناديهم ربهم، وذلك لكمال حياتهم، أما الكافرون فهم أموات فلا يناديهم ولا يقول: يا أيها الذين كفروا، إذ إنهم لا يسمعون ولا يجيبون، وإنما هم أموات غير أحياء، أما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بالله ولقائه، فهم أحياء يسمعون ويبصرون وينطقون ويأخذون ويذهبون ويجيئون لكمال حياتهم، ولذلك فالإيمان بمنزلة الروح، أي: أن الإيمان الصحيح كالروح صاحبه حي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويبر الوالدين ويحسن مع المحسنين، والكافر والعياذ بالله ميت.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]، وتذكرون كيف كان يجلس الحبيب صلى الله عليه وسلم في الروضة وحوله أصحابه وأولادهم من الأنصار والمهاجرين، فيجلسون حوله فيأتي من تخلف عنهم فيبحث عن مكان فلا يجد، فيتضاغطون وكل يوسع نفسه، فما أراد الله لهم هذه الحال، فأراد الله عز وجل أن يؤدبهم ويكملهم ويسعدهم، فناداهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]، والمقصود بالمجالس مجالس الذكر والعلم، إذ لا تخلو المجالس من هذا، فهي إما مجالس العلم أو مجالس الذكر، فإذا جاء أحدنا ووقف على الحلقة فينبغي أن نفسح له في المجلس، وننضم بعضنا إلى بعض حتى نترك له مجالاً فيجلس فيه، إذ الآية نزلت وبعض الأصحاب واقفون ما جلسوا، والآخرون جالسون متربعون، فما كان من حقهم إلا أن ينضموا إلى بعضهم بعض، ويفتحوا المجال لمن جاء بعدهم ليجلس، وذلك ليسمع الذكر والعلم.

    إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [المجادلة:11]، وأثابهم الله فقال: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]، أي: في أرزاقكم فتتسع، وفي قبوركم فتتسع، وفي الجنة لما تدخلونها، وهذا وعد من الله عز وجل مقابل إذا جاء مؤمن وأراد أن يجلس فلا نضايق المجلس، بل نفسح له المجال حتى يجلس.

    الندب والترغيب في القيام بالمعروف وأداء الواجبات إذا دعي المؤمن إلى ذلك

    ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا [المجادلة:11]، أي: قوموا إلى الجهاد، إلى الرباط، إلى المعروف، فينبغي أن تقوموا، وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]، أي: إذا دعانا الداعي إلى الله لنقيم الصلاة، ونؤدي الزكاة، ونجاهد في سبيل الله، ونعمل الخير والبر، فنحن مستعدون دائماً وأبداً لذلك؛ لأننا أحياء غير أموات.

    فضيلة الإيمان والعلم والعمل به

    يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة:11]، أي: إذا طالبكم رسول الله أو من ينوب عنه بأن تقوموا فقوموا، سواء لأداء الصلاة أو للجهاد أو للرباط أو للأمر بالمعروف أو للنهي عن المنكر، والجزاء عند ذلك هو يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة:11]، أي: يرفعهم فوق مستوى ما هم عليه إلى درجات عالية يوم القيامة، وهؤلاء هم الذين يستجيبون لأمر الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو على لسان أحدهم، وهؤلاء هم عبيد الله المؤمنون، فإذا قيل لهم: قوموا قاموا، وإذا قيل لهم: انشزوا أطاعوا، والنشوز هو الارتفاع، ومنه المرأة الناشز إذا ارتفعت عن زوجها فهي مرتفعة.

    يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة:11]، أي: آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بالله ولقائه، آمنوا بالله ووعده ووعيده، فهؤلاء هم المؤمنون الأحياء الذين يرفعهم الله عز وجل، أما المنافقون واليهود الجالسون معكم فما يرفعهم الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ إنهم قد يطمعون لكن لا يرفعهم الله تعالى، وقد يخرجون للجهاد وهم غير مؤمنين، ولهذا جاء القيد بالإيمان الصحيح، فقال الحق تبارك وتعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:11]، أيها الحاضرون السامعون! مِنْكُمْ [المجادلة:11]، أي: من المؤمنين، أما غير المؤمنين كالمنافقين واليهود الذين كانوا معهم فلا يرفعهم الله أبداً.

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، أي: ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم درجات، والمقصود بالعلم العلم بشريعة الله تعالى، العلم بعبادة الله تعالى، العلم بما حرم الله وبما أحل الله، وأهله في درجات لا يصل إليها غيرهم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب )، ومن هنا ينبغي أن نطلب العلم ولا نتكبر، ولا نقول: كبرنا أو شخنا، بل لا بد من طلب العلم ولو يومياً كلمة واحدة.

    وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، أي: والذين أوتوا العلم يرفعهم الله تعالى درجات لا يعلمها إلا هو، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأما الذين يجهلون فكيف يعبدون الله؟ وبم يعبدونه؟ إذا لم تعرف ما يحب ربك من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات فكيف تتقرب إليه بفعلها وأنت تجهلها؟ إذا لم تعرف ما يكره الله من الاعتقادات الباطلة والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة فكيف ستتركها؟ لن تصل إلى درجة أنك تحب الله وهو يحبك إلا بعد معرفة ما يحب الله وما يكره، وكل ذلك من أجل أن نفعل ما يحب وأن نترك ما يكره، فهذا هو العلم، أي: معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وجلاله وكماله، ومعرفة ما يحبه من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، ومعرفة ما يكره الله من الاعتقادات الفاسدة والأقوال السيئة والأعمال الباطلة والصفات المذمومة، وذلك حتى نتركها ونتجنبها ونبتعد عنها، وبذلك نفوز بحب الله ورضاه، وبالتالي من أراد أن يحبه الله فليحب ما يحب الله تعالى.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وهنا مجالس الذكر كمجالس الصلاة، وبالتالي لا يجوز لمؤمن يجد مؤمناً يصلي ويقول له: قم ويجلس مكانه، اللهم إلا إذا كان لك مولى من الموالي فتقول له: تقدم إلى المسجد واجلس في الصف الأول، حتى إذا جئت قمتَ من مكانك لأجلس، وقد كان الحسن البصري يفعل هذا مع خادمه ومولاه، لكن أن تقيم مؤمناً من مجلسه لتجلس فيه فلا يجوز، ولذلك ينبغي في حلق العلم أن نتضام ولا نبقي أحداً يسمع العلم وهو واقف، بل لا بد وأن نتفسح له حتى يجلس ليسمع، وهكذا عاش أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم والمؤمنون الصالحون، بل وإلى اليوم يعملون بهذه الآية الكريمة.

    وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، أي: في الجنة، ولا يعرف مداها إلا الله تعالى، إذ ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والسماء.

    معنى قوله تعالى: (والله بما تعملون خبير)

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، وهذه الجملة المبين بها الكلام، وهي التي تحمل المؤمنين على أن يستجيبوا وعلى أن يطيعوا وعلى أن يمتثل أمر ربه؛ لأنه علم أن الله عليم بعمله، خبير به مطلع عليه، فلا يقل المؤمن: ممكن أن الله لا يراني، فأنا أجلس هنا أو أقوم! بل لا بد من العلم بأن الله مطلع علينا، عليم بأحوالنا الظاهرة والباطنة، بل حتى ضمائرنا وما في صدورنا، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، فراقبوه واخشوه وحاسبوا أنفسكم حتى لا تعصوا ربكم وينظر إليكم وأنتم عصاة مجرمون مبعدون عن الإسلام وأهله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة...)

    ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: يا أيها الذين آمنوا! إذا أردتم أن تناجوا رسول الله فتختلوا به وتساروه في مكان خاص بكم، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، أي: قبل أن تفعلوا ذلك فتصدقوا بصدقة، وهذه الآية الكريمة نزلت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعب وما أطاق أن يجلس مع كل مؤمن، إذ إن كل واحد منهم يريد أن يجلس مع الرسول ساعة، فما أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حجرته حتى يسمع قرع الباب، فأراد الله أن يؤدبهم فقال لهم: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: أردتم مناجاته، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، أي: تصدق على الفقراء والمساكين ثم تعال واستأذن يفتح لك الرسول بيته، وهنا تململ الصحابة لفقرهم، وكان علي بن أبي طالب هو الوحيد الذي كان عنده دينار فصرفه إلى عشرة دراهم، ثم أخذ درهماً وتصدق به وجاء ليناجي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا أن فهموا أنهم قد أتعبوا رسول الله وآلموه وحملوه ما لا يطيق حتى كفوا، وما أصبحوا يطلبون المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: إذا أردتم أن تناجوه، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، أي: قبل المسارة والمناجاة مع النبي صلى الله عليه وسلم قدم صدقة، وقد وفق الله علياً لهذه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: علي أعطي ثلاثاً لو أعطيتها لكانت خيراً من الدنيا وما فيها: الأولى: تزوج بنت الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة، والثانية: أعطاه الرسول اللواء في يوم خيبر، والثالثة: كان أول من أطاع الله عز وجل وتصدق بصدقة ودخل على الرسول وناجاه.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، أي: إذا أردتم أن تناجوه وتتكلموا معه سراً، والمناجاة هي المسارة في الحديث، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، أي: قبل أن تناجي النبي صلى الله عليه وسلم تصدق، فلما نزلت هذه الآية عرفوا أنهم يُبعدون عن الرسول لأنهم قد أتعبوه وآلموه وضيقوا عليه، وذلك لأنه لا يستطيع أن يتحمل هذا وهو بشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات...)

    حصول النسخ في كتاب الله لبعض الأحكام

    ثم نسخ الله هذا الحكم فقال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:13]؟ أي: أخفتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة؟ لأن المرضى والمنافقين موجودين أيضاً، وقد أصابهم الخوف من ذلك، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، فهم ما استطاعوا أن يدفعوا الصدقات؛ لأنهم أكثرهم فقراء لا مال عندهم، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، بأن نسخ هذا الحكم وأذن لكل من أراد أن يناجي الرسول أن يناجيه، لكن بعد أن عرفوا أن هذه المناجاة متعبة للرسول صلى الله عليه وسلم وشاقة عليه لا يطيقها، وبالتالي ابتعدوا وتاب الله عليهم.

    ثم قال تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13]، فيما يأمران وينهيان، أي: يطاع الله في أوامره، ويطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سننه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.

    معنى قوله تعالى: (والله خبير بما تعملون)

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]، أي: خبير بأعمالكم مطلع عليها، ومن هنا لا يستطيع أحد آمن بالله أن يعصي الله تعالى، بل لو دفعته نفسه إلى معصية ما يستطيع أن يرتكبها وهو يعلم أن الله مطلع عليه خبير بعمله، مطلع عليه سراً كان أو علناً، مع الناس أو منفرداً، ولذلك أهل الإيمان ما يستطيعون معصية الله، إذ ما يقدرون عليها؛ لأنهم أحياء غير أموات، ولأنهم بصراء غير عميان، ولأنهم موقنون أنهم بين يدي الله تعالى، ولذا من يستطيع منا الآن أن يقوم ويبول بيننا؟ لا أحد، فكذلك معصية الله أبشع من هذا، فكيف تشرب الخمر وأنت تعلم أن الله ينظر إليك؟ أو كيف تزني والله ينظر إليك؟ أو تمد يدك لظلم مؤمن والله ينظر إليك؟ إن المطلعين على ما هم عليه من الإيمان أحياء غير أموات ما يستطيعون أن يعصوا الله أبداً، ولا أن يخرجوا عن طاعته سبحانه وتعالى، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]، والله خبير بما تعملونه من خير أو شر، والله تعالى أسأل أن ينفعنا ويشرح صدورنا.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال الشارح: [ من هداية هذه الآيات: أولاً: الندب إلى فضيلة التوسع في مجالس العلم والتذكير ]، من هداية هذه الآيات: استحباب التوسيع في مجالس الذكر والعلم لمن أراد أن يجلس فيها، فلا نضايقه ولا نزاحمه.

    قال: [ ثانياً: الندب والترغيب في القيام بالمعروف وأداء الواجبات إذا دعي المؤمن إلى ذلك ]، من هداية الآيات: الاستجابة للنداء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإقام الصلاة الجهاد والرباط،، بل ولكل عبادة من حيث هي عبادة، وبالتالي إذا دعي المؤمنون باسم ولي الأمر.. باسم الله يجب أن نقوم، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة:11]، فهكذا يؤدبهم الله تعالى ويحملهم على هذا الكمال، فإذا قال لهم الرسول: قوموا قاموا.

    قال: [ ثالثاً: فضيلة الإيمان وفضل العلم والعمل به ]، فالإيمان ليس فوقه شيء، والمؤمن كالحي والكافر كالميت، وبالتالي كيف نسوي بين الحياة والموت؟ لا تسوية بينهما، فالمؤمن والله حي والكافر ميت والعياذ بالله، ثم إن طلب العلم والرحلة إليه والنزول بساحته ليل نهار هو كالعبادات، بل هو والله أفضل من العبادات.

    قال: قال الشيخ في النهر: [ قيل لـعمر رضي الله عنه في مولى استخلفه، فقال: إنه قارئ لكتاب الله، وإنه عالم بالفرائض، أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين )، وعن ابن عباس: خير سليمان بين العلم والمال والملك فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه ]، عمر رضي الله عنه ولى والياً في مكة، وهذا الوالي ليس بحر، وإنما هو عبد من العبيد، فعابه بعض الغافلين، فقال: وليته لأنه يحفظ كتاب الله، ولأنه عالم بالفرائض، فدل هذا على فضل العلماء وعلو درجتهم، وكذلك سليمان عليه السلام خير بين العلم والملك والمال، فاختار العلم على الملك والمال، فلما اختار العلم أعطاه الله الملك والمال.

    قال: [ رابعاً: مشروعية النسخ في الشريعة قبل العمل بالمنسوخ وبعده، إذ هذه الصدقة نسخت قبل أن يُعمل بها، اللهم إلا ما كان من علي رضي الله عنه؛ فإنه أخبر أنه تصدق بدينار وناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نُسخت هذه الصدقة، فكان يقول: في القرآن آية لم يعمل بها أحد غيري، وهي فضيلة له رضي الله عنه ]، يجب أن نعمل بما في كتاب الله قبل نسخه وبعد نسخه، فما نسخ تركناه، وما لم ينسخ نعمل به إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793797