أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة الصف المدنية، ومع هذه الآيات المباركة، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:10-14].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10], الآيات, يروى: أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدله على أفضل عمل وأكمله، وهذا بعدما قال: ائذن لي أن أطلق امرأتي .. ائذن لي أن أصوم ولا أفطر, وأن أقوم ولا أنام، فما رضي له الرسول بذلك، فقال له: دلني إذاً على أي عمل عظيم، فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]! فيا عثمان بن مظعون! ويا أيها السامعون! ويا كل مؤمن! هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]؟ أي: على صفقة تجارية عظيمة لا نظير لها.
وقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]؟ أي: على صفقة تجارية؟ وهي الجهاد بالمال والنفس. والجزاء والفوائد هو مغفرة الذنوب، وإدخالكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ووصف الجنة فقال: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً [الصف:12] وقصور في الجنة، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12].
وقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12], بمعنى: جنات إقامة أبدية، لا يرحلون منها ولا يخرجون عنها أبداً. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12].
ثم قال للرسول صلى الله عليه وسلم: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:13] الصادقين, أي: بشرهم بهذا الخير كله في الدنيا والآخرة.
وقوله: أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ [الصف:14]. وعيسى عليه السلام هو عيسى بن مريم, وليس له أب؛ إذ الله خلقه بدون أب، فهو آية من آيات القدرة الإلهية، وكرامة من كرامات الله لمريم، فقد أنجبت بدون زواج.
فهذا عيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين, والحواريون جمع حواري وهو الناصر أو النصير الذي ينصر صاحبه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل نبي حواريون، وأنا حواري
فعيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف:14]؟ أي: من ينصرني في ديني وإبلاغ رسالتي وعبادة ربي؟ فأجابه الحواريون وكانوا اثني عشر رجلاً: نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14]. فلما قاموا بالدعوة انقسموا قسمين، طائفة من بني إسرائيل آمنت، وطائفة -والعياذ بالله- كفرت، ودار بينهم القتال والنصر, وانتصر المؤمنون على الكافرين، وبعد فترة من الزمن احتال اليهود على إفساد الدين المسيحي, وأدخلوا فيه البدع والخرافات والضلالات, فهبطوا وانتهوا بمكر اليهود، ولما انتصر الحواريون ومن معهم وعز الدين وفاز وهبط الكافرون من اليهود ونزلوا وذلوا فعلوا مكرة عجيبة, وهذا كما مكروا بالمسلمين، فهبط المسلمون في الفسق والفجور، ومع هذا نصر الله لهم ظاهر إلى يوم القيامة، فقد نصرهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم. والنصارى الذين كانوا على الحق وانهزموا وبقوا في بلادهم مستورين أفراداً نصرهم الله بدين الإسلام, فانتصروا، فآمنوا ودخلوا في الإسلام، وبذلك تم النصر لهم.
هكذا يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:14]! فقولوا: لبيك اللهم لبيك. كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]. فهيا نكون أنصاراً لله، فننصر دينه، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونحارب الشرك والخرافة والضلالة، وندعو إلى التوحيد. هذه هي نصرة الله؛ ليعبد الله وحده ولا يعصى، وائتسوا واقتدوا بما قال عيسى للحواريين: من أنصاري؟ فقال الحواريون: نحن أنصار الله. والمدينة سكانها يسمون بالأنصار؛ لأنهم بايع منهم سبعون رجلاً بيعة العقبة على نصرة الله ورسوله، والرسول ما زال في مكة قبل الهجرة، فبايعوه على أن ينصروه وينصروا دينه, وكانوا سبعين رجلاً، فمن ثَمَّ سموا بالأنصار. ولا ننسى أن أبا بكر من الأنصار، وأن عمر من الأنصار، وأن حمزة رضي الله عنهم من الأنصار، وكثيرون في مكة أيضاً نصروا دين الله، وكل من ينصر منكم دين الله فهو من الأنصار؛ إذ معنى الأنصاري: ناصر الدين، فأي مؤمن ينصر دين الله فوالله إنه لمن الأنصار، أي: الناصرين لدين الله.
فهنا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14], أي: مجموعة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الصف:14] من اليهود، وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14] أخرى، وما استجابت، وانتصر المؤمنون، كما قال تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ [الصف:14]. فانتصروا وأصبحوا ظاهرين.
ولكن كما قلت لكم: بعد سنين احتال اليهود وأفسدوا الدين المسيحي, وحولوه إلى وثنية وإلى شرك وإلى كفر، وقالوا: المسيح هو الله، وقالوا: المسيح ابن الله. وهكذا أفسدوا العقيدة على النصارى، ومن ثَمَّ هبطوا وفسد دينهم, حتى بُعث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعد رفع عيسى بخمسمائة وأربعين سنة تقريباً، وبعد ذلك نصر الله أهل الحق من المسيحيين وغيرهم، وذلك بدين الإسلام, ومن جاء به وبعث به نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول تعالى ونادهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14], أي: انصروا رسوله وعباده المؤمنين، وانصروا دينه وما جاء به. كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ [الصف:14], أي: لأنصاره، وكانوا اثني عشر رجلاً، فقد قال لهم: انصروني, فنصروه وانتصر الإسلام, ورفع عيسى إلى الملكوت الأعلى, وبقيت الأمة فترة والدين سليم, والأمة تعبد الله, وكذب اليهود وخابوا وخسروا، وبعد ذلك احتالوا وأفسدوا الدين المسيحي، فهبطت أمة المسيح، حتى جاء الإسلام وارتفع, وهم ظاهرون إلى يوم القيامة، فكل من أسلم ودخل في الإسلام وعبد الله تعالى بما شرع ووحده وعبده فهو من المنتصرين الفائزين. اللهم اجعلنا منهم.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: ] بيان [ فضل الجهاد بالمال والنفس، وأنه أعظم تجارة رابحة ] فلا أفضل من هذه التجارة أبداً, ولا أربح منها، فقد دل الله عليها. فمن طلب أفضل عمل وأقربه إلى الله فهو الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، والآن الجهاد بالمال فقط، وأما النفس الآن فلا؛ أقول هذا لأن أوروبا زرناها مرات، ووجدنا فيها المساجد, وإيطاليا فيها أعظم مسجد، وأسبانيا كذلك، وفرنسا كذلك. فكل البلاد مفتوحة للدين الإسلامي, والناس يدخلون في الإسلام، فهم في حاجة فقط إلى من يبنون المساجد, وينشئون المدارس, ويبعثون الدعاة وينصرونهم. هذا هو الجهاد اليوم. وأما بالسيف فليس هناك جهاد. فلا نغزو فرنسا؛ لأن الإسلام منتشر فيها، ففيها ثلاثة آلاف مسجد, وهم يعبدون الله.
إذاً: اليوم الجهاد بالمال فقط, وقد كتبت في هذا رسالة, وقدمناها للرابطة, وقلنا: لو تنشئون كلية في المدينة النبوية أو في مكة المكرمة لتخريج الدعاة, ويوضع لهم منهج واحد، لا يفترقون عنه، وكلما تخرج فوج يبعثون به إلى أمريكا .. إلى اليابان دعاة. وهذا يحتاج إلى المال. وقلت لهم: بلغوا الأمة الإسلامية أن ثمن أموال الزكاة تصرف لهذا الواجب، فمصارف الجهاد ثمانية, كما قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]. وفي سبيل الله هو الجهاد. ولو تعلن الرابطة أو الندوة الإسلامية للمسلمين في الشرق والغرب وعلموهم بأن من له زكاة يضع ثمنها في الصندوق الفلاني، ثم هذه الأموال تنشأ بها هذه الكلية والجامعة أو المدرسة, وتخرج الدعاة وتبعثهم دعاة، وتنفق عليهم وهم يدعون العباد إلى الله, وتبني المساجد والمدارس في بلاد الكفر، ومن ثَمَّ يدخل العالم كله في الإسلام، وسيأتي هذا ويكون، وما يبقى كفر في الأرض.
[ ثانياً: تحقيق بشرى المؤمنين التي أمر الله رسوله أن يبشرهم بها ] أي: يبشر بها المؤمنين, وقال لرسوله: بشرهم بها، وهي فتح مكة وفتح العالم من فارس إلى بلاد الروم, فكلها انفتحت من الصين إلى أسبانيا، وتحقق هذا [ فكان هذا برهاناً على صحة الإسلام, وسلامة دعوته ] وهذه بشرى بشر بها الله عز وجل.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ بيان استجابة المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ] من المهاجرين والأنصار [ لما طلب منهم نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والمؤمنين معه، وهي نصرة الله تعالى المطلوبة ] وقد استجابوا لما دعاهم لنصرته, فنصروا رسولهم، ونصروا عباد الله المؤمنين, وانتشر الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. فجزاهم الله خير الجزاء. اللهم آمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر