أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الأمسيات الربانية ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن اليوم مع سورة الحشر المدنية، وآياتها أربع وعشرون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، بسم الله الرحمن الرحيم: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:1-5].
قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الحشر:1]، والتسبيح هو التنزيه والتقديس، فكل الكائنات في السموات وفي الأرض تقدس الله وتنزهه وتسبحه، إذ لا إله غيره ولا رب سواه، سواء بلسان الحال كالملائكة والإنس والجن، أو بلسان المقال، فكل موجود يدل على موجده، ويدل على علم موجده، وعلى قدرته، وعلى حكمته، وعلى رحمته، وَهُوَ الْعَزِيزُ [الحشر:1]، أي: الغالب القاهر، الْحَكِيمُ [الحشر:1]، في كل ما يفعل ويقضي.
وأما بنو النضير فكذلك نقضوا العهد، وذلك لما انتهت وقعة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، إذ إنه كان هناك معاهدة سلم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني النضير، وهذه العاهدة تقتضي دفع الدية من طرف لآخر إذا لزمته، وكان أن حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبعض أصحابه إلى بني النضير شرق المدينة يطالبهم بالمساهمة في دية رجلين قتلهما أحد أصحابه، ففرشوا له فراشاً تحت جدار في ظل وأجلسوه، وعلى أنهم سوف يودون له الدية، لكن تآمروا في الخفاء وعزموا على أن يلقوا عليه رحى من السطح، وزين لهم الشيطان ذلك وقالوا لبعضهم البعض: هذه فرصة ذهبية فلا تفوتنا، فدعونا نرمي عليه الرحى فنتخلص منه ومن دعوته، فأوحى الله تعالى إلى رسوله بذلك، فقام ومشى إلى المدينة، وظن أصحابه أنه سيعود إليهم، فلم طال غيابه رجعوا إلى المدينة فانتهوا إليه عليه السلام فأعلمهم بكيد اليهود ومكرهم، وأنهم عزموا على قتله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نقضوا عهدهم، إذ هل العزم على قتل الرسول بقي عهد؟ لا والله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم برجاله وحاصرهم في ديارهم وبساتينهم نصف شهر، وأخذ المؤمنون يقطعون الشجر والنخيل حتى يثيروا في نفوسهم العزيمة على الخروج وترك البلاد، ثم بعد ذلك أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج على أن يأخذوا أموالهم إلا السلاح باتفاقية بين الطرفين، وقد كانوا يهدمون البيت ويأخذون الخشب ويحملونه على الإبل، فنزلت هذه الآيات المباركات، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ [الحشر:2]، وهم يهود بنو النضير.
وَظَنُّوا [الحشر:2]، أي: هم، أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ [الحشر:2]، والحصون هي الأسوار التي تحيط ببلادهم، وقد كانت أسواراً عالية لا يستطيع أحد أن يجتازها ويدخل عليهم.
ثم قال تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2]، أي: جاءهم الله من حيثما ظنوا أنهم سيُؤتون، وذلك بمكرهم عندما تآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك حل النبي صلى الله عليه وسلم العقد بينه وبينهم وغزاهم بجيوشه.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2]، أي: ألقى الله الخوف في قلوب بني النضير رجالاً ونساء فلم يستطعوا أن يقاتلوا، وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أذن لهم بالخروج إلى خيبر، فمنهم من نزل بخيبر، ومنهم من نزل بالشام.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2]، أي: فقد كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم حتى يأخذوا الأبواب والنوافذ التي هي من الخشب فينتفعون بها، وهذا بحد ذاته تخريب للبيت، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، حتى يأخذوا الأبواب والنوافذ التي من الخشب، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2].
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [الحشر:3]، أي: الخروج والذهاب من ديارهم، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]، بأن يسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيقتلونهم ويسلبون أموالهم، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [الحشر:3]، أي: ولولا أن كتب الله عليهم في كتاب المقادير أنهم سيخرجون ويتركون البلاد ويأخذون معهم أموالهم وأهلهم ونساءهم وأولادهم، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]، بأن يسلط عليهم الرسول والمؤمنين فيقتلونهم، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [الحشر:3]، أي: الخروج من البلاد، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]، بالقتل، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر:3]، بأن يسلط عليه رسوله وينصره عليهم والمؤمنين فيقتلونهم تقتيلاً كلاماً، ويعذبهم في الآخرة بعذاب النار، لكنه تدبير الله عز وجل.
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:4]، أي: أبوا أن يطيعوا الله ورسوله، وإنما وقفوا في شق والله ورسوله في شق آخر، وهذه هي المشاقة.
مرة أخرى: أجلى الله بني النضير وأخرجهم من ديارهم لأنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:4]، ومع هذا ما قتلهم رحمة بهم.
ويبقى السؤال: هل المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا -باستثناء هذه المملكة- مشاقون لله ورسوله؟ نسأل: هل أقاموا شرع الله تعالى؟ رجموا الزاني؟ قتلوا القاتل؟ قطعوا يد السارق؟ أجبروا الأمة على الصلاة؟ أجبروا الأمة على الزكاة؟ أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؟ حرموا ما حرم الله فلا ربا ولا زنا ولا خمر ولا باطل ولا غير ذلك من القاذورات التي حرمها الله تعالى؟ الجواب: لم يفعلوا من هذا شيئاً، إذاً فما هي المشاقة؟ أنت تقف في شق وعدوك في شق آخر، وكذلك الله في شق وهم في شق آخر، فقد عطلوا كتابه وشرعه وسنة نبيه، ثم أقبلوا على الدنيا وأوساخها وطبقوا شرائع الخاسرين والهالكين من اليهود والنصارى وقالوا: نحن مسلمون! وبالتالي إما أن يتوبوا توبة نصوحاً، وهذه التوبة أن يطبقوا شرع الله تعالى، ويلزمهم بذلك بيعة إمام واحد، وسواء كانوا في الشرق أو في الغرب، وأن يطبقوا كتاب الله كما هو، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكملون ويسعدون ويطيبون ويطهرون ويصبحون أهلاً للجنة، وأهلاً لرضا الله تعالى، بل يصبحون أعز من على الأرض، وقد يدخل الناس في الإسلام لما يشاهدوا هذه القوة، وأنا أقول هذا لأن الله قال: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:4]، أي: من لم يطع الله ورسوله فقد شاقه والعياذ بالله تعالى.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:4]، أي: عقابه شديد، إذ قد يسلط على المسلمين دولاً كافرة أو وباء أو مرضاً أو فتناً في داخلهم وحروباً هائلة والعياذ بالله.
قد قلت لكم: لما أخذ المسلمون المتألمون يقطعون النخيل وخاصة اللينة كالعجوة والبرني وهو التمر الجيد، وذلك حتى يغيظوا اليهود وينزلوا من حصونهم، تألم بعضهم وقالوا: كيف تقطعون النخل؟ فأخبرهم تعالى بأن هذه منة الله عليهم، فقال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، فلا تكربوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون!
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الحشر:5]، واللينة نوع من النخل كالبرني والعجوة، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا [الحشر:5]، كما هي، قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا [الحشر:5]، وكل هذا بإذننا، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، وفعلاً فقد أخزى الله الفاسقين والمنافقين، إذ إنهم كانوا في كرب وهم وحزن، كيف أن المسلمين يقومون بقطع النخل؟ وسيأتي معنا أيضاً مواقف المنافقين مع المؤمنين في الآيات الآتية، والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
قال: [ ثانياً: بيان أكبر عبرة في خروج بني النضير، وذلك لما كان لهم من قوة، ولما عليه المؤمنون من ضعف، ومع هذا فقد انهزموا شر هزيمة، وتركوا البلاد والأموال ورحلوا إلى غير رجعة، فعلى مثل هذا يتعظ المتعظون، فإنه لا قوة تنفع مع قوة الله، فلا يغتر العقلاء بقواهم المادية، بل عليهم أن يعتمدوا على الله أولاً وآخراً ].
قال: [ ثالثاً: علة هزيمة بني النضير ليست إلا محادتهم لله والرسول ومخالفتهم لهما، وهذه سنته تعالى في كل من يحاده ويحاد رسوله؛ فإنه ينزل به أشد أنواع العقوبات ].
قال: [ رابعاً: عفو الله تعالى على المجتهد إذا أخطأ وعدم مؤاخذته ]، وهذه لطيفة علمية، فإذا اجتهد إنسان وأخطأ فالله ما يؤاخذه؛ لأنه اجتهد وأراد بذلك طاعة الله وطاعة رسوله، فإن ما أصاب يعفو الله عنه، وذلك كالذين قطعوا النخل اجتهاداً منهم فقد عفا الله عنهم، ولذلك من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر