أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن قد فرغنا بالأمس من دراسة سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وظننت أننا اليوم سندرس العقيدة من كتاب عقيدة المؤمن، وقد تبين لي خطئي، وها نحن الآن نريد أن نستحضر بعض الذي حوته سورة النساء من الهدايات والأحكام الشرعية.
فيا ابن آدم! أنت مخلوق مم؟ ما هي مادة خلقك؟ إنها الطين اللازب، إنها الحمأ المسنون، إنه الصلصال كالفخار، فهذا هو أبوك آدم، وأنت أصل وجودك هو الطين، فهل تتكبر يا ابن الطين؟ كيف ترفع رأسك وتستأنف أن تسجد لمولاك وتطرح بين يديه؟ وأما والدتك وجدتك حواء، فقد أخبر العليم الحكيم على أنه خلقها من آدم، وذلك من ضلعه الأيسر، فعلم البشرية أصل خلقتها ومبدأ وجودها.
كذلك من الأركان: وجود الولي، إذ هو الركن الأعظم من أركان النكاح، ولذا فلابد للمرأة أن يكون لها ولي يتولى عقد نكاحها، فإن لم يوجد لها أب ولا أخ ولا جد ولا عم، فالقاضي ولي من لا ولي لها، فإن انعدم القضاء في الصحراء أو في القرى، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: فليتولى عقد نكاحها ذو الرأي من عشيرتها من أهل البلاد، أي: صاحب الحصافة العقلية، والرأي السديد، والوفاء والكمال.
وحسبنا أن نذكر أن هذه السورة العظيمة حوت سلالم الرقي والكمال والسعادة البشرية، وهي من مائة وأربعة عشرة سورة، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5].
وقد عاش المسلمون في عصر جهالاتهم إلى اليوم، ولذلك تجد الولي يكون عنده مال اليتيم، فيأخذ من مال يتيمه ويترك ماله، وذلك كأن أراد شاة فيأخذ من غنم يتيمه ويترك غنمه ولا يأخذ منها شيئاً، ويقول: هذا ما زالت حياته مستقبلة، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
ثم بين كيف تقسم التركة مع الأولاد، وذلك إذا توفي الوالد وترك الأولاد، ثم بين إرث المرأة من زوجها، كم ترث منه؟ وكم يرث الزوج من امرأته؟ وما هي الكلالة؟ فبين ذلك غاية البيان، ثم قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151].
يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ [النساء:17]، الحق الصحيحة المنجية المزكية المطهرة، ما هي؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وما قال: يعملون الزنا، أو الربا، أو يقتلون النفس، وإنما قال: السُّوءَ [النساء:17]، فما هو السُّوءَ؟ اذهب إلى الطبيب الجسماني يعلمك السوء في بعوضة تلسعك، أو عقرب تلدغك، أو ريح شديدة حارة تؤذيك، أو برد كذلك، أو شبع يقعد بك، أو جوع يحطمك، فيعلمك السوء في بدنك، وهذه الآية تعلمك السوء في روحك الذي هو مركز حياتك، أو المحطة التي بها وجودك وحياتك.
إذاً: السوء هو ما يسيء إلى النفس البشرية فيقع عليها كالعفن أو النتن، فهو أذى يؤذيها ويحجبها نور الله عز وجل، ولهذا كل إثم هو سوء، وكل ذنب هو سوء، وكل معصية هو سوء؛ لأن أي مخالفة لتعاليم الله وأوامره وقوانينه يفعلها العبد عامداً عالماً إلا أصابت نفسه بالأذى والسوء.
والجهالة لها أنواع، وقد عرفنا منها: أن يقول: لو كان هذا حراماً ما فعله الشيخ الفلاني، فيسهل عليه أن يفعل الجريمة، أو لو كان هذا يغضب الله فلماذا لم ينزل فيه قرآن؟ أو لو كان هذا حراماً فلمَ فعل فلان كذا وكذا؟ أو يقول: إن شاء الله لما أحصل على وظيفة نترك هذا! أو لما يأتيني كذا نترك بيع كذا وكذا! فهذه كلها أنواع من الجهالات التي تجعل العبد يفعل تلك المعصية لا متعمداً متحدياً، أما الذي يأتيها على علم فيتحدى الله في شرعه وقوانينه ويخرج عن طاعته، فهذا لن يتوب، ولن تكون له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، أي: يتوبون من قرب لا من بعد، والقرب والبعد نسبي فقط.
والمراد من هذا يا عبد الله! إذا قلت كلمة سوء فالآن قل: استغفر الله، ولا تقل: غداً سأتوب، أو وقعت في زلة أو في سقطة، قم فانفض الغبار عن يديك واجلس وأنت تصرخ: أتوب إلى الله وأستغفره، أما أن تواصل الإثم والجريمة عاماً بعد عام حتى تصل الثلاثين السنة من عمرك، فقد تبلغ مستوى لن تتوب فيه أبداً ولا تقبل التوبة، وهذا ملاحظ ومجرب، فالذي باشر معصية فقط وتاب منها سهل عليه التوبة، والذي عاش خمسين سنة يشرب الحشيش كيف يرجع؟ والذي تعوَّد من صباه للسب والشتم والغيبة والنميمة حتى بلغ أربعين سنة، كيف يتوب من ذلك؟ قد تأصلت فيه تلك المعصية وأصبحت من طباعه، وكذلك الذين لازموا التدخين سنين طويلة يقول لك: ما نستطيع أن نتركه، أما لو دخن اليوم وبعد أسبوع وقيل: يل عبد الله! هذا ضرر بك، هذا حرام مغضب الله عليك، فإنه يتركه بسهولة، بخلاف إذا تضلع فيه وتمكن منه، وحسبنا أن يقول العليم الحكيم: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].
وثاني هذه الحقوق: حق الوالدين، فأنت من نطفة ماء أبيك، وأمك قد حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتحول دمها إلى لبن حلو أبيض تشربه، فكيف تنسى هذا الحق وتسبها وتشتمها وتفضل امرأتك عليها، بل ويضربون أمهاتهم وآباؤهم والعياذ بالله؟! ما عرفوا الله عز وجل.
لكن البشر كالبهائم يأكل الزبدة ولا يقولون: الحمد لله، أو يشربون العسل ولا يعرفون الحمد لله، أو يأكلون ألذ الطعام، أو يلبسون أحسن الثياب ولا يعرفون الحمد لله، فمن سقاك؟ ومن كساك؟ ومن آواك؟ ومن أطعمك؟ فاذكر هذه الآلاء وهذه النعم يا هذا، واحمد المنعم سبحانه وتعالى، واخرج من دائرة البهيمة فأنت آدمي.
وقد ذكرت لكم قصة وهي: أننا حضرنا غداء عند أستاذ في بريدة، ولهذا الأستاذ شيخ كبير مثلي، فوالله ما إن وضعت السفرة وأخذنا نأكل الطعام إلا وهذا الشيخ: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، حتى فرغ الآكلون من أكلهم، فمن هم الحمَّادون؟ نحن والحمد لله أمة الحمد، وهذه نعوتها في التوراة والإنجيل.
وتذكرون الطيب العقبي أيها الجزائريون! يا من حاربتموه وقلتم: إنه وهابي، إن الطيب العقبي خريج هذا المسجد النبوي، يقول عن نفسه: كنا نخرج من المسجد النبوي بعد العصر إلى أحد، ونأتي بسبعين ثمانين بيتاً من الشعر ننظمها كأجود ما تكون، هذا العقبي الذي لم تكتحل عين الوجود بأعلم من هذا الرجل ولا أبر ولا أتقى ولا أصلح، وهو مؤسس جريدة القبلة وبعدها أم القرى الموجودة الآن، وقد عاش في هذه الديار، وجاء من بلاده بلاد عقبة بن نافع الفاتح لإفريقيا، فقد جاء رضيعاً مع أسرته آل العقبي، فلما كانت الحرب الأولى وخافت الدولة العثمانية من المجاعة رحلت أهل المدينة والحجاز إلى الشام وإلى تركيا وإلى حيث شاءوا خوف المجاعة عليهم، فسافر الشيخ رحمه الله تعالى.
والشاهد عندنا: هو الذي ذكر هذا الحديث: ( يا
فهل فهمتم هذه؟ أنتم تقرءون القرآن على الموتى، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا سمعت القرآن في منزل فاعلم أن هناك جنازة، فيا من يقرءون القرآن على الموتى، تعالوا فبينوا لنا هذا الطريق؟ هل أنت توبخ هذا الميت فيقوم ويتوب؟ أو لما تأمره أو تنهاه يستجيب؟ مات، وهل قرأ الرسول على الأموات؟ أعوذ بالله، فكيف إذاً تقرأ على ميت؟! بين لي؟ ما يفهمون! والله يقول في سورة يس: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، لينذر من كان ميتاً أو من كان حياً؟ حياً، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]، وما قال: من كان ميتاً، فلا إله إلا الله!
ثم قرأ عبد الله بن مسعود: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، حتى انتهى إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، قال: وإذا بعيني رسول الله تذرفان الدموع، ويقول: ( حسبك، حسبك )، فكيف تنسى هذه الآية العظيمة؟! فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ [النساء:41]، أي: أمتك، شَهِيدًا [النساء:41]، كادت نفس الرسول أن تطير.
كما جاء في هذه السورة بيان للوضوء والغسل والتيمم، وذلك قبل أن تعرف الأمة الوضوء أو الغسل أو التيمم.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر