أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من فاتحتها ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:1-6].
أولاً: لما كان العرب في مكة يمنعون سماع القرآن، إذ صدر أمر سلطانهم للمواطنين أن يمتنعوا عن سماع ما يقرؤه محمد أو أبو بكر أو عمر أو عثمان، ولما اتخذوا هذا القرار كانت هذه السور تنزل مفتتحة بهذه الحروف: (كهيعص) (طسم)، فيضطر السامع إلى أن يصغي ويسمع؛ لأنه لم يسمع مثل هذا النغم من قبل أبداً، فإذا أصغى وسمع دخل نور القرآن في قلبه وأخذ يسمع، وشاهده من كتاب الله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، أي: إذا قرءوا صيحوا بالألفاظ المختلفة حتى لا ينتقل هذا إلى قلوب السامعين.
ثانياً: تحدى الله عز وجل العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن فعجزوا، وذلك كما في سورة بني إسرائيل، إذ قال تعالى وقوله الحق: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وهذا خبر إلهي أيأسهم، أي: قل لهم يا رسولنا! لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ثم تحداهم بعشر سور كما جاء في سورة هود عليه السلام، إذ قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، أي: ما دمتم تدعون أن محمداً يفتري ويكذب من عنده فائتوا بعشر سور من مثله مفتريات، ووالله ما استطاعوا ولن يستطيعوا، وأخيراً تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة كما جاء في سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]، إذاً، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، أي: الجاحدين المنكرين.
مرة أخرى: يقول لهم: هذا القرآن الذي ادعيتم وقلتم فيه كذا وكذا هو مؤلف من هذه الحروف: (طسم) (المر)، فألفوا مثله إن استطعتم، ولو كانت هذه الحروف غير عربية لا تنطقون بها لكنتم محقين، لكن القرآن مؤلف من هذه الحروف: (ن) (ق) (يس) (طه)، فألفوا مثله، فعجزوا وما استطاعوا.
إذاً: لا نفسر (طسم) بمعنى: القرن أو كذا من السنين كما يقول المبطلون، وإنما الله أعلم بمراده منها.
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ [القصص:3]، أما موسى فهو ابن عمران رسول الله وكليمه، وأما فرعون فهو الوليد بن الريان وكان سلطاناً في مصر، وتقول الأخبار: إن سبب رقيه هو أنه كان في المقبرة يتلصص، أي: إذا جاء أهل البادية بالميت يقول لهم مثلاً: ادفعوا ألف ريال وإلا لن تدفنوا ميتكم هنا، وأخذ يجمع الأموال الكثيرة، واطلع عليه الملك فقال: ائتوني به، فجعله حارساً في القصر، ثم بعد ذلك استولى على الحكم وأصبح هو الحاكم.
وقالوا: إن سبب هذا الحكم الصارم القاسي هو أن بعض المنجمين والمتكهنين قالوا لفرعون: إن ملكك سيزول ويسقط على يد بني إسرائيل، وقال هذا أيضاً الساسة الذين يسوسون البلاد، وفي رواية أخرى قالوا: إن فرعون رأى رؤيا عجيبة وهي أن ناراً خرجت من أرض فلسطين ودخلت مصر فأحرقت كل بيوت الأقباط، ولم تحرق بيوت بني إسرائيل، ومن هنا اضطر فرعون إلى أن يصدر هذا الحكم القاسي الشديد، وهو أن يذبح الأطفال الأولاد الذكور ويترك البنات ليخدمن أهل البلاد.
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، فهؤلاء مفسدون، والذين يجهضون أيضاً مفسدون، والإجهاض هو لما تحمل المرأة فيخافون أن تلد ولداً فيعجزون عن إطعامه وسقيه، فيقول الرجل لزوجته: أسقطيه، ويلزمها بإسقاطه متعمداً بدون ضرورة، وهذا هو نفس سلوك فرعون، ولذا فالإجهاض لا يكون إلا للضرورة القصوى، وذلك إذا شهد الأطباء المسلمون أن حياة المرأة متوقفة على سقوط هذا الذي في بطنها، فبالتالي حياة المرأة أولى من حياة هذا الطفل الذي في بطنها، فهل عرفتم من هم المفسدون؟ الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومن الفساد في الأرض ذبح الناس وقتلهم.
وهنا بعض أهل العلم ما عرف! هل اليهود حكموا المصريين أم لم يحكموهم؟! أستغفر الله! هل رجع بنو إسرائيل بعد أن خرجوا من مصر؟ الواقع وحسب الآيات أن منهم من رجع وحكم الديار المصرية، وموسى بقي في التيه مع أخيه هارون حتى توفي، ثم دخل يوشع بن نون ببني إسرائيل الأرض المقدسة، وسلطه الله على الكنعانيين وغلبهم وقهرهم، وحكم أرض الشام بكاملها، ورجالهم أيضاً حكموا الأرض المصرية.
مرة أخرى: وَنَجْعَلَهُمْ [القصص:5]، ماذا؟ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، أي: ورثوا الدولة والسلطان والحكم، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ [القصص:5]، وهم بنو إسرائيل، والذي استضعفهم هو فرعون ورجاله وملؤه وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، أي: قادة يقودون الناس ويهتدون بهم، وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، أي: للحكم والملك في هذه الديار، وقد فعل عز وجل وله الحمد والمنة.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ [القصص:6]، أي: سلطتهم وقوتهم ودولتهم، والأرض هي الشام وفلسطين.
(طسم) هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه، وقد أفاد فائدتين عظيمتين:
الأولى: هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به، وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة، فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.
واللطيفة الثانية: أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له، وأمروا باجتناب سماعه، واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه، كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم، فإذا قرأ القارئ: (طسم) وجد أحدهم نفسه مضطراً إلى السماع، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية، كما حصل لكثير منهم الهدى من الضلال، والخير من الشر، والحق من الباطل.
وقوله تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ [القصص:3]، أي: نقرأ قاصين عليك أيها الرسول! شيئا من نبأ موسى وفرعون، أي: من خبر موسى وفرعون.
وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص:3]، باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم، ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم.
وقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ [القصص:4]، إلى آخر الآية، هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين، يخبر تعالى فيقول: إِنَّ فِرْعَوْنَ [القصص:4]، إلى آخر الآية، إن فرعون الحاكم المصري المسمى بـالوليد بن الريان الطاغية المدعي الربوبية، المدعي الألوهية ]، إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، قال: [ عَلا فِي الأَرْضِ [القصص:4]، أي: أرض البلاد المصرية، ومعنى: عَلا [القصص:4]: طغى وتكبر وتسلط.
وقوله: وَجَعَلَ أَهْلَهَا [القصص:4]، أي: أهل تلك البلاد المصرية، شِيَعًا [القصص:4]، أي: طوائف فرق بينها إبقاءً على ملكه على قاعدة: فرق تسد، المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم فرق تسد.
وقوله: يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً [القصص:4]، من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل، وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4]، أي: بناتهم ليكبرن للخدمة، وتذبيح الأولاد سببه أن كهانه وسياسييه أعلموه أن ملكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد، فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإناث منهم، وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه، فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه، مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، أي: في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.
وقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، أي: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ [القصص:3]، أي: من بعض خبرهما أنا نريد، أي: أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في أرض مصر وهم بنو إسرائيل، نمُنُّ عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه، ونجعلهم قادة في الخير، وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده، وهو معنى قوله تعالى: وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ [القصص:6].
وقوله: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ [القصص:6]، أي: من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ [القصص:6]، أي: من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون، وذلك بما سيذكر تعالى من أسباب وترتيبات هي عجب ].
أولاً: تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقاً ]. تقرير إعجاز القرآن للبشري والجني على أنه كلام الله لا من كلام البشر، ولهذا عجزت الجن والإنس على الإتيان بمثله بل بسورة منه.
[ ثانياً: تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الإلهي ]. ووالله لو لم يكن رسولاً لله فمن أين يأتيه هذا القصص وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب؟ ثم إن هذا القصص لن يستطيع أحد أن يرد شيئاً منه أو يقول: إن هذا لم يقع؟ فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا حتى يقتنع الكفار من أهل مكة.
[ ثالثاً: التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض ]، أي: التحذير إلى يوم القيامة من الظلم في الأرض والفساد فيها والاستطالة على الناس، وذلك أن عواقبه هو الدمار والخراب كما حصل لفرعون وملئه، وهذا مشاهد بيننا.
[ رابعاً: المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم ]، المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يسمعون من كلام الله وكلام رسوله والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، وسر ذلك أنهم أحياء ليسوا بأموات، أما الكافرون والمشركون فأموات لا يسمعون ولا ينتفعون بالسماع، وهذا الله يقول: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص:3]، لكن غير المؤمنين تقرأ عليه القرآن بكامله ما يستفيد منه شيئاً؛ لأنه مكذب به والعياذ بالله.
[ خامساً: تقرير قاعدة: لا حذر مع القدر ]، وهذه القاعدة معروفة عند العجائز، وفرعون قد أخذ حذره وفعل العجيب، لكن مضى فيه قدر الله تعالى، ولذلك يجوز لك أن تحذر، لكن حذرك لا يكفي، بل لابد وأن تستعين بالله فتدعوه وتلجأ إليه بصدق ليقيك المكروه، أما الحذر وحده فلا ينفع، بل لابد من الاستعانة بالله تعالى.
[ سادساً: تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بألا يزيد على عدد معين من الأطفال ]، من هداية هذه الآيات: تحريم تحديد النسل، وذلك أنه قد صدر في يوم من الأيام من زعيم عربي أمراً ألا تزيد المرأة على ولدين أو ثلاثة! لكنه فشل وانهزم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر