أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية التي تعالج القواعد العظيمة الأربع: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والتشريع والتقنين، وها نحن مع هذه الآيات التي تدارسناها بالأمس وما استوفيناها حقها، فهيا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة ثم نتدارسها مرة أخرى، والله أسأل أن ينفعنا بما ندرس وبما نسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:29-31].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] علمهم يا رسولنا وبلغهم عنا أننا نأمر بالقسط، والمبلغون هم مشركوا مكة، والسورة مكية، قل لهم: ربي جل جلاله وعظم سلطانه يأمر بالقسط، أي: بالعدل، فتصوروا الذي خلقكم ورزقكم وخلق الحياة هذه من أجلكم، فهل يصح أن تعبدوا غيره ممن لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً، ما خلقوكم ولا رزقوكم ولا أوجدوكم ولا كلئوكم وحفظوكم، هل من العدل أن تعبدوا غير الذي خلقكم ورزقكم؟ والله ما هو بالعدل، الذي أوجدني وحفظ وجودي هو أحق بأن أدعوه وأعبده بكل نوع من أنواع العبادات؛ فلهذا كل مشرك حائف جائر ظالم ما هو بعادل أبداً، وخذ هذه قاعدة عامة: كل مشرك ظالم غير عادل منحرف حائف جائر، قل ما شئت؛ لأن الله عز وجل خلق هذا الكون من أجلنا، وخلقنا فيه من أجل أن يرى شكرنا ويسمع ذكرنا، فإذا نحن ذكرنا غيره وشكرنا سواه وأعرضنا عن ذكره وشكره فعبدنا غيره كنا -والله- ظالمين، ليس هذا من العدل في شيء، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فوق ما نتصور، وجه هذا الظلم العظيم كما بينا: أيخلقك ويرزقك ويحفظك طول حياتك من أجل أن تذكر وتشكر فتذكر غيره وتشكر سواه وتعرض عنه؟ أي ظلم أعظم من هذا الظلم؟
وإن شئتم عرفتم أن الحياة كلها قائمة على العدل، إذا دخل الحيف والجور هبطت وفسدت، فلا تستقيم حياة الناس في هذه الحياة إلا على العدل، بألا يبقى بينهم ظلم ولا جور ولا حيف، يمتنع ذلك من ألسنتهم ومن أيديهم وأرجلهم، فهذه الكلمة وحدها قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] ما تبقي ظلماً ولا حيفاً ولا جوراً ولا باطلاً، فالعدل العدل.
وبين تعالى سر هذا الخلق فقال في كتابه القرآن العظيم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ما خلقتهم أبداً ليعبدوا غيري، ما خلقتهم ليعرضوا عني وعن ذكري، خلقتهم كما خلقت الملائكة، إلا أن الملائكة فطرهم على أن يعبدوه فقط، ونحن مبتلون وممتحنون؛ لأن لنا منزلين: إما الجنة وإما النار، فمن أطاع الله عز وجل وعبده بما شرع زكى نفسه وطيبها وطهرها وأصبح كالملائكة يسكنه الجنة ويدخله دار السلام، ومن لوثها وعفنها بالشرك والذنوب والمعاصي فهو في النار عالم الشقاء.
ومع الأسف أنه توجد مقابر وقباب وقبور في بعض المساجد وترى جهلة المؤمنين يقبلون على ذلك الضريح يدعونه ويستغيثون، فيصلون إلى القبلة، وإذا سلموا يقفون على السيد الميت ويدعونه ويستغيثون ويسألونه، ما قرءوا هذه الآية: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ [الأعراف:29] وحده مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29].
إذاً: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] فلا تسألوا عن قدرة الله كيف يتم ذلك، كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، فقرر في هذا عقيدة البعث والجزاء، وقد سمعتم الكثير عن هذه القضية: الإيمان بالله والإيمان بالبعث الآخر ركنا العقيدة الإيمانية الإسلامية، إذا ضعف الركن الأول أو الثاني انهزم العبد ولا يستطيع أن يعبد الله، ولا يقدر على عبادة الله، كما قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، فلهذا بعد التوحيد ذكر هذا المعتقد: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، وإذا عدنا فلأي شيء نعود، نعود للجزاء والحساب الوافي الكامل على سلوكنا في هذه الحياة، ونهاية الحساب إما إلى دار السلام فوق السماوات السبع، وإما إلى دار البوار تحت الأرض السفلى، لا سلام ولا طريقة للسلامة إلا هذا، فقط أن نزكي أنفسنا ونطهرها كما نزكي أبداننا ونطهرها بالماء والصابون، مادة التزكية والتطهير دائماً هي هذه العبادات التي شرعها وأمر بها وقننها وحدد مواعيدها وبين رسوله كيفياتها، سر ذلك كله أن تطيب النفس البشرية وتزكو وتطهر.
قد بينا بما فيه الكفاية أن الهداية والضلال بيد الله، الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، سلم هذا لله، الله يهدي من يشاء هدايته لينزله بجنبه في الملكوت الأعلى، ويضل من شاء ضلاله ليبعده عنه وينزله إلى أسفل سافلين.
وهنا هل من المعقول.. هل من المنطق.. هل من الذوق.. هل من العقل أن نقول: ما دام أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء فهيا ننغمس في الربا والزنا وقتل النفس والخيانة والخداع ونقول: لأن الله لو شاء أن يهدينا لهدانا؟ هل هذا يقوله عاقل؟
ومن هنا بينا للمستمعين والمستمعات أنه ما دام أعلمنا تعالى أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء فمعناه: هيا نفزع إليه ونطرح بين يديه ونسأله الليل والنهار أن يهدينا ولا يضلنا، لا أننا نركب رءوسنا ونعصي الله ونتمتع بالباطل والشهوات، هذا طيش وحماقة وسوء فهم وموت عقل.
فما دام قد ثبت عندنا بالنص القاطع أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء فهل هذه الحياة تستعدينا يا عقلاء أن نقبل على الضلال؟ هذه تطلب منا أن نطرح بين يديه الليل والنهار ونسأله الهداية، ونستعيذ به من الضلالة؛ لأنه يملك هذا وهذا؛ فلهذا يجب أن نسأل الله هدايتنا طول العام، بل الليل والنهار، ويكفينا في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هو الذي عملنا هذا؟ قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة؛ لأن فيها حمد الله والثناء عليه وتمجيده والتملق له من أجل أن نقول له: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
إننا نحمد الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم نثني عليه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، ثم نمجده: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ثم نتملقه ونتزلف إليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك، هذا التملق لأجل ماذا؟ من أجل أن نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهو الذي علمنا هذا، هو القائل: قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7].
أليس من الجهل والحمق والطيش أن يقول القائل: ما دام أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء فدعوني أفرفش وأغني وأعبث؟ هل يقول هذا عاقل؟ يجب إذا عرف هذا أن يبكي بين يدي الله ويخاف أن يضله، فيطلب هدايته الليل والنهار، ومن قرع باب الله وسأله الهداية والله! لا يضله، وحاشاه وهو الرحمن الرحيم.
وهل الإنسان يستطيع أن يتخذ الشياطين أولياء يوالونه ويواليهم؟ أي نعم، بل بسهولة، اجمع الليلة أسرتك وغن معهم واعبث فالشيطان يفرح تمام الفرح ويحتضنكم ويصبح من أوليائكم، وغداً استورد محرمات لتضل بها المسلمين وتفسد عليهم دينهم وقلوبهم فتصبح ولياً رقم واحد للشيطان، فاتخاذ الشيطان ولياً بموالاته، أي: بطاعته واستجابتك له وقبولك كلامه ووسواسه يصبح ولياً، فهؤلاء الذين أضلهم الله لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء ففسقوا وفجروا وكفروا وأشركوا، إذاً: أضلهم الله.
يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:31]، لبيك اللهم لبيك، مر يا مولانا. يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، الزينة الثياب، وقد تقدم قوله تعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، وعرفنا أن اللباس الذي يواري السوأة كل ما يستر العورة والجسم، ولكن الريش هو اللباس الحسن الذي يلبس في المناسبات والأعياد وما إلى ذلك، وهذه منته تعالى علينا، ما خلقنا الشاة ولا الوبر ولا الشعر ولا الصوف ولا القطن، الله خالق ذلك، وهو الذي هدانا وعلمنا كيف نصنع ونلبس، فالأمر له والنعمة إليه ترد.
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، سبق أن علمنا أن المشركين في مكة وفي الجزيرة كلها كانوا إذا جاءوا يطوفون بالبيت؛ لأنهم يؤمنون بالله رباً، رب إسماعيل وإبراهيم والبيت بيته، إذا جاءوا للطواف بالبيت يضعون ثيابهم بعيدة عن المسجد ويدخلون يطوفون عراة، على أن هذا مما أمر الله به وتعبدهم به، والفتيا التي كانت سائدة بينهم: أن الثوب الذي عصيت فيه الله ما يصح أن تطوف به، فإذا وجدت ثوباً من ثياب الحمس الأشراف فلا بأس، أما ثوبك أنت فلا تطوف به، فكانوا يدخلون المسجد الحرام عراة، وقد أنشدنا البيت الذي أورده أهل التفسير، حيث كانت المرأة تضع يدها على فرجها وهي تطوف وتقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
إذاً: ففرض الله عز وجل ستر العورات عند المساجد وعند غير المساجد، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]؛ ولهذا بالإجماع أن كشف العورة حرام، ولا يحل لمؤمن أبداً ولا كافر أن يكشف عورته أمام الناس أبداً، ولا يصح كشف العورة إلا في حال التغوط أو في حال الوقاع، ومع هذا فأم المؤمنين تقول: ما رأيت من رسول الله ولا رأى مني، وعلة ذلك: أنه ربما إذا نظر الإنسان إلى فرج امرأته فقد يتقزز فيكرهها فيقع في محنة، وهي كذلك، فمن الخير أيضاً ألا ينظر حتى إلى سوأة امرأته ولا تنظر هي إلى سوأته، لكن ليس ذلك بالحرام، هذا مما أذن الله فيه، لكن ما عدا ذلك لا يحل لمؤمن أبداً -رجلاً أو امرأة- أن يكشف عورته أمام الناس، إلا في حال التطبيب والعلاج فهذا أمر آخر للإنقاذ من الضرورة أو الهلاك.
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فمن هنا لا تصح صلاة امرأة وهي مكشوفة العورة، وبينا أن إنساناً سلب ثوبه، دخل الحمام أو دخل البحر فأخذ ثوبه فكيف يصلي؟ يجلس ويصلي جالساً ليستر عورته، وإن كانوا جماعة عراة فلا يصلي بهم أمامهم، بل يصلي بينهم في الوسط، ولا يعيدون الصلاة إذا خرج وقتها بالإجماع.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، هنا قل من نجى، مضى الأمر بالقسط وهنا عدم الإسراف؛ لأن الله لا يحب المسرفين، فما هو الإسراف؟ هو مجاوزة الحد في الأكل والشرب واللباس والمركوب والسكن، وهذا الموضوع موضوع من أهم المواضيع، أنت راتبك ألف ريال أيها العامل، فيجب أن تنفق الألف ريال على نفسك وأسرتك، بدل ثلاثة أقراص من عيش اجعلها قرصين، بدل أن تلبس ثوبين البس ثوباً واحداً، على قدر الكساء يمد المرء رجليه، على قدر هذا الراتب الذي تحصل عليه أو الصدقة التي تقع في يدك يجب ألا تتجاوزها ثم تمد يدك أو تسرق أو تسأل.
كانوا يعيشون على الخبز، ومن ارتفع حاله أوجد زيتاً يغمسه فيه ويأكل، الثياب الآن عند الناس معلقة، ولا ينبغي هذا أبداً، بل على قدر الحال: ثوب للمهنة وثوب للعبادة والمسجد، لماذا الثياب العديدة؟ المراكب لم تتخذ ثلاثة من الحمير أو ثلاثة بغال؟ أما يكفيك بغل واحد لإركابك؟ والسيارات الآن كذلك، لم سيارتان أو ثلاث؟ أليس هذا هو الإسراف؟ وكذلك السكن، ابن مسكناً على قدر سكنك حيث تسكن، لماذا تبني عمارات؟ اللهم إلا إذا قلت: العمارة ليست للسكن بل للإيجار وتحصيل النفقة منها فهذا شيء ثان، أما حين تبني لسكنك فعلى قدر حاجتك، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( فراش للرجل وفراش لأهله والثالث للضيف ) فما زاد على ذلك فهو إسراف، الفرش في البيوت لا تتجاوز ثلاثة فرش: فراش لك وآخر لزوجتك والثالث للضيف، والذي زاد إسراف، لو أننا أخذ بمبدأ الاقتصاد: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] والله! ما بقي في هذه الظروف من يمد يده، ولا يبقى فقير ولا محتاج، ولكن ما عرفنا، ولا تسأل عن الأكل كيف يتنوع، ولنذكر حادثة عمر عندما ارتعدت فرائصه وقام نشطاً وقال: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]، هذا سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أحد الأصحاب قيل له: يا سمرة ! إن ولدك بشيم. ومعنى بشيم: تخيم لأنه أكل مرتين أو ثلاثاً، فقال: لو مات والله ما صليت عليه!
إذاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الأعراف:31]، من أرشدنا إلى هذا؟ الملك الحق، كلوا واشربوا من طعامنا وشرابنا، ما خلقتم طعاماً ولا شراباً، نحن خلقنا لكم هذا الطعام والشراب وأذنا لكم أن تأكلوا، وحرمنا عليكم أن تسرفوا، ومع هذا إذا كان راتبك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس أن تتوسع؛ لأن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه، فيتصدق أو ينظف ثيابه أو يحسن فراشه ولا بأس لوجود هذا الفضل، أما أن يتكلف ذلك بطرق غير مشروعة ليلبس الجميل أو ليأكل الطيب فهذا ليس أبداً من طاعة الله في شيء.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، فكل مسرف مبغوض لله، ونحن ندعي أننا أولياء الله، والله يكره الإسراف فيجب أن نكره الإسراف، ما نسمح للولد ولا للمرأة ولا للكبير ولا الصغير أن يسرف، فالاقتصاد، العدل العدل: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29].
اسمعوا الآيات مرة أخرى قبل أن نأخذ في بيانها، قال تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29].
لا تقل: لم نعبده؟ فإنا نعبده للجزاء، سوف يعيدك مرة ثانية بعد موتك ليجزيك على عبادتك: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:29-30] لماذا؟ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:30-31].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ولسائر المؤمنين:
[ ما زال السياق قي بيان أخطاء مشركي قريش، فقد قالوا في الآيات السابقة محتجين على فعلهم الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك، وأن الله تعالى أمرهم بها، وأكذبهم الله تعالى في ذلك ]، إذ قال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].
[ وقال في هذه الآية: قُلْ [الأعراف:29] يا رسولنا أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] ] ما أمر بالفحش والمنكر والشرك، [ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] الذي هو العدل وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله تعالى في عبادته، وليس هو الشرك بالله، وفعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه حلل كذا وهو لم يحلل وحرم كذا وهو لم يحرم.
وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:29] أي: وقل لهم يا رسولنا: أقيموا وجوهكم عند كل مسجد، أي: أخلصوا لله العبادة واستقبلوا بيته الحرام، وَادْعُوهُ [الأعراف:29] سبحانه وتعالى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29] أي: ادعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً ] سواه.
[ قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] يذكرهم بالدار الآخرة والحياة الثانية، فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء على كسبه خيراً أو شراً أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة.
وقوله ] تعالى: [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30] بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته، فهو المبدئ والمعيد والهادي والمضل، له الملك المطلق والحكم الأوحد، فكيف يعدل به أصنام وأوثان؟ هدى فريقاً من عباده فاهتدوا وأضل آخرين فضلوا، ولكن بسبب ]، لكل من الضلال والهداية سبب، [ ولكن بسبب رغبتهم عن الهداية وموالاتهم لأهل الغواية: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف:30] فضلوا ضلالاً بعيداً، وَيَحْسَبُونَ [الأعراف:30] لتوغلهم في الظلام والضلال ] يحسبون [ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].
وقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] أي: البسوا ثيابكم عند الطواف بالبيت فلا تطوفوا عراة، وعند الصلاة فلا تصلوا وأنتم مكشوفو العورات كما يفعل المشركون المتخذون الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولاً وفعلاً واعتقاداً.
وقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] أي: كلوا مما أحل الله لكم، واشربوا ] أي: مما أحل لكم، [ ولا تسرفوا بتحريم ما أحل الله، وشرع ما لم يشرع لكم، فالزموا العدل فإنه تعالى لا يحب المسرفين؛ فاطلبوا حبه بالعدل، واجتنبوا بغضه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ].
[ هداية الآيات]، أي: ما استنبط واستخرج من هداية هذه الآيات التي تلوناها.
[ من هداية الآيات:
أولاً: وجوب العدل في القول ] إذا قلتم، [ وفي الحكم ] إذا حكمتم.
[ ثانياً: وجوب إخلاص العبادة صلاة كانت أو دعاء لله تعالى ]، حتى ولو كانت كلمة: الله أكبر، كل العبادة يجب أن تخلص لله ولا يشاركه فيها سواه.
[ ثالثاً: ثبوت القدر ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30]؛ لأنه كتب أهل النار وأهل الجنة بأسمائهم وأعمالهم.
[ رابعاً: وجوب ستر العورة في الصلاة ] وفي غيرها، وقد عرفنا أن عورة الرجال ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة ما عدا الوجه والكفين، فليسا بعورة، فمن صلى وعورته مكشوفة فصلاته باطلة، لكن لو سها وانكشفت عورته وعلى الفور جمع ثوبه فلا بأس؛ لأنه ما صلى صلاته كاملة عرياناً، سقط سرواله فرفعه مثلاً.
[ خامساً: حرمة الإسراف في الأكل والشرب وفي كل شيء ] حتى في المشي يا عباد الله، لم تهرول؟ اقتصد في مشيك: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان:19]، لم الإسراع؟ فالإسراف ممنوع حتى في رفع الصوت، لا ترفع صوتك إلا على قدر حاجة الذين تتكلم معهم، فالإسراف مجاوزة العدل في كل شيء.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر