أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الفرقان فهيا بنا نصغي لتلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:4-9].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، هذه الآية نزلت في شيطان قريش: النضر بن الحارث .
يقال له شيطان قريش النضر بن الحارث ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معهم في ظل الكعبة؛ ليدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، وكانوا يجتمعون، فلما اجتمعوا في يوم الأيام اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحاً عجباً، قالوا: لو تترك هذه الدعوة التي تدعو بها وإليها وإن شئت الملك ملكناك، وإن شئت المال أعطيناك، وإن شئت النساء زوجناك، واترك هذه الدعوة، فـالنضر بن الحارث في يوم من الأيام، كما أخبر تعالى عنه بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الفرقان:4]، وهو النضر بن الحارث ومن وافقه من ضلال مكة ومشركيها إِنْ هَذَا [الفرقان:4]، أي: الذي جاء به رسول الله ويدعو إليه، وهو أنه: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، وأن على العبيد أن يعبدوا ربهم ويوحدوه؛ ليكملهم ويسعدهم، كما جاء في القرآن الكريم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ [الفرقان:4]، أي: كذب مختلق، افْتَرَاهُ [الفرقان:4]، اكتذبه هو واختلقه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، يعني: مجموعة من اليهود، مذكورون عندنا، أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي وعداس وجبر ، ثلاثة من اليهود، يجتمعون بهم ويتصلون بهم، ويقولون لهم: كذا.. وكذا.. قال: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ [الفرقان:4]، أي: كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، ما هذا كلام الله ولا وحيه ولا تنزيله ولا قرآنه.
القرآن كلام الله وهم يقولون: افتراء وكذب واختلاق، فوضعوه في غير موضعه.
(وَزُورًا): زوروه عن الرسول ونسبوا إليه الكذب، وهو مبرأ منه، بعيد كل البعد.
هم بقولتهم هذه الذي قالها النضر بن الحارث ووافقوا عليها جاءوا ظلماً وزوراً.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالقرآن الكريم جعلوه سحراً، وجعلوه شعراً وشعوذة وباطلاً، ووضعوه في غير موضعه ونسبوا إلى الرسول الباطل والسحر فزوروا هذا التزوير.
والأساطير: جمع أسطورة، كالأحاديث: جمع أحدوثة. الأحداث وأحدوثة، أساطير: مكتوبة في سطور.
وقد كان هذا النضر بن الحارث يذهب إلى الحيرة قريباً من العراق، ويكتب ويملي عليه الكهنة والضلال والمكذبون أحاديث وقصص وحكايات من الزمن الأول ويأتي إلى مكة، وينتظر الرسول حتى يخرج من الجماعة ويتركهم يجلس هو ويقول: أنا أقص عليكم، وأنا أتلوا عليكم خير مما يتلو عليكم محمد، فهو يقول: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5]، أي: طلب كتابتها، كتبت له، فهي تملى عليه في الصباح والمساء، أما كونه كلام الله وقرآن أوحاه الله هذا ما هو بسليم ولا صحيح ولا نؤمن به. هكذا النضر بن الحارث يقرر الكفر ويدعو إليه.
ومد المبطلون أعناقهم واستجابوا له إلا من رحم الله فنجاه وأسلم وآمن.
هكذا في بداية الدعوة، محمد رسول الله وحده لا يقف أحد إلى جنبه يواجه هذه التيارات من الكلام الباطل وهذه الادعاءات والله يحمل على الصبر والثبات.
إِنَّهُ كَانَ [الفرقان:6]، وما زال، غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، بعباده، لولا هاتان الصفتان في الله لاستوجبوا أن يمسخهم حجارة أو قردة وخنازير، لهذا الموقف العجيب الذي يقفونه، يعرضون على الرسول أوساخ الدنيا؛ ليتخلى عن دعوة الله، ليبقي لهم شركهم وباطلهم وعبادتهم الأصنام والأحجار، ويكذبون بآيات الله كما كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون أيضاً، كل هذا للحفاظ على باطلهم.
اعتادوا عبادة الأصنام والتقرب إليها والتوسل بها، وعاش آباؤهم على ذلك، فعظم عليهم أن يتخلوا عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم.
وهذه الخليقة، البشرية، الطبيعة الإنسانية باقية إلى اليوم، كم من إنسان لا يتنازل عن باطله يقول: كيف كان أبي وكنت الآن أتنازل عما تقولون؟ وهو يعلم أن ما يحافظ عليه ليس بشيء، لا يغني ولا ينفع، ولكن يقولون: وجدنا آباءنا على هذا. كيف نغير نظام حياتنا؟ كيف نبدل سلوكنا؟
والمفروض أن الإنسان العاقل لما يعرض عليه الحق ويفهمه ويعقله يقبله ويأخذ به لا أن نصر على أن عادتنا تتنافى مع هذا.. على أن ما وجدنا عليه آباءنا يتنافى مع هذا ولا يتفق معه، اتركونا على ما نحن عليه!!
والله إن أهل بدع في العالم الإسلام يقفون هذا الموقف، لا يريدون أن يسمعوا السنة ولا قبول الحق، ويقولون: خلونا، اتركونا، وجدنا آباءنا هكذا.. إلى الآن، إذ هي فطرة إنسانية، وهذا هو الإنسان إذا لم يهده الله.. إذا لم يقوم الله اعوجاجه.. إذا لم يستقم لابد وأن يقول هذا الباطل.
قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، لولا مغفرته ورحمته لنزل عذابه بكم وسخطه عليكم.
وجاء من سورة الإسراء مواجهة أخرى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:90-93]، لو يواجه أحدنا بمثل هذه المواجهة يغمى عليه يموت.. لا يستطيع.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصبر تسليماً. أحبوه وامشوا وراءه ولا تلتفتوا إلى غيره!
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الإسراء:93]، أنك رقيت حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:93]، وحينئذٍ نصدق.
لا حول ولا قوة إلا بالله.
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، ليس من حقه أن يأكل المفترض أن يكون كالملك من الملائكة، فلماذا يأكل الطعام؟
ما دام يأكل الطعام ويبيع ويشتري في الأسواق ويدخل الأسواق ويدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته فما هو برسول هذا، لا نصدق أنه رسول.
وهذه الكلمة قالها عبد الله بن الزبعرى رضي الله عنه، قالها أيام كفره، ولكن أسلم ودخل في رحمة الله!
هو الذي قال: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، وكان عليه الصلاة والسلام يمشي في الأسواق؛ لدعوة أهل السوق إلى ربهم ليعبدوه، وإن كان باع واشترى أياماً مع خديجة ، المال مالها واشترى وباع، ويجوز أن يدخل السوق يشتري أو يبيع شيئاً، ولكن أكثر دخوله الأسواق للدعوة لله عز وجل، لدعوة عباده ليعبدوه حيث يتجمعون.
وهنا لطيفة أفيدكموها: ورد: ( أن شر البقاع الأسواق وأن خيرها المساجد )، حديث عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وهو كذلك.
(شر البقاع الأسواق)؛ لما فيها من الباطل والزور والغش والخداع.
(وخيرها المساجد)، واعلموا هذه اللطيفة جربناها فجربوها أنتم، من دخل سوقاً من الأسواق يقول بأعلى صوته: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ كتبت له ألف ألف حسنة ). أي: مليون حسنة.
لو قيل لك: ألف دينار ألا تفرح؟ فهذه ألف ألف. أي: مليون، توكل على الله وتدخل السوق والناس مشغولون هذا يبيع وهذا يشتري وهذا.. وأنت تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وإليه المصير وهو على كل شيء قدير، وتنسحب.
هل فيكم من قالها؟ قلناها والحمد لله، لكن ليس بالصوت العالي ولكن بصوت على قدر الحاجة.
وإن شاء الله تفوزون بهذه الجائزة العظيمة ألف ألف حسنة.
ماذا قال ابن الزبعرى ؟ قال: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان:7]، من السماء يكفيه حاجاته ومتطلباته فلا يحتاج إلى أن يدخل السوق ويبيع ويشتري، أو يكون له جنة.. بستان من عنب وتمر و.. و.. يأكل منها أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ [الفرقان:8]. أي: المشركون. ماذا قالوا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8]. هذه كلمة ابن الزبعرى : ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً.
وأنتم تعرفون السحر وأن حكمه: الحرمة الأبدية، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يتعاطى السحر، والساحر كافر، وإذا لم يتب قبل موته فهو في جهنم.
السحر كفر، والساحر كافر، ولا يحل لمؤمن أن يذهب إلى ساحر، وعليه أن يطلع المسئولين والحاكمين على الساحر حتى يضربوا على يديه ويمنعوه؛ لأن السحر يفسد القلوب والعقول، والعياذ بالله تعالى.
وهؤلاء لما رأوا الناس يدخلون في الإسلام: هذا أبو بكر، هذا بلال، هذا عمر .. قالوا: سحرهم.
قالوا: إذاً هو ساحر. إِنْ تَتَّبِعُونَ [الفرقان:8] أيها المسلمون كـبلال وصهيب والجماعة، ما تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8]. وهو كلام باطل.
وهي كلمة الظالمين، واعلموا! أن الظلم معناه: وضع الشيء في غير موضعه، وكل مشرك ظالم؛ لأنه صرف العبادة التي هي حق الله لغير الله وقد خلق الناس من أجلها وخلق الكون كلها من أجلها، فهذا ظلم.
الظلم أن تأخذ مشلحي وتعطيه لغيري!
تأخذ سيارتي وتعطيها لغيري!
فالذين عبدوا غير الله عز وجل أخذوا حق الله وأعطوه لمخلوقين عبدوهم، فهم ظالمون، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. لأن الله خلقك ورزقك وخلق الحياة كلها من أجلك، من أجل أن تذكره وتشكره. أي: من أجل أن تعبده، فكيف تتركه وتعبد غيره؟ أي ظلم أعظم من هذا؟
أو كيف تشارك غيره في عبادته وتعطيه ما لا يستحق كأن تدعوه أو تحلف به أو تعكف على قبره؟!
انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9] لا يقدرون أن يرجعوا أبداً إلى الحق؛ لأن قلوبهم دمرت وعقولهم فسدتهم، وإصرارهم هذا الإصرار على الباطل لا يرجعون إلى الحق.
ومن هنا -كما علمنا- احذر يا عبد الله! واحذري يا أمة الله مواصلة الإثم؛ فإن من واصل الإثم يوماً بعد يوم، يجيء يوماً يغطى قلبه، لا يصبح يبصر ولا يعقل ولا.. واقرءوا لذلك قول الله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
والرسول الكريم يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً نكتت نكتة سوداء على قلبه، فإن تاب مسحت وإن لم يتب وزاد ذنباً آخر نكتت أخرى ) إلى جنب الثانية الثالثة والرابعة وذالكم الختم كما قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7].
والله يقول: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين:14]. ما معنى هذا؟ كلما نذنب ذنباً نجدد له توبة عاجلة.. الاستغفار والدموع والبكاء، أما من يستمر على الإثم يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر يطبع على قلبه فلا يستجيب لنداء الحق، لو تقول له: صل يضحك منك. وهذا معنى قوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9]. أي: لا يقدرون على أن يرجعوا، توغلوا في الشرك والكفر والظلم والفساد.
يخبر تعالى عن أولئك المشركين الحمقى الذين اتخذوا من دون الله رب العالمين آلهة أصناماً لا تضر ولا تنفع، أنهم زيادة على سفههم في اتخاذ الأحجار آلهة يعبدونها قالوا في القرآن الكريم والفرقان العظيم: ما هو إلا إِفْكٌ [الفرقان:4]، أي: كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، يعنون اليهود ساعدوه على الإتيان بالقرآن] أعوذ بالله، اليهود أعانوا الرسول على الإتيان بالقرآن؟! [ فقد جاءوا بهذا القول الكذب الممقوت جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان:4]، (ظُلْمًا)؛ لأنهم جعلوا القرآن المعجز الحامل للهدى والنور جعلوه كذباً، وجعلوا البريء من الكذب والذي لم يكذب قط] كذبة واحدة صلى الله عليه وسلم قالوا فيه [كاذباً، فكان قولهم فيه زوراً وباطلاً ]. لم يكذب رسول الله قط خلال ثلاثة وستين عاماً ونسبوا إليه الزور والكذب!!
[ فكان قولهم فيه زوراً وباطلاً.
وقوله تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، هذه الآية نزلت رداً على شيطان قريش النضر بن الحارث إذ كان يأتي الحيرة ويتعلم أخبار ملوك فارس ورستم ، وإذا حدث محمد صلى الله عليه وسلم قومه محذراً إياهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم وقام صلى الله عليه وسلم من المجلس جاء هو فجلس وقال: تعالوا أقص عليكم، إني أحسن حديثاً من محمد، ويقول: إن ما يقوله محمد هو من أكاذيب القصاص وأساطيرهم التي سطروها في كتبهم، فهو يحدث بها، وهي تملى عليه. أي: يمليها عليه غيره صباحاً ومساءً.
فرد تعالى هذه الفرية بقوله لرسوله للرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَنزَلَهُ [الفرقان:6]، القرآن، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6]، أي: سر ما يسره أهل السماوات وأهل الأرض فهو علام الغيب المطلع على الضمائر، العالم بالسرائر، ولولا أن رحمته سبقت غضبه لأهلك من كفر به وأشرك به سواه إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، يستر زلات من تاب إليه ويرحمه مهما كانت ذنوبه.
وقوله تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:7-8]، هذه كلمات رؤساء قريش وزعمائها لما عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك دعوته إلى ربه مقابل ما يشاء من ملك أو مال أو نساء أو جاه فرفض كل ذلك، فقالوا له إذاً: فخذ لنفسك لماذا وأنت رسول الله تأكل الطعام وتمشي في الأسواق تطلب العيش مثلنا فسل ربك ينزل إليك ملكاً فيكون معك نذيراً أو يلقي إليك بكنز من ذهب أو فضة تعيش بها أغنى الناس، أو يجعل لك جنة من نخيل وعنب، أو يجعل لك قصوراً من ذهب تتميز بها عن الناس وتمتاز فيعرف قدرك وتسود قومك] عجباً!
[ وقوله تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ [الفرقان:8]، أي: للمؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم] ماذا قالوا؟ [ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8]، أي: إن باتباعكم محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويدعو إليه ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً، أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، أي: فاتركوه ولا تفارقوا ما عليه آباؤكم وقومكم.
وقوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9]. أي: انظر يا رسولنا إلى هؤلاء المشركين المفتونين كيف شبهوا لك الأشباه وضربوا لك الأمثال الباطلة، فقالوا فيك مرة: هو ساحر، وشاعر وكاهن ومجنون فضاعوا في هذه التخرصات وضلوا طريق الحق فلا يرجى لهم هداية بعد، وذلك لبعد ضلالهم فلا يقدرون على الرجوع إلى الحق، وهذا معنى قوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9] ].
عرفتم ما قال ربنا؟ الحمد لله.
هل هذا القرآن يقرأ على الموتى؟ أسألكم بالله هذا القرآن يقرأ على الموتى؟
هل يتوبون إلى الله؟ هل يعلمون ويرجعون؟
كيف نقرأه على الموتى؟! علمتم أن الثالوث قال: القرآن هو روح هذه الأمة الذي حييت به فهيا نصرفها عنه.
فكروا وقالوا: ماذا نصنع؟ قالوا: تفسير القرآن كهذا التفسير صوابه خطأ وخطؤه كفر.
ماذا نصنع بالقرآن؟ قالوا: اقرءوه على الموتى.
ولطيفة وهرانية -ومعنا الوهرانيون- جاء والي عام من فرنسا بتعيين جديد إلى مدينة وهران أيام كانت فرنسا تحكم الجزائر فجال في المدينة يتجول، فوجد كتاتيب في المساجد وأولاداً يقرءون القرآن. قال: ما هذا؟ الحكومة قادرة على أن تجعل الكراسي وتجعل المدارس كذا.. كيف هؤلاء في التراب ويقرءون في المساجد؟!
وصدر أمره بإغلاق الكتاتيب فجاءه مؤمن صالح وقال له: يا مسيو! هذا القرآن يقرءونه من أجل أن يقرءونه على الموتى فقط. قال: ما دام على الموتى فلا بأس، افتحوا لهم الكتاتيب.
وما زلنا إلى الآن ما نجتمع في بيوت ربنا هكذا كل ليلة بعد المغرب إلى العشاء ندرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما قل ممن رحمهم الله.
أولاً: بيان ما قابل به المشركون دعوة التوحيد من جلب كل قول وباطل ليصدوا عن سبيل الله، ومازال هذا دأب المشركين إزاء دعوة التوحيد إلى اليوم وإلى يوم القيامة ]. إي نعم؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى الباطل ليكونوا أولياءه فينفرهم من التوحيد ويقبحه لهم.
[ ثانياً: تقرير الوحي الإلهي والنبوة المحمدية ]. فهذا الكلام يدل دلالة قطعية أن محمداً رسول الله، وإلا كيف ينزل هذا القرآن وعلى من ينزل؟ فلهذا الآية الليلة تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ ثالثاً:] وأخيراً [ بيان حيرة المشركين إزاء دعوة الحق وضربهم الأمثال الواهية الرخيصة للصد عن سبيل الله، وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل والخيبة المرة والحمد لله ].
وإلى الآن ما من أهل إقليم تجمعوا على الحق ودعوا إليه إلا وتخلى أهل الباطل عن باطلهم وعادوا إلى الإسلام.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائما وأبداً بكتابه وذكره، والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر