ها نحن في ليلتنا هذه مع سورة وَالصَّافَّاتِ [الصافات:1]، أو سورة اليقطين، وهي سورة مكية، وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات. والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:1-10].
ها نحن مع فاتحة هذه السورة المكية، قال تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات:1]. هذه الواو بمعنى باء القسم، كما تقول: بالله، وتقول: والله. فقوله: وَالصَّافَّاتِ [الصافات:1]، يقسم الله عز وجل ويحلف بالصافات، جمع صافة، والمراد منها: الملائكة المصطفون في الملكوت الأعلى، يعبدون الله عز وجل. فالملائكة صفوف في الملكوت الأعلى بأجنحتهم، يعبدون الله عز وجل، ولهذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فضّلنا )، أي: فضلنا الله تبارك وتعالى ( على الناس بثلاث ). فقد فضّلنا على الناس من العالم كله نحن المسلمين بثلاث: الأولى: ( جعلت صفوفنا في الصلاة كصفوف الملائكة في السماء ). فقد جعلت صفوفنا في الأرض كما تشاهدون في وقت الصلاة كصفوف الملائكة في السماء.
وثانياً: ( وجعلت لنا الأرض مسجداً ). فلا يوجد مكان في الأرض لا تصح فيه الصلاة، اللهم إلا إذا كان نجساً. فالأرض كلها جعلها الله لهذه الأمة مسجداً، وكان الأولون لا يصلون إلا في كنائسهم، أو لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم.
وثالثاً: ( وجعل الله لنا تربتها طهوراً ) كالماء الطهور. فأيما مؤمن ما وجد ماء يمسح وجهه بالتراب ويصلي، فيضع يديه على التراب ويمسح وجهه وكفيه ويصلي، والحمد لله. هكذا يقول صلى الله عليه وسلم: ( فُضّلنا على الناس بثلاث -أي: بثلاث مسائل- الأولى: جعلت صفوفنا في الأرض كصفوف الملائكة في السماء، ثانياً: جعلت لنا الأرض مسجداً، ثالثاً: جعلت لنا التربة طهوراً ). نتطهر به.
والإنسان لا يجوز له أن يحلف بغير الله قط، لا بالتين ولا بالزيتون، ولا بالأم ولا بالأب، ولا بالشيخ ولا بالنبي ولا بالكعبة. ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير ربه؛ إذ المحلوف به معظم تعظيم الألوهية. فلا تعظم المخلوقات وتجعلها كالله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم على المنبر: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت ). فليس عندنا ما نحلف به قط إلا الله، مثل أن نقول: والله .. بالله .. تالله .. وعزة الله .. وجلال الله .. وكمال الله، فلا نحلف بالنبي أو بالكعبة، أو بسيدي فلان أو فلان. والعامة يحلفون حتى بالطعام، فيقول أحدهم: والطعام الذي أكلناه. فيجعلون الإلهية في كل المخلوقات، والواقع أنه والله لا إله إلا الله، ولا يوجد إله يعبد بحق إلا الله، ولا يحلف إلا بالإله العظيم المعظم.
ولما أقسم الله تعالى بهم دل ذلك على أن لهم شأناً عند الله، وإلا لما حلف بهم، وقد قال تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1-3]. فأقسم بثلاثة أمور: الصافات والزاجرات والتاليات لكتاب الله.
ونحن نقول: الحمد لله أن كنا من الجملة الأولى من الصافين والصافات، ومن الجملة الثانية حيث نزجر أهل المعاصي ونخوفهم ونهددهم، وهذا زجر أيضاً، كما قال تعالى: فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا [الصافات:2]. ومن الجملة الثالثة: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:3]. فنحن نتلو كتاب الله. وها نحن تلوناه، ونحن مجتمعون عليه، والحمد لله.
فقد حلف الله على أنه لا إله إلا هو. وكل المعبودات باطلة عبادتها، ولا تستحق أن تعبد أبداً؛ لأنها ما خلقت ولا رزقت، ولا أعطت ولا وهبت، ولا أحيت ولا أماتت. ولذلك لا تُعبد. وأنت لما تنادي: سيدي فلان، أو تقول: يا رسول الله! فإنه لا يسمع نداءك، وإن فرضنا أنه سمع فلن يمد يده لك لينقذك أو يعطيك شيئاً ولو كأس ماء، فهذا والله ما كان. فلا تنس الرحمن عز وجل وتعرض عنه، وتدعو مخلوقاً من مخلوقاته وتناديه: يا سيدي فلان!
وقوله: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الصافات:5]، أي: ما بين السماء والأرض من مخلوقات، وانظر إلى الشمس والقمر والكواكب والأفلاك فيها. وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات:5]، جمع مشرق. والسنة فيها ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وكل يوم تطلع الشمس من مكان في أقل من لحظة، وتغرب كذلك كل يوم في مكان قدر لحظة، فلها ثلاثمائة وخمسة وستون مشرقاً ومغرباً، ولهذا جاء قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:40]، جمع مشرق وجمع مغرب. والمشرق حيث تشرق الشمس، والمغرب حيث تغرب الشمس. ورب المشارق والمغارب الله، وليس عيسى ولا أمه، ولا موسى ولا هارون والله، بل ليس هناك إلا الله، فهو رب المشارق والمغارب.
والفائدة الثانية: لأجل حفظها من كل شيطان مارد؛ إذ الشياطين المردة والعياذ بالله -والمتمردون هم الذين عصوا الله وخرجوا عن طاعته- يعرجون إلى السماء كالملائكة، ثم يسترقون السمع ماذا يقول الملائكة من أحداث الأرض ويتكلمون به حسب قضاء الله وقدره، فهم يسترقون السمع، وكانوا يستفيدون من ذلك، وينزلون به على الكهان والدجالين قبل المبعث النبوي الشريف، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ الله السماء من الشياطين، واقرءوا قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن:1]. الشاهد عندنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث زاد الله حماة الوحي؛ حتى لا يُسمع، فسخر الملائكة لضرب هؤلاء الشياطين بالشهب، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض هؤلاء الشياطين قد يسترق السمع قبل ما يضرب، ويلقي بالكلمة إلى وليه في الأرض، فيزيد في الكلمة الواحدة تسعة وتسعين كلمة، فما يقوله الدجال وما يقوله الكاهن وما يقوله الساحر من أمور الغيب نسبة الحق فيه هو (1%)، فإذا صدق مرة فإنه يكذب ولا يصدق تسعة وتسعين مرة. وبهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحاح.
وقبل المبعث النبوي كان الشياطين يأخذوا من الملائكة ويسمعون، وينزلون بما يسمعون إلى أوليائهم من البشر، وهم الكهان والدجالون والمنجمون، ولما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم شدد الله وقوى الحراسة في السماء، فما أصبح هناك إلا نادراً من يسترق كلمة، وإن سرق كلمة ونزل بها يضيف إليها الكاهن أو الدجال تسعة وتسعين كلمة، فما يصدق إلا مرة في المائة مرة. ولهذا قل عندنا الكهنة عما كانوا قبل المبعث النبوي.
وقوله: دُحُورًا [الصافات:9]، أي: يدحرونهم ويدفعونهم ويبعدونهم من السماء. وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات:9]. والواصب: الدائم، وهو عذاب الآخرة. فقوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات:9]، أي: دائم وهو عذاب الآخرة. وهؤلاء هم الشياطين الذين يسترقون السمع من الملائكة في السماء؛ ليشوشوا على أهل الأرض، ويفسدون عقائدهم.
ثم يقول لنا: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:4] فقط، وليس لكم إلهان ولا ثلاثة ولا أربعة. وقد كفر النصارى واليهود، والمجوس والصابئة، وكلهم خرجوا من الإسلام باتخاذهم إلهين وثلاثة مع الله، ولم ينج إلا أهل لا إله إلا الله الموحدون.
ثم قال تعالى: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الصافات:4-5]. وهذه هي الأدلة والبراهين القاطعة. فخالق السماوات وخالق الأرض وما بينهما هو الذي يستحق أن يقال فيه: إله، وأن يعبد، وأن يحاب من أجله ويتباغض من أجله؛ لأنه الخالق الرب الكريم.
ثم زادنا أيضاً فقال: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:6]. فهذه الكواكب لم يوجدها آباؤنا ولا أمهاتنا، ولا السحرة الدجالون، ولا الكهنة الكذابون، لم يوجدها إلا هو، واسمه الله، وله مائة اسم إلا اسماً واحداً، ومن أعظم أسمائه الله، ولهذا نسمي: عبد الله.
ثم قال تعالى: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:7]. حتى ما يسترقون الكلام من الملائكة، وينزلون به إلى الكهان والدجالين، فيفتنون المسلمين ويضلونهم. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا [الصافات:8-9]، أي: مدحورين مطرودين، وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات:9] دائم في جهنم، يخلدون فيه. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ . وخطف أي: الكلمة يختطفها، فهو يسمع الملائكة يتكلمون بأنه أمر ملك الموت بأن يذهب إلى فلان ليقبض روحه، أو إلى فلان ليعطيه كذا، فيسترق هو الكلمة ويهبط بها. وكانت الملائكة لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم تتبع هذا بالشهب، فتحرقه أو يتمزق أو يخبّل، والعياذ بالله، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10]. والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما نسمع.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته، إما تنويهاً بعظمتها المقرر ضمناً لعظمة خالقها، وإما بياناً لفضلها، وإما لفتاً لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد ] فمن هداية هذه الآيات: أولاً: تقرير أنه لا يصح الحلف إلا بالله. فلا يجوز لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله، والله عز وجل له الحق أن يحلف بما شاء من مخلوقاته كما حلف الآن بالصافات، والزاجرات، والتاليات ذكراً.
[ ثانياً: تقرير التوحيد، وأنه لا إله إلا الله ] إذ قال تعالى: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:4]. فهو من أجل هذا حلف. وهذا فيه تقرير التوحيد، وهو أنه لا يعبد إلا الله، سواء بالدعاء .. بالاستغاثة .. بالنذر، أو بأي عبادة أبداً، فلا يعبد إلا الله بهذا، فضلاً عن الركوع والسجود.
[ ثالثاً: بيان ] العلة و[ الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا ] فقد بين الله العلة من إيجاده هذه النجوم، وهي أنها زينة من جهة، وترجم بها الشياطين من جهة، وعلامات على قدرة الله وربوبيته، وعلامات الهداية أيضاً في الأرض للسائرين في البر والبحر، فبالنجوم يعرفون الشرق والغرب ويهتدون.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع ] وقد حرم الشياطين كما قلت لكم يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وما بقي لهم مجال يسترقون فيه السمع إلا نادراً، وأما قبل المبعث النبوي فقد كان هناك آلاف الكهان في المدينة الواحدة والإقليم الواحد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر