وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة كسابقتها واللاحقة بها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.
وأعيد إلى أذهانكم - فتح الله علي وعليكم - تلاوة الآيات التي درسناها بالأمس، ولنستحضر ما علمناه منها وما فتح الله به علينا فيها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].
تذكرون أن مريم استبشرت لما بشرت فقالت: رب كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ تريد أن تعرف السر أو السبب أو العلة، ومن هنا يجوز الاستفسار عن الأمر المجهول، قالت رب أي: يا رب، أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، أي: بالمجامعة ولا بغيرها، ومن آية سورتها عليها السلام: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، وجمع البغي: بغايا، وهن الزواني والعياذ بالله.
والشاهد عندنا في استفسارها أنها ليست منكرة لما أمر الله وقال، ولكن تريد أن تعرف السر؛ لأنه خارج عن سنن الله، سنة الله في الولادة أن يجامع الفحل امرأته، وهذه ما مسها بشر، فكيف؟ لها الحق أن تسأل هذا السؤال، وكان جواب الله: الله يخلق ما يشاء.
وقد ذكرنا بالأمس تلك اللطيفة، فعرفنا أن الله خلق مخلوقاً من غير أب ولا أم، من هو هذا؟
هو آدم عليه الصلاة والسلام، ما له أم ولا أب، وهناك من خلق من أب وبدون أم، وهي حواء أم البشر خلقها الله من الذكر من آدم من ضلعه الأعوج، وهناك من خلق من أم بدون أب، وهو عيسى المسيح عليه السلام، وخلق من أب وأم سائر البشر.
هذه سنته في خلقه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً وحكم به يقول له: كن فيكون، ما يحتاج إلى وسائط أو أسباب أو وسائل أبداً، وما كان من الأشياء التي توجد بالأسباب والسنن فلها ذلك، أما وإذا أراد شيئاً فبكلمة (كن) يكون، كما قال لعيسى: كن فكان، ساعة واحدة وأخذها الطلق ولجأت إلى النخلة.
وثانياً: [وأنه من المقربين] بشهادة الله، أخبر الله تعالى: أن عيسى من المقربين، لو يصل إلينا خبر نحن بهذا فسنسجد ونبكي ساعات ولو برؤيا منامية من الصالحين، أما عيسى فالله تعالى أخبر أنه من المقربين.
أربعة فقط: شاهد يوسف لما حصل النزاع بين امرأة العزيز وبين يوسف وهرب وجذبته من ثوبه ومزقته وما أراد أن يصفعها، وحضر السيد، وكان رضيع في يد إحدى النساء فنطق وقال: يوسف مظلوم ظلمته زليخا ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].
هذا الغلام شهد بهذه الشهادة وفصل في هذه القضية وهو يرضع.
الثاني: صاحب جريج الذي اتهمته المومس وأبوه راع فجر بها، فلما قال له جريج: من أبوك؟ نطق الغلام وقال: أبي فلان، وبرأ الله وليه جريجاً .
الرابع: مرة من المرات مؤمنة تحمل طفلها في يدها وترضعه، فمر بين يديها رجل فارس على أجمل ما يكون من الخيول والهيئة، فقالت: أي رب! اجعل ولدي مثل هذا، فنطق الولد وقال: اللهم لا تجعلني مثله.
من أنطقه؟ الله عز وجل، الذي أنطقنا ونحن كالأخشاب، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
أخذنا هذا من قولها: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران:47]، كيف يكون لي ولد؟
الجهل أولاً، والتقليد من بعضهم لبعض ثانياً، والتغرير والتضليل من العلماء الذين يعيشون على حساب هذه العقيدة الباطلة.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ، المراد من الكتاب هنا: الكتابة، يعرف الكتابة، كان يكتب على القرطاس بالقلم، ولهذا فضل الكتابة معروف، إذا كنت كاتباً تكتب حقاً والخير فأنت من خيرة الناس، وإن كنت تكتب الباطل والشر والظلم فأنت من أسوأ الناس.
قال: وَالْحِكْمَةَ ، يعلمه الحكمة، يصبح حكيماً فيما يقول ويقضي ويفكر ويعمل، دائماً مصيب في كل ما يريده، ويعلمه التوراة أيضاً التي نزلت على موسى عليه السلام وهي في أيدي بني إسرائيل، وكذلك يعلمه إياها ويفهمه معناها ويصبح أهلاً لها، ويعلمه الإنجيل بعد ذلك.
هذه الأخبار هل يستطيع أن يقولها آدمي، ماذا في قماطته، ويخبر الله تعالى أنه سوف يكون منه كذا وكذا، وفعل الله ذلك كله، علمه الكتاب والحكمة والتوراة وأنزل عليه الإنجيل.
وأما إنجيل برنابا فقالوا: هذا مغشوش. هذا مذهب وهّابي أيضاً كما يقول العرب الهابطون، فروا منه لأن فيه التوحيد، ما يقبلونه، وأنتم تذكرون أن وفد نجران هو الذي بسببه نزلت هذه الآيات، ستون راكباً جاءوا ليجادلوا رسول الله في الباطل في شأن عيسى، تعالوا نسمعكم تاريخه، من جدته حنة إلى أمه مريم بهذا التفصيل.
وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:73-75]، الذي يأكل الطعام يبول ويتغوط،فكيف يكون إلهًا؟! إلهك تجده في الحمام يبول، أهذا إله؟! كيف يعقل هذا الكلام؟
ما قال مثلما قلت أنا البول والتغوط، نحن شرحنا، وإلا فالمقصود أن هذا الذي يأكل الطعام ويفرز البول أيصلح للإلهية؟ أين يذهب بعقلك.
وفي هذا يذكر أن أحد الأعراب - والأعراب كانوا ممتازين في الذكاء - كان له صنم يعبده بين جبلين في مكان، فجاءه يوماً ليتقرب إليه ويتمسح وإذا بثعلب رفع رجله اليسرى أو اليمنى على كتف الصنم يبول عليه، فهذا العربي دهش: أنا جئت من مكان بعيد؛ لأستفيد من هذا الإله والثعلب يبول عليه فكيف يفيدني؟ فقال بيتاً من الشعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وتركه فلم يرجع إليه أبداً.
وذات مرة توفي ابن لمؤمنة وليس لها سواه، وبينما هم يمشون به إلى المقبرة وهو على النعش فقالت: يا روح الله! ادع الله لي ليحيي لي ولدي، فدعا له وقال: يا فلان! قال: نعم، فوضعوه فلف الكفن وعاد مع أمه.
وقالوا: اخلق لنا من الطين كهيئة الطير وانفخ فيها حتى تطير وبذلك نؤمن لك، واشترطوا أن يكون هذا المخلوق من الخفاش، والخفاش من أعجب المخلوقات؛ أولاً: لا يرى في الظلام ولا في الضياء، هناك حيوانات ترى في الظلام ولا ترى في الضياء، هو بالعكس، لا يرى في الظلام ولا في الضياء، يرى قبل طلوع الشمس بساعة وبعد غروبها بساعة، وبعدها ما يرى شيئاً.
ثانياً: هذا المخلوق مخلوق من لحم وعظم ودم وليس فيه ريش أبداً ويطير، يطير بدون ريش، وأغرب منه أن أنثاه تحيض كما يحيض النساء، وفيها لبن فترضع أولادها بلبنها، عجب هذا المخلوق، وبالفعل جيء بالطين وصنع منه خفاشاً ونفخ فيه فطار، فقالوا: ساحر.
العامة عندنا يقولون: من لم يرد أن يتصدق يقول: مال اليتامى، هو يحمل الرطب على ظهره، فيقول له المسكين: أعطيني حفنة رطب، فيقول: لا؛ هذا مال اليتامى، ما يريدون أن يؤمنوا فقالوا: سحر ساحر، كيف يطير هذا!
وهذا يدلنا على وضعية البشر وما فطروا عليه إذا لم ينقوا ويهذبوا ويطهروا ويزكوا، هذه كل أحوالهم، يكذبون ويردون الحق ويتجاهلون، هذه غرائزهم وفطرهم، فإن هم هذبوا وطهروا وسلموا أصبحوا كالملائكة، أما مع الجهل فهذه هي أحوالهم، بنو إسرائيل كانوا أرقى من العرب اليوم؛ لأن الدنيا كلما يجيء عام أسوأ من الأول، ومع هذا كذبوا عيسى عليه السلام بعد تلك الآيات.
ثانياً: وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ [آل عمران:49]، الأكمه: الذي ولد أعمى لا عين له مطموس العين، لو كان مرض بعينيه وعالجه فممكن أن يشفى، لو كانت العينان فيهما بياض فهذا أسهل، لكن ولد لا يبصر، وبالفعل يدعو الله تعالى فيعود إليه بصره.
والبرص: مرض معروف أعيا الأطباء إلى اليوم، منذ أن بدأ البرص إلى الآن ما عرف الطب ماذا يصنع، البرص: أن يتحول جلد الإنسان إلى لون أبيض، هو أسود ويصبح جلده أبيض كالثوب، هذا البرص، فيمسح عليه بيده فيذهب البرص، فأية آية أعظم من هذه؟ هل آمنوا به؟ قتلوه، تآمروا على قتله وصلبوا من تمثل به.
والمفروض أنهم يؤمنون كلهم نساؤهم ورجالهم؛ لأن هذه الآية بين أيديهم ما هي وهمية: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، حتى لو كانت بيضة ادخرتها لابنها يقول: ادخرت البيضة الفلانية لولدك، ولكن من لم يشأ الله هدايته فوالله لا يهتدي، ما آمنوا، بل طردوا أتباعه الحواريين وأبعدوهم من البلاد فلجئوا إلى الجبال، هؤلاء من هم؟ ما زالوا على أشد ما يكونوا مكراً وخديعة، إلا أن لهم بعض الأساليب أحسن من أساليب العروبة الهابطة وأذكى.
قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49] إن كنتم مؤمنين بالله ولقائه، بالله ورسله، بالله وكتبه، بالله ووعده ووعيده، بالله وقدرته ورحمته وحكمته، لما لا تؤمنون بهذه؟ أية آية أوضح من هذه الآية؟ يخبر أهل القرية بما يأكلونه وما يدخرون، ما كان معهم ولا أكل معهم ولا يخطئ ولا يكذب أبداً، لو لم يكن رسول الله فكيف يخبر بهذا، الساحر والله ما يستطيع ولا يقدر على هذا، لكن ضعف إيمانهم هو الذي أدى بهم إلى التكذيب، فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ، فوالله لو كانوا مؤمنين بحق لكانت تنشرح صدورهم وتطيب نفوسهم لهذه الآيات الإلهية، لكن المرض متأصل، ما هم بالمؤمنين الصادقين في إيمانهم.
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، أي: من أحكامها في الحلال والحرام والشرائع والقوانين؛ لأنه كتاب إلهي، وإن دخله النقص والزيادة، لكن الأصل هو التوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وبين موسى وعيسى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، ما السر في هذه؟ لو كان دجالاً أو ساحراً أو يريد دولة أو يريد منصبًا فلن يوافق ما في التوراة أبداً، يأتي بما يخالقها ويناقضها، لكن كون ما أدعو إليه وأقوم به وتلبست به كله كما في التوراة؛ إذاً أنا من أنبياء الله ورسله، أوما تفطنتم لقوله: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]؟ لو كان ما جاء به يتنافى معها لسهل أن يقال: كذاب ودجال، لو يأتي الآن واحد منا يدعي الولاية أو النبوة ويناقض ما في القرآن فهل هناك من يقبله؟ لا أحد، لكن لو دعا بدعوى وجدناها في القرآن نقبله، ولهذا قبلنا الدعاة الصالحين، لأنهم لا يناقضون ما في كتاب الله، بل يؤيدونه ويعبرون عنه ويدعون إليه، فلو تناقض داعي بدعوة ما مع القرآن فقوله مرفوض، أليس كذلك؟
إذاً: فنعمة معناها: نِعم، كذلك: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ [آل عمران:50]، عشرات ومئات الآيات، فـ(آية) اسم جنس، كـ(نعمة) كما قلت لكم، هل نعمة الله واحدة؟ نعمة السمع، البصر، العلم.. نِعَم، قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، هل يفهم العربي أن الواحد لا يحصى؟
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50]، أي: بناء على هذا ما بقي لكم إلا أن تتقوا الله عز وجل، ولا تخرجوا عن أمره، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه؛ لأني رسول الله إليكم؛ أقودكم إلى شواطئ السلامة والسعادة، وطاعة الرسول واجبة أم لا؟ إذا لم يطع فكيف يعلم، كيف يهتدي الناس؟ إذاً: أمرهم بتقوى الله عز وجل، أي: خافوا ربكم أن ينتقم منكم، أن ينزل بكم بلاء أو شقاء، أو يعذبكم.
إذاً: فآمنوا بأني رسول الله إليكم وأطيعوني لأني أقول لكم: افعلوا كذا فافعلوا، ولا تفعلوا كذا فلا تفعلوا، فإذا لم تطيعوني فلن ينفعكم إيمانكم وتقواكم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50].
العبادة: هي الطاعة، وعندنا: فلان عبد لفلان، أي: يخدمه ويطيعه، إذا قال: الزم الباب يلزم الباب، إذا قال: امش نم ينام، أطاع، فالطاعة: هي فعل الأمر واجتناب النهي، إذا أمرك سيدك بأن تقول قل، فإن قلت: لا أقول عصيته، وأصبحت تساويه، قال سيدك: افعل قلت: ما نفعل؛ ما أنت بعبد، ما عبدته ما أطعته، لكن ليس مجرد الطاعة يتحقق فيها معنى العبادة.
هل تعرفون الطريق المعبد؟ هو طريق الصحراء ذو الأشواك والحفر والتراب والرمل يأتي المسئول يعبده بالآلاف ليذل ويسكن، إذاً: فالعبادة الطاعة التي صاحبها يذل غاية الذل لمعبوده ولمن أطاعه، ويعظمه غاية التعظيم له، انظر إلى المعنيين: ينكسر ويذل تماماً كالأرض المعبدة، ما يرفع جنبه ولا رأسه، ثم يعظم معبوده فوق كل تعظيم وإجلال وإكبار.
وثالث أيضاً: أن يحبه أكثر من نفسه، هو الذي ذلل هذا العبد واستعبده فعبده، ويجب أن يحبه أكثر من نفسه.
فالعبد الحق الذي يعبد الله إنسان يطيع الله عز وجل في أمره ونهيه، ولكن لا في عنترية وتعال وترفع، مع ذل وصغار وتطامن وقنوت وخضوع، أما أن تعبد وأنت تتعنتر فلا، بل وأنت تذل وتسكن، ثم تحبه أكثر من حبك لنفسك وأهلك ومالك، ثم تعظمه وتجله وتكبره حتى يكون أكبر من كل شيء عندك.
هذا قول عيسى إذاً: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [آل عمران:51]، ثم قال لهم: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51]، هذا الذي بينت لكم صراط مستقيم، والله لا ينتهي بأهله إلا إلى الجنة، ألا وهو عبادة الله وتقواه، وطاعة رسوله، هذا هو الطريق الموصل أصحابه إلى الجنة، إلى الفوز في الدنيا والآخرة.
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، وفي هذا ما علمتم، لو أن داعية يأتي بلادنا ويدعو بغير القرآن فقوله مرفوض، من يقبله؟ لكن إذا كان يقول: قال الله وقال رسوله نقبله، ما يتناقض.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] بلطف الله وإحسانه، ببركة عيسى، لو آمنوا به لأحل لهم كثيرًا من المحرمات عليهم عقوبة.
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران:50-51]، ما قال: إن الله أبي وأبوكم؟ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ، كيف يقولون: عيسى ابن الله؟! يا ليته يأتينا مسيحي ويقبل منا البيان، علقوا في أعناقهم الصلبان، حتى الساعة يتبركون بالصليب، كيف تعتقدون أن اليهود قتلوه وتبعدونه؟! لا بأس أن تغضبوا على اليهود، نعم نحن لا ننكر، غضبهم على اليهود حق، وما صلبوا عيسى، لكن الذي تمثل بعيسى، أما أنكم تعبدونه وقد قتله اليهود أعداؤكم فأين عقولكم، كيف يعقل هذا الكلام؟
إنه الجهل والتقليد والتضليل، أولاً: الجهل هذه ثماره.
ثانياً: التقليد، جاهل ويقلد، ما يفكر فيما يقول فلان.
ثالثاً: التضليل من الرؤساء والذين يريدون أن يسودوا على حساب غيرهم، يعرفون الحق وينكرونه، وقد جربنا هذا في المسلمين، هناك مشايخ من الطرق كانوا يفجرون بنسائنا.
أولاً: شرف الكتابة وفضلها] الكتابة لها شرف وفضل، قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، إذاً: الكاتب عندنا خير من الذي لا يكتب، لا توظف إلا إذا كان عندك شهادة، وقد قال تعالى: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] شكراً لله عز وجل.
وإن قال مريض: النبي لا يعرف الكتابة! قلنا: ذلك آية أنه نبي الله ورسوله، لو كان يكتب لقال الكفرة: هذا الكتاب كتبه، رأيناه في الجبل الفلاني أربعين سنة يخطه، وقال: هذا كتاب الله، ولكن لتقوم الحجة على الإنس والجن أنه لا يكتب ولا يقرأ وكيف يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ مستحيل لولا أنها وحي الله وتنزيله وكتابه، ائتوني ببدوي أو عربي أو أعجمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بعلوم ومعارف، مستحيل، فكونه أمياً آية نبوته ومصداق رسالته: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].
[ثانياً: فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور]، ما بينا هذا البيان الكافي، ها هي ذي جاءت بين أيديكم، أخبر تعالى أنه سيعلم عيسى الكتاب أولاً والحكمة، وبعد ذلك التوراة والإنجيل.
ما الحكمة؟ قال: [هي الفقه في أسرار الشرع]، والله يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، ويفهم أسرار الشرع، لم الوضوء؟ لم يغسل ثلاث مرات؟ لم صلاة الصبح في هذا الوقت، لم حرم الله كذا، وهكذا، الفقيه الحكيم الذي يفهم أسرار الشريعة، هذا أولاً.
والثاني: الإصابة، الحكيم لا يخطئ، يضع كل شيء في موضعه، لما يجلس يعرف أين يجلس، والذي لا حكمة له يجلس في مجلس الشيخ.
وأنا بهلول بعثتني أمي لأدرس، وطلبوا لي كتاب كذا ، ولما دخلت المسجد كان الطلاب جلوس والشيخ ما جاء، لكن مكانه فارغاً، والبدو مجتمعون من شتى الآفاق ما هم كأهل الحضر اليوم، فأنا جئت فجلست في مكان الشيخ، فصاحوا في وجهي: قم.. قم! لا إله إلا الله! ما هناك لطف ولا رحمة، ما قالوا: هذا صغير وما يفهم وكذا، فيجيء أحدهم إليك فيقول لك: من فضلك هذا المكان ما هو لك، هذا للشيخ. لكن أين الآداب؟
والشاهد عندنا: الإصابة في الأمور كلها، حتى الملعقة يعرف من أين يمسكها، اللقمة يعرف كيف يتناولها، نعله كيف يمشي به.. وهكذا الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها قلما يخطئ. اللهم اجعلنا من أهل الحكمة.
قال: [فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع] أولاً [والإصابة في الأمور]، يعني: قلما يخطئ الحكيم، لم؟ لأنه يستعين بالله عز وجل وبالنور الباطني، وهذه الطاقة أكبر من هذه الطاقة المادية، وهي نتيجة لمولد عجيب، وهو تقوى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، الفرقان أعظم ما تفرق به بين الحق والباطل والخطأ والصواب والخير والشر والنافع والضار: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ، فالذين يعيشون على تقوى الله ظاهراً وباطناً يوجد في قلوبهم نور يميزون به بين الحق والباطل والخير والشر والنافع والضار، كأنما هو نور بين أيديهم، هذا وعد الله.
هل عرفتم من هو الذي فاز بهذه الشهادة أولاً؟ هل هو نابليون ؟ إنه ابن الخطاب عمر ، يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان من أمتي محدثون -أي: تحدثهم الملائكة- لكان عمر
وصلى الله على نبينا محمد..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر