أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات:11-21].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تذكرون أن هذه السورة مكية كما علمتم بالأمس، وأن السور المكية تعالج العقيدة؛ لتصححها ويصبح صاحبها حياً كامل الحياة، يسمع ويبصر، ويعطي ويأخذ، ويذهب ويجيء؛ لكمال حياته.
وعلمتم أن أعظم أركان العقيدة: التوحيد، وتقرير مبدأ لا إله إلا الله، وثانياً: إثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وثالثاً: الإيمان بالبعث الآخر يوم القيامة. وهذا شأن السور المكية في غالبها.
وها نحن مع هذه السورة، فاسمع ما يقول تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ [الصافات:11]. يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: استفت هؤلاء المنكرين للبعث والحياة الثانية، والمكذبين بالبعث والنشور، واستخبرهم واستفتهم، وقل لهم: أأنتم أشد خلقاً أم من خلق السماء؟ فاستفتهم واستخبرهم واسألهم، وقل لهم: أنتم أشد خلقاً أم الله الذي خلق السماء وخلق كل شيء؟ والجواب: نحن خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11]. وهذا الخلق لا يعادل خلق الشمس فقط، فكيف بالسماوات السبع وما فيهما وما بينهما؟
وقد خاطبهم بخطاب العقل، فهو يقول: أنتم تنكرون الحياة الثانية، وتكذبون بالبعث والدار الآخرة، وتقولون: كيف إذا متنا نحيا من جديد؟ والله عز وجل ليس بعاجز عن ذلك، بل هو على كل شيء قدير، ومن باب العلم والمنطق لستم أشد خلقاً مما خلق الله عز وجل من الملكوت، بل ما خلق الله أعظم. وقد قلت لكم: إن خلقهم ما يساوي الشمس أو القمر، فالشمس أكبر من الأرض مليون ونصف مليون مرة. ولذلك قال: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [الصافات:11] نحن؟ أي: رب العزة والجلال والكمال.
ثم يقول: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11] لاصق في اليد. فالطين اللازب هو الذي يلصق في اليد. وهذه هي الطينة التي خلق الله منها آدم، فهو تراب وخلط بالماء فأصبح طيناً، وأصبح يلصق باليد، فخلقه من طين لازب، ولذلك قال: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11]. ثم هم يكذبون بالبعث والدار الآخرة، بل ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17]. وهذه كلمات المشركين في مكة، المكذبين بالبعث والدار الآخرة.
والتكذيب بالبعث والدار الآخرة سببه العناد والإصرار على الذنوب والآثام؛ لأن من آمن بأنه سيبعث حياً ويسأل ويستجوب ويعذب أو يرحم والله ما يستطيع أن يستمر على الكفر والشرك والمعاصي، ولكن لكي يواصلوا إجرامهم وفسادهم وشرهم يكذبون بالدار الآخرة، ولا يؤمنوا بهذه الدار. وهذه الآيات تقرر البعث والدار الآخرة. ولذلك قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ يا رسولنا! وقل لهم: أأنتم أشد خلقاً أمن خلق الله من هذه المخلوقات؟ والجواب: قطعاً ما خلق الله أعظم وأشد، وليس هناك قيمة للبشرية هذه بالنسبة إلى ما خلق الله في الملكوت.
ثم أعلمهم أن الله خلقهم، أي: خلق أباهم آدم من طين لازب، ثم بعد ذلك تناسلوا بنطفة المني في رحم المرأة.
وهكذا الكفر موت، وخاصة الكفر بالدار الآخرة. والذي لا يؤمن بأنه سيسأل ويحاسب على عمله في هذه الدار يوم يموت ويبعث لا خير فيه بالمرة، ولا يوثق فيه ولا يعول عليه، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأنه شر البرية، وشر من القردة والخنازير، واقرءوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أي: الخليقة.
وهكذا كان يواجه رسول الله هؤلاء القوم، ويعاني من كفرهم وعنادهم، ويكفينا أدلة هذه الآيات القرآنية على هذا، فقد كانوا يقولون له: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات:16]؟ ويستفهمون استفهام سخرية واستهزاء. أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:17] أيضاً؟ أي: حتى أجدادنا يبعثون يا محمد؟! وهذا هو الكفر والتكذيب بالبعث واللقاء مع الله عز وجل.
فهم هكذا يدعون على أنفسهم، فيقولون: يا هلاكنا! احضر، وهذا أوان حضورك؛ لأن هذا هو يوم الجزاء، ونحن كفرنا وفسقنا وفجرنا، واليوم نجزى بعملنا. وهذا اعترافهم في ساحة فصل القضاء في الوقت الذي لا ينفعهم إيمان، ولو قالوا هناك: آمنا دهراً كاملاً ما ينفعهم الإيمان؛ لأن الإيمان يكون في دار الابتلاء هذه، فهي دار العمل، وليس في دار الجزاء.
والآن قد يعمل الكافر ما يعمل وما يصيبه ولا مرض في جسمه، وقد يعمل الصالح ما يعمل وما يشبع، ويبقى جائعاً؛ لأن هذه الدار ما هي دار جزاء، بل هذه دار عمل، والجزاء في الدار الآخرة. ولهذا أوجد الله هذه الدار لأجل أن يُعبد فيها بذكره وشكره، فمن عبد وذكر وشكر أوجد له الدار الآخرة وأسعده فيها، ومن كفر ولم يذكر ولم يشكر أعد له الدار الآخرة؛ ليشقى ويعذب فيها أبداً. ولهذا يقول الكافرون فيها ما حكاه تعالى عنهم بقوله: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات:20]. والدين هو الجزاء على الكسب والعمل.
وأخيراً: يا معشر الزوار! اعلموا أن الذي لا يؤمن بالدار الآخرة لا خير فيه ألبتة، فلا تثقوا فيه ولا تعولوا عليه، ولا تسمعوا منه ولا تصاحبوه؛ لأنه شر الخلق؛ لأنه ما عنده وازع يزعه أبداً ليعمل خيراً، وأما من كان يؤمن بالدار الآخرة وإن كان يهودياً أو نصرانياً فلا بد وأن يكون فيه خير، ولن يواجه بالشر والفساد.
والمذهب الشيوعي البلشفي وضعه اليهود بحيلهم ومكرهم، وهم في أساتذة في الجامعات، ونشروا هذه الفكرة، فانطمست بصيرة الأمة البشرية، وأصبحت كالحيوانات.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
[ أولاً: بيان أصل خلق الإنسان، وهو الطين اللازب، أي: اللاصق باليد ] فأول هداية هذه الآيات هي: بيان أن أصل خلق الإنسان طين، وهو آدم عليه السلام، والطين معروف، فهو تراب يبل بالماء، فيصبح يلصق بالأصابع، وذاك هو الطين اللازب. فهذا أصل خلقنا. فلا ننكر وجود ربنا، ولا نصر على تكذيب ربنا وخالقنا، ولا نصر على عبادة الأصنام والفروج والشهوات، ونترك عبادة خالقنا، ولكن الشياطين تدفعنا لهذا.
[ ثانياً: ] من هداية هذه الآيات [ بيان موقفين متضادين، الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ يعجب من كفر ] الكافرين [ المشركين وتكذيبهم، والمشركون يسخرون ] من قوله صلى الله عليه وسلم [ من دعوته إياهم إلى الإيمان، وعدم التكذيب بالله ولقائه ] فهما موقفان متضادان، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعجب كيف ما يؤمنون وهم يشاهدون هذه الآيات تنزل عليهم ويسمعونها؟ وهم يشاهدون ويسخرون. فهذا موقف وهذا موقف في هذه الآية الكريمة.
[ ثالثاً: تقرير البعث ] الآخر [ وبيان طريقة وقوعه ] وليس معنى البعث الآخر الحزب الشيوعي هذا، بل البعث الآخر أي: أننا نبعث من تحت الأرض أحياء على صعيد واحد، ثم نجازى بعملنا الذي عملناه في هذه الدنيا. والإيمان والعمل الصالح جزاؤه الجنة دار النعيم فوق السماوات السبع، والعمل الفاسد والشرك والمعاصي في أسفل سافلين في أسفل الكون، والعياذ بالله.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ عدم الانتفاع بالإيمان عند معانية العذاب ] فالكافرون لما شاهدوا القيامة وآمنوا لم ينفعهم الإيمان، فقد قالوا: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات:20]. فلا ينفع الإيمان يوم القيامة أبداً. وقلت لكم: لو قالوا الدهر كله: آمنا ما ينفع. والإيمان هنا في دار العمل ينفع، وأما في الدار الآخرة فليس هناك عمل حتى يؤمن ويعمل، وما هو إلا أن ينعم أو يعذب، لا أقل ولا أكثر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر