أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فاللهم حقق لنا هذا الخير، واجعلنا من أهله يا رب العالمين!
وها نحن ما زلنا مع سورة النساء السورة الرابعة من سور القرآن الكريم: الأولى الفاتحة، والثانية البقرة، والثالثة آل عمران، والرابعة النساء.
والنساء سورة مدنية، والمدنيات أودع الله فيها أسراره وشرائعه وقوانينه التي يحكم بها عباده.
وها نحن مع هذه الآيات الثلاثة هيا نتغنى بها أولاً؛ حتى نكاد نحفظها، ونحاول أثناء القراءة أن نتدبر معانيها، حتى إذا شرحت لاح نورها، وعرفنا مراد الله منها، وأعددنا أنفسنا للقيام بواجب أوجبه الله فيها، أو التخلي عن منهي نهى الله عنه فيها.
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:71-73].
هذا النوع ضعاف الإيمان والمنافقون.
أذكركم ونفسي بأن النداء بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:71]، هذا النداء يوجهه الله تعالى إلى عباده المؤمنين، المؤمنين به وبلقائه، المؤمنون بكتابه ورسوله، المؤمنين بملائكته وقضائه وقدره، لم؟ لأن الإيمان بمثابة الروح، ولا حياة بدون روح، فمن سرت هذه الروح في قلبه وجسمه حي، والحي كما تعرفون يسمع النداء ويجيب ويعطي ويأخذ وذلك لأنه حي، والميت عكسه أم لا؟ هل الميت إذا ناديته يجيب؟ إذا طلبت منه شيئاً يعطيك؟ إذا حذرته من شيء يحذر؟ لا، ميت.
معشر المستمعين والمستمعات!
هذه الحقيقة يجب أن لا ننساها، ويجب أن نبلغها البشر، المؤمن الكامل الإيمان حي، والدليل على حياته، ناده يا إبراهيم! يقول: لبيك، الكافر ميت لا يسمع نداء ولا يجيب، ناد يهودياً: يا يهودي! أن حي على الصلاة، يجيب؟ ناد الصليبي: يا مسيحي! غداً رمضان، هل يصوم؟ عاهرة يهودية يا أمة الله! حرام عليك أن تخرجي في هذه الصورة الوقحة كاشفة عن سوأتك وعريك، ما لك؟ تضحك منك وتسخر؛ لأنها ميتة.
فيكم من يشك في هذا؟
المؤمنون الكُمل الإيمان أحياء فلهذا يناديهم الله بعنوان الإيمان، ما قال: يا أيها الناس، بل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .
من منكم أيها العوام الزائرون يفهم هذه الليلة ويبلغها إلى امرأته وأولاده أو جيرانه، أو العامة الذي يعملون معه؟ لتبقى الدعوة هنا، حتى لا تطلع الشمس الإسلامية، لا إله إلا الله.
كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأسهم عمر يتناوب مع زميل له في دكان في العوالي: أنت تحضر ليلة وأنا أحضر ليلة؛ حتى لا يفوته طلب العلم والحكمة، آه وا حسرتاه!
إذاً: لا ينادينا الله تعالى بعنوان الإيمان إلا لأننا أحياء بإيماننا. هذه مسلمة، أو تنازعون فيها؟
ينادينا لأي غرض من الأغراض، لأي شيء من الأشياء، الجواب: انزع من ذهنك أن ينادينا لهواً ولعباً، ينادينا لواحدة من خمس:
الأولى: ينادينا؛ ليأمرنا، من أجل أن نفعل، ماذا نفعل؟ ما أمرنا به لنفعله لنقوم به، من أجل إسعادنا وإكمالنا فقط، إياك أن تفهم أن الله يأمرنا بأمر نفعله لا يعود علينا بالإصلاح والهداية والكمال، مستحيل، لا يأمرنا إلا من أجل تزكية أنفسنا، وتهذيب آدابنا، وسمو أخلاقنا، وللحصول على الكمال والسعادة في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه ولينا مولانا سيدنا ربنا.
ثانياً: ينادينا لينهانا عما من شأنه أن يخبث أرواحنا، أن يهبط بآدابنا، أن يمزق أخلاقنا، أن يقعد بنا عن طلب السعادة والكمال، والله العظيم! ما نهانا عز وجل عن قول أو عمل أو صفة إلا لأنها ضارة بنا مفسدة لنا مهلكة لنا معوقة لنا عن سعادة الدنيا والآخرة؛ لأنه حكيم، لا يكمن أن يضع الشيء في غير موضعه؟ حاشاه وهو العزيز الحكيم، فلهذا إذا بلغك أمر الله افعل ولا تتردد إلا إذا عجزت، إذا بلغك نهي الله عن عقيدة أو قول أو عمل اترك عجل قبل أن تحترق.
الثالثة: يدعونا وينادينا ليبشرنا، ينادينا بعنوان الإيمان ليبشرنا بما يسرنا، ويثلج صدورنا، ويفرحنا في الدنيا والآخرة، من أجل أن نزداد في ذلك العمل الصالح، ونتنافس فيه ونتسابق إليه؛ لأن البشارة من شأنها تجعلنا نحفز أكثر وننطلق أكثر لذلك العمل الصالح.
رابعاً: ينادينا ليحذرنا مما هو مضر بنا مهلك لنا معوق لنا يقعد بنا عن الكمال والإسعاد، والله العظيم!
خامساً: ينادينا ليعلمنا السير على طريقه الموصل إلى رضاه وجواره، يعلمنا الأوامر والنواهي في المعتقدات والأقوال والأعمال، يعلمنا ما كنا نجهله نحن وآباؤنا من شأن الغيب والشهادة، يعلمنا ما في الملكوت الأعلى، ما في الدار الآخرة، تعاليم يضفيها إلينا ويمتن بها علينا؛ لنصبح علماء، علماء؟ نعم. من أفضل الناس يا أيها الناس؟
أعلمهم، ادخل قريتك وانظر أعلم أهل القرية أتقاهم لله، أصفاهم روحاً، أكثرهم خيراً وبركة، وأجهل قريتك أكثرهم سوءاً وفسقاً وفجوراً.
ولا أعني بالعلم أن لا بد تكتب وتقرأ وتتنوع في أنواع الفنون والعلوم، لا ما هناك حاجة إلى كل هذا، جل وأكثر أصحاب رسول الله وقد لاحوا في أفق الدنيا كواكب زهر في السماء لا يقرأ ولا يكتب، ليس العلم فلسفة، ولا أكاذيب وأباطيل، العلم الحق: أن تعرف ما يريد الله منك، وتطيعه في ذلك بالكلمة فقط؛ ليعلمنا ولنقرأ قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]
العلماء سواء كانوا حمراً أو صفراً.. سوداً أو بيضاً.. عرباً أو عجماً، في الأولين أو الآخرين، العلماء، بأي علم؟ العالمون أولاً بربهم العارفين له، ثم العالمين بمحابه محبوباً بعد محبوب، وبمكارهه مكروهاً بعد مكروه، وبكيفيات أداء تلك المحبوبات، هذا هو العلم: العلم أولاً بالله؛ إذ العلم بالله إذا تم لك عبد الله أثمر لك ثمرتين:
الأولى: حب الله، فتصبح تحب الله أكثر من حبك لنفسك وولدك ومالك، بمعنى: إذا طلب الله شيئاً منك وطلبته امرأتك أجبت طلب الله قبل طلب امرأتك؛ لأنه أحب إليك منها، وفوق هذا: نفسك اشتهت شيئاً وطلبته والله طلب غيره يظهر حبك لله أن تترك ما طلبته النفس وتفعل ما أحبه الله وطلبه.
الثمرة الثانية: الخشية، تصبح عبد الله لا تتكلم بالكلمة حتى تدري هل هي فيها رضا الله أو سخط الله، فإن علمت أن فيها سخط الله ما تكلمتها ولا قلتها، لقمة الأكل قبل أن تلقيها في فيك تدري هل مأذون فيها من ربي ومسموح لي بها أو ممنوعة، فإن كانت ممنوعة تركتها وقمت جائعاً.
فالعلم بالله عز وجل يورثك هاتين العظيمتين: أولاً: الحب، والثانية: الخشية والخوف.
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
ثانياً: العلم بمحاب الله ومكارهه أو مساخطه أو محرماته قل ما شئت.
فعلى عبد الله أو على أمة الله إذا عرفت الله وأحبته وخافته أن تسارع إلى معرفة ما يحب من الاعتقاد والقول والعمل والصفة أيضاً؛ حتى تقدم محبوب الله له؛ ليرفع درجتها ويعلي من مقامها؛ لا أننا نعرف أن الله يحب كذا ولا نفعله. هذا عداء وإعلان حرب على الله، ونعرف مساخط الله من الأقوال الباطلة الاعتقادات الفاسدة الأعمال السيئة الصفات الذميمة، كيف عرفنا يا شيخ محاب الله ومساخطه، من علمنا؟ الجواب يا بني ذاك كله مودع في كتابه القرآن العظيم، وفي هدي رسوله وبيان سنته صلى الله عليه وسلم، لا يخرج محبوب لله عن الكتاب والسنة، ولا يخرج مكروه لله عن الكتاب والسنة، كيف نقرأ.. نقرأ كتاب مائة وأربعة عشرة سورة؟ ما نستطيع، لا ما تحتاج إلى أن تحفظ القرآن أبداً، فقط اجلس مجالس العلم، وتعلم بلسانك وقلبك فقط، سمعت أن الله يبغض الرائحة الكريهة من الآن لا تتطيب بالرائحة الكريهة.
سمعت عن الله أنه لا يحب النميمة لا تنقل حديثاً أبداً حتى الموت.. وهكذا.
خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، والحذر: التخوف والتحرز من المكروه؛ حتى لا تقع فيه.
الله ولي المؤمنين يأمرهم بأن يأخذوا حذرهم؛ حتى لا يهلكهم عدوهم؛ حتى لا يمزق أوصالهم؛ حتى لا يحتل ديارهم؛ حتى لا يسلب أموالهم؛ حتى لا يسفك دمائهم؛ لأنه تعالى لا يحب لأوليائه الهلاك ولا الذل ولا الدمار ولا الخزي ولا العار.
وإن قلت: لما ما يقتل هؤلاء الكافرين بكلمة: موتوا؟ الجواب لا يفعل ذلك؛ لأن هذه الحياة كلها قامت على أساس الابتلاء والاختبار، موقتة ثم الانتقال إلى عالم الخلد والبقاء إما أعلى وإما أسفل، ذا الامتحان، هو قادر على أن يدخل الإيمان في قلب كل كافر، ولكن: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:1-2]، خلق الفقر والغناء ليبلوكم، الصحة والمرض ليبلوكم.. كل هذه ابتلاءات امتحانات واختبارات؛ حتى يصفو من يصفو ويكمل من يكمل وينزله بجواره فوق السماء السابعة في دار السلام، ويهبط من يهبط إلى أسفل السافلين في الدركات السفلى من الأكوان التي ما يمكن أن تدركها.
خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، ممن تخافون؟ من أعدائكم من هم؟ المشركون الكافرون، ومن الثالوث الأسود بالذات المجوس اليهود النصارى خذوا حذركم.
أولاً: أن نربي أنفسنا على الصبر.. على الثبات.. على حسن استعمال السلاح، وعلى إيجاد قيادة عليمة حكيمة موصولة بالسماء، إن أخطأت في الأرض صوبها إله السماء، خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، كيف نأخذ حذرنا؟ يجب أن نكون أقوى من عدونا، وأقدر من عدونا، وأحذر من عدونا، وقل ما شئت؛ لأننا أحياء وعدونا ميت.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، أين المؤمنون الذين ينادون بهذا النداء؟ ماتوا. هذا النداء وجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى تلك الزمرة النورانية الصالحة من أصحابه، وهذا النداء وجه إليهم عندما بلغهم أن أهل مكة تحركوا وسمعوا بإعداد العدة لغزوهم في السنة الثامنة.
معاشر المستمعين! بلغوا أن على الدولة الإسلامية صغيرة أو كبيرة يجب أن تمرن أبناءها على حمل السلاح وعلى استعماله، وعلى تطوره إن كان في النفاثات ففي النفاثات، وإن كان في الصواريخ ففيها، وإن كان في أي موطن يجب أن نكون كعدونا بله أحسن من عدونا. فإن أهملنا وفرطنا عصينا الله في هذا الحكم الإلهي وما أخذنا حذرنا.
وفوق هذا يا أبنائي! هل أخذنا حذرنا من أنفسنا ونحن منغمسون في معاصي الرحمن، في أبشع الذنوب وأقبحها وأسوئها؟ كيف نأخذ حذرنا من عدوٍ وما أخذنا حذرنا من عدوٍ في نفوسنا، إننا أولياء الله يجب أن نكون أطهاراً أصفياء أعزاء قادرين حكماء عالمين، يجب أن نكون أكمل الخلق، وذلك للإيمان الذي فضلنا الله به.
الثُبات: جمع ثبت، والثبت: الجماعة، سمها كتيبة، سمها سرية، سمها ما شئت.
انظر يا قائد المعركة الإيمانية! يا إمام المسلمين! مع ما أوتيت من علم وما عرفت من حال الكافر وعرفت من دياره وأهله .. بله وجبال دياره وسهولها أنت تعرف هل تزحفون كلكم أو ما يتطلب الموقف زحف الأمة كلها، ولكن جماعة بعد جماعة فيلق بعد فيلق، إذا انتهى يأتي من بعده الثاني، وهكذا حتى تلوح آيات النصر.
من علمنا هذا؟ الله تعالى، سبحان الله! مسألة عسكرية بحتة، إي نعم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:71]، أولاً خذوا حذركم من عدوكم، قالوا: هذا يتطلب أن يكون لنا جواسيس وعيون في بلاد الكافر الذي نريد أن نغزوه، لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم العيون والجواسيس في البلاد، كيف نأخذ الحذر؟ لا بد وأن نطلع على ما يجري في ديارهم نعرف محلات الصناعة، نعرف أماكن الجيوش، نعرف السهول والجبال وكيف نمشي مقدماً، هذا كله داخل تحت: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].
وقبل ذلك -كما قلنا- يجب أن يكون سلاحنا أمضى من سلاحه، وكلمة: (لا حذر مع القدر) ارم بها عرض الحائط، أمر الله بالحذر، الاحتياط الاحتراز العيون مفتوحة اليقظة كاملة.
خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ [النساء:71].
أي: جماعة بعد جماعة.
أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71].
هذا يعود إلى القيادة، إذا رأت أن الجيش كله يزحف لمواجهة جيش أعظم يزحف، وإذا ما رأت هذا تبعث فيلقاً بعد آخر وفئة بعد أخرى، وهكذا يفعل الرسول والمؤمنون.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل فعل المسلمون هذا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا، إن جيوشنا جلها لا يصلي، أو نحلف لكم بالله! الكثيرون يسبون الله ورسوله يسخطون، كيف نقاتل فيهم هؤلاء؟ كيف ننتصر؟ هل انتصرنا مع اليهود؟ كم معركة دخلناها معهم وخرجنا أذلاء منهزمين؟ لعل الشيخ واهم، عايشناها نحن من أربعين سنة، لم ننكسر ونذل ونهون؟ لأننا لسنا أولياء الله، ضعفنا في إيماننا واستقامتنا هو الذي سبب نكبتنا وهزيمتنا، علنا نفيق ونراجع الطريق من جديد، ولكن لا شيء، ما صدر أمراً -باستثناء هذه المملكة النورانية- إلى الجيش الفلاني أن يشهد الصلوات الخمس ما في، ما هناك حاجة إلى أن نفضح حالنا.
عندنا رسالة تحت الطبع: الأدواء، نيف وثلاثون داء عضال قاتل، والأمة الإسلامية تعيش في تلك الأدواء، أي داء ينفعها؟ وإن وجد الداء أين الطبيب الذي يداويها؟ وإن فرضنا وجود الدواء والطبيب هل أمة الإسلام مستعدة لتطرح بين يدي الطبيب ويعالجها؟
أعطيكم صورة عاجلة: على أهل كل قرية وعلى أهل كل حي من أحياء المدن من اليوم أن نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا، برهنة وتدليلاً على أننا عرفنا أننا مخطئون، وأننا في حاجة إلى توبة ربنا يتوب بها علينا، من إندونيسيا إلى موريتانيا أصبحت أمة الإسلام كلها في بيوت الله تبكي بين يدي الله، وتستمطر رحماته، وتطلب إنقاذه لها وإكماله للسعادة، وهنا لا يتطلب هذا مال أبداً ولا سلاح ولا خوف أبداً، فقط نصدق الله؛ فإذا أصبحت أمتنا تجتمع بنسائها وأطفالها في بيوت ربها ما بين المغرب والعشاء تتلقى الكتاب والحكمة وتزكي نفسها يوماً بعد يوم، والأنوار تلوح والهداية تغمر، وتختفي مظاهر غضب الله، فلا ربا ولا زنا، لا غش ولا خداع، لا كذب ولا نفاق، لا كبر ولا حسد، لا قساوة ولا جلف.. ولا ولا ولكن رقة ولين وطمأنينة، عام واحد يتغير نظام الكون، والله لأنظمة أوروبا تتغير! ما كانوا يعملون به في هذه الظروف يغيرونه، خرجت أمة الإسلام حييت ظهرت من جديد يغيرون حتى برامج التعليم، كثير من كتب السياسة التي يعلمونها يلغونها ما تنفع الآن، ظهر نور الله بالأرض، وما يكلفنا ذلك شيء، فقط دقت الساعة السادسة أوقف عملك وتطهر في بيتك أو في مكانك، واحمل امرأتك وأطفالك إلى بيت ربك تتعلمون الكتاب والحكمة، فتختفي بذلك المذهبية والقبلية والوطنية والعنصرية والحزبية، كل هذا ينتهي أمة جالسة في بيت الله مسلمون لا فرق بين أبيض وأسود، ولا تسأل ماذا يترتب عن هذا؟ تختفي مظاهر الشر والفساد نهائياً.
هل من طريق سوى هذا الطريق؟ هذا هو الدواء، أين الطبيب؟ العلماء، أين المرضى؟ نحن مستعدون لنطرح بين يدي الطبيب؟ إي نعم، إذا مالت الشمس إلى الغروب أخذنا نساءنا وأطفالنا وأتينا إلى بيت ربنا، النساء وراء الستارة والفحول أمامهن والأطفال بين أيديهم، وهم يتعلمون الكتاب والحكمة، الكتاب والحكمة؟ إي نعم، لا يمكنك أن تتصور أن علماً ينفع أكثر من علم الكتاب والسنة مستحيل.
إذاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71].
أي: من بينكم أيها المؤمنون.
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72].
ما معنى: يبطئ؟ يتباطأ، الجموع خرجت، المئات ماشية هو ما زال يغسل في ثيابه، أو يعد في سلاحه، هذا هو التبطئة، وقد يكون منافقاً أيضاً فيقول للجارية: خليهم يمشون، خليهم يموتون؛ لأن الآية هذه نزلت والنفاق في المدينة متوفر، والمنافقون موجودون من الأوس والخزرج واليهود، وما المراد بالمنافقين؟
المنافق الذي خاف على نفسه أو ماله أو داره ما يستطيع يهاجر، يعلن عن إسلامه بلسانه، ويصلي مع المسلمين وقلبه كله كفر بالله ورسوله، فكل من يبطن ويخفي الكفر في قلبه ويظهر الإسلام بلسانه وجوارحه فهو منافق.
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72]، ما معنى: يبطئ؟ نفسه حتى ما يخرج، وقد يبطئ غيره.. قريب من أقربائه.. صديق من أصدقائه: ما تمشي، ماذا نستفيد نحن، خلهم يموتوا، وأحلف بالله لو يقع في يوم من الأيام هذا بين المسلمين لوجد آلاف من يقول هذا بنفس الطابع، لم يا شيخ؟ أين الإيمان الحق؟ أين أنواره؟
ثم قال تعالى عنهم يخبرنا العليم بأحوالهم وبواطنهم وظواهرهم: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [النساء:72] أصابكم انكسار وانهزام وقتل في جيشكم، ماذا يقولون؟ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ [النساء:72].
أنعم الله علينا ما خرجنا معهم، لو خرجنا معهم كنا نموت كما ماتوا الحمد لله، استفدنا من التبطئة، أيقولون هذا؟ والله ليقولون.
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72].
أي: حاضراً معهم، يقول: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72] في المعركة، لو حضرت المعركة كنت تكسرت أو قتلت أو سلب مالي.
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:73].
انتصرتم.. غنمتم.. هزمتم العدو.. ارتفعت رايتكم وجئتم منتصرين، ماذا يقول؟
لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [النساء:73].
ما عرفكم ولا عرفتموه ولا صحبتموه أبداً، هذا التعديل الإلهي عجب، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [النساء:73] يقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73] أي: بالغنائم والسمعة والشهرة بالبطولات، سبحان الله العظيم! من يخبر بهذا؟ علام الغيوب خالق القلوب، أرأيتم صورة للهابطين من البشر وإلا لا؟ واضحة، إخوان خرجوا لدفع العدو أو قتاله وهم يتباطئون وما يخرجون، فإذا أصابت إخوانهم مصيبة فرحوا ولولوا، قالوا: الحمد لله ما كنا معكم، وإن أصابهم خير وغنيمة يا ليتنا خرجنا معهم فنفوز بالغنيمة والشهرة والسمعة. هذا علام الغيوب هو الذي يخبر بهذا.
اسمعوا الآيات مرة ثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71] حسب ما ترى القيادة العسكرية، وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72] أي: في الخروج، فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:72-73] غنيمة ونصر، لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [النساء:73] لا تعرفونه ولا يعرفوكم، يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73]، هذه هي الأخلاق الهابطة، هذه ثمار الكفر والنفاق والشرك والجهل بالرب تبارك وتعالى.
وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر