فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات، وقد درسنا بعضها في الليلة الماضية.
تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:42-46].
على كل حال جاء الوفد يجادل وإذا بالحق جل جلاله وعظم سلطانه ينزل نيفاً وثمانين آية على رسوله الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجة لله ورسوله على هؤلاء المشركين الكافرين الضالين.
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم؟ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وعاش في مكة أربعين سنة لم يعرف ما الكتاب ولا الإيمان، من علمه هذا؟
الملائكة تقول لـمريم البتول العذراء أم عيسى، مريم بنت من؟ عمران، أمها من هي؟ حنة.
مريم تخاطبها الملائكة، مَن مِن الملائكة؟ هذا جبريل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] واختاركِ واجتباكِ لأمر عظيم، وهو أن يخرج منكِ عيسى عليه السلام، وطهركِ من سائر الذنوب، فلن تقارف ذنباً أبداً كولدها استجابة لدعوة أمها، أمها لما نذرت لله ما في بطنها ما كانت تدري أنه مريم، لكن قالت لما وضعتها متحسرة متأسفة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36] أي: خادمة الله. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فـمريم لم تقارف ذنباً، طهرها الله، وولدها عيسى أيضاً لم يقارف ذنباً، طهره الله؛ لأن جدته قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا [آل عمران:36] وعيسى أحد ذريتها.
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] أي: عالمي زمانها، فلم توجد امرأة أفضل من مريم في ذلك الزمان أبداً، اختيار الله واصطفاؤه لها.
وقالت الملائكة لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] لأن والدتها نذرتها لله، لا ترى منها شيئاً ولا تنتفع منها بشيء، فلهذا أخذها زكريا الكفيل بحق عليه السلام وتركها في المحراب في مقصورة في المسجد تعبد الله فقط، لا هم لها إلا ذاك، والملائكة تشجعها وتقول: يا مريم! اقنتي، اعبدي ربكِ واسجدي واركعي مع الراكعين، فكانت تصلي مع المؤمنين في بيت المقدس وهي في محرابها.
نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] فأنت رسول الله، أنت نبي الله، كيف يوحي إليه بهذا الغيب من العلوم والمعارف ولا يكون رسوله؟ مستحيل، هذا تقرير للنبوة المحمدية، ولا ينكرها إلا كافر أحمق ضال أشبه بالمجانين؛ إذ نبوته أكثر من الشمس سطوعاً وظهوراً، فكيف تنكر؟ والله ما ينكرها إلا ذو غرض هابط مادي يريد البقاء على سلطانه أو مادته، آيات النبوة أكثر من ألف آية، كيف؟ يكفي هذا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ [آل عمران:44] أي: بين يديهم حاضرًا في مجلسهم وهم يقترعون أيهم يكفل مريم، والزمن أكثر من حوالي سبعمائة سنة أو ستمائة سنة بين هذه الأحداث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44] كيف يلقونها؟ قالوا: نستهم ونقترع، الذي تخرج قرعته يأخذ هذه الفتاة، هذه النذيرة، فجمعوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، هذه الأقلام ليست كأقلامكم أيها الصحفيون والدجالون، هذه أقلام ما تكتب إلا الحق ولا تكتب إلا ما هو رضا الله عز وجل، فهي صالحة إذاً لأن تتحقق بها المعجزة، جمعوا أقلامهم ولا أدري كم هي بحسب عددهم، أقلام كانوا يكتبون بها الحق، يكتبون أحكام الله، يأخذون من التوراة.
إذاً: جمعوها وألقوها قلماً بعد قلم في نهر الأردن والماء يسير، من وقف قلمه هو الذي يأخذ مريم، باسم الله يلقي القلم، يدحرجه الماء ويمشي، ثم قلم ثان، وثالث .. حتى رموا قلم زكريا فوقف في الماء، خذها يا زكريا، هل كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حاضراً في هذه الحادثة؟ لم يكن حاضرًا هو ولا أبوه ولا جده ولا عمه، فكيف عرف هذا؟ بالوحي الإلهي، إذاً: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه آيات النبوة: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:16-33] قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] أو يشكون. هذه من سورتها عليها السلام، ونحن الآن في سورة آل عمران.
قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] يا خادمة الله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] بكلمة؟! ما هذه الكلمة؟
الجواب: هي قوله تعالى: (كن) فكان. كان بكلمة التكوين أم لا؟ يسمى كلمة إذاً، هو كلمة.
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] المسيح كـالصديق، ومن معاني المسيح: الصديق أيضاً، عيسى هكذا سمته أمه، بل سماه الله لها.
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45] إلى الله تعالى، والمقربون هم الطبقة العالية الممتازة، ومن أراد أن يقف على ذلك فليستعرض سورة الواقعة؛ إذ قال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] متى؟ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:4-11] عيسى من المقربين، الطبقة الممتازة، أما أصحاب اليمين فعليهم السلام، ولكن المقربين فوق أصحاب اليمين، عيسى من أي طبقة؟ من المقربين، بشرى لمريم بالولد وبجاهه العظيم العريض الطويل في الدنيا والآخرة، وبمنزلته في دار السلام أنه من المقربين.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، هل جرت سنة الله أن الأطفال يتكلمون؟ الطفل يزعق كما هو معروف، أما أن يتكلم فهذا يحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وهذا يكلم الناس في المهد كلامًا ما هو بخاص بالأولياء، بالعلماء، بالأنبياء، بل يكلم عامة الناس.
إذاً: فلكي يطيب خاطرها وتطمئن نفسها على أنه لا يموت وهو صبي، بل يكبر حتى يكتمل ويكلم، وهنا اعلموا أن عيسى عليه السلام عاش ثلاثًا وثلاثين سنة، لما أكملها ودخل في سن الكهولة رفع إلى الملكوت الأعلى، وهو والله هناك؛ لأن الصبا ينتهي بالخامسة عشرة بالبلوغ ويدخل سن الشبيبة، يستمر سن الشبيبة إلى الثالثة والثلاثين، فيدخل في الكهولة حتى يتجاوز الأربعين ويدخل في سن الشيخوخة، أو تستمر الكهولة إلى الستين ويدخل سن الشيخوخة والكبر ثم الهرم ثم الوداع، انتهت الحياة.
فعيسى عليه السلام والله لينزلن من السماء، ويعيش فترة الكهولة كاملة، ولما يصل إلى الشيخوخة ويكون صاحب ثلاث وستين سنة يموت كما كان عمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأين يدفن؟ غالب الظن أنه في الحجرة الشريفة، الرسول ما أخبر بذلك، ولكن قال: ( كأني بابن مريم في فجاج الروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة )، فإن مات فأي مكان يكون أفضل مكان؟ هنا، ودليل آخر: الحجرة الآن بقي فيها قبر فقط، فيها القبور الثلاثة الطاهرة: قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر ، وبقي مكان قدر قبر فقط، لن يتأهل له غير عيسى، لا يتأهل له الملوك، ولا الأولياء.. العلماء.. الأشراف، محفوظ بحفظ الله مدخر لعيسى عليه السلام. هذا الكلام ما هو سياسة، هذا قاله أهل العلم من السلف، ونحن ما نجزم ولكن نقول: ما دام أنه يحج ويعتمر ويأتي المدينة ويزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو مات فأين يدفن؟ في البقيع؟ لا، لا ندفنه إلا في الحجرة، فهذا المكان أليق به.
إذاً: فهمتم سبب الاحتراس: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]؟ يكلمهم وهو طفل، ويكبر ويشب ويكلمهم وهو كهل.
شهادة الله هذه أم لا؟ وأبو بكر الصديق من الصديقين أم لا؟
أعيد الكلام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم معلماً مربياً مزكياً للنفوس: ( عليكم بالصدق ) يا عباد الله! الزموه، لا تفارقوا الصدق أبداً، إذا قلت أو عملت أو اعتقدت أو فكرت - حتى التفكير - فالزم الصدق.
( فإن الصدق يهدي إلى البر ) والله العظيم. ( والبر يهدي ) إلى أين؟ ( إلى الجنة، ولا يزال الرجل -والمرأة كذلك- يصدق ويتحرى الصدق -بعناية يطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) .
الآن تفضلوا، باب الله مفتوح، من الليلة اصدق إذا قلت، اصدق إذا عملت، لا كذب ولا غش ولا تضليل ولا خداع، واطلب الصدق بعناية، وتحراه طول كلامك وطول أعمالك، ولا تزال تصدق وتتحرى الصدق حتى يكتبك الله مع الصديقين، فلان صديق من الصديقين، أما مريم فقد شهد الله لها بذلك.
وقول الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ [الزمر:32] من سورة الزمر حتى قال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] قال العلماء: هذه الآية تشير إلى أبي بكر الصديق . فالذي جاء بالصدق من هو؟ رسول الله، والذي صدق به أول واحد؟ أبو بكر الصديق ، إذ ثبت باليقينيات أن أول من أسلم من الفحول من الرجال هو أبو بكر الصديق ، وأول من أسلم من نساء العالم هي خديجة بنت خويلد ، وأول من أسلم من العبيد الأرقاء بلال بن رباح ، وأول من أسلم من الأطفال الصغار علي بن أبي طالب ، ففازوا بالأولية والأسبقية.
إذاً: أنتم الآن مخيرون، قولوا: إن شاء الله نكون كلنا من الصديقين، فقط لا تكذب أبداً لا في قولك ولا عملك، ليكن الصدق طبعك، لا تزال تطلب الصدق وتتحراه في حياتك حتى يسجل اسمك في ديوان الصديقين، إذ هذا الحديث من أصح الأحاديث.
( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل ) وكلمة (الرجل) ليس معناها أن النساء لا يدخلن، فهذه مريم صديقة، وإنما لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بآداب الفحول وأخلاقهم لا يذكر النساء بينهم، عرفتم؟ والدليل: هل بيننا امرأة جالسة؟ أبداً، النساء وراء الستار، تلك منازلهن، والفحول هذا هو منزلهم، فمن هنا يراعي الله عز وجل ورسوله آداب وأخلاق المؤمنين، ما يقحم النساء في كل ميدان من الميادين؛ لأن الرجال لا يرضون بهذا، لم؟ لشرفهن.
إذاً: قال: ( ولا يزال الرجل ) والمرأة كذلك.
( يصدق ) في قوله وعمله ( ويتحرى الصدق -ويطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) حتى يفوز بالجائزة المسماة بالصديقية ويصبح فلان صديقاً.
إذاً: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] هل عرفتم من هم الصالحون؟ بينا هذا وعرفه السامعون والسامعات، لكن إخوان لنا زائرون ما عرفوا، من يرغب أن يكون من الصالحين؟ كلنا، يا راغبًا في أن تكون من الصالحين! أد حقوق الله كاملة، لا تبخس ولا تنقص منها حقاً وأنت قادر على أدائه، وأد حقوق الناس أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم، أد حقوقهم وافية، لا تنقص حقاً من حقوقهم يسجل اسمك في ديوان الصالحين، كـعبد القادر الجيلاني ومولاي إدريس وسيدي العيدروس . عرفتم؟
أد حقوق الله التي أوجبها عليك وأنت قادر على أدائها، وإذا عجزت فقل: رب عجزت سامحني، ما استطعت، والله يسامحك ويعفو عنك.
أد حقوق الناس، امرأتك، أولادك، جيرانك، إخوانك، أي إنسان له حق عليك أعطه حقه، لا تستهن به ولا تحتقره ولا تحتل عليه، أد حقوقه، وبذلك لا تزال هكذا حتى يأتيك القبول وتصبح في عداد الصالحين، فالأولياء والأنبياء صالحون والله العظيم، والشهداء صالحون، والصديقون صالحون، إذ كل المواكب تعود إلى أنهم من الصالحين، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
إذاً: فهي ولية صديقة ولكن ليست نبية، وإن كلمها ملك وهتف بها الملائكة كأم موسى، أما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي [القصص:7]؟
لتبقى النبوة والرسالة محصورة في الذين يستطيعون البلاغ والبيان والتعليم، فيكفيها أن تكون صديقة ولية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع ) من هن؟
آسية بنت مزاحم امرأة فرعون. سبحان الله! امرأة فرعون ولية؟ أي نعم. وحسبها أنه قتلها في المشنقة، آسية بنت مزاحم ، مريم بنت عمران ، خديجة بنت خويلد ، رابعاً: فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
( وفضل
إذاً: من هداية الآيات كما سمعتم: [ فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء، ففي الصحيح: ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا
وفي رواية أخرى: ( وخير نساء العالمين أربع:
وأخرى أيضاً: من منكم يعرف أن الله يحبه أو لا يحبه؟ من يرغب في أن يعرف أن الله يحبه؟ كلنا يرغب. وهل يوجد بينكم من يحبه الله؟ أي نعم. وكيف لا؟ إذاً لماذا نصوم ونصلي؟ لماذا نحن عاكفون هنا؟ نريد أن يحبنا أم لا؟ من لم يحبه الله خسر خسراناً أبدياً.
إذاً: العلامة هي أن تنظر: فإذا ما كنت تستطيع أن تسمع السوء والباطل والمنكر والكذب والحرام فهذه خطوة إلى حب الله.
ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تنظر إلى ما حرم الله عليك فهذه علامة أن الله قد أحبك، إذا أصبحت لا تستطيع أن تنطق بكلمة مما يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تتناول بيدك أو تعمل بها أي شيء يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تمشي خطوة ولا خطوتين ولا عشرًا في طريق غضب الله اعلم أنك محبوب، واسمعوا الخبر الصادق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري عن أبي هريرة -والحديث قدسي شريف-: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) الذي يعادي ولياً من أولياء الله أعلن الله الحرب عليه، فليحمل سلاحه.
( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) التقرب إلى الله أي: طلب القرب من الله بفعل الفرائض أعظم شيء، بنص كلامه تعالى، ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي ) أي: يطلب القرب مني بالعبادات والصالحات( حتى أحبه ).
إذا كنت عسكريًا فهل تكون عقيداً أو عميداً في يوم واحد؟
لا بد من التأخر، تعمل وتعمل في مراحل حتى تصبح عميداً أو جنرالاً، فبعض الرجال يصل إلى هذا في أربع سنوات، وبعضهم في سبع سنين، وبعضهم يمكث عشرين عامًا وهو عُسكري ما تقدم، عشرين سنة ما تقدم، فكذلك الولاية، فبعض الناس من سنة واحدة وهو ولي لله، أقرب الناس إلى الله منا؛ لأن الله قال: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فما ندري: في عام أو عامين أو عشرة أو خمسين سنة؟ المهم أن تتقرب إلى أن يحبك الله، فإذا أحبك فما علامة حبه لك؟ هو هذا: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، ولئن استنصرني لأنصرنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي؛ يكره الموت وأكره مساءته ) .
الآن عرفنا المحبوبين لله، إذا صدقك صديقك وقال: والله ما نستطيع أن نسمع الباطل، إذا تحدث الناس أقوم أنا، ما نستطيع أن ننظر إلى ما حرم الله، كأنما لهب النار في وجهي، ما نقوى على أن ننظر إلى امرأة لا تحل لنا، ما نقدر على أن نلطم مؤمنًا بكف، يدي ملكها الله، ما نستطيع أن نمشي خطوة واحدة إلى منكر أو إلى باطل، ما نقوى، ما نستطيع سماع الحرام، لم؟ لأن الله ملك هذه الآذان: ( كنت سمعه الذين يسمع به ) ، وهل الله يستخدم سمعه في ضده؟! حاشا لله، يستعمل الله هذا البصر الذي ملكه ليشيع الباطل والزنا؟! لا، وهكذا أيما واحد منا - معشر المستمعين والمستمعات - أصبح لا يقدر على أن يسمع باطلاً ولا أن ينظر إلى حرام ولا أن يتناول منكراً أو حراما، ولا يمشي إلى باطل؛ فليعلم أن الله قد أحبه، هل هناك أوضح من هذا الطريق؟
سبحان الله! توضأ وتطيب وقف بين يدي الله، الله أكبر! أنت مع الله، اخترقت الملكوت كاملاً وأنت تتكلم مع الله.
والله تعالى أسأل أن يحقق لنا ذلك؛ إنه وليه والقادر عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر