إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن إنكار رسالة البشر سنة عامة في كل الأمم، والاستهزاء بالرسل سنة بشرية لا تكاد تتخلف، ولذا وجب على الرسل وأتباعهم ومن جاء بعدهم من الدعاة الصبر على ذلك، أما طلب المكذبين والمعرضين بأن يكون الرسول ملكاً فما هو إلا إحدى ذرائعهم لعدم القبول والتصديق بما جاءهم من عند الله، وما جزاء من يفعل ذلك إلا الخزي وأن يصيبهم العذاب الذي كانوا ينكرونه ويستبعدونه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام، وأعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن هذه السورة تقرر المبادئ الثلاثة العظمى: التوحيد، والبعث الآخر، والنبوة المحمدية، إذ هذه هي عناصر الإيمان القوية، من ظفر بها فآمن بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث حق؛ فهذا حي وأصبح قادراً على النهوض بكل ما يكلفه الله ورسوله من فعل أو ترك، ومن فقد هذه العناصر فهو ميت، ومن فقد بعضها فهو ميت، ومن أصابه ريب فيها أو في بعضها فهو هالك.

    سورة الأنعام التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم تسبيح وزجل هؤلاء نزلوا مع هذه السورة المكية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أولها إلى آخرها وهي تقرر مبدأ لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا بد من لقاء الله والجزاء على الكسب في هذه الدنيا، الخير بالخير والشر بالشر.

    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث أو الأربع، ولنستمع إليها من مجودها؛ لعل قلوبنا تخشع ولعل أسماعنا تضطرب وتسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:7-10].

    وها نحن قد استمعنا إلى هذه الآيات الأربع من كتاب الله عز وجل، واخترت أن نسمعها مجودة مرتلة من أهل التجويد لتزداد نفوسنا شوقاً إليها، ويزداد نور علمنا معرفة بها، ولا بأس؛ لأننا مشغولون عن سماع التجويد في إذاعة القرآن وغيرها لأعمالنا، فقلنا: نقتبس هذه الدقائق نسمع فيها كتاب الله مجوداً مرتلاً علينا.

    قال عز وجل: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]، يخبر تعالى رسوله مصطفاه نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بحقيقة علمها الله وهي واقعة: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ [الأنعام:7] يا رسولنا كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7] والقرطاس: الورق، وقد يكون من جلد، وقد يكون من عظم، لكن المعروف القرطاس من هذه الكراريس.

    و(نزلناه) قد يدل هذا التضعيف على أن المراد أن ينزل في سلسلة من النور من السماء، ويتدلى حتى يصبح أهل مكة يلمسونه بأيديهم وهو معلق، وكذلك قد يكون المراد: نزلنا عليك كتاباً بواسطة الوحي، بواسطة ملك ينزل ويعطيك الكتاب مكتوباً، هؤلاء المتمردون المعاندون المشركون كانوا سيقولون ماذا؟ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7] كيف ينزل كتاب من السماء؟ كيف يتدلى من الملكوت الأعلى وتقولون: لمسناه بأيدينا؟ أنتم مسحورون، الرجل سحركم في أعينكم! لو نزل به ملك وقال: هذا كتاب الله إليك يا رسول الله، فعلم الناس وبلغهم؛ لقالوا كذلك: هذا سحر.

    من أخبر بهذا؟ إنه خالق قلوبهم، وموجد غرائزهم وطبائعهم، والله لقالوا هذا القول، وقد قالوا، أما قالوا: ساحر؟ أما قالوا: شاعر؟ أما قالوا: مجنون؟

    تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده بذكر حال الكفرة مع الوحي

    وفي هذا تسلية وتعزية لرسول الله ليصبر على دعوته، إنهم وراءه ينهشونه بألسنتهم، ويأكلونه بألسنتهم، ولا يقول قولاً إلا سخروا واستهزءوا، فلو لم يصبر لكان سيخرج من مكة ويتركهم، يونس عليه السلام ما استطاع، فر هرب، ولكن الحق عز وجل يحمله على الصبر والثبات بمثل هذه الآيات التي تسليه وتعزيه وتحمله على الصبر.

    وكان من حق الدعاة أن ينظروا إلى هذه الآيات أيضاً، ويصبروا على الضحك والاستهزاء والسخرية ورد الكلام وعدم قبوله، والانتقاد والطعن، ولا يزلزلهم ذلك أو يبعدهم عن دعوة الله، بل يسكتون عن ذلك متسلين متعزين بما عزى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وسلاه، إذ هذه الآيات خالدة وباقية، سر بقائها لينتفع بها المسلمون، ولو من باب الفرض: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7] الجواب: لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7] واضح بين، وإلا فكيف ينزل كتاب من السماء ونشاهده؟ أو كيف ينزل ملك ويأتي بكتاب؟ ما سمعنا بهذا ولا رأيناه. فإن حصل ورأوه قالوا: هذا سحر، لقد سحركم! مثل هذا لا يقع أبداً، وفيه حقيقة السحر، وهو أن الإنسان إذا سحر تنقلب الحقائق عنده، فيصبح يرى الباطل حقاً، حتى زوجه التي يحبها يراها عدواً له، وهي كذلك.

    ولهذا من لطائف هذا الدرس أن قلنا: لا يبعد أن يكون اليهود قد سحروا رؤساء العرب ومسئوليهم؛ لماذا؟ لأنهم يجتمعون معهم في الأمم المتحدة، ويسقونهم الشاهي أو الماء، أليس من الجائز أن يسحروهم؟ فيصبحون لا يسبونهم ولا يشتمونهم، ولا يعلنون الحرب عليهم! وهذا جائز جداً ومعقول؛ فاليهود هم أهل السحر، أول من عرف السحر اليهود، وهذا كتاب الله فاقرءوه، إذاً: فنستعيذ بالله من السحر، نعوذ بالله من السحر والسحرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون)

    وَقَالُوا [الأنعام:8] أي: هؤلاء الكافرون الجاحدون بحق الله تعالى بأن يعبد وحده في الأرض، وهم المشركون الكافرون بنبوة رسول الله، والمنكرون لها والجاحدون، المكذبون بوحي الله وشرعه، وما ينزل على رسوله من هذه القوانين المتعلقة بالقلوب والأبدان، هؤلاء في كل زمان ومكان يقفون هذا الموقف.

    وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8] هلا أنزل عليه ملك فنشاهد الملك ونؤمن؟ أما بدون أن ينزل ملك فلا نصدق أن الله أرسله أو نبأه؛ إذ كل واحد يدعي فيقول: أنا رسول الله أرسلني الله! فلا بد من ملك نشاهده.

    وهل يستطيعون أن يشاهدوا الملك؟ هل يقدرون؟ بل يذوبون ويتفتتون: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8] قال تعالى: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8] سنتنا مضت في الأمم السابقة، أن الشعب أو الجماعة أو الأمة إذا طالبت بالملك فإن الملك إذا نزل يبيدهم وينهي وجودهم؛ لأنهم تحدوا الله عز وجل، فإذا تحدوه وطالبوا بالتحدي أهلكهم الله عز وجل، كما أهلك عاداً في الجنوب، وثمود في الشمال، وقوم لوط وفرعون وقومه في الغرب.

    هذه سنته، إذا أنزل الله ملكاً متحدياً نسفهم وقضى على وجودهم، واسمعوا قوله تعالى: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8] ولا يمهلون ولا ساعة!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون)

    ثم قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام:9] لو نزلنا ملكاً من السماء فقال: أنا ملك، وقال الرسول: هذا ملك من عند ربنا، فهيا خذوا عنه؛ لقالوا: كيف نتفاهم مع الملائكة؟ ما نفهم لغتهم ولا يفهموننا ولا نتلاءم، ما نستطيع أن نجالس الملك من الملائكة، لِمَ لَمْ يجعله رجلاً نتفاهم معه ويفهم منا، هو منا ونحن منه، أما الملك فهذا لا يمكن أبداً ولا نؤمن بهذا.

    والله لو جعله ملكاً لقالوا هذا؛ لأنهم ما يريدون أن يتخلوا عن أباطيلهم وخرافاتهم وضلالاتهم ورقصهم وشطحهم وأكلهم وشربهم وباطلهم، ألفوا ذلك دهراً من الزمان، وتريد أنت أن تقلب وضعهم، فلا يقبلون، وهذا مجرب، فأين الآن الذين اعتادوا الباطل، أيستطيعون أن يستجيبوا لك بكلمة؟ كيف يتخلون عما هم عليه عشرات السنين؟! لا يقبلون.

    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام:9] إذ يقولون: ما فهمنا عنه، ولا يفهم عنا، استبدله برجل، ويبقى الأمر هكذا خبطاً وخبالاً والتباساً، فإن نزلنا ملكاً قالوا: ما فهمنا عنه، حوله إلى رجل، حولناه رجلاً فقالوا: نريد ملكاً، لماذا هذا؟ قولوا من أول مرة: لا نريد هذا الدين، لكنهم ورؤساؤهم يجادلون ويتبجحون ويقولون كذا وكذا، وإلا فالمفروض عقلاً أن يصرحوا ويقولوا: ما نريد ديناً، يكفينا دين آبائنا! حجاج عجيب هذا!

    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9] خلطنا عليهم ما يخلطون، فيا رسولنا! لا تكرب ولا تحزن ولا تأسف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون)

    وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10] ما أنت بأول رسول استهزئ به، استهزءوا بنوح عليه السلام، ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو بينهم يدعوهم، ويسخرون ويستهزئون ويكذبونه ويصفونه بصفات عجيبة، ويجعلون أصابعهم في آذانهم ويقولون: ما سمعنا. فكان يسر إليهم ويخفي كلامه ويجهر ويعلن فما استجابوا.

    وهود عليه السلام كم وقف بين عاد، أين عاد؟ في جنوب الجزيرة، ما بين الحيرة وحضرموت، هذه مناطقهم، حولها الله إلى جبال من الرمال.

    وصالح عليه السلام نصح ثمود فتبختروا وتعالوا وصنعوا العجب في الجبال والقصور وتفننوا، وبعث الله إليهم صالحًا ليهديهم إلى الحق ولينقذهم من النار، لينقذهم من الخبث والباطل، فاستهزءوا وسخروا وقالوا: إن هذا إلا بشر مثلنا، وقالوا: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر:24] مجنونون نحن إذاً! كيف نتبع هذا؟

    وأخيراً قالوا: إن كنت رسول الله كما تزعم فادع ربك يخرج لنا من هذا الجبل ناقة، فإن خرجت الناقة آمنا بك وكفى، ووالله ما آمنوا، ولو طالب المعاندون بكل حجة فإنه حين تأتي الحجة ينتكسون، فقام يصلي، وما زال يصلي ويدعو حتى تصدع الجبل وانشق، وخرجت منه ناقة عشراء يفزع المنظر إليها: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]، فالمورد الذي يسقون منه يخرج من الأرض، فلها هي يوم، ولكم أنتم يوم، فيوم الناقة تشرب فيه هي وفصيلها ذلك الماء كله، وفي اليوم الثاني هي صائمة وأهل البلاد يسقون، يملئون قربهم وآنيتهم.

    فاحتالوا عليها وقتلوها، سلطوا عليها قدار بن سالف عليه لعائن الله فعقرها، فأخذتهم الصيحة، أعطاهم الله أجلاً ثلاثة أيام: الأربعاء والخميس والجمعة، وفي صباح السبت أخذوا بصيحة واحدة.

    إذاً: هل نفعت الآية الآن؟ أما أعطاهم أعظم آية؟ ما نفعت، وهذا شاهد قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10].

    عدة الرسل

    والرسل: جمع رسول، وعدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت، وذلك حين هزم بنو إسرائيل وانكسروا وتمزقوا في البلاد، فطالبوا أحد أنبيائهم -وهو حزقيل- بأن يبعث فيهم ملكاً يقاتلون معه ويستردون بلادهم؟ فأعطاهم الله طالوت ، فردوه وقالوا: فقير وما عنده مال وكذا، كيف يحكمنا هذا؟ وشاء الله أن يقودهم وهم أربعون ألفاً، وامتحنهم عند نهر الأردن فقال لهم: إننا سنصل إلى نهر ماء، الذي يشرب منه ليس مني، وليعد، إلا من اغترف غرفة بيده فقط، فلما وصلوا إلى النهر -وهم جيش ماش على أرجلهم أو خيولهم- أكبوا يشربون، وامتلأت بطونهم، فقال: عودوا لا نقاتل بكم، واحتفظ بالعهد ووفى بالوعد ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، ومشى بهم ونصره الله، وبرز داود وقتل جالوت ، وانتصروا وعادت دولة بني إسرائيل على يد ثلاثمائة وأربعة عشر، وعلى عدة أهل بدر المؤمنين الذين قاتلوا المشركين فيها: ثلاثمائة وأربعة عشر، سبحان الله! توافقت العدة والعدد.

    الفرق بين النبي والرسول

    وما الفرق بين النبي والرسول؟

    الرسول: من أوحى الله إليه بشرع وأمره بإبلاغه، فأرسل إلى قومه أو إلى قوم آخرين أو إلى حيث شاء الله، هذا الرسول.

    والنبي: ينبئه الله ويخبره بالغيب وهو يعيش على رسالة من سبق، يعبد الله عز وجل بالشرع الذي أوحاه إلى رسول من رسل الله؛ فلهذا كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، قاعدة عامة: كل رسول نبي، إذ لا يرسل حتى ينبأ، ويخبر ويعلم، أليس كذلك؟ وليس كل نبي رسولاً.

    من صور الاستهزاء بالمتدينين وعاقبة المستهزئين

    وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ [الأنعام:10] ما معنى الاستهزاء؟ تعرفون صاحب الذقن واللحية، ما الذي يقولونه له؟ يقولون: يا مطوع.

    والأحسن ألا نحفظ كلمات الاستهزاء، حتى لا نقولها، والله ما استهزأنا بمخلوق قط، الاستهزاء والسخرية من أخلاق وطباع الهابطين اللاصقين في الأرض، أما أهل الأنوار الربانية فلا يستهزئون.

    وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10] الذي كان يستهزئون به؛ لأنه كان يخوفهم من العذاب فيسخرون من العذاب، ويذكرهم ويخوفهم من الله فيسخرون من الله! ذاك الذي يسخرون به يكون سبب دمارهم وهلاكهم.

    (فحاق): أحاط بهم من كل جانب، أي: الذي سخروا به وهو ما كانوا به يستهزئون، يستهزئون بالعذاب مستبعدين له كيف يقع؟! أو كيف يكون؟ فينزل بهم ويهلكهم الله به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)

    ثم قال تعالى لرسوله: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11] يا جماعة الشاكين المنكرين للوحي الإلهي والرسالة المحمدية! سيروا في الأرض شرقاً وغرباً ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]، وقد قلت: إن عاداً في الجنوب، وقد قال تعالى عنهم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ [الفجر:6-7] بدل منها إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]، كان طول أحدهم ستين ذراعاً، كما كان آدم عليه السلام! ولا تسأل عن البناء، فإذا كان الرجل ثلاثين متراً فغرفته كم ستكون؟! لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:8] ماذا حصل لهم؟

    قال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:6-7]، وإلى الآن الفلاحون أهل البادية في المغرب وفي الحجاز في المشرق عندهم ليلة يسمونها قَرة العجوز، أو قِرة العجوز، عجوز من عاد هربت إلى مغارة في أقصى جبل، دخلت لتنجو، وكانت الريح في اليوم الثامن كاللولب تدور في داخل الغار حتى وصلت وسحبتها ورمت بها على صخور الغار، وهذه الريح في ليلة قرة العجوز هي أشد برد في الشتاء أو في أول الربيع.

    ولما نجى الله هوداً عليه السلام والمؤمنين مشوا إلى الشمال، تركوا الجنوب بما فيه، ونزلوا بمدائن صالح هذه، ووجدوا أرضاً صالحة للزراعة والحياة فيها، فأنشئوا وعمروا وكثروا وأصبحوا أمة حضارية، وأخذوا يتملصون ويتخفون من العبادة، وظهر فيهم الشرك والخرافات كسائر الأمم، فبعث الله فيهم صالحاً، فنبأه وأرسله إليهم فقاوموا دعوته وسخروا: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، هداهم الله بتلك المعجزة، ولكن استحبوا العمى على الهداية، والضلال على الصواب.

    وأما قوم لوط فمكانهم تحول إلى بحيرة إلى اليوم، لا يوجد فيها سمك، ولا يعيش فيها أبداً، تحولت تلك المدن وتلك البيوت والمباني إلى أن أصبحت عبارة عن بحيرة، ونجى الله لوطاً وبنتيه عليهما السلام، وأهلك سائر قومه.

    وأما في مصر فأين فرعون؟ وأين جيوشه الجرارة؟ أغرقهم الله في البحر، ومع هذا تجادلون بالباطل وتستهزئون؟ هكذا يقول تعالى لرسوله: قُلْ [الأنعام:11] لهم: سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11] لعلكم تهتدون وتؤمنون.

    وفي هذا مشروعية زيارة مثل هذه البلاد، لكن لا على أن يضحكوا ويلهوا ويلعبوا فيها كحال بعض إخواننا، بل يقفون يبكون أو يتباكون كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كزيارة القبور التي تذكر بالآخرة.

    إذاً: مرة ثانية أسمعكم الآيات: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام:7-9] إذ قالوا: ما نفهم هذا الكلام، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:9-11]، إذا شككتم سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    إليكم هداية هذه الآيات، وراجعوا ما سمعتم.

    قال: [ أولاً: الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان، بل قد تكون سبباً للكفر والعناد ]، فالآيات التي يطلبها الناس والمعجزات والخوارق لا تفهم أنها تكون سبباً للإيمان، قد تزيد في كفر الكافرين؛ [ ولذا لم يستجب الله لقريش، ولم يعط رسوله ما طلبوه من الآيات ]، وقدمنا معجزة انشقاق القمر، فهل هناك أكثر من هذه؟ هذا القمر ينفلق فلقتين على جبل أبي قبيس، والعالم يشاهد ومع ذلك قالوا: سحر!

    [ ثانياً: إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم، وقالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:24] في آيات كثيرة، في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف؛ لعدم قدرة الإنسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم، ولو أنزل الله ملكاً رسولاً لقالوا: نريده بشراً مثلنا، ولحصل الخلط واللبس بذلك.

    ثالثاً: الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية ] طريقة بشرية [ لا تكاد تتخلف؛ ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك ].

    لما وصل العقبي إلى الجزائر كانوا -والله- يستهزئون، يقولون: هذا عقبيس، وهابي خامسي. ومن أراد أن يسمع فسيجد آلاف أهل المدينة يسخرون من أهل التوحيد ودعوتهم، وهذه سنة في البشر إلا من عصمهم الله، لا يحل لمؤمن أن يستهزئ أو يسخر، اسأل أهل العلم عما سمعت، اسأل هذا الذي سمعت منه ما سرك ولا آذاك، اسأله واستنطقه واسمع منه الحق والهدى، فقط لأنك تحافظ على بدعتك أو ضلالك أو فسقك ترد الدعوة وتنكرها، وتتهم أصحابها بكذا وكذا، حتى لا تتبعهم وتنقاد لهم؟! هذه طبيعة البشر.

    قلنا: [ الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف؛ ولذا وجب على الرسول وعلى الدعاة الصبر على ذلك ] وعدم الزعزعة، والثبات حتى يبلغوا دعوة الله، وينجي الله من أراد إنجاءه.

    [ رابعاً: عاقبة التكذيب والاستهزاء ] ما هي؟ [ هلاك المكذبين والمستهزئين ] والعاقبة: النهاية، وهل نسيتم أن الله أذل المسلمين وسلط عليهم الشرق والغرب أم لا؟ ما سبب ذلك؟ لقد أعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله وتمسكوا بمذاهبهم وآرائهم، فانقسمت كلمتهم وتمزق شملهم، وتركوا دين الله وعبدوا الأهواء والشياطين؛ فأراهم الله عجائب قدرته فسلط عليهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا حتى هولندا العجوز! ثلاثة عشر مليوناً سادوا مائة مليون من المسلمين! وهذا التكذيب الآن والاستهزاء بين المسلمين في عالمهم حلفت البارحة أن له آثاراً، وأزيد فأقول: لن تخطئ سنة الله، إما أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه، وتصبح إمامتهم واحدة، ودولتهم واحدة، وشرعهم وقانونهم واحداً، وكلهم رجل واحد، لا شرك ولا باطل ولا شر ولا خبث، وإلا فسوف تمضي بهم سنة الله، ما هي قضية عام أو عشرة، لن تتخلف سنن الله عز وجل.

    أوتظن الله يرضى بانقسامنا وسخريتنا بالإسلام؟ هل يرضيه تعالى هذا؟ من قال: أي نعم، قلنا له: لم لم يرضه لأجدادنا لما ملكهم الشرق والغرب وأذلوهم وأهانوهم؟

    [ خامساً: مشروعية زيارة القبور، للوقوف على مصير الإنسان ومآل أمره، فإن في ذلك ما يخفف شهوة الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها، وهو سبب الظلم والفساد ] في الأرض. من أين أخذنا هذا؟ دلت الآية عليه: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11].

    هذا كتاب الله فهل أقبلنا عليه؟ متى نقبل؟ لقد قلت -والله يعلم ويشهد، وسوف تذكرون هذا في قبوركم إن متم قبل الأحداث أو يوم القيامة، أو ستذكرونه وأنتم أحياء-: إن لم نرجع في صدق إلى الله، والطريق الوحيد الذي كتبنا به إلى علمائنا وإلى حكامنا هو أن يرجع أهل القرية إلى ربهم، فيجتمعون في مسجدهم الجامع من صلاة المغرب إلى العشاء كل ليلة طول العمر، نساؤهم وراء الستارة، وأطفالهم صفوف كالملائكة، والفحول أمامهم، ويتلقون الكتاب والحكمة، وكل حي من أحياء المدينة يوسعون جامع الحي حتى يتسع لكل أفرادهم نساء ورجالاً وأطفالاً، فإذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، لا مقهى ولا مصنع ولا دكان، ويتطهرون ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم ليبكوا بين يديه ويشكوا آلامهم إليه، ويتضرعوا له ليرفعهم وينقذهم.

    من المغرب إلى العشاء يتعلمون الكتاب والحكمة، فهل تبقى فرقة؟ هل يبقى خلاف؟ هل يبقى زنا أو لواط أو فجور أو كذب؟ والله لا يبقى.

    وها نحن نشاهد أبناءنا وشبيبتنا كيف تنتكس في كل مكان، والجرائم والموبقات في كل مكان، فما سبب هذا؟

    إنهم ما عرفوا الله، ولا عرفوا كيف يؤمنون به، فمن ينقذنا؟ هل أمريكا أو روسيا؟ من ينقذنا سوى الله عز وجل؟ كيف ينقذنا الله؟ ما الطريق؟ إنه الطريق الذي سلكه رسول الله في أمته.

    إن عمر وجاره رضي الله عنهما كانا يتقاسمان الزمن، ليلة يا عمر تكون أنت مع الرسول، وليلة أنا مع الرسول!

    فما أصاب الناس من الفتن كل هذا والله لن يزول إلا بالإيمان الصحيح، والمعرفة الحقة بالله عز وجل ومحابه ومساخطه.

    فأيما أسلوب، وأيما سلوك وأيما نظام لا يأتي من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل، وقد التحقنا باليهود والنصارى وتشبهنا بهم حتى في البرانيط على أطفالنا! وما زلنا هابطين، متى نرتفع؟ حين نعود إلى كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطريقة الوحيدة ما هي بالكتب ولا الكليات ولا الجامعات، الصدق أن نتلقى الكتاب والحكمة في المسجد؛ لنطبق على الفور ونعمل، لا للوظيفة ولا لهدف غير أن يعبد الله وحده! ومدارسكم حولوها إلى ما شئتم، ثم ما يزكي النفس ويهذب القلب والروح هو قال الله وقال رسوله، من أجل أن يرضى الله عز وجل ويكرم أولياءه.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797165