وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة )، أستطرد هنا: انظر إلى السكينة، والله! لو كان اجتماعنا هذا في مقهى أو في منزل أو في ساحة من الساحات لرأيت وسمعت ما تعجب منه، والآن لو كنا مائة ألف فنحن في سكينة أم لا؟
قال: ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة ) في هذه الساعة بالذات هل هناك عذاب؟ والله! لا عذاب، لا تسب ولا تسرق ولا تلعن ولا تجوع ولا تفكر في دنياك، رحمة كاملة.
قال: ( وذكرهم الله فيمن عندهم ) هذه فوق تلك، من نحن وما نحن حتى يتكلم الله عنا ويذكرنا لملائكته وأننا عبيده اجتمعوا في بيته؟ هذه وحدها تعدل الدنيا بما فيها.
وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف وكأننا نودعها، وهي -كما علمتم- مكية، والمكيات المباركات يعالجن العقيدة، إذ العقيدة السليمة الصحيحة والله! لبمثابة الروح، صاحبها حي وفاقدها ميت، والذي تزعزعت عقيدته وتخلخلت وزيد فيها ونقص منها فهو كالمريض، يقوى على شيء ويعجز عن آخر، يستطيع أن يتكلم ساعة ويعجز مرة أخرى وذلك لضعفه، فلهذا يجب أن تكون العقيدة سليمة صحيحة، ومصدرها قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، لا قال الشيخ الفلاني ولا الإمام الفلاني، مصدر العقيدة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها نحن نستمع إلى تلاوة هذه الآيات مرتلة مجودة من الأستاذين الكريمين من طلبة العلم، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، وباسم الله نصغي ونسمع.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:171-174]. صدق الله العظيم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ألفت نظركم إلى أن هذه المعارف والعلوم التي نتلقاها لو نضرب أكباد الإبل من شرق الدنيا إلى غربها والله ما حصلناها ولا ظفرنا بها ولا فزنا بمثلها، علوم ومعارف تعجز البشرية كلها عن إيجادها أو تصورها توضع بين أيدينا في هذا الكتاب المهجور، فوا أسفاه!
اسمعوا هذا الخبر الإلهي، يقول تعالى: اذكر يا رسولنا وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ [الأعراف:171] هذه الآية بالذات ختام آيات حديث بني إسرائيل، وهي وإن كانت في بداية أمرهم فقد ختمت بها قصتهم من أولها إلى آخرها.
فقوله جل ذكره: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:171] المراد من الجبل جبل الطور بأرض سيناء، ما زال قائماً إلى الآن، وقد قال تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]، هذا الطور موجود إلى الآن وإلى يوم القيامة.
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ [الأعراف:171] نتقه: اقتلعه من أسفل ورفعه فوقهم فصار كالظلة على رءوسهم، من يقوى على هذا سوى الله؟ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ [الأعراف:171] والظن هنا اليقين.
من الذي يقول هذا سوى الله؟ كيف يكفر الله؟ كيف يجحد؟
أعطيكم لطيفة ستقرءونها إن شاء الله في اللطائف حين تطبع: كنت قادماً من المنزل إلى المسجد وقت العصر في الصيف، واجهتني شمس فما استطعت أنظر، فوضعت كفي هكذا فحجبت الشمس بكاملها! الشمس أكبر بمليون ونصف مليون مرة من الأرض حجبتها بكفي مع عظمتها!
فكذلك الله جل جلاله كل ذرة في الكون تشهد بوجوده وعلمه وقدرته وأنه لا إله إلا هو، ومع ذلك يكفره العبد ويغطيه كما غطينا الشمس بالكف، فبكلمة (كفر) يستر هذا كاملاً ويغطيه، فلا إله إلا الله.
فلما استقل بنو إسرائيل واحتاجوا إلى الدستور الإسلامي الذي يحكمه موسى فيهم؛ لأنهم ستمائة ألف من نساء ورجال وأطفال، فمن أين يأتيهم الدستور الإسلامي؟ ما في الأرض مؤمنون إلا هم فقط، فقال لهم نبي الله موسى بعدما أوحى الله إليه أن: ائتنا إلى جبل الطور؛ قال: اجلسوا. واستخلف أخاه هارون وأسند إليه مهمتهم حتى يأتي بالدستور ويجيء.
وخرج موسى وقد عرفنا أن الله أعطاه أربعين يوماً: أعطاه ثلاثين يوماً وأضاف إليها عشرة: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، واللطيفة في هذه أنه لما شعر بتغير ريقه ورائحة فمه تناول قشرة من شجرة ومضغها ليزيل ذاك الخلوف، فلم يرض الله تعالى هذا وقال: إذاً: صم عشرة أيام أخرى، وبلغنا هذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) .
الخلوف: الرائحة التي خلفها الفم من الصيام، أطيب عند الله من ريح المسك، ولهذا فإن الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة يكره الاستياك بعد صلاة الظهر للصائمين؛ لأن الريق ذاك الذي يتعفن فيه يترك كما هو إلى الليل.
إذاً: لما ذهب موسى عليه السلام زين الشيطان لأولئك الجهلة المغرورين الضلال؛ زين لهم عبادة عجل، شاهدوا في القرية التي نزلوا حولها أن أهلها يعبدون ثوراً مصنوعاً من حجارة أو خشب فقالوا: هذا هو إلهكم وإله موسى، وموسى ضل في الطريق وما عرف، وإلهه موجود هنا! من زين هذا؟ أبو مرة، فالجهال والضلال صفقوا وقالوا: هذا هو. وبكى هارون وصاح فيهم فقالوا: اسكت.
وجاء موسى وعلم أن قومه هلكوا قبل وصوله إليهم وصاح فيهم وبيده التوراة فرماها فتكسرت الألواح قبل أن تكتب في الورق، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150]، فعفا عن أخيه ورفع كفيه إلى ربه، وتورط بنو إسرائيل في عبادة غير الله، إذاً: فما هو الواجب؟
اختار منهم سبعين رجلاً ليذهب بهم إلى الله ليتوبوا بين يديه في جبل الطور، أخذ سبعين من خيارهم، وانظروا إلى ضعف القلوب وضعف العقول وضعف الفهوم، هؤلاء من خيرة بني إسرائيل، وأعيد فأقول: لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، ما تربوا في بيوت المؤمنين والمؤمنات، تربوا في بلاد الشرك والكفر والضلال.
ولما وصل بهم موسى إلى الجبل وكلمه الله فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] ما دمت تسمع كلامه فنريد أن نراه! فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153].
ثم تابوا فعادت إليهم الحياة ورجعوا، فقال: هيا تفضلوا خذوا التوراة بما فيها وطبقوها واعملوا بشرائعها وعباداتها وقوانينها، فقالوا: ما نستطيع، أمة ضعيفة والشعب ممزق، ما نتحمل هذه المسئولية، ما نقدر يا ربنا، فما كان من الله عز وجل إلا أن نقض الجبل من أسفله ورفعه فوقهم بواسطة جبريل أو إسرافيل أو ما شاء الله أو بكلمة التكوين: (كن) فكان.
ومن أراد أن ينظر فلينظر إلى عزيمة أصحاب رسول الله والقرون الذهبية في تطبيق الشريعة كيف كانت، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) هذا الأخذ بالقوة أم لا؟
عمر جلد ولده مائة جلدة، عثمان جلد أخاه مائة جلدة: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف:171] ما استطعتم، عبر بالأخذ بالقوة عن العزيمة الصادقة، ما يتخلف واجب ولا تترك فريضة ولا يفعل حرام أبداً.
ثانياً: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الأعراف:171] لا تنسوه وتهملوه وتقولوا: نسينا! يجب أن يذكر هذا على القلوب والألسن دائماً وأبداً بكل عزم وصدق ويطبق كذلك، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الأعراف:171] أي: لا تنسوه؛ ليعدكم ذلك إلى التقوى: لَعَلَّكُمْ [الأعراف:171] (لعل) الإعدادية، أي: ليعدكم ذلك للتقوى وهي رأس المال ما بعدها طلب، ومن فقدها فما بعد فقدها شر.
إنه طاعة الله وطاعة رسوله في الأوامر الواجبات المفروضات وفي النواهي المكروهات المحرمات، والله لا يتقى عذاب الله بغير هذا أحببتم أم كرهتم.
وقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171] لأن التقوى هي مفتاح دار السلام، واسمعوا قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فقول: (ألا) كما نقول: ألو، وقد تقول: لم يقول الشيخ (ألو) في المسجد النبوي؟
نقول: لأن أمامنا عوام مثلنا ما يفهمون كثيراً، فنريد أن نبين لهم؛ لأننا ألفنا ألو ألو، البنت تزحف على ركبتيها تأخذ السماعة فتقول: ألو، أعوذ بالله! أما عندكم هذا؟
فعندنا (ألا) في القرآن العظيم، ما هي مع التلفون فقط، بمعنى: انتبهوا اسمعوا تلقوا الخبر بعناية. أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من لم يخف ولم يحزن كيف حاله؟ أمن وسعد هو في دار السلام، ومن خاف وحزن هلك، لا يخاف ولا يحزن إلا معذب.
ثم بين تعالى سبيل النجاة، كيف أنه لا خوف عليهم ولا حزن، كيف أصبحوا أولياء الله؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] الإيمان أولاً لأنه الحياة، والتقوى العمل الجاد الصادق بفعل ما أوجب الله ورسوله وترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهل عرفتم معاشر المؤمنين هذا؟
وسر ذلك أن هذه التقوى تزكي النفس وتطهرها، تطيبها وتطهرها، فإذا طابت وطهرت قبلت في الملكوت الأعلى، فإن خبثت وتدنست لم تقبل والله، ولم يعرج بها إلى الملكوت الأعلى، هذه هي الحقيقة.
الله يقول لليهود: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171] لتظفروا بتقوى الله عز وجل فتنجوا وتسلموا ولا تخافوا ولا تحزنوا.
اسمع الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] الذين كذبوا بالآيات ما آمنوا، وإذا ما آمنوا فهل يعملون بها فيصلون ويصومون؟ الجواب: لا.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] عرفوا، ولكن الكبرياء والغطرسة والجهل جعلهم لا يصلون الصلاة ولا يؤدون واجباً، هؤلاء يقول تعالى في هذا الخبر: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] هذا المعلق على المستحيل، وما علق على المستحيل فهو مستحيل، فهل البعير الكبير يدخل في عين الإبرة الصغيرة؟
إذاً: ذو النفس الخبيثة مستحيل أن تطلع روحه للملكوت الأعلى، هذا خبر الله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40] المجرمون من هم؟ الذين أجرموا على أنفسهم فاخبثوها ودسوها ولوثوها بالذنوب وبالمعاصي من الشرك والكفر إلى آخر الذنوب والآثام.
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:40-41] فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] غطاء من النار، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41] من هم الظالمون؟
الذين عبدوا غير الله، والذين عبدوا غير الله كالذين لم يعبدوا الله، الكل ظالم، فالله خلقك ورزقك وخلق الكون كله من أجلك من أجل أن تعبده فرفضت، فما قيمتك؟ أقسم لكم بالله أنه ما خلقنا ولا خلق هذه الحياة لنا إلا من أجل أن نعبده، فمن رفض عبادة الله فما أحل ولا حرم ولا أقام صلاة ولا امتنع عما حرم الله فمعناه أنه سخر بتعاليم الله، وأي ظلم أعظم من هذا؟ ونفسه تصبح أخبث ما تكون من النفوس.
وأنا لا أرى صورة أبشع من أن نجد جماعة يقرءون على ميت، فهل الأموات في حاجة إلى أن يقرأ عليهم القرآن ليجتنبوا المحارم وليفعلوا الواجبات؟ هل الميت سيقوم يصلي ويتوب إلى الله ويقول: اقضوا الديون عني؟ الجواب: لا أبداً، فكيف تقرأ عليه؟!
وإذا حدثنا الناس بهذا يقولون: اسكتوا؛ هذا كلام فارغ وباطل، أجدادنا كلهم يقرءون القرآن على الموتى! ولا بد أن يقولوا؛ فهذا أبو مرة ما مات، هو الذي ينفخ هذه الأباطيل في النفوس.
يقول تعالى: واذكر أيضاً يا رسولنا وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] افهموا، بلغوا: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الدنيا بعدما أعدها كفندق من أبدع الفنادق من حيث الزهور والفواكه والخضار إلى اللحوم، نزل آدم وحواء فمسح الله ظهر آدم بعرفات أرض نعمان، مسحها بيده أو كلف ملكاً يمسحها، لا عجب، فاستخرج كل ذريته، ويقول المختصون اليوم: لو نجمع الحيوانات المنوية للبشرية كلها فوالله ما تملأ كأساً، بل ولا تسد نصف كأس، هذا اعترف به الآن حتى لا تضطربوا.
ثم الأرواح خلقها عز وجل قبل آدم، وعرف السعيد من الشقي والمؤمن من الكافر.
إذاً: مسح ظهر آدم واستخرج الذرية وجرت المحادثة التالية، فسبحان الله! من أين لنا أن نعرف هذا نحن؟ كيف يتم هذا؟
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] أي: من ظهر آدم، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] يقول لتلك الأرواح، ووالله! إنها لتفهم وتعقل أكثر مني الآن. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، كراهة أو خشية أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173] استنطق الله الأرواح كلها وكان الاستنطاق كما تسمعون.
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172] بماذا؟ بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] أي: أنت ربنا، فهل سينكرون؟ أنت ربنا، بلى شهدنا.
إذاً: انتبهوا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا [الأعراف:172-173] معتذرين إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]، فلهذا قال العلماء: الكافر كفر مرتين والمؤمن آمن مرتين، الكافر كفر الأولى تلك والثانية التي في الدنيا حيث كفر بما جاءه عن الله والرسول، والمؤمن آمن بالأولى وآمن بالثانية، فكفر الكافر مزدوج وكفر المؤمن مزدوج، فقولوا: آمنا بالله.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات:
الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود، إذ قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف:171] أي: اذكر لهم أيها الرسول إذ نتقنا، أي: رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة، وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ [الأعراف:171] أي: ساقط عليهم، وقلنا لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف:171] والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع، وأخذها: العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه.
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الأعراف:171] أي: في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عز وجل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود.
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت، وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم، وسوف يطالبون به يوم القيامة، وهو معنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] أي أنك ربنا، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173].
والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى، ويعاهد ولا يفي، وما وجد من بني إسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان، وهناك عبرة أعظم: وهي أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه، ويشركون بربهم.
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:174] وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا السياق -وهو تفصيل عجيب- نفصل الآيات تذكيراً للناس وتعليماً ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد إعراضهم عنه، وإلى الإيمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليداً واتباعاً لشياطين الجن ] والعياذ بالله.
هذه الآيات لها هداية أم لا؟ مستحيل أن توجد آية بدون هداية؛ فلماذا أنزلها؟ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة، وإلا كيف وهم بين يدي الله يتمردون عليه ويعصونه برفضهم الالتزام بما عهد إليهم من أحكام؛ حتى يرفع فوقهم الطور تهديداً لهم، وعندئذ التزموا، ولم يثبتوا إلا قليلاً حتى نقضوا عهدهم ] والعياذ بالله.
[ ثانياً: عجيب تدبير الله في خلقه.
[ ثالثاً: الكافر كفر مرتين: كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذر، وكفر بالله وهو في عالم الشهادة، والمؤمن آمن مرتين، فلذا يضاعف للأول العذاب ويضاعف للثاني الثواب.
رابعاً: تقرير مبدأ الخليقة، ومبدأ المعاد الآخر ].
دلت الآية على مبدأ الخلق وعلى مبدأ المعاد والدار الآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر