أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وهانحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].
هما آيتان اثنتان، فهيا نكرر تلاوتهما ونتأمل معانيهما وما تحملانه من هدى ونور: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، هذا إخبار من الله تعالى، والمخاطبون بهذا الخطاب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة أحد وخاضوا معركتها، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم صبيحة السبت بألف مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع ابن أبي رئيس المنافقين بثلاثمائة منهم، فبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل من الأنصار والمهاجرين، وقد عسكروا بوادي أحد، وهمَّ رجال من بني حارثة وبني سلمة بالعودة أيضاً ولكن الله سلَّم، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، ثم بدأت المعركة واشتعلت نارها.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، أي: بالنصر.
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، والحس: القتل والقطع.
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: حتى إذا فشلتم عن قتال المشركين، ووجه الفشل هو أن الرماة -وعلى رأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه- الذين وضعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل المعروف الآن، وقال لهم: ( لا تبرحوا أماكنكم، انتصرنا أو انتصروا )، لما شاهدوا هزيمة الكفار، وأخذ المجاهدون يجمعون الغنائم، ما ثبتوا، بل اختلفوا ونزلوا من أماكنهم، ولم يبق إلا عبد الله بن جبير ومجموعة معه، ولما خلا الجبل من الرماة احتله خالد بن الوليد قائد خيل المشركين، فوقع المسلمون بين فكي المقراظ، ورجع المشركون لما شاهدوا الهزيمة قد نزلت بالمسلمين، وأن الرماة قد نزلوا من أماكنهم، وأن خالداً قد احتل الجبل، وأصبحت السهام والرماح تأتي على المسلمين من كل جانب، وهذا يدل عليه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: في القتال.
ثم قال تعالى: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، من هم الذين تنازعوا؟ الرماة، منهم من قال: إن المعركة قد انتهت، والمشركون قد انهزموا، فهيا بنا ننزل لجمع الغنائم، ومنهم من قال: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا ألا نبرح أماكننا كيف ما كانت الحال انتصاراً أو انهزاماً، وكان هذا هو التنازع في الأمر.
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، وهذا عائد إلى الرماة حيث عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا للمادة.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فالذين هبطوا من الجبل يريدون الدينار والدرهم والغنائم، والذين ثبتوا على الجبل ولم ينزلوا يريدون الآخرة.
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمران:152]، أي: عن المشركين.
لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، أي: ليختبر إيمانكم وصدقكم وثباتكم أو هزيمتكم.
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، أي: لولا عفوه لما ترك المشركون منكم أحداً، لكن الله صرف المشركين عنكم، ولو واصلوا قتالكم لانتهيتم، ولكنها منة الله تعالى عليكم.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152]، من أصحاب رسول الله، ومن أهل معركة أحد، بل وعلى كل المؤمنين إلى يوم القيامة، وإنه لذو فضل علينا أيها المستمعون والمستمعات! إن كنا مؤمنين، والله ذو فضل عظيم على المؤمنين، ولولا فضله أن من زلت به قدمه وعصى ربه أنزل به المحنة والكارثة ما بقي أحد، لكن فضله لا ينقضي على المؤمنين أبداً، وهو واضح وبيِّن.
اذكروا إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، يقال: أصعد في الأرض، إذا ذهب هارباً في الصعيد لا يلتفت إلى أحد.
ثم قال تعالى: وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، أي: ليس هناك من يلتفت إلى الوراء أبداً، بل إذا حصلت الهزيمة فالهروب في تلك الصحراء.
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [آل عمران:153]، أي: يقول: إليّ عباد الله، وذلك لما انهزموا وفروا؛ لأن إبليس صاح فيهم: لقد قتل محمد، وأشاعها المنافقون بين المسلمين، حتى قال من قال: هيا نلحق بـأبي سفيان ونعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، ومنهم من قال: توسطوا بـابن أبي ليأخذ لكم عهداً عند أبي سفيان، فكانت محنة ما مثلها محنة، وسببها معصية واحدة لا ثاني لها، ونحن غارقون في معصية الله والرسول! فهذه معصية واحدة فكيف بمن يعصي الله ليل نهار؟!
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، وأنتم شاردون هاربون في الصعيد.
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]،، فالغم الأول: الهزيمة، والغم الثاني: فقد الغنيمة، ولنا أن نقول: الغم الثاني: الهزيمة وفقد الغنيمة، والغم الثاني: سماعكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فأصابكم كرب لا حد له، وغم أعظم من ذلك الغم، وأعظم من فوت الغنيمة أو وجود جراحات أو قتلى بينهم.
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، لعلة: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من الغنائم، وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من القتل والجرح، وهذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فآمنا بالله وحده، فهو الذي سلط ابن قمئة -أقمأه الله- بأن جرح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سقوطه في حفرة من الحفر، فكسرت رباعيته، وسالت دماؤه، ثم صاح: قتلنا محمداً، إن هذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه.
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، فأعمالنا الباطنة كالظاهرة، والسرية كالعلنية، إذ كلها مكشوفة لله، فهو يعلمها أكثر مما نعلمها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، والملكوت كله بين يديه.
ما زال السياق ] أي: سياق الكلام الإلهي، [ في أحداث أحد ] أي: هذا الجبل الذي وراءنا، هذا الجبل الذي كان إذا لاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد خفَّ وأسرع، وقال: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، ومن تدبير الله أنه اشتق له اسم من اسمه، فقال: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهل تعرفون ماذا فعل أحد؟ قد يقول قائل: يا شيخ! لا تقل: فعل أحد، فأحد ليس عاقلاً حتى يفعل! فنقول لك: ما الفرق بينك وبين هذه الصخرة؟ إنها تنطق وتتكلم وتعبد الله مثلك، وكونك نطقت بالنسبة إليه وباقي المخلوقات كلها تعبد الله وتسبحه، فهو سبحانه الذي جعل عينيك في وجهك، ولسانك في فيك من أجل أن تنطق وتتكلم، وكل المخلوقات تسبح الله وتعبده.
ولما انتهت المعركة في آخر النهار زحف أبو القاسم مع بعض رجاله إلى الجبل وارتقوا فوقه، وليس في قمته وإنما في سفحه، ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد، ماد واضطرب الجبل من الفرح، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اسكن أحد، فإن عليك نبي )، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ( وصديق )، وهو أبو بكر الصديق، ( وشهيدان )، وهما: عمر وعثمان.
لا إله إلا الله! أبو بكر الصديق استشهد أو قتل في معركة تخلى عنها مع رسول الله؟! والله ما تخلى عن معركة قط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفيه وسام الصديقية، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا بكر لن يُستشهد في القتال، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف المؤمنون أبا بكر، وقاد الأمة سنتين ونصف، ثم توفي بمرض أصابه.
وقوله: ( وشهيدان )، من أخبر رسول الله أن عمر وعثمان سيستشهدان؟ الله، فلا إله إلا الله! هل شهيدان في معارك فارس والروم؟ أم في معارك أفريقيا والأندلس؟ إنهما شهيدان في بيتهما، فلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهذا عمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب ابنته أمنا حفصة رضي الله عنها وتقول: أيا أبتاه! كيف تجمع بين هذين: الشهادة في بلاد فارس والروم، والموت في المدينة؟! فيقول لها: اسكتي يا حفصة! إن الله على كل شيء قدير، وفعلاً استشهد في مدينة رسول الله وهو يصلي في ذاك المحراب الطاهر، فقد كان أبو لؤلؤة المجوسي يتربص به الدوائر، إذ إنه مبعوث من الحزب الوطني الفارسي المجوسي لينتقم من عمر الذي حول تلك الظلمة إلى نور، وأطفأ تلك النار التي كانت تُعبد مع العزيز الجبار، فتكوَّن حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من العرب والمسلمين وعلى رأسهم عمر، وأبو لؤلؤة المجوسي هذا كان مملوكاً لأحد أصحاب رسول الله وهو المغيرة بن شعبة، فكان يتربص بـعمر يوماً بعد يوم حتى أتيحت له الفرصة، فصلى يوماً وراء عمر، ولما سجد أو ركع أخرج رمحه وضربه، فصاح عمر فالتفت المؤمنون وهرب القاتل فألقوا القبض عليه، فأدى مهمته ولم يكن خائفاً من الموت، إنما المهم أن يموت عمر وينطفئ نور الإسلام.
هذا الحزب الوطني المجوسي إلى الآن ما زال يعمل على إطفاء نور الله عز وجل، وإقامة الدولة المجوسية الساسانية، فأيام كان الشاه على رأس الحكم أقام الشاه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على سقوط دولة الساسانيين، واحتفل بالذكرى كل السفارات والقنصليات، وشارك في ذلك العرب والمسلمون، وهم كالأغبياء ما يشعرون، فهل يُعقل أو يُقبل أن المسلمين يحتفلون بذكرى دولة المجوس؟! أسألكم بالله، لو أن جماعة في مكة قالوا: نحيي ذكرى موت عمرو بن هشام بطل بني مخزوم! فإنك ستقول: هل هؤلاء مسلمون؟! فكيف بهؤلاء الذين يحتفلون بذكرى مجوسي كافر؟! آه! ما زلنا في غفلتنا سائرون.
كتبت مرة كلمة في جريدة البلاغ الكويتية محذراً ومنبهاً ومذكراً ولكنا ميتون، وقلت: يا عرب الجزيرة! إنكم والله بين فكي مقراظ، اليهود من الغرب، والمجوس من الشرق، وما هي إلا سنوات توالت وإذا بحملة الشاه آية الله، أو الجمهورية الإسلامية الشرسة على المسلمين، ولولا أن الله أوقفها بالبعث العراقي لما اجتمعنا الليلة هنا، فهل هذه سياسة أو علم؟ ماذا تقولون؟ الغافلون يقولون: سياسة، فاتركنا من هذه السياسة.
والشاهد عندنا في استشهاد عمر رضي الله عنه: أن الله تعالى حقق له طلبه ورجاءه، فجمع له بين الموت في المدينة والشهادة في سبيل الله عز وجل.
وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه شهيد، فقد أخبر بشهادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علم من الله ليس بالهوى، وقد استشهد رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين- في بيته قريباً من مسجد رسول الله، والمصحف بين يديه حتى تلطخ بدمائه رضي الله عنه، والذي قتله هو الثالوث الأسود.
وبداية التكوين لهذا الثالوث هم المجوس، وذلك لما سقط عرش كسرى وانهارت المجوسية وانطفأت نارها على أيدي عمر، إذ أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم، وذلك في حادثة تاريخية مشهورة وهي: لما صدر حكم قريش بالإجماع على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ويسَّر الله الهرب لرسوله فهرب مع الصديق، فأعلنت قريش عن جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي برأس محمد رسول الله، فأخذ سراقة بن جعشم رضي الله عنه البطل الفارس الخريت الذي يعرف الأرض في البحث، وقال: قد أتيحت لنا الفرصة، وأخذ يتتبع الآثار حتى عرف الطريق الذي سلكه خريت أبي بكر الصديق؛ إذ اتخذوا خريتاً خاصاً يمشي أمامهم ليتجنبوا طرق العرب، ولما وصل سراقة بن جعشم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذا بالفرس تغوص رجلاه في الأرض، فيتعجب سراقة بن جعشم من ذلك، إذ إن الأرض صلبة فكيف يحصل هذا؟! ويقفز من على الفرس فيمشي على رجليه فيسقط، فلا إله إلا الله! فالتفت إليه رسول الله وهو يبتسم فقال له: يا سراقة! كيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟! فأين كسرى؟ وأين تاج كسرى؟ والرسول هارب من مكة والإعدام قد صدر عليه، فكيف هذا؟! وأي حلم وأي منام هذا؟! فرجع سراقة وأسلم، ثم تمضي الأعوام ويفتح عمر برجاله ديار فارس، فيأخذ التاج ويضعه على رأس سراقة بن جعشم تحقيقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الثالوث الأسود بدأ بالحزب الوطني الذي يعمل في الظلام إلى اليوم، وقد انضم إلى ذلك اليهود، هؤلاء اليهود الذين أجلاهم عمر تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة )، والنفي هنا في الحديث أبلغ من النهي، فلا يجتمع دينان في الجزيرة؛ لأن الجزيرة قبة الإسلام وبيضته، ووراءها الدنيا والعالم، لكن هذه القبة لا تُظلل رايتين، ولا يمكن أن يوجد فيها دينان، ولذلك أجلاهم عمر، فاغتاظوا وكربوا وحزنوا، ففكروا وبحثوا عمن يتعاونون معهم ضد الإسلام والمسلمين، فوجدوا الحزب الوطني المجوسي فتعانقوا.
ولما انتشرت الفتوحات على يد عثمان وتجاوزت أفريقيا ووصلوا إلى غرب أوروبا في الأندلس، اضطربت نفوس النصارى وفزعوا، وقالوا: إن هذا النور سوف يقضي علينا، فبحثوا عمن يتعاونون معهم، ومن يعينهم ضد الإسلام والمسلمين، فعثروا على المجوس واليهود فتعانقوا، وإلى الآن والله هم متعاونون، فلا يريدون أبداً أن يسعد المسلمون ويشقون هم، إذ إنهم عرفوا أن الإسلام هو الحق، وأن أهله هم السعداء أهل دار السلام، فكيف نسمح لهم بهذا ونحرم نحن؟ فذهبوا إلى مصر وعلى رأسهم ذاك اليهودي الصنعاني اليمني عبد الله بن سبأ، فهيج المصريين، وشاع بأن هذا الخليفة الثالث ينفق الأموال على أقربائه، وأن الوظائف يوزعها على أهله وأقربائه من بني أمية، كما هو عادة الهابطين إلى الآن وإلى بعد الآن، ثم ذهب إلى الشرق ففعل مثل ذلك، فجاءت خيولهم للقضاء على خليفة المسلمين، وما كان من أصحاب رسول الله إلا أن بكوا، كيف يريقون ويسيلون الدماء في عاصمة الإسلام؟! فحاولوا دفع ذلك الشر وما استطاعوا، فهذا علي وضع أبناءه على باب عثمان لحمايته، لكن ينفذ أمر الله فيُقتل عثمان رضي الله عنه، ومن ثم أصابت العالم الإسلامي زلزلة عظيمة، واضطربت النفوس وبدأت الفتنة إلى الآن ولم تنته بعد.
إذاً: فشلوا في هذا، وبالتالي فماذا يصنعون؟ قالوا: هناك حيلة واحدة وهي أن نصرفهم عن تلاوة القرآن ودراسته وتدبره فقط، ثم بعد ذلك يموتون، فوضعوا قاعدة للتفسير فقالوا -من أراد أن يقرأها فعليه بحاشية الحطاب على شرح خليل بن إسحاق-: تفسير القرآن خطأ، وخطؤه كفر، وبالتالي ألجموا المسلمين، فلا يوجد من يقول: قال الله، وإذا مروا بك تفسر آية فإنهم يغلقون آذانهم ويمشون مسرعين خشية أن تسقط عليهم صواعق، ويقولون: تفسير القرآن خطأ وإثم وذنب عظيم، وهذا صوابه، ففسره مصيباً غير مخطئ، وإن أخطأ فقد كفر، وبالتالي فصوابه خطأ وخطأه كفر، إذاً ماذا يصنع المسلمون بالقرآن؟ قالوا: يُقرأ على الموتى في المقابر، فتدخل المقبرة وتجلس وأنت طالب قرآن فتأتيك العجوز: هذا ولدي اقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتضع في جيبك عشرة ريالات، وآخر يأتي ويقول: هذا قبر أبي فاقرأ عليه شيئاً من القرآن، ويعطيك مالاً مقابل ذلك، وهذا في المقابر، وإلا فالأصل في المنازل وفي البيوت، فإذا مات الميت فلا بد من عشاء يسمونه: عشاء الميت، فيجمعون عشرة أو خمسة عشر من أهل القرآن، حسب طاقتهم وقدرتهم غنىً وفقراً، ويقرءون القرآن وهم يضحكون والميت بين أيديهم! وأنا قد رأيت هذا بعيني، ويأكلون بعد ذلك الرز وغيره ثلاثة أيام إذا كانت حالته فقيرة، وإن كانت حالته واسعة فسبعة أيام أو واحداً وعشرين يوماً؛ وذلك ليدخلوه الجنة بقراءة القرآن!
بل إذا ماتت البغية في دار البغاء، فيؤتى بطلبة القرآن وأهل القرآن فيقرءون القرآن على البغية الزانية في دار البغاء، فإن قلت: كيف هذا؟! جوابنا: هل حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا أو لا؟ هل استعمرونا أو لا؟ لقد أذلونا وأهانونا، ولو كنا أحياء فأنى لهم ذلك؟ بعدما متنا استُعمرت دياركم من إندونيسيا إلى بريطانيا، باستثناء هذه البقعة فقط؛ لأن الله أراد حمايتها كرامة لبلد رسوله وبلده.
كما قد بلغنا في بلد كبير من بلاد المسلمين أن هناك نقابة عملها أنه إذا توفي لك شخص اتصلت بها، فقالوا لك: مرحباً فلان، هل توفي والدك أو توفي عمك؟ هل تريد من فئة مائة ليرة أو خمسين؟ فإن كان الميت غنياً يقول: من فئة المائة، فيبعث له عشرين طالباً يأخذون مائة ليرة في الليلة، وإن كان الميت فقيراً يقول: من فئة الخمسين فقط أو عشرين ليرة، فحوِّل القرآن إلى الموتى، وما بقي من يعي ويفهم ويتدبر ويتأمل، وماتت أمة القرآن.
وأما السنة النبوية فمن أجل الحفاظ على المذاهب، يسأل أحدهم: أنت حنبلي؟ فيغضب، وأنت؟ أنا مالكي، وأنت؟ حنفي، وهذا شافعي، ونفخوا في هذه الفتنة فأصبح أهل السنة والجماعة -دعنا من الخوارج والروافض والهابطين-كأنهم أعداء إلى عهد قريب، وفي بداية وجودي هنا كان يأتيني الحاج فيقول لي: أنا شافعي، وقد غطيت رأسي أو فعلت كذا، فما يلزمني؟ فأقول له: لا تقل: أنا شافعي، بل قل: أنا مسلم، كذلك يأتيني أخ فيقول لي: أنا حنفي، فماذا أصنع وقد أحرمت من كذا وكذا؟ فأقول له: قل: أنا مسلم، وخص ذلك الأمر لأمور أرادها الله تعالى، وإلا أصبح المسلمون أعداء وخصوماً لبعضهم البعض، وتم هذا على يد الثالوث الأسود.
كما أن السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والضعيف والصحيح، وهؤلاء يقولون: دعنا من السنة، يكفينا كتب الفقه، هذه المصنفات قد مضى عليها أكثر من ثمانمائة سنة، فلو تقدم إليهم منهاج المسلم الذي تعرفونه والله ما يقرؤه أحد، وإنما يتصفحه أحدهم فيقول: أنا شافعي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله المالكي فيقول: أنا مالكي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله الحنبلي فيقول: هذا ليس بمذهبنا، وكذلك الحنفي فيحطه على الرف، ولا يستفيد منه شيئاً، لكن الحمد لله شاء الله أن تتقارب أمة الإسلام، وأصبحت القضية ليست قضية مذهب، وإنما قضية كيف يحبنا الله وينزلنا بجواره؟
فنعبد الله بما شرع وبين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شافعية ولا حنبلية تمنعنا من أن نعبد الله عز وجل.
وللأسف أن السنة في ديارنا الجزائرية يجتمعون لها في رمضان حول المحراب، ويحضر علماء يقرءون كتاب البخاري للبركة فقط، وقد مضت سنون عل ذلك، وهاجرنا ووجدنا هذا والله في المدينة في الروضة، إذ يجتمع جماعة من أعيان البلاد وأفاضلهم فيقرءون كتاب البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً بالحلال أو الحرام، وهذا كله من فعل الثالوث الأسود، إذ إنه يريد منا أن نبقى تحت أقدامهم، وأن نرضخ تحت أوامرهم، وكلما فررنا من جهة أصابونا بأخرى، فجاءوا لنا بالفيديو والتلفاز والدش والأغاني، فهبطوا ببيوت المسلمين وأظلموها، وطردوا الملائكة منها، وتركوا الشياطين تغني فيها، فقست القلوب وظهرت الفاحشة وما زالوا يوقدون نارها، فإذا تخلصنا منها يأتون بأخرى، فإما أن نكون يقظين ربانيين كلما كادوا كيداً دسناه بنعالنا حتى يفشلوا وينهزموا، وإما فسيظلون يطفئون نور الإيمان في قلوبنا ليسودوا ويحكموا ويقودوا، فاذكروا هذا ولا تنسوه معاشر المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر