وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).
وها نحن ما زلنا مع الآيتين الكريمتين واللتين شرعنا في تفسيرهما الليلة الماضية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].
قال:[ شرح الكلمات.
(ليذر) معناه: ليترك.
(يمِيز) قال: بمعنى: يميِّز ويبين الفرق بين الشيء والآخر.
(الخبيث من الناس): من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي، وخبثت ضد طابت وطهرت.
(الطيب من الناس): من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح].
إذاً: النفس تخبث بالشرك والمعاصي، وتطيب وتطهر بالإيمان والعمل الصالح.
[(الغيب): ما غاب فلم يدرك بالحواس، لا بالسمع ولا بالبصر ولا بغيرهما، ذاك هو الغيب ما غاب عنك فلم تدركه بحواسك.
(يجتبي) أي: يختار ويصطفي وينتقي.
(يبخلون) معناها: يمنعون ويظنون. والمنع والظن هو البخل.
(يطوقون) أي: يجعل طوقاً في عنق أحدهم]. هذه هي المفردات.
قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث وقعة أحد -الوقعة والواقعة بمعنى واحد- وما لازمها -أي: تلك الواقعة- من ظروف وأحوال مرت بنا وعايشناها.
فأخبر تعالى في هذه الآية الأولى أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، ففيهم المؤمن الصادق في إيمانه، وفيهم الكاذب فيه وهو المنافق، -المجتمع كان خليطاً في أيام الهجرة إلى المدينة- بل لا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان بالتكاليف الشاقة، ومنها الجهاد والهجرة والصلاة والزكاة]، وهذه التكاليف فيها مشقة، ومشقة الجهاد واضحة، ومشقة الحج والهجرة أيضاً واضحة، ومشقة الصلاة في المحافظة على أوقاتها بتلك الدقة أيضاً مشقة.
[وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميِّز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح من المؤمن الكاذب، وهو المنافق الخبيث الروح].
قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وقد فعل. وأحداث وقعة أحد هي التي بينت.
قال: [وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميِّز المؤمن من المنافق والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد، أو ويظهر هو تعالى بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد.
إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء، فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] حق الإيمان، فإنكم إذا آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمن كان لكم بذلك أعظم الأجر وهو الجنة دار الخلود، دار الحبور والسرور]، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى [أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر عن خطأ البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فيقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [آل عمران:180] من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون، بل هو -أي: البخل- شر لهم؛ وذلك لسببين:
الأول: ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل، وآثاره السيئة على النفس.
والثاني: أن الله تعالى سيعذبهم به، بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم، أو بصورة ثعبان فيطوقهم، ويقول لصاحبه: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك -كما جاء في الحديث-؛ فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل، وأن ما يبخل به هو مال الله وسيرثه ويورثه غيره، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
إذاً: فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل الزائد؛ فإن ذلك خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون]. وهذا معنى الآيتين الكريمتين.
وقبل بيان هداية الآيات، نتأمل قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وهو حق وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] حتى تعرفوا المؤمن من المنافق، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] ويطلع من أراد منهم على غيب يعلمه، أما غير الرسل فلا حظ لهم في هذا الاختيار.
والخلاصة: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179].
ثانياً: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: الجنة دار الحبور والسرور.. اللهم اجعلنا من أهلها.
وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، وبين تعالى قال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
قال: [من هداية الآيات:
أولاً: من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب]، فالتكليف له حكم وليست حكمة واحدة، لكن من حكمه أن يظهر المؤمن بحق والمؤمن المزيف الكاذب.
فلولا التكليف الجزئي بفرضية الصلاة خمسة أوقات في أربع وعشرين ساعة وأن من تركها فقد كفر، ما عرفنا البار من الفاجر، والتقي من الآثم، وما عرفنا المؤمن من الكافر؛ لذلك فرض الله تعالى الصلاة ليميز المؤمن من الكافر.
ولولا أن الله أيضاً فرض الزكاة، وفرض النفقات في أوقاتها ما عرفنا المبذال المنفاق المتصدق من البخيل، فلابد وأن يتميز البخيل من المنفق السخي.
إذاً: من حكم التكليف الذي هو عبادة ألزمنا الله بها سواء بفعل ما نفعل أو بترك ما نترك.
[ثانياً: استئثار الرب تعالى -أي: اختصاصه دون غيره- بعلم الغيب دون خلقه -اللهم- إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك].
فالذي استأثر بالغيب واختص به هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، أما قال تعالى وقوله الحق: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فليس من شأنه عز وجل أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب إلا من يشاء، ولهذا -بالأمس- قررنا أن الذي يدعي علم الغيب كافر وطاغوت، ويجب قتله بعد استتابته ثلاثة أيام بإجماع الأمة.
لطيفة: فلو كنت -يا عبد الله- اطلعت على غيب لاستحيت أن تطلع الناس عليه؛ لأن الله ستره وغطاه ولن يطلع عليه غيره؛ لتنتظم الحياة وتواصل مسيرتها إلى نهايتها، فلو كنا نطلع على الغيب لوقفت الحياة.
فمثلاً: لو علموا الذين عزموا الليلة على السفر -وهم أكثر من مليوني شخص- أنه سيصيبهم مكروه لألغوا السفر.
مثلاً: إن كان أباك أو أخاك أو محبك يكتم عنك شيئاً ويخفيه وفيه خيرٌ لك ولا يطلعك عليه، ستساعده على ستر ذلك وتغطيته إن كنت الرشيد الحكيم.
وقد ادعى الغيب أناس.. وما زال هناك رجالاً ونساء بمئات الآلاف في العالم الإسلامي يدعون الغيب، ويأتون الناس إليهم ويقدمون لهم المال؛ ليطلعوهم على كذا وكذا، والسبب أنهم جهلة عاشوا في الظلام وماتوا فيه.
[ثالثاً: ثمن الجنة] فيا من يريد أن يشتري داراً في الجنة! ويا من يرغب في بستان في الجنة! ويا من يرغب في دار في الملكوت الأعلى! أقبل على الله.
إذاً: ثمن الجنة هو الإيمان وتقوى الرحمن؛ لقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: هذا الأجر العظيم يكون في الملكوت الأعلى وهو الجنة دار السلام.
إذاً: لطيفة أخرى: إن لم تكن ولياً لله فأنت ولي للشيطان عدو الله، فليس هناك وسط بين ذلك، فلا تقل: لست بولي الله ولا بولي الشيطان. فمستحيل هذا، إما أن توالي الله أو توالي الشيطان.
يعني: إما أن تطيع الله فأنت وليه أو تطيع الشيطان فأنت وليه، فالشيطان يأمر وينهى، فمن استجاب له فهو وليه.
فيا من يرغب في أن يصبح ولياً لله! آمن واتقي.. آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما يتم فيه، والقضاء والقدر وما يجري فيه، وبكل ما أمرك الله ورسوله أن تؤمن به. وهذا الإيمان وهو الثمن الأول للجنة.
قال: [التقوى وهي أن تتعلم ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، وتحب ما يحب وتفعله لله خالصاً، وتعرف ما يبغض الله ما يكره الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات وتكرهها وتتركها]، وهذا يعطيك صك بأنك ولي الله، وإذا شككت ارفع يديك في حاجة من حاجاتك واسأله قضاءها، تقضى بين يديك بإذن الله.
والآية دلت على هذا: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179]، والجنة يدخلها أولياء الرحمن.
وقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يسأل يقول: يا ربِّ! من أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فيجيب تعالى بنفسه قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، وكأن قائل يقول: ما هي علامات ذلك وإشاراته؟
الجواب: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، أي: بشرى الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له.
أي: منامة صالحة تراها تدلك على أنك ولي الله، فإذا لم ترها أنت يراها عبد صالح لك ويقصها عليك، وقد يأتيك من بلد إلى بلد ليبلغكها، فلأن تذهب من المدينة إلى الصين بالنفقة والتعب والسهر لتعلم هذه البشرى، فإن تعبك ونفقتك ومالك لا تساوي شيئاً مقابل هذه البشرى، وأعطيناها ونحن في أمن ورخاء ولا نحفظها ولا نبالي، وغداً نسأل عنها؟ فلا ندري، هاه.. لا ندري.
وهذه من مكايد الثالوث الأسود وهم المجوس واليهود والنصارى، وسبب تحولهم إلى ثعبان أسود أن المجوس من يوم أن سقط عرش كسرى وأعطاه عمر سراقة بن جعشم وألبسه على رأسه؛ تمثيلاً لبشرى النبي صلى الله عليه وسلم، تكون حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من الإسلام، ودليل ذلك عمر بن الخطاب قتله أبو لؤلؤة المجوسي في محراب رسول الله.
فاليهود ما إن أيسوا من حصول على خير في هذه الديار؛ لأنهم نزحوا من الشام على أمل أن النبي الخاتم نبي آخر الزمان إذا ظهر بين جبال فاران، وهاجر إلى المدينة ذات السبخة والنخيل، وهذه الصفات محفوظة عندهم في التوراة كما نحفظ نحن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فمن الضرب والتعذيب الذي يتلقونه من الروم والرومان نزحت طائفة منهم؛ انتظاراً للنبوة وهروباً من التعذيب.
إذ كان النصارى يقلون اليهودي في الزيت في قدر كبير يتسع لبعير، فيضعون فيه اليهودي وهم فرحون وصدورهم منشرحة؛ لاعتقادهم أن اليهود قتلوا وصلبوا إلههم، فهذا الفهم الهابط! انظر إلى أين تصل البشرية إذا فقدت نور الله عز وجل!
فاليهود هم الذين صلبوا المسيح وقتلوه، فكيف إذاً المسيحي يرضى عن يهودي، وهو قد قتل وصلب إلهه؟!
فلو أن شخصاً أراد أن يقتل نبيك فلن تنظر إليه.
فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة ) اغتاظ اليهود، وخافوا من أن يدخل اليهود كلهم في الإسلام، وخافوا من يفقدوا وجودهم، فأعلنوا الحرب على الإسلام وبدءوا، فقد حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
إذاً: فمن ثم بحثوا اليهود عمن يتعاونون معه، فوجدوا الحزب المجوسي، وحامل الراية الدعوة اليهودية عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني وهو من غلاة اليهود عربي اللسان؛ فاحتضن الحزب الوطني المجوسي، وما إن لاحت أنوار الإسلام في الغرب والشرق وانتهت إلى الأندلس حتى رفعت الصليبية رأسها؛ خوفاً من أن نور الإسلام سيغمر الدنيا، فبحثوا عمن يتعاونون فوجدوا اليهود والمجوس فتعانقوا، مع أنهم أعداء لبعضهم البعض وتعاونوا وتحابوا و.. و.. وإلى الآن في الظلام متعاونون على الإسلام؛ لأن الإسلام لا يريدونه؛ لأنه يسعد ويعز ويرفع إلى السماء ويُدخل الجنة، ولا طريق إلى ذلك إلا الإسلام.
فهم يريدون الحفاظ على مناصب وكراسي وسمعة وشهرة، واستعباد لإخوانهم وأوطانهم؛ فيبغضونهم في الإسلام ويعفنونه ويشوهونه.
وصورة سريعة: فقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار، عن شيخه الشيخ محمد عبده تغمدهما الله برحمته، يقول: كان الشيخ في باريس في فندق ولم يكن حينذاك حنفيات مياه في فرنسا، فطلب ماءً يتوضأ به في ساحة الفندق، ولما توضأ جاء طفل صغير وهو ابن لرئيسة الفندق جاء يحبو وأراد أن يمس الماء، فقالت له أمه بكلمة على لسانها: كخ كخ كخ، هذا توضأ به عربي وفيه جراثيم، الطفل صدق أمه، وقال: ماما جراثيم رآها في الماء. ومعنى عربي مسلم.
وما زالت المرأة الأوروبية إلى الآن تخوف طفلها إذا عمل باطل، تقول: عربي عربي عربي عند الباب!
فعملوا على تشويه الإسلام وقبحوه، وكم ضحكوا وسخروا عن تعدد الزوجات، فقد عدوها من الأباطيل، فهؤلاء مجانين وحمقى، فالله سبحانه وتعالى يشرع، وأنت الأحمق الجاهل تقول: لا، وتقول: أنا مؤمن، أين علمك؟! وأين فقهك؟! وأين بصيرتك؟!
وهذا هو الثالوث الأسود، فمن كيده ومكره أيضاً لما عجز في ميادين المعارك والجهاد والدماء، قال: إذاً نبحث عن طريقة إطفاء هذا النور.. لا بقوة السلاح فلا نقوى عليه، فقد فشلوا في كل معركة طيلة ثلاثمائة سنة، قالوا: نبحث عن سبب هذه القوة، وعن سبب هذا النور وهذه الهداية، فوجدوا ذلك في اثنين:
الأول: في القرآن الكريم، فما ارتفعت هذه الأمة ولا سامت ولا سادت إلا بنور القرآن، فاستطاعوا للأسف الشديد أن يحولوا القرآن إلى المقابر. أليس يقرأ القرآن الآن على الموتى؟!
فيا أبناء الإسلام! ماذا تريدون من قراءة القرآن على الميت؟! هل تريدون من الميت أن يقوم يصلي، ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟! وهل تريدون منه أيضاً أن يقوم ويعترف بحقوق الناس؟! فما الذي يفيده إذاً؟
فقط توبخونه لم ما فعلت؟ ولم ما فعلت؟ وانتشرت الخطة وأصبح العالم الإسلامي عرب وعجم إذا مات الميت وشيع إلى القبر يجمعون أهل القرآن، وأهل القرآن لا يملكون شيئاً فلا وظيفة لهم ولا شيء... ضيعوا أوقاتهم في حفظ القرآن الكريم؛ لأجل هذا القوت لا أقل ولا أكثر، فيستدعونهم في بعض الأموات ليلة واحدة إذا كان فقير، ثلاث ليال.. سبع .. إلى واحد وعشرين إذا كان الهالك ذا ثروة وغنى ومال.
فتجد عند باب المقبرة من يقرأ القرآن مقابل مبلغ من المال على قبر ما.
وهذا هو حال القرآن فلا يجتمع عليه اثنان في ظل شجرة أو جدار أو في منزل؛ ليتدبرها ويتفهم مراد الله من كلامه لهم. فمن منا قال لأخيه: اقرأ علي شيئاً من القرآن لنتدبره؟!
فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أنزل وكلف بتبيينه يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا
( ويقرأ عليه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] إلى أن ينتهي إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدمع وهو يقول: حسبك حسبك حسبك ).
انتقل الشيخ الطيب العقبي من هذه الديار إلى الديار الجزائرية خريج هذا المسجد، وهو مؤسس جريدة القبلة وبعده أم القرى، وهذا الذي مسح تاريخه العرب؛ لأنهم يكرهون التوحيد، فكان يلقي دروساً كهذه، ومن ثم ونحن في القرية نقرأ القرآن جاء عامي يشتغل في الميناء لا يعرف الألف من الباء يجلسني وأنا طفل وكان يقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، ويغمض عينيه ويدلي رأسه وأنا أقرأ. فـالعقبي حدثهم بحديث رسول الله، هذا الوحيد الذي يطلب منا أن نقرأ عليه القرآن. فقد أعرضت هذه الأمة عن القرآن إعراضاً كاملاً وماتت.
والثاني: الولاية، فولاية الله تعالى حصروها في الأموات لا في الأحياء، وقد قلت لكم وإلى الآن: لولا هذه الدعوة التي انتشرت من هذا المسجد.. فإذا ذهبت إلى القاهرة أو إلى دمشق أو إلى بغداد أو إلى كراتشي أو إلى اسطنبول أو إلى مراكش أو إلى تونس فأول من تلقاه في الطريق تقول له: أنا غريب جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء الله في هذه المدينة، والله! ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن تلك العاصمة ذات المليونين والثلاثة فيها ولي حي.
فقد حصروا الولاية في الأموات وسلبوها الأحياء؛ ليصبح المؤمن يزني بامرأة المؤمن -فوالله! إنهم ليزنون-. فلو كان يعرف أن هذا ولي الله فهل سيزني بامرأته؟! يفسد ما عليه ونحن نراه إذا مر بقبر الولي ترتعد فرائصه؟! كيف يزني بامرأة ولي؟!
ولو عرف أنه ولي هل سيسلب ماله، ويحتال عليه ويأكل ماله بالغش أو بالكذب؟! والله ما كان، ولو اعتقد أنه ولي فلن يسبه ولا يشتمه؟ فهل سمعتم جماعة ينتقدون عبد القادر ويسبونه؟! مستحيل.
مجالسنا كلها غيبة ونميمة وسب وشتم؛ لأنهم ما عرفوا من هم أولياء الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا من فعل الثالوث الأسود، وما زال يفعل العجائب، فهل كان يعقل بين العرب الجهال أن يسمح الفحل لامرأته أن تنظر إلى رجل وهو يرقص أمامها؟!
فوالله ما نرضى أن يسمع أصوات نسائنا حتى العبد الصالح.
فكيف إذاً بامرأتك وهذا المغني يرقص في التلفاز وأنت تضحك، فهذه الغيرة مسحها الثالوث. وهذا مجرد مثال فقط.
يبعث أحدهم امرأته تشتغل في البنك الفلاني في الدار الفلانية وتصافح الموظفين، فهل هذا كان في بال إنسان آدمي؟ والآن واقع وما حصلنا عليه، ونبكي ليل نهار، آه لو أجد وظيفة لامرأتي. فعل هذا الثالوث الأسود، وما زال يفعل.
رابعاً: [ البخل بالمال شر لصاحبه وليس بخير له كما يظن البخلاء ]، بالبخل بالمال وهو منع حقوق الله منه والحفاظ عليه، فصاحبه يظن أن هذا خير له وهو شر له، وقد قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180].
قال: خامساً: [من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة]، دل على ذلك قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] وآية سورة التوبة، وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقال لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].
هذه الآية -يا معاشر المؤمنين- هي التي جهزت غزاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى شرقوا وغربوا، فلم تكن هناك ميزانية ولا مال ولا ولا.. ولكن هذه الآية فقط يخرجون بأموالهم، فقد خرج أبا بكر بماله، وخرج عمر بنصف ماله.
والحمد لله فقد خرجنا بنصف المال مرة من المرات، فقد كانت هناك دعوة للجهاد في الجزائر؛ لأنه قتال كفار فرنسا، وحكومتنا الرشيدة فتحت الأبواب وأصبحنا نجمع المال من باب السلام إلى باب المجيدي كل جمعة، ضريبة على الطلاب في مدارس الابتدائية والمتوسطة ريال على كل طالب. وعند الجمع كان عندنا أربعمائة ريال خرجنا بنصفها، وقلنا: نجرب، مائتين ريال، وكان يومها راتب الأستاذ في الابتدائية ثمانين ريال.
والشاهد عندنا لتفهموا أنه ما كان عندهم بيوت ولا أموال، إذا نادى إمام المسلمين: الجهاد! المال! يخرجون من بيوتهم بأموالهم ويقرءون هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] .
قال: [ وحديث البخاري -يقول صلى الله عليه وسلم-: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤده زكاته مثل له شجاعاً أقرع ) ] والعياذ بالله، ثعبان شجاع أقرع؛ لأن الحية القرعاء كلها سم وسمها قاتل.
قال: [ ( له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه -أي: شدقيه- ويقول له: أنا مالك أنا كنزك ) ] وهو يعذبه ملايين السنين، ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: [ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر